المؤامرة على الأمة والإسلام حقيقة أم أوهام ، دراسة علمية تاريخية لمؤامرة التشيع الفارسي

﴿ الجزء الثاني عشر

 
 
شبكة المنصور
حــديـد الـعـربي

الفصل الرابع

الأساليب الفارسية في التوغل

 

من الحقائق الجلية إن اغلب المتأثرين بالفكر الشعوبي الفارسي من العرب يبنون مفردات فكرهم ووعيهم ويحددون قناعاتهم ويصوغون ثوابت سلوكهم ومتغيراته وفقا لمصالحهم الذاتية النفعية، ويتصرفون انسجاما مع متطلباتها.

 

وهذا مما ينافي خصائص وسمات المجتمع العربي التي تميز بها عن كل الأقوام قبل الإسلام وبعده، سواء أكان من أهل الوبر أو المدر، بدوياً أو مدنيا، قحطانيا أم عدنانيا، فطالما كان العربي ملبيا لمتطلبات كيانه الاجتماعي القبلي ومضحيا في سبيلها.

 

لقد كانت منابت الفكر الدخيل على العرب ونواتج سياساته، هي التي صاغت لهؤلاء مفردات سلوكهم ووعيهم وتحكمت في طموحاتهم ورسمت لهم مسارات حياتهم، فقد كانت الزعامات الشعوبية والصهيونية تحاول منذ زمن بعيد تقويض الكيان الاجتماعي للأمة العربية وجعله قابلا لتنبت فيه هذه السلوكيات المنحرفة والدخيلة على الخصائص الاجتماعية العربية حتى قبل الإسلام.

 

ولا نقصد هنا بالفرس الشعب الفارسي برمته، لكنهم ذوي الطموحات المريضة منهم ممن لا تفارقه أحلام عودة الإمبراطورية الفارسية، التي لا تجد تحقيقها إلا من خلال الحقد والعداء والكيد بالآخرين، فعبأت نفوسهم بحقدٍ تاريخي على العرب المسلمين، الذين أذهبوا إمبراطورية شرهم المجوسية، كما هم اليهود والصليبيين كلٌّ بأسبابه.

 

فما كان من ثمار منابت هذه السلوكيات الغريبة على الشخصية العربية في كل مراحلها التاريخية إلا أن يكونوا خبراء متمكنين من أساليب النفاق والانتهازية وتحين الفرص، تطبعت نفوسهم بهوس كبير في ممارسة عمليات الغدر والخيانة والتقلب من حال إلى حال، في أغلب أحيانه يكون مناقضا لسابقه ومتقاطعا معه تماما.

 

وإن كان مفهوم التقية الذي ابتدعه الفرس بعون اليهود ومكرهم، عاملا حاسما في بناء هكذا شخصيات وهكذا سلوك، لكنه لم يكن كافيا ليجعل من هذه المفاهيم السيئة تتحول بالتدريج إلى طبيعة بشرية راسخة، لها إرثها وخزين خبرتها ومعين تطورها بهذا الاتجاه بشكل مستمر، وفقا لمتطلبات الظروف والمتغيرات لمختلف مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية.

 

فكان لابد لتحقيق ذلك من فكر يصاغ بمكر ودهاء، يعتمد عمل سياسي منظم يلبي متطلباته ويحلّّ إشكالاته ويساعد على تعميق جذوره في الواقع العربي، وهذا ما تحقق في سياسة الاحتواء والاستغلال البشع لكل الحركات التي استهدفت كيان الدولة العربية الإسلامية منذ وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحتى يومنا هذا، وتوظيفها من حيث الأهداف النهائية والنتائج المفضية لها، لا لتحقيق الأهداف التي ثارت بها وتبنتها عند قيامها، أو الأسباب التي أوجبت ثورتها.

 

ولهذا تمكنت مغريات الأموال والمصالح الدنيوية وملذاتها من تجميع أعداد ليست قليلة من الرعاع وذوي الحاجات، المشروعة منها وغير المشروعة، تحت سطوة الأيادي الممسكة بهذه الأموال والمتطلبات ووسائل تغييب العقول، في كل الهجمات التي استهدفت كيان الأمة بشقيه المادي والروحي ونظامها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي وحتى البيئي، وكما يحدث اليوم وبعد استعادة الخميني لمنهج إسماعيل شاه الصفوي، وإيجاده لمبررات التدخل السافر والمكشوف في شؤون العرب بدعوى ولاية الفقيه، وتمكين الصليبيين والصهاينة لنظامه الدموي الهمجي من تعزيز مواقعه في المنطقة، وإمداده بكل سبل البقاء وقدرة التأثير، في أغلب أقطار الأمة من غزو وهجوم للفكر الفارسي الصفوي والصهيوني مدعومين بكل أحقاد الصليبيين وأطماعهم، تجند في مساره مجاميع من رعاع العرب وغوغائهم وسفلتهم، تتزايد أعدادهم وتتعاظم أخطارهم في المجتمع العربي وينمو تأثيرهم السلبي على كيانه يوما بعد يوم ويجتاح نظامه كالطاعون، وتستفحل نتيجة لذلك عمليات التفتيت والتمزيق والتناحر الاجتماعي.

 

وهو بعضٌ من نتائج الفكر الشعوبي الفارسي. والتطورات الكبيرة التي طرأت عليه طيلة القرون الماضية، مع الدعم المتواصل من اليهود بما عُرِف عنهم من مكر وخبث وخداع، وخبرة كبيرة في وسائل جمع الأموال وتوظيفها في أقذر المهمات وأخسها.

 

وعند هذا لا يكون مستغربا ذلك النهج الذي اختطه الفرس، ومن تغذى بفكرهم في عملية الاستغلال البشعة للرموز الدينية، وبخاصة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، باتخاذ قبورهم مراكز تجارية لجمع الأموال، تدرّ على رؤوس الشعوبية وقادتها أموالاً كبيرة جدا، بفعل البدع التي ابتدعوها تشويها للإسلام ورموزه من جانب، وتعزيزا لنهجهم في كسب المزيد من الأتباع والمريدين، ممن لا يفقه من الإسلام شيئا، ولا يدرك حتى الفارق بين الشرك و التوحيد، ولجعلها مراكز تجارية تلبي جزءا هاماً من متطلبات تمويل مشاريعهم الشعوبية الصفوية وتعزز مواقعها. كما جعلوا منها مراكز استقطاب جماهيري، ظاهرها ديني، لفقوا له من الأكاذيب ما جعلها تشكل في الجهلاء الملاذ الآمن من خطاياهم وأخطائهم، حتى فضلوها على بيت الله الحرام، أما حقيقتها فهي استجلاب الأتباع لممارسة أساليب المسخ الفكري والحرف السلوكي عليهم وضمان دوام التأثير فيهم.

 

من جانب أخر جعلوا من مفهوم الخمس، الذي يتحقق وجوبه وفقا للشريعة الإسلامية على غنائم الحرب فقط، دوائر ضريبية تشارك الناس في مواردهم، بالإضافة إلى الاستحواذ على موارد الزكاة على الأموال، وجعلها حكرا على المؤسسات التي ابتدعتها السياسات الشعوبية بالخفاء والعلن، تحت شتى العناوين والمسميات، وابتدعوا لذلك تعاليم تمنع أتباعهم من صرف زكواتهم وصدقاتهم على مستحقيها بأنفسهم ووفقا لتقديراتهم، وبذلك فقد أوجد الفرس الصفويون مصادر كثيرة وكبيرة للتمويل تحت أستار وذرائع شتى، قد تفوق في أحجامها ميزانيات دول، تُصرف جميعها في مسار سياساتهم وأهدافهم التآمرية على العرب والإسلام، ويستثمر بعضه في تلبية متطلبات واحتياجات زعاماتهم والعاملين تحت إمرتهم، ولا يصرف من كل هذه الموارد الهائلة أي نسبة على مستحقيها الشرعيين ممن أوجبها الله تعالى لهم في كتابه الكريم بقوله: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(1).

 

ومما يعزز قولنا هذا أن لم يبذلوا في كل تاريخهم دينارا واحدا من هذه الأموال الطائلة، التي تجتمع لهم سنويا، في سبيل الله، فالتاريخ لا يشهد لأحد منهم بموقف أو مساهمة في تحرير ارض عربية أو إسلامية مغتصبة أو دفاعا عنها، كما أن أكبر نسبة للفقراء والمسحوقين والمعدمين تتركز في المجتمعات التي ابتُليت بهذا الفكر المنحرف وتأثيراته، كما إن أغلب المنحرفين اجتماعيا من اللصوص والسراق وممتهني التسول كحرفة ومتعاطي الربا هم من بين هذه المجتمعات، إن لم يكونوا عمودها الفقري، أما عصابات الجريمة فهي أيضا تنطلق في غالبها من داخل هذه المواقع الخصبة، وكذلك ظواهر ومظاهر التفسخ والتحلل الخلقي والاجتماعي وعمليات النصب والاحتيال، والرذائل وجرائم الزنا واللواط وتعاطي المسكرات والمخدرات وحبوب الهلوسة، وقد لا يكون أخرها بروز أمهر المزورين وخبراء الغش والخداع في مختلف مناحي الحياة وحتى الشهادات الدراسية والوثائق الثبوتية وسندات الملكية، والغش التجاري والصناعي وتزييف العملات، من بين صفوف هذه المجتمعات حصرا.

أما تفشي الجهل والتخلف والأمية فتكاد تكون ملازمة لوجود تلك المجتمعات، وعلامات تدلل على انتساب من يكون هذا وصفه إلى هذه المجتمعات، ففي العراق ورغم كل العمليات والخطط والمشاريع العملاقة التي نهضت بها الدولة العراقية قبل الاحتلال لانتشال المجتمع في جنوب العراق من الواقع المزري الذي وصفناه تواً، ورغم كل المجهود التي كانت تبذل في سبيل تغيير ذلك الواقع، فإن المكاسب والمنجزات التي كانت تحققها الدولة سرعان ما تتلاشى أو تفقد أثرها أو تُعطَّل بفعل سيطرة ثقافة التخريب الفارسية المهيمنة على سلوك هؤلاء، والمتحصنة خلف أستار الدين والمذهبية، فثقافة التخريب والمسخ والتشويه الفارسية امتد عمرها قرون طويلة، ترسخت خلالها في سلوك البعض ممن يتغلغلون في صلب هذا المجتمع وتنفث بسمومها إلى كل شرايينه الدقيقة والعميقة، متسلحة بحاجز يصعب اختراقه، ذلك هو ذريعة الدين والمذهب وحرمة آل بيت النبي الطاهر، ذلك أن المواطن لا تتاح له فرصة التفكير بان تخريبه هذا يضرّ به وبمجتمعه قبل غيرهم.

 

وهذه الحرمة التي تتستر بها سياسة المدّ الصفوي، وما توحي به العمائم والخزعبلات والأساطير، التي صارت جزءاً مهما وأساسيا من وعي المواطن وثقافته، حتى بات الكثير مؤمنا كل الإيمان بقدرة الأموات على جلالة قدرهم ومكانتهم، على كل ما هو من اختصاص الله تعالى، فهم قادرون وفقا لهذه الثقافة الهدامة الملحدة على العقاب والثواب وقلب الموازين وتزويج العاشق من محبوبته ودرّ الرزق ومعالجة المرضى وحفظ الجناة والقتلة وعتقهم من النار يوم القيامة، وغيرها الكثير مما لا يمتّ للإسلام وآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بصلة من بعيد أو قريب، كل ذلك جعل من التابع ينزه المتبوع حتى عن الذي يراه بعينه ويلمسه بيده من الجرائم والمعاصي والألاعيب التي يقترفها، بحاجز العصمة المطلقة أو النسبية، فالمعممين هم وكلاء الله تعالى ولا ينطقون إلا باسمه.

 

كان الفكر المعادي للعرب والإسلام منذ نشوءه، فارسيا كان أو يهوديا، أو وليد متعة محللة بينهما، لا ينبت إلا في الأوساط الاجتماعية الأكثر فقرا والأقل وعيا وثقافة، والفئات التي يمكن إشعارها بانحطاط مكانتها بين الفئات الأخرى، وتحسسها بالحيف الذي يلحق بها، ولهذا فقد كانت عدَّة عبد الله بن سبأ من العبيد والأعراب والموالي.

وقد جهِد الفرس منذ قرون طويلة على تجهيل وإفقار كل المجتمعات التي يسعون لنشر فكرهم الصفوي بينهم، سواء أكانت داخل إيران أم خارجها، والوقوف بوجه أي عملية أو جهد أو دعوة تهدف إلى تغيير واقعها، متخذين من ثقافة المظلومية حاجزا نفسيا يتيح لهم تفسير أي عملية من هذا النوع على أنها مؤامرة لقمع الشيعة أو طمس هويتهم، لسحق أي استجابة فطرية لدى البعض لما هو خير لهم ولعوائلهم، بعد وصمهم بالخيانة والتآمر على مذهبهم، وتصوير المنافع والخدمات التي يحضون بها نتيجة تقبلهم لعميلة التغيير والنهوض على إنها أثمان الخيانة لصف المظلومين والغدر بهم والتخلي عن ولاية آل بيت النبوة.

 

وقد كان من نتائج هذه العمليات المتواصلة من التزييف للوعي أن ترسخت في نفوس أغلب المتشيعين للفرس مشاعر الغربة عن مجتمعاتهم العربية الإسلامية، نتيجة افتقادهم للصلة التاريخية الحية بتراثهم وتاريخهم، لذلك تجدهم يبحثون عن بدائل وإن كانت زائفة للتعبير عن موقف حضاري يحتفون به، فبعد أن استحوذ عليهم الفكر الفارسي ومسخ وعيهم وسلب إرادتهم لم يكونوا في يوم من الأيام ليشعروا أن لهم انجاز يحتفلون به منذ بداية الدعوة الإسلامية وحتى يومنا هذا، لذلك تراهم يحاولون اختلاق المناسبات التي تعوضهم عن ذلك الشعور الكبير بالنقص، وربطها بآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فتجدهم يرفعون الأعلام الملونة في مناسبات ذات طابع حزين، مثل ذكرى حادثة استشهاد الحسين بن علي عليهما السلام مع إن هذه الأعلام لا ترفع إلا في مناسبات سعيدة مبهجة، كالانتصارات في الحروب، وهي دلالة أكيدة على الأمراض النفسية التي تنطوي خلفها. وكما إن هذه المناطق أفرزت نسبة كبيرة من المتوجهين صوب الفكر الشيوعي خلال القرن العشرين، نتيجة لما افرغ عليها الفكر الشعوبي من مشاعر الانقطاع عن أصولهم الحضارية، ثم حولهم بعد تفكك الاتحاد السوفييتي نحو الفكر الرأسمالي، ينهلون من أسنه كتعويض لرفضهم الولوج في النفق الفارسي المظلم.

 

هذا التمسك الشديد من قبل قيادات الفكر الفارسي على ديمومة الواقع المتردي لأتباعهم ومريديهم له مبررات ومزايا، لا تدوم هذه التبعية العمياء إلا بها، ولعلنا نتطرق هنا إلى بعضٍ منها:

 

لا يمكن لفكر كهذا النشوء والتمدد إلا في بيئة تحكمها مفاهيم الجهل والتخلف، فالفكر الذي يسعى لتغييب العقل لا يمكنه أن يسمح له بالعمل، وإلا فإن العقل المتفتح سيرفض كل الأسباب والأساليب التي ينتهجها هذا الفكر ومفكريه، فالمنهج الفارسي الصفوي يعتمد على أساس مفاده أن عقل التابع يجب ألا يتعدى أن يكون وعاءاً فارغاً يعبأ وفقاً لمتطلبات الفكر وأهدافه.

 

حشو عقول الأتباع بمفاهيم السلبية الاتكالية على قوى تكاد تكون وهمية أو هي على غير ما تُصور، كأن تكون القدرات الخارقة للأئمة على إجراء عمليات التغيير المرتقبة في زمن مجهول لا حدّ له، لسلب المجتمع روح الثورة والنزوع إلى التغيير نحو الأحسن، وقد تكون فكرة انتظار خروج المهدي خير وسيلة وضمان لكبح جماح من يضيق صدره بواقعه المرير وينزع إلى الانتفاض عليه، خاصة وإنهم وظفوا في سبيل هذه الفكرة المخدرة حدَّ الخنوع والركون لهذا الواقع مفاهيم تعززها، منها أن الإمام المهدي لا يظهر حتى يستفحل الظلم وتعم الفوضى وتكثر المفاسد وترتكب الجرائم الكبرى والصغرى وتذهب كل قيم الإسلام ومبادئه، وفي ذلك إرضاخ قسري لمن وقع عليه ضيم الفقر والبؤس بواقعه على أنه من الممهدات لخروج المهدي، فيكون الإفساد قد ارتبط بفكرة مثالية خيالية تغلفها القدسية بسياج مانع مما يسهل تقبله والخوض فيه دون تردد أو خوف أو خجل.

 

معلوم أن بيئة التخلف والجهل والفقر، أصلح من غيرها لإنبات مفاهيم تخالف العقل والمنطق والوجدان، ولهذا يكون لزاما على الزارع لتلك المفاهيم أن يجهد نفسه ومن هو في معيته على إبقاء الحال كما هو حتى يتمكن من جني ثمار زرعه، وإلا فكيف يطلب من مرتجي الفضيلة المثالية - كما تصور عملية خروج المهدي - إن كان يستثمر عقله بشكلٍ صحيح ودون تغييب لحقيقة وجوده، أن يخوض في الرذائل والمعاصي والجرائم وكل الأفعال المشينة، ولا يخشى عقاب الله تعالى وسخطه، بل حتى يتقبلها أو يبررها له ولغيره. ومعلوم أن الجهل والتخلف والجوع بيئة صالحة ينبت فيها كل فكر منحرف وشاذ، فيكفي تارك الصلاة وغيرها من الأركان، أو السارق و الزاني للتكفير عن معاصيه تجشم زيارة أحد أئمة آل البيت لينجو، فترى سارق الثوب يرتديه ويذهب به سيرا على الأقدام لزيارة أحدهم، وفي ذلك النجاة كل النجاة كما يتوهمون، بل يكفى الذي يرتضي لنفسه أن يكون جاسوسا لدولة أجنية كافرة ومعادية له ولقومه ولدينه، أن يذرف بضع دمعات على آل البيت وبضع صفعات على الصدر ليبارك الله – وفقا لهذا المعتقد – فعله ويعفيه من تبعات جريمته. ومما يساعد على تبني هكذا معتقدات ومفاهيم أن الفرس لفقوا أكاذيب كثيرة وعديدة بدعوى أن كلام الله تعالى قد حُرِّف وغُيِّر، بما يُسقط هيبة أحكام شريعة الله في نفوس أتباعهم، فنمت فيهم الجرأة على إتيان المعاصي والموبقات، ضناً منهم أن ذلك لا يحبط أعمالهم.

 

في بيئة كهذه يسحق البشر، فترهف أحاسيسه ويسيطر عليها الهم والغم والحزن والشجن ومرارة الألام والأوجاع إزاء واقع مزر، يملك القدرة على تغييره ولا يستطيع، بل لا يُسمح له بتغيره، أو الهروب منه، فتكون هذه الأحاسيس والمشاعر بمثابة متنفس لها، وهذا من أسباب تمسك المفكر الفارسي وإصراره على إبقاء منابت فكره مسحوقة جائعة، فهو يتخذ من فاجعة كربلاء واستشهاد الحسين بن علي رضي الله عنه وسيلة لتوظيف هذا الحزن والألم في امتصاص ثورة الحزن هذه، فتتحول من دموعٍ ونحيب يدفعان بصاحبهما إلى الثورة على واقع الحال إلى حبٍّ مقدس له، وذلك غاية المكر، حينما يسلب حزنه على حاله وينسبه قسرا إلى غيره، والتي بها يبث أيضا سموم فكره بلحن شجي عذب، ليربطها بدهاء ومكر في وعي الباكي بين مفردات حزنه وألمه من واقعه الفاسد، والذي يعتبر هو أحد أهم أسبابه، وبين مشاهد استشهاد الحسين عليه السلام، وكأنها حالة واحدة، وشتان بينهما.

 

من مبررات الفكر الفارسي في إفقار معتنقيه، أن يمارس عليهم كل وسائل القهر والعبودية، فقد التزم مفكروا وساسة الفرس أشخاصاً وعوائل اختاروهم وفقا لمواصفات محددة تلبي أغراضهم ليكونوا شيوخا للعشائر ووجهاء في المناطق، ومكنوهم ماديا ومعنويا، ثم سلطوهم على رقاب عشائرهم ومناطقهم إفقارا وإذلالا، وجعلوا منهم زعامات قمعية يسندها المعممون ويطبعون سلوكهم بالقدسية، فكانوا سببا مانعا لكل من يحاول التمرد على ذلك الواقع أو ينادي بتغييره أو حتى إصلاحه.

 

وجود الزعامات المعممة، والمنشدة لسيمفونيات الشجن والأسى، والزعامات القبلية الخاضعة لها، كان له دور فاعل ومؤثر في تطبيع المجتمعات على العبودية والخضوع بأعلى مستوياتهما، وذلك أحد أهم دعائم السيطرة والإخضاع الجمعي لمتطلبات الفكر الفارسي، الذي ينافي الفطرة البشرية ويسحقها ليحرمها طوعا ورغم إرادتها من أغلب متطلبات العيش الكريم، فإن استاء أحد من الجوع زجروه وقالوا: تذكر جوع الحسين عليه السلام، وإن شكا عسر الحال منوه وأسعفوا خياله فقالوا: انتظر فهذه علامات ظهور صاحب الزمان، وجيلا إثر جيل تتوالى الأكاذيب، وما من شيء يناله الجياع، والجهل هو الذي يُفرض على هذه العقول كي لا تجرؤ على إعمال الفكر بكيفية تجاوز الخميني للانتظار وسلوك مسلك إسماعيل الصفوي ليبتدع لنفسه ولاية الفقيه، فينعم بفرصة أسعفه بها أعداء العرب المسلمين والمتربصين بهم، ولو إن هذا التساؤل كان قد انطلق من أفواه الكثير من هؤلاء إثر وثوب الأحزاب الطائفية بولاية الفقيه جورج بوش بعد غزو العراق عام 2003م، وإن كان صداه لم يتعد الأفواه والأذان إلى فعلٍ وإصرار على التغيير حتى الآن، لكنه يتفاعل في الواقع وسينتج تغيرا مؤكدا.

 

ركز الشعوبيون على تنظيم وعي وثقافة أتباعهم من العرب على الخلافات التي حدثت بين العرب المسلمين بعد أن هولوا أحداثها وحملوها الكثير من الدسائس والتلفيقات، حتى أخرجوها عن مبرراتها وأبعدوها عن أسبابها، فصوروهم وكأنهم وحوش كاسرة يأكل بعضهم بعضا، لإفقادهم كل موجبات الترابط والشعور بالانتماء والفخر بمنجزات الأسلاف. والمتتبع لأحداث التاريخ، وبخاصة العربي الإسلامي منه، سيجد من الدس والحشر ما يرافق كل أحداثه بما لا يقبله العقل والمنطق، فالخليفة الذي اشتُهر عنه أنه يغزو عاماً ويحج عاما صوروه على إنه الماجن الخليع الذي ينتهك الحرمات ويتعاطى كل المنكرات، والعربي الذي يُقتل على يد عربي في حرب أو بغيرها يصور بأبشع صور الوحشية والسادية والإجرام، حتى أن التاريخ لم يحفظ لنا خليفة أو أميرا أو حتى حاكما عربيا سلم من هذا الدس والتشويه، فكلهم منذ وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحتى يومنا هذا بغاة طغاة ظالمين مغتصبين وكافرين، وفي ذلك عامل مهم وحافز لسلخ كل عربي مغفل وجاهل من محيطه ليبحث عن بديل وملاذ خارجه، فلا يجد حينها إلا أحضان الفرس، وإن أنفت نفسه نتانتهم فأفلت منها تلقفته أحضان اليهود أو الصليبيين، والنتيجة سواء، فقد توحد الساقطون في شتى الأحضان ممن أشعرهم الدس الشعوبي الفارسي بالغربة في وطنهم العراق على خدمة المشروع الصليبي الصهيوني المجوسي القائم على تدمير قاعدة نهوض العرب ومنارة مجدهم قبل الغزو عام 2003م وخلاله وبعده، وكما سقط من سقط  في لبنان وسوريا واليمن والسودان وفلسطين ومصر والجزيرة وكل أقطار الأمة الأخرى فتقاسمتهم الأحضان ممن سمينا، والحبل السريّ بينهم واحد، يغذيهم بكل ما يمسخ عروبتهم ويسلخهم منها ثم يوظفهم في مسار تدميرها، كلّ حسب قدراته وطاقاته ومستوى وعيه.

 

وهذه كانت أهم الأسباب التي أوجدت ظواهر تختص بها المناطق الموبوءة بالفكر الفارسي وتأثيراته، دون سواها، تلك هي عمليات النزوح الكبيرة من تلك المناطق إلى مناطق أخرى، كما حدث في عمليات النزوح الكبرى والمتواصلة منذ بداية القرن الماضي من مناطق جنوب العراق إلى وسطه، وبتركيز خاص على مدينة بغداد والمناطق المحيطة بها- وحصل مثل ذلك تماماً في إيران حيث طوقت العاصمة طهران بأحياء عديدة من هذا النوع كانوا الأداة المثلى التي استخدمها الخميني بعد استلامه قيادة المهمة للبطش والقتل والتعذيب وإشاعة المفاسد، فقد نزح خلال الفترة بين عامي 1963و1972م زهاء ثلاثة ملايين من الأرياف إلى المدن تمركز منهم ثلاثة أرباع المليون حول العاصمة طهران في أحياء سكنية بائسة - لكن هذا الهروب لم يجدهم نفعا، فقد لاحقتهم الأيادي الفارسية في كل مهرب، حيث عملت على إعادتهم في ذات الأقفاص التي هربوا من جحيمها، فقد افرزوا من بين الهاربين زعامات عشائرية وعززوا وجودها بزعامات معممة ليحاصروهم في مناطق بائسة هي الأخرى، أقفلت عليهم لمنع اختلاطهم بالمجتمعات الهاربين إليها، فأعادوا عليهم دائرة الجهل والتخلف والفقر وأناشيد الشجن، وهذا الحال استمر أزمانا طويلة دون قدرة لأحد على تغييره، فالذاهب اليوم إلى إحدى المناطق التي تجمع النازحون فيها داخل مدينة بغداد منذ قرابة مئة عام سيجد نفسه وكأنه في إحدى مدن الجنوب، لا تختلف عنها بشيء، ولا تشابه مدينة بغداد بأي شيء نتيجة قيود المكر الفارسي التي التفت حول أعناق من غزاهم فكرها الشعوبي الصفوي، وليس هذا في العراق فحسب بل في كل الأقطار الأخرى التي امتدت لها مخالب الفرس وأنيابها.

 

إن الوعي الزائف الذي تسعى الأطراف المتحكمة بإرادة البسطاء من المتشيعين، على ترسيخه فيهم، قد افرز أمراضاً اجتماعية مختلفة، تسهم في جعل هذا الواقع المتخلف ثابتا لا يعتريه الحراك، يمنع عليهم أي محاولة للتغيير الايجابي أو حتى الإصلاح الشكلي، لذلك تمارس المرجعيات الشيعية المزيد من عمليات التجهيل للمجتمعات التي تنصاع لإرادتها وتخضع لغاياتها، فالجهل مرض يشوه إنسانية البشر ويمسخ وعيه وينحرف بسلوكه، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم يقول:"الجاهل يظلمُ من خالطهُ، ويعتدي على مَنْ هو دونَهُ، ويتطاول على من هو فوقه، ويتكلم بغير تمييز، وإن رأَى كريمةً أَعرضَ عنها، وإن عَرَضَتْ فتنةٌ أَرْدَتْهُ وتهوَّرَ فيها"(2). وهم لا يسمحون لأحد من أتباعهم أن يكون ثريا إلا بعد أن يصاغ فكره ووعيه في دهاليزهم كاملا، ويخضع لاختبارات الولاء والطاعة، ثم يربط بعدها بعجلة المنافع المنحرفة.

 

فالمناسبات التي ألبسها الفرس أثواب القدسية وابتدعوا لها مناهج وبرامج وشعارات مختلفة، كلها دخيلة وطارئة على العرب والإسلام، حُشِرت بالمكر والحيلة والخديعة والتزوير في الواقع لتشكل حالة شد مستمر للمتشيعين نحوهم بهدف فرض المزيد من أطواق الحصار عليهم، لمنعهم من أي محاولة للإفلات من براثن الجهل والتخلف، فبزوالهما تزول قدرتهم على السيطرة وفرض التجهيل عليهم.

 

فحادثة استشهاد الحسين بن علي رضي الله عنهما تشكل وفقاً لمنهجهم مناسبات كثيرة تمتد على مدى أيام عديدة، ابتدعها البويهيون الفرس المتمسكين بمجوسيتهم في القرن الحادي عشر الميلادي بكل تفاصيلها، ولم تكن تعرف قبل ذلك، لتستنزف من هؤلاء الأتباع الجهد والمال، من أجل تطويع وعيهم المزيف هذا لأغراضهم الخفية، مقابل متع تتمحور في غالبها حول عواطف رخيصة تنسجم وحالة البؤس والشقاء الذي فرضوه عليهم باسم التشيع، تفصح بجلاء عن آلام الانحراف الاجتماعي والتفسخ الخلقي، وهي جملة وتفصيلاً لا تمت للحسين عليه السلام بصلة، ولا ترتبط بالأهداف والغايات النبيلة التي من أجلها ضحى بحياته وحياة عائلته وقرابته وبذلوا في سبيلها أرواحهم الطاهرة، فكل الأعمال التي ابتدعها شيعة الفرس اليوم من لطم ونوح وتطبير ومسيرات راجلة ليست من منهج الإسلام في شيء، وهذه كلمات الحسين بن علي واضحة جلية يوجهها لأخته زينب بعدما رأى منها من الحزن والألم في الليلة التي سبقت استشهاده، يقول لها:"اتقي الله وتعزي بعزاء الله، واعلمي أنّ أهلَ الأرض يموتون، وأهل السماء لا يبقون، وأنَّ كل شيءٍ هالك إلاّ وجه الله، أبي خيرٌ مني، وأمي خيرٌ مني، وأخي خيرٌ مني ولي ولهم ولكل مسلم برسولِ الله أسوة... يا أخية إنيّ أقسم عليك فأبرِّي قسمي لاتَشُقِّي عليَّ جيباً، ولا تخمشي عليَّ وجهاً، ولا تدعي عليَّ بالويل والثبور إن أنا هلكت(4)".

 

فالمسيرات الراجلة لمسافات تتجاوز مئات الكيلومترات ولعدة مرات خلال العام، لا تقدم في حقيقتها شيئاً لقضية الحسين، إنما هي تستنزف طاقة هؤلاء البؤساء بلا طائل أو فائدة تجنى منها، كما لا تعود على الإسلام والمجتمع الإسلامي بفائدة واحدة، ولو كان دهاقنة التشيع الفارسي يبغون الاقتداء بالحسين عليه السلام كما يدعون زوراً وبهتانا لوظفوا هذه الجهود التي تذهب سدىً إلى عمليات بناء وإعمار، يمكن لها أن تنجز بناء مأوى مناسب لكل العوائل المشردة، والتي اتخذت أغلبها بعد الاحتلال من مواقع جمع النفايات سكناً ومصدراً للعيش بفضل الحكومات الشيعية المتعاقبة ودعم المرجعيات لها.

 

ولو كانوا ينهلون من العقيدة التي ثار لأجلها الحسين واستشهد لأجلها لحولوا الأموال الطائلة، التي تُهدر على أكثر من ستة ملايين متر من القماش سنوياً، تستهلكها الشمس وتمزقها الرياح حين تتخذ كرايات حمراء وصفراء وسوداء، أو تطبع عليها صوراً مزيفة يدعون أنها للحسين الشهيد، أو يرفعون بها لافتات تتوعد بالثأر من قاتليه، وهم لا يعلمون أن قاتليه قد التهمهم الدود ولم يبق منهم شيئا منذ ما يقارب أربعة عشر قرناً من الزمن، وهي في الحقيقة لا معنى لها ولا دلالة في كل تأريخ العرب والمسلمين، إلا ما كان يستخدم في الحروب، وما كانت تفعله الغانية في العهد الجاهلي حينما ترفع راية فوق دارها إشهاراً لتعاطيها البغاء، لحولوها إلى أثواب تكتسي بها جلود العراة من أبناء هذه الملة المنحرفة عن فطرتها السوية، وما أكثرهم. وحتى الأطعمة التي يتبارون على تقديمها في مثل هذه المناسبات فهي مع ما تحمله من شرك فاضح، حينما ينسبها الجاهلون للعبد دون المعبود، فهي عبارة عن مباهاة تتسم بأهداف دنيوية مصلحية لا علاقة لها بالجياع في غالب الأحوال، لأنها تقدم للأثرياء والمترفين أولاً وما يفضل عن حاجتهم فللجياع، وليس كل الجياع يسعى لاستجداء اللقمة، فهم لا يعملون على توزيعها لمن يحتاجها، بل يذهبون بها نحو من ليس بحاجتها، ومن هو غنيّ عنها، والأبنية المكلفة جداً التي تشيد فوق قبور الموتى مع إنها مخالفة صريحة للشريعة الإسلامية، فإنها لو استهدفت الأحياء، وهم أولى من الأموات، لما وجدنا بينهم من يلتحف اليوم أكوام النفايات والأكواخ البائسة، والدماء الغزيرة التي تنزفها جراح المغفلين ممن يمارسون عمليات التطبير، جرياً على عادة هندية قديمة انتقلت عبر الخبث الفارسي، لو وجدت لها ارتباطا صادقا بمنهج الإسلام وآل بيت النبي لشكلت مصرفاً للدم يغيث المرضى ويسدّ احتياجات المستشفيات، بدلا من الدماء الملوثة التي تستورد من الخارج بعملات لايستهان بحجمها، ناهيك عن المليارات التي تذهب سنوياً في جيوب المعممين الفرس، تحت بند الخمس والزكاة، والتي لا يصرف منها فلساً واحداً على أبواب صرفها الشرعية، بل تذهب جميعاً إلى جيوب الدهاقنة المعممين، فتتحول إلى عقارات ومشاريع اقتصادية، لا تقدم للفقراء الشيعة إلا المزيد من العناء والشقاء، وأفضل ما يصرف منها ذلك الذي تشيَّد به الفنادق قرب الأضرحة والتي يرتادها الزناة لقضاء أيام المتعة فيها مع من شاؤوا.

 

تلك هي بعض ملامح الصورة التي شكلها الفرس ومن آزرهم لواقع التشيع المخزي، والذي لا يرتبط بمنهج آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بوشيجة واحدة.

 

ولهذا نجد أن كل مفردة دخيلة على العروبة والإسلام ما جاء بها الفرس واليهود إلا لغاية ولتؤدي دورا مرسوما لها في مسار تدمير الأمة بعد تشويه الإسلام الذي صار كالروح في الجسد للعرب، توحدوا به وعظُمت عزيمتهم فأيدهم الله بنصره أينما ذهبوا وحلوا، فعقروا أقدام غزاة أرضهم في مشارقها ومغاربها وطاردوا فلولهم في عقر ديارهم بعد أن أذهبوا سلاطينهم وأمرضوا هممهم وسفهوا أحلامهم وهدموا أوثان شركهم وكفرهم.

 

------------------------------------------------

سورة التوبة، الآية:60.

ابن عبد ربه، العقد الفريد،ص113.

سورة التوبة، الآية: 60.

ابن الأثير، الكامل في التاريخ،م3،ص417.

 

 

للإطلاع على مقالات الكاتب إضغط هنــا  
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

السبت  / ٠١ جمـادي الاخر ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ١٥ / أيـــار / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور