المؤامرة على الأمة والإسلام حقيقة أم أوهام ، دراسة علمية تاريخية لمؤامرة التشيع الفارسي

﴿ الجزء الخامس عشر والاخير ﴾

 
 
شبكة المنصور
حــديـد الـعـربي

الفصل الثاني

من شروط النهوض الحضاري

 

اتضحت مما سبق قوله شروطاً، لا تتحقق للأمة بدونها نهضة حقيقية وشاملة، فهي تتطلب إيجاد الأدوات والوسائل القادرة على تلبية احتياجات النهوض، ثم تتطلب الطلائع القادرة على تحمل الأعباء وقيادة فعل التغيير، وبناء وتكوين قاعدة الانطلاق، لكي تمارس من خلالها دور النموذج المشع على الأمة، بهدف تمكينها باختيار التحول من واقعها المنحرف إلى موقعها الصحيح، لتمارس من خلاله دورها الرسالي الأصيل.

 

كما إن هذه الطلائع لكي تكون قادرة على أداء دورها في قيادة مسيرة التغيير والنهوض، فعليها أن تحقق في سلوكها انقلابا جذريا وهي تمارس فعل التأثير والتفاعل مع المجتمع، لكي يكون الانقلاب والتغيير أمام أنظاره، يتفاعل مع وعي الجماهير وينجز لهم خبرة التطبيق، يعتمد على الأسس التالية:

 

أنضج الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم بجوهرها وقطب رحاها الأمة العربية عن طريق رسالاته المتوالية على أرضهم حتى ختمها بالإسلام، فاستجابت الروح وأيقنت بأمر ربها فتطهرت وآمنت، وتبوأت موقعها المسيطر على العقل والغرائز وسائر الجوارح وعادت بها إلى فطرتها، وعندها حقق العرب بالإسلام ما لم تحققه أمة من الأمم، لكن العقل انفلت فيما بعد من سطوة الروح فأخذته وساوس الشيطان بعيدا عن فطرته، وكذا فعلت الغرائز حتى تشيطنت وعادت إلى حيوانيتها، فصار العقل والغريزة أدوات الهدم والفرقة، ولكي تعود الأمة لموقعها وقدرتها التي كانت، عليها قبل كل شيء أن تعيد العقل والغرائز إلى معقلها حيث سطوة الروح، ولن يكون بمقدور الروح أن تؤدي دورها كاملاً مالم تتطهر وتؤمن، فكما أن الكيان المادي للإنسان بحاجة إلى الغذاء كي يواصل العيش والنمو، فإن الروح هي الأخرى بحاجة إلى غذاء، بدونه تخوي وتعجز عن أداء مهمتها، وغذاؤها هو الإيمان بالله وإحكام صلتها به، وذلك يتحقق في خمس مرات في اليوم والليلة تأخذ فيها الكيان المادي وتقف به بين يدي ربها وخالقها تجدد له الولاء وتتطهر من غفلة الساعات التي مرت بعد وقفتها التي سبقت، والصلاة لا يكفيها الركوع والسجود لتكون غذاء الروح وسبب طهرها إذا امتزجت بها الفواحش والمنكرات، لقول الله تعالى:{ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ }(1) فالعسل لو اختلط بالسمِّ لا يُبْطِل مفعوله، إنما تختفي مرارة السمِّ بحلاوته، فيكون أخطر مما هو بدونه، لأنه بالعسل يوهم آخذه، فلا يدرك أن فيه حتفه، وإن كان العسل نقياً خالصا لا سمَّ فيه فغذاءٌ وشفاءٌ هو، والفواحش والمنكرات هنَّ أُس كل بلاء ومرض يصيب النفوس، بهذا فقط تسود الروح على فعل العقل ودفق الغرائز وتطوعهما للخير وتجنبهما الشرَّ وتمنعهما عن إتيانه أو يكونا سبباً في حصوله. عندما يتحقق هذا الانقلاب الشامل والجذري على الذات البشرية بحالها اليوم سيحق لنا أن نقوم بعملية الربط الحضاري بين الماضي الذي كان والمستقبل الذي نريد أن يكون فيتصل المسير. والانطلاق الحضاري أو معاودة الفعل الخلاق يحتاج كذلك إلى معرفة دقيقة وصادقة بالنقطة الحاكمة التي يبدأ منها الحراك الحضاري، فالحراك هذا إن لم ينطلق من واقع الأمة ويربطه ربطاً محكماً بعمقه وامتداده الحضاري فلن يفضي بها إلى المسار المطلوب ولن يصل بها إلى الهدف المنشود، بل ستنجرف سريعا إلى حيث السقوط المتتالي والتراجع، فتضيع الجهود وتُبذّر الإمكانات وتعصف بالمجتمع ردّات نفسية تكون في غالبها كارثية. لقد كانت الحضارة العربية الإسلامية مفعمة بالروح، لكنها مع نشوء القوى المادية في الشام والعراق ومصر بدأت سطوة الروح تتراجع وتنحسر أمام المادة ومغرياتها شيئا فشيئا حتى غفت إغفاءتها الكبرى فيما بعد، فمع كل بروز لدور المادة صاحبه تراجع إلى حيث ما قبل نقطة الانطلاق، فأعراف الجاهلية كانت في حقيقتها مادية صرفة، تسخر الروح لخدمتها، فآلهتها كانت مادية ومنافعها كانت تجارية، أما الإسلام فقد أعطى الروح هيمنة كاملة على الأشياء، تسخرها في مساراتها الصحيحة. حيث بدأ الإسلام ببناء الإنسان وجعله فاعلا، طهر روحه ثم أخضع لها العقل والجوارح، فبدأ إنسانا جديدا، منسجما مع فطرته، ليس الكذب من الفطرة إنما الفطرة السليمة هي الصدق، وليس من الفطرة، كما يرى البعض، تلك العلاقات الحيوانية التي يمارسها الإنسان بحكم غريزته المنفلتة، فالفطرة الحقة هي ما خُلقت هذه الغريزة لأجله. بدأ ببناء المكونات المادية واستثمر الوقت ونظمه، فتكونت الحضارة وفقا لهذا المنطق.

 

ولم تكن بداية انحدارها الحقيقية إلا بعد الخلافة الراشدة، صحيح أن الفعل الحضاري لم يتراجع خلال العهدين الأموي والعباسي بل زاد نموا، لكن الانحدار الحقيقي كان يكمن في الضعف التدريجي لقدرة المحافظة على المنجز الحضاري وتطويره، بسبب تراجع موقع الروح ودورها، كنتيجة للهدم التدريجي المنظم للبناء الروحي للإنسان، أما الخمسمائة عام من المنجزات الحضارية العملاقة فلم تكن إلا بتأثير الامتداد الحركي الذي أحدثه نقاء الروح وإيمانها العميق خلال العقود الخمسة من عمرها، منذ بدء البعثة النبوية حتى نهاية عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم. ولابد أن تعقب مرحلة النهوض والتكوين مرحلة أخرى هي مرحلة البناء والانجاز، يجهد العقل فيها وتحاول الغرائز والجوارح أن تنفلت تدريجيا من سطوة الروح وقيودها، فالبناء يستوجب استغلال العقل وقدراته مما يستوجب أيضا إطلاق جزء من حريته كي يمارس دوره الفاعل فيؤثر سلبا وإيجابا، وكذا تفعل الغرائز فغالبها يتفاعل مع عمليات البناء. على أن هذا الانفلات حين يوضع في إطاره الصحيح المرسوم والمحسوب بدقة لن يكون سلبيا أو ذا أثر ارتدادي تراجعي وتعويقي، فالله تعالى وضع أمام الإنسان قانونه العظيم بقوله تعالى: { إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(2) والنفس هنا شاملة لكل الكيان البشري، المادي والروحي والغريزي، وأوجب على هذا رقابة فقال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(3) وفي هذا الرادع الاجتماعي يتحقق التوازن المطلوب بين هيمنة الروح وبروز أدوار العقل والغرائز المتسعة، كي تمارس أدوارها ومهماتها ضمن مساراتها الصحيحة، ومنعها أن تنحرف، وكلما ضعف دور هذا الرادع جنحت العقول نحو الزلل وانساحت الغرائز في ملذات الدنيا ومشاغلها، فيجني الإنسان بما كسب، والله تعالى لا يظلم أحدا{ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (4).

 

ومما ينقي الروح ويستعيد سطوتها وتأثيرها هو ارتباط الأمة قبل كل شيء بشرط توحدها على أمر الله، فلا يمكن لها النهوض والوقوف على قدميها مجددا إلا إذا عادت إلى أصول دينها، الإسلام الذي بهداه توحد العرب ثم سادوا الأمم، سيادة تكليف ونهوض بواجب إن أتوا على شروطه التي بينها الله تعالى ورسوله الكريم، وليست سيادة نوع عنصرية كما يتصورها البعض، فالسيادة والريادة هي ناتج منطقي وحقيقي لنوع التكليف، ونقلوا لهم التكليف الإلهي، وبينوه لهم بقول وفعل، فهذا الهرمزان الذي جيء به أسيراً ماثلاً أمام خليفة المسلمين عمر بن الخطاب يقول له: يا عمر، إنِّا وإياكم في الجاهلية كان الله قد خلّى بيننا وبينكم فغلبناكم، إذ لم يكن معنا ولا معكم، فلما كان معكم غلبتمونا، فيرد عليه الخليفة بقوله: إنما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرُّقنا،(5)ولكي تعود هذه الوحدة التي محت عجز العرب، فإنها تقتضي إزالة كل العوالق والدسائس والتشويهات عن شرع الله الذي وُجِدت بفعله، فيعود دين الفطرة، ينقي النفوس من أدرانها وفرط أطماعها، ويحصنها من مكر الشيطان وأحزابه.

إن عملية التكوين الحضاري ترتبط ارتباطا وثيقا بعمليات التأثير المتبادل بين الفرد والمجتمع، والذي يتحقق بثلاث قنوات، أولها الفكر، وثانيها العمل، أما ثالثها فهي الثروة، وكلها ثمار للجهد الإنساني، تأتي أُكلها إذا اتسمت بالقدرة على العطاء والتوحد على الهدف، والتوافق والانسجام في المسير نحو الهدف، فالقدرة الفردية لاتكفي لإنجاز فعل حضاري، لذلك لا بدّ من ان تتكامل كل القدرات لتخلق ذلك الفعل وفق هدف محدد وواضح، ولن يتم ذلك إلا إذا شخصت أمراض المجتمع بشكل صحيح، ثم تضافرت الجهود على علاجها أو استئصالها من المجتمع، أما التوافق على الهدف والمسير نحوه فهو يضع كل جهد في محله وكل مسير باتجاهه الصحيح، كي لا تضيع الجهود أو تصبح معوقا للمسير حينما تجنح عن سكتها، ولكي يكون المسير على الطريق الصحيح والخطوات ثابتة واثقة فلابد من إجراء عمليات الربط والوصل بين طرفي الماضي والمستقبل، على أن ينق مسار الماضي من كل عناصر السوء فيما نستحضر من المستقبل كل عناصر التطور الايجابي الفاعل، وذلك ما حدث عند بدء النهضة الكبرى التي أحدثها الإسلام على أرض العرب، فقد تناول القرآن الكريم والنبي محمد صلى الله عليه وسلم المرحلة الجاهلية وأفرز منها كلّ سوء ولم يبق سوى السليم الذي يوافق الفطرة، كما وضع في متناول المسلمين كل عوامل النهوض وخصائصه، وفاعل بينها خلال فترة الدعوة ثم أطلقها حال إنضاجها لتبدأ المسير، فالأمة لم تنهض بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن وحد نواتها في المدينة المنورة كنموذج ومثل وقدوة، فحررت المغتصب من أقطارها لتكتمل وحدتها، وبذلك فقد امتلكت قدرة التغيير المادي، بعد أن صُقلت النفوس وتطهرت الأرواح وتوحدت على كلمة الله تعالى، تؤمن به، توحده ولا تشرك به شيئا، وهو أساس كل شيء، فلم يخلق الله تعالى مخلوقاته إلا لتخصه بالعبادة دون سواه، كما أمرها بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(6) وتأمر بالمعروف، وهو جامعٌ لكل خير، وتنهى عن المنكر، وفي ذلك العدل كل العدل، وفيه تستقيم الحياة.

 

توحيد الأمة، أهم أسباب النهضة وأساسها وحجر زاويتها، والنتيجة الحتمية لمرحلة النقاء والطهر السلوكي، بدونها لا يمكن تحقيق أي من الأهداف الأخرى مهما كبُرت أو صغُرت، والتي يتباين عليها الفرقاء والأحزاب ويختلفون، ويكفر بعضهم بعضا، ويشتدّ بأسهم على إخوانهم وبني عمهم، فوحدة الأمة شرط لنجاح أيّ من الفرقاء، ولن يكون بمقدور أي منهم أن يحقق أهدافه بدون وحدة الأمة الحقيقية وبشروط كينونتها، على سبيل المثال، هناك واحدة من الخصائص السلوكية الغريبة تحولت في مجتمعنا إلى ظاهرة سلوكية مستحكمة، هي أخطر ما أصاب المجتمع رغم أنها لا تثير لغطا كثيرا حولها، في الغرب تلاحم خمسة رجال من أصولٍ مختلفة وتآزروا فأكمل بعضهم البعض حتى قدموا لحضارتهم منجزا غاية الأهمية والخطورة، ذلك هو الراديو، منهم الألماني والأمريكي والايطالي والروسي والفرنسي، وبالرغم من الاختلافات الفكرية والسياسية والاجتماعية تجدهم تآزروا ليقدموا للحضارة الغربية منجزا فريدا ساهم في تغيير وجه العالم، في مقابل هذا لا تجد عربيا إلا ما ندر، أكمل عملا لعربي آخر أو حتى أشاد بجهده، لكن السائد في الواقع العربي اليوم أن كل من يتصدى لعمل يبدأ قبل كل شيء فيهدم ما بناه الذي قبله، يجهله ويخونه ويتهمه بشتى التهم، من فرط الأنانية التي زُرعت في النفس العربية خلال عهود الانحطاط، نتيجة نفث الأفاعي لسمومها، لتكون المحصلة دوما لا شيء، فلا شيء يبنى وإن كان هناك بناء فلا يكتمل، والذي يكتمل يهدم ويؤسس على أنقاضه بناء جديد سيهدم لاحقاً، فيما هم في الشكل والمظهر يحرص كل واحد منهم على موقعه، فعلى عهد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وهو سيد الكائنات، لم يكن يجلس بين أصحابه جلسة تميزه عن غيره، وهو رسول رب العالمين، حتى يأتي السائل فيقول من فيكم محمدا؟ وكذلك فعل خلفاؤه الراشدون وهم بناة أعظم وأرقى حضارات الكون وأجلها، لا يدل على أحدهم إلا أكثر الرقع في الرداء وخمص البطون من الجوع والتعفف والزهد في الدنيا، فيما صار ورثة سلوك الانحراف من الحكام وهياكلهم السلطوية يتخذ كل واحد منهم مكانا وموقعا وبهرجا ومجلسا وحاشية لا يتميز عن غيره إلا بها ولا يوحي بمكانته وموقعه غيرها، فلا يتوهم أحد في أحد إلا ما ندر، لكن بلا فعل ولا إنجاز البتة.

 

لكي تتحقق الوحدة يتوجب علينا إيجاد الحلول الفكرية والعملية لوقف عمليات التمزيق والتجزئة والتشرذم داخل الأمة وكياناتها المصطنعة، والتي بُنيت على أسس مَرَضِيَّة تتعارض مع مفهوم التوحد أصلا، لتكون عائقا أمام كل محاولة على طريق الوحدة، وما كان يمكن الأعداء والمتربصين بالأمة فعل ذلك لولا تخلي العرب عما أراد الله تعالى لهم، برضا وقبول أو خضوع وخنوع من بعض أبناء الأمة، من أجل الدنيا ومغرياتها، مهما بلغت بأعدائهم من قوة وشدة بطش وجبروت، فقد كانت أهم الأسباب والمبررات التي فرضها الأعداء،:

 

الشعور بعدم الاطمئنان من قوة أي كيان بينها، فقوته ستقوده إلى ابتلاع القوى الأخرى التي استطابت نفوسها لواقع الحال، وإن كانت نوايا بعضهم في التوحد مع الكيانات الأخرى لا تتعدى توظيف إمكانات الكيانات الأخرى في تحسين حال كيانه أو التقوِّي بما لديها من قدرات، وليس التوحد على أمر الله وشروطه.

 

بذر عناصر الاصطراع فيما بينها، بحدود سائبة ومصالح متباينة غير متكاملة، لا تؤدي أغراضها إلا باندماجها مع غيرها من الكيانات، كالموارد والثروات والمياه والمرور وغيرها، وفي ذلك ما يُشغل الأمة عن وحدتها، ويستبعد تحقيقها كلما طال الزمن، من خلال تراكم المشاكل وتعاظم الفجوة بين أبنائها.

 

تفتيت البنية الاجتماعية عن طريق اعتماد بعض التقسيمات على أسس عرقية أو مذهبية أو قبلية أو مناطقية، فأكراد العراق مثلا، لا تُسرهم وحدة قطر العراق مع أي جزء أخر من الأمة، لأنهم حينها سيكونون قلة ضئيلة وفقا للنظرة العنصرية الضيقة، وذلك مردّه إلى الأفكار المريضة التي زُرعت في نفوس ساستهم من قِبل الفرس واليهود خصوصاً، بما يسمى الحقوق القومية، وكأنهم ليسوا جزءا من هذه الأمة، لهم ما لها وعليهم ما عليها، وكذلك جنوب السودان، ومثلهم أصحاب الدعوات الأمازيغية في المغرب العربي، والأقباط في مصر، والحوثيين في اليمن، والمتشيعين للفكر الفارسي الصفوي في العراق، كل هذه المسميات صارت ترتجف وترتعد فرائصها عند سماعها باسم الوحدة، بفعل الدسائس والغزو الفكري والثقافي الصليبي والصهيوني والفارسي.

 

تركيز الثروات في كيانات محددة بما يجعل من عملية التفاوت بين هذه الكيانات من جميع النواحي يفرض واقعا مرَضيَّا، يجعل الثري منها أكثر تمسكا بحالة الشرذمة، حفاظا على ما في يديه، وعدم ضياعه على الكيانات الفقيرة اقتصاديا حال توحدها.

 

إضعاف جميع الكيانات، فحتى التي تملك ثروات تكون غير قادرة على النهوض بمهمات كبيرة، إما لقلة سكانها، أو إفسادهم برفاهيتها.

 

لا يمكن توحيد الأمة بأي حال من الأحوال والكيان الصهيوني مزروع في قلبها، يمنع عليها أي محاولة بهذا الاتجاه، فهذا بالنسبة لليهود شرط وجود، حيث لا وجود لكيانهم في ضل وحدة الأمة مهما أمتلك من أسباب القوة والتأثير، والغرب يريد به مانعا أيضا لوحدة العرب، ففيها كل الأخطار على مواطن الكفر والاستغلال والابتزاز والنهب فيهم، وإن كانوا أقل تأثيرا من اليهود، فكيانهم يمنع تلاقيها لأنه مزروع في قلب الأمة وفي جسدها وليس خارج حدودها.

 

كما لا يمكن توحيد الأمة والفرس يمارسون أدوارا، هي أخطر بكثير من أخطار اليهود الصهاينة، وإن كانت هذه الأدوار في بعض وجوهها تنفيذا لما خطط ويخطط له اليهود، بحكم الحلف القديم المتجدد أو بحكم التقاء المصالح، فالفرس ليسوا كاليهود، أعداء في ظاهرهم وفي باطنهم، بل هم يرتدون ذات الرداء الذي يرتديه العرب، والغاية التي يسعون لتحقيقها كبيرة جدا، معتمدين فيها المنطق القائل، كان العرب شراذماً، غير امنين في ديارهم، حتى جاءهم الإسلام، فتوحدوا به، وبوحدتهم سادوا الدنيا وأزالوا حضارات، وفي مقدمتها إمبراطوريتهم الفارسية المجوسية، التي كانت تكافئ الروم سجالا، تغلبهم تارة، ويغلبونها تارة، في صراعهما وأطماعهما بأرض العرب وخيراتها، ولهذا كان الاستهداف الفارسي ولا زال يشكل الخطر الأعظم على أمتنا، ولهم في ذلك خزين خبرة وجبلة صلف ومكر شيطان وتقية نفاق وخداع وسوء جوار.

 

طبيعة أنظمة الحكم في أقطار الأمة، بامتيازاتها الباذخة والغريبة كل الغرابة عن طبيعة ولاية الأمر في الأمة، وإن كانت تطوراً مرضيَّا لعهود الانحراف والاستئثار بالسلطة والتي بدأت بعد الخلافة الراشدة، باستثناء خلافة عمر بن عبد العزيز في العهد الأموي، فقد صارت هذه الأنظمة مانعا ورادعا لكل مسعى من أجل الوحدة الحقيقية المبنية على شروطها والتي ذكرناها آنفاً، مهما كان بسيطا، فقد اجتمعت لهؤلاء الحكام سطوة فرعون وثروة قارون، فصار حتى الجمهوري منهم يورث ملكا لبنيه، ففي حالٍ كهذا أيمكن تصور أحدهم يتخلى عن عرش إمارته لصالح الأمة ووحدتها؟ خاصة وان سجل الحكام العرب منذ العهد الأموي وحتى يومنا هذا يحفل بجرائم ارتكبها الأخ بحق أخيه والابن بحق أبيه من أجل السلطة وكرسي الحكم، والذي لا يتورع عن قتل النفس التي حرّم الله لن يرعى لأمانة الحكم حقها، فهل يمكن لأسلاف مبارك الذي أسس إمارته في الكويت على دماء أخويه اللذين نحرهما من أجل الاستئثار بالسلطة البائسة أن يكونوا من رواد الوحدة بين العرب بأي شكل من أشكالها، المنطق يقول: محال، فهم وغيرهم ينهبون ثروات الأمة كالبعير المُقدم على سفرٍ طويل يشرب الماء نهلاً وعللا، وفي عصرنا أيضاً وجدنا من الحكام من يبيع الأمة ودينها بلا ثمن، بل بثمن يدفعه أبناء الأمة من دمائهم وشرف حرائرهم، فما الذي قدمه حاكم مصر السادات لأمته يوم ارتمى بحضن الصهاينة عام 1978م غير الذلّ والعار وإعلان الركوع والخضوع؟ وغير مزيدٍ من التضحيات والمعاناة العربية والفلسطينية، وغير فتح أبواب كانت تدعي أنها مغلقة أمام جواسيس الصهاينة، وغير هامات تصاغرت تحت رايات اليهود ومتطلباتهم، وغير مزيدٍ من الإذلال والتجويع لشعب مصر، ومسخٍ لقيمه وأخلاقه وتثبيط لعزيمته، وتحويل فخره بجنده الذين أطاحوا بخط بارليف إلى خيبة أمل وإحباط؟ وهل يلام هذا وهو العلماني أمام السلفي المتشدد، يكفّر المسلمين فيما يمهر لليهود المساكين وطناً في فلسطين، ولا يخرج عن طوع الكافرين حتى تصيح الساعة؟

 

حكام العرب وأغلب كياناتهم السياسية بكل أصنافها، المتدينة والمتشددة والعلمانية والإلحادية والقطرية والطائفية يسعون لتحقيق مكاسب مادية في غاياتهم النهائية، وهذا ما يجعلهم فرائس لكل متصيد، ولن نحتاج إلى الإتيان بأدلة وبراهين تثبت ذلك، كما لسنا بحاجة لأمثلة من سلوك الحكام والسياسيين بما فيهم الأكثر تشدداً، دينيا كان هذا التشدد أم سياسياً، فذلك واقع معاش، ولا يحتاج لرؤيته بوضوح تام إلا ربط كل الأحداث بأسبابها وغاياتها الحقيقية ونفي الأستار والحجج الواهية عنها، أما الفرس واليهود والصليبيين فلهم أهداف أخرى تختلف كليا عن أهداف ساسة العرب وحكامهم، وإن كانوا يطوعونهم في مسارها طائعين أو مرغمين، فلكل عمل يستهدفون به الأمة العربية أو بعض أقطارها هدف جوهري يتعلق باستعادة واقع غلبهم عليه العرب وغيروه بلا رجعة، فهم على هذا يوظفون الاقتصاد لتحقيق غاياتهم القومية، والعرب يوظفون السياسة وحال الأمة والإسلام لتحقيق مطامعهم المادية ليس إلا، وهذا هو أحد الأسرار الكامنة خلف هزائم العرب بكل إمكاناتهم البشرية والمادية والحضارية أمام الزحف المتواصل من قبل اليهود والصليبيين والفرس على معاقل الأمة، فالذي يسعى للدنيا لا يمكنه التضحية ببعض مغرياتها من أجل قيم روحية مهما أدعى ونافق، وذلك حال العرب اليوم، والله تعالى {لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(7).

 

وقد اتخذ أغلب القادة والأمراء والساسة على مرّ الأزمنة رجالا كان أعظم همهم الدنيا، فعند التدقيق في بعض أحداث التاريخ، وبخاصة في الفترات التي تلت استشهاد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإننا نجد خيوطاً لمؤامرة واحدة تُنسج متصلة طيلة الزمن اللاحق وحتى يومنا، من خلال الأحداث التي تركت بصماتها على صفحات التاريخ، دون أن يلتفت لها أحد، فالحجاج الثقفي لم يكن في يومٍ من الأيام التي خاض فيها بدماء المسلمين حاملا لراية الإسلام وشريعته وقيمه، بل كان يطارد هاجساً اسمه الانتصار لولي النعمة كي يدوم عزّ توليه على رقاب الخلق ويُشهد له بالقوة، وأنه من ثقيف فحسب، وهذا محمد بن الأشعث بن قيس كان عاملا على الموصل لعبدالله بن الزبير، وفي سنة 66ه تحول إلى المختار بن عبيد الثقفي فسار إليه وبايعه، ثم خرج عام 67ه عائدا إلى مصعب ابن الزبير في البصرة، وهذا شمر بن ذي الجوشن كان من قادة جيش عبيدالله بن زياد الذي أنفره يزيد بن معاوية للتصدي للحسين بن علي الشهيد، وكان هو قاتله رضي الله عنه على أكثر الأقوال في واقعة كربلاء، تحول فيما بعد ليكون من أعوان عبدالله بن مطيع أمير الكوفة لعبدالله بن الزبير، وهو - ابن الزبير - يخوض حربا ضروسا ضد الأمويين، وهذا إبراهيم بن مالك الأشتر والده كان من رؤوس فتنة اغتيال الخليفة عثمان بن عفان على رأس غوغاء الكوفة، ثم تحول مع الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد استخلافه، وهو صار مع عبدالله بن الزبير، ثم تحول إلى المختار بن عبيد الثقفي عام 66ه، بعد رسالة وصلته فيما قيل وزوِّر على أنها من محمد بن الحنفية، يقايضه عملاً لقاء مكاسب الدنيا" فانهض معهم بنفسك وعشيرتك ومن أطاعك فإنك إن تنصرني وأجبت دعوتي كانت لك بذلك عندي فضيلة ولك أعنة الخيل وكل جيش غاز وكل مصر ومنبر وثغر ظهرت عليه فيما بين الكوفة وأقصى الشام"(8)فقبل الصفقة وتفانى من أجلها، مع انه يعلم أن محمد هو ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ولا يمكن أن يبيع دينه بدنياه مطلقا، كما توحي بذلك المقايضة المزعومة، وفي عام 67ه وبعد مقتل المختار على يد مصعب بن الزبير عاد إليه، وكان سيختار عبد الملك بن مروان لولا قتله لعبيد الله بن زياد، فقد قال: " لو لم أكن أصبت ابن زياد، وأشراف الشام لأجبت عبد الملك"(9) أما شريح فكان قد ولاه الإمام علي بن أبي طالب قضاء الكوفة، وقد احتكم إليه مع النصراني في قصة درعه المعروفة، ثم كان فيما بعد أحد الذين تسببوا بمقتل حجر بن عدي المتشيع لعلي بن أبي طالب، على يد معاوية بن أبي سفيان، وهذا سراقة بن مرداس البارقي جيء به أسيرا بعد وثبة أهل الكوفة بالمختار وفشلهم، وحينما أوقفوه أمام المختار قال: " أصلح الله الأمير أحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت الملائكة تقاتل معك على الخيول البلق بين السماء والأرض؛ فقال له المختار: اصعد المنبر فأعلم الناس"(10)فصعد وكرر قوله ثم أفرج عنه وخرج إلى البصرة ونزل عند مصعب بن الزبير فقال:

 

أَلا أبلغ أبا إسحق أني  رأيت البُلقَ دهماً مصمتاتِ

كفرتُ بِوَحيِكُم وجعلتُ نذراً     عليَّ قتالكم حتى المماتِ

أُري عَينيَّ ما لم تبصراه       كلانا عالمٌ بالتُّرهَاتِ

إذا قالوا أقول لهم كذبتم وإن خرجوا لبست لهم أداتي

 

وقد كان المختار يدعي أنه وزير محمد ابن الحنفية، لكنه كان يكاتب عبدالله بن الزبير ليقره على الكوفة، وقد أعطى مندوبه عمر بن عبدالرحمن مالاً ثم عاد، لكنه في الحقيقة وكما تشير الوقائع، كان مدفوعاً لهدفٍ أبعد من هذا، فحينما أرسل عبد الملك بن مروان جيشا إلى وادي القرى عام 66ه، أعلن المختار أنه يرسل لابن الزبير مدداً، بقيادة شرحبيل بن ورس هم ثلاثة آلاف مقاتل، ألفان وثلاثمائة منهم فرس، وليس معهم من العرب سوى سبعمائة رجل، فها قد وضحت الحقيقة وبانت النية، فقد كان الهدف احتلال الحجاز وتمزيق وحدة العرب المسلمين كي يعود ملك الفرس لسابق عهده، والذي لم يتخل عنه أهله يوماً واحداً رغم إسلامهم، وخير دليل على هذا الاحتفالات الكبرى التي أقامها شاه إيران عام 1972م، والتي دعى لحضورها قرابة التسعين رئيس دولة، وكانت تحت عنوان ذكرى مرور خمسة وعشرين قرناً على تواصل الحكم الإمبراطوري، أما المهلب بن أبي صفرة فقد كان أحد أهم قادة ابن الزبير، وفي عام 72ه كان يقاتل الأزارقة من الخوارج تحت إمرة مصعب بن الزبير، لكنه وبعد أن قتل مصعب على يد عبد الملك بن مروان تحول من فوره إلى إمرة عبد الملك واستمر يقاتل الأزارقة بذات الهمة والحماس، وعبدالله بن خازم قائد جيوش ابن الزبير في مرو رفض عرض عبد الملك بن مروان بخراج خراسان سبع سنين فقاتل حتى قتل في عام 72ه قرب مرو، قتله وكيع بن عمرو القريعي ثأرا لأخيه من أمه دويلة، لكن خليفة ابن خازم على مرو بكير بن وشاح قبل العرض المرواني فخلع لأجله بيعة عبد الله بن الزبير وصار داعية لعبد الملك ومقاتلا في سبيل ملكه، بل أصر كل الإصرار على إرسال رأس قائده السابق ابن خازم إلى عبد الملك، كل هذه الأحداث وهي نزر يسير مما تحتفظ به ذاكرة التاريخ، تدلل بما لا يقبل الشك أن كثيرا من القيادات العربية في عهود الانحراف الأولى كانت تسعى لمغانم الدنيا بمختلف أشكالها، مما أمكن الفرس واليهود من تطويع الكثير منهم لتحقيق أهدافهما المشتركة بتمزيق وحدة العرب للعودة بهم إلى حالة الضعف والتبعية، عن طريق واحد هو تجريدهم من الإسلام، مصدر توحدهم وقوتهم، حتى ورثها ساسة وأغلب معممي الأمة منهجا وسبيلا.

 

يستوعب العرب جيدا طبيعة الأخطار المحدقة بهم ونوايا القوى المعادية والمتهيبة أو التي تعتقد أنها ستتضرر من نهضة العرب والمسلمين، لكن الذي لم يستوعبوه لحد الآن هو كيفية منع هذه القوى من تحويل عدائها إلى عدوان واحتلال ونفوذ وسلب إرادة، أو بمعنى آخر أنهم لم يهتدوا إلى الأسباب التي أدت بهذه القوى لتتجرأ على مقدراتهم فتتحكم بمصائرهم، بل ولم يجعلوا لمواجهة هذه الأسباب وعلاج مشاكلها جهدا يوازي قيامهم بالتصدي للعدوان أو التعامل مع آثاره بعد وقوعه، فما جدوى أن تستحضر الأمة في نفوس أبنائها قيم البطولة باسم القبيلة أو القطر أو الحزب للتصدي لعدو غازٍ إذا لم يكن قد سبقه استحضار للقيم التي جعلت منها وحدة متماسكة، فلكي تكون هذه البطولة صحيحة ومجدية لابد لها أن تستقي أولا تماسكها من الإسلام الحنيف، فكل واحدة من هذه القيم فئوية ولا تحقق مصالح الجميع، ولذا فهي بمجرد برود العاطفة الجياشة ستنفجر الصراعات والأنانيات، لأن البطولة لا تمثل إرادة جمعية، وعندها سيجد المهاجم منفذه المضمون للتفريق والانفراد بالكيان تلو الآخر فيقضي عليها جميعا.

 

ولقد كانت بوادر الركون للدنيا إثر وفاة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مباشرة، فقد ارتد أغلب الذين أسلموا بعد الفتح، ولم ينج من الردة إلا قريش وثقيف مع مقر الدولة في المدينة المنورة وأعداد قليلة في القبائل، حيث لم يستقر الإسلام بعد في نفوسهم، ولم تتطهر من الشقّ السيئ من خزين ثقافتها السابقة للإسلام، فكانت الدنيا هي الباعث الأكيد على الارتداد، بمفاهيمها الجاهلية وليس غيرها، فالذين ارتدوا كان هدفهم رفع الزكاة عنهم، وبذلك فقد كان مطلبهم وهدفهم دنيوي يتعلق بمصالح الدنيا غير الشرعية.

 

فالزكاة كما هو معلوم حجر الأساس في النظام الاقتصادي للمجتمع المسلم، فهي مصالح الدنيا وتجارة الآخرة، والزكاة ليست إثقال لكاهل الناس، بل هي تخفيف عن كواهل الذين يعانون من شغف العيش والذين يعانون من التخمة على حدِّ سواء، هي نسبة بسيطة جدا تؤخذ من فضول أصحاب الموارد مما يفيض عن متطلبات حياتهم المشروعة، وتُنفق على أصحاب الحاجة ممن لا تتيسر لهم سبل الحصول عليها إلا بطرقٍ غير مشروعة، وبذلك تحفظ أسس الحياة الصحيحة لمن ينفق قبل أن تضمنها لمن ينفق عليه.

 

فصاحب الحاجة إن لم يجدها سيكون مضطرا لسرقتها، والسرقة حتما سيرافقها الكذب والخديعة وقد تتطلب هدر الدم والقتل كإحدى وسائل الاستحواذ. كما تتطلب الغدر أحيانا، وبذلك يكون كيان ذلك المجتمع قد استُهدِف في قواعده، لا يستثني أصحاب الأموال منها، بل هم أبرز ضحاياها، وقد تنتعش مع السرقة أمراض اجتماعية خطيرة كالرشوة.

 

ولهذا كانت وقفة الخليفة الراشد الصديق حاسمة في التصدي لهذه الردة، ذلك لأنه استوعب كامل نتائجها المهلكة لو تُركت، على الرغم من خطورة ذلك الموقف في لحظته الزمنية المعروفة.

 

فالمجتمع إذا استفحلت فيه أمراضه لن يكون بإمكانه الحفاظ على أي قيم صحيحة أو يحميها و يجنبها التشويه والمسخ.

 

ومع إن الردة قد وُئِدت منذ الأشهر الأولى لخلافة الصديق، فإن متابعة الخليفة الثاني الفاروق لهذا الأمر كانت دقيقة وقاسية بعض الشيء، لأنه يعلم أن أهواء الدنيا كانت كالرماد تختبئ تحتها نار الردة في نفوس الكثير من أفراد المجتمع الإسلامي الذي كبر حجمه واتسعت أطراف دولته، لتوقدها نفخة غادرة كلما سنحت لها فرصة.

 

لذلك كان من تحسبه لأخطار المناهج الصليبية واليهودية والمجوسية والجاهلية، التي كانت تسعى بكل طاقاتها من أجل أن تنحرف باتجاه العبودية للخالق سبحانه إلى مسارات أخرى، كلها تستهدف مخلوقات له. ولهذا فقد ابتدأ خلافته بعزل خالد بن الوليد، رغم الحاجة الشديدة إليه وهو يقود أخطر وأصعب المنازلات التاريخية، التي يتعلق على نتائجها مصير الأمة والعقيدة ومستقبلهما، لكنه لم يتردد لأن شجاعة ابن الوليد وانتصاراته جعلت منه مشروعاً للانحراف الذي دبَّ في نفوس المعجبين به، فكان يخشى أن يتحول هذا الإعجاب إلى انحرافات اجتماعية خطيرة، أو بمعنى أخر قد تكون ردة خطيرة عن القيم الجديدة التي غرسها الإسلام، مع يقينه بإيمان ابن الوليد الراسخ وثباته على الحق، ورفضه للجاهلية أن تعود به إلى الضلال والضياع.

 

خلاصة القول، إن التغيير يتطلب تهيئة ظروف وأدوات وأساليب للعمل، لا تتحقق إلا بتوفرها، فالأمن والاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي عوامل تساعد على خلق أرضية ملائمة للتغيير، لأنه عمل متواصل وتراكمي بحلقات يكمل بعضها بعضاَ، وتعزز قدرتها وتعظم حجم تأثيرها.

 

كما يتطلب حشود كبيرة من الطلائع القادرة على قيادة وممارسة فعل التغيير والتصحيح بالسلوك ومجمل الثقافة الاجتماعية، بالتفاعل والتأثير المتبادل، مع ضرورة أن تكون الطلائع مسلحة بثقافة ووعي وقدرة وإرادة على استيعاب كل المتناقضات السلوكية، ولإجادة الفرز بين ما هو أصيل في السلوك والتفكير وما هو دخيل عليه أو منحرف عنه، لكي لا يحدث التأثير العكسي، فحين لا تكون الطلائع واعية ومدركة لعوامل وأسباب وغايات ومفردات الانحراف، ومحصنة من الوقوع في حبائلها، فإن بعضها سينتقل بنتيجة التفاعل مع الجماهير من موقع المؤثر الفاعل إلى موقع المتأثر المستجيب لثقافة الانحراف والتشويه. ومع كل ما سبق ذكره فإن الرقابة الدائمة والدقيقة لمسارات التغيير قد تمنع حدوث هذا التحدي، والذي ساهم من قبل في تعويق العديد من عمليات التغيير، بل وحرفها في أحيان كثيرة عن مساراتها إلى منزلقات أودت بكل منجزاتها خلال فترة قصيرة، ذلك لأن انحراف الطلائع، أو من يحسب عليها في موقعه ودوره، يشكل تزييف خطير للحقائق، فممارسة الطلائع لسلوك الانحراف يمنحها تزكية ومصداقية، مما يحولها من واجب نفيها إلى ترسيخها في الواقع.

 

كما إن التغيير ذاته قد ينحرف في صورته البديلة باتجاه آخر، قد يكون أخطر من التفريط الذي تسبب في إدخال خصائص سلوكية غريبة قبل التغيير، ذلك هو الإفراط، فالغلو المبالغ فيه قد يخلق حواجز خطيرة بين المجتمع والسلوك الجديد ويعيق عملية التفاعل والترسيخ والثبات.

 

فالتغيير على أهميته لا يمكن جني ثماره إلا بالمتابعة والرقابة والقدرة العالية على معالجة كل المستجدات وتأثيراتها غير المحسوبة.

 

وذلك يؤكد أن عملية التغيير لا يمكن لها أن تكون مبنية على الجوانب النظرية فقط، بل يجب أن تكون عملية تفاعلية مستمرة، تقود فيها الطلائع مع العمل والتنفيذ مهمة التعديل والتصحيح للتناقضات والمستجدات خلال الرقابة والمتابعة المتواصلة.

 

إن العودة إلى ينابيع الأصالة بصيغة التراجع لن تتم لأنها إرادة تخالف قوانين الحياة والتاريخ، لكن استحضار قيم الأصالة والتفاعل معها على أرضية صلبة ورصينة ستفضي بالأمة إلى عودة حميدة لمواصلة دورها وحمل رسالتها، لكنها تتطلب قبل كل شيء الطغيان على إرادة الأنا وحبسها مع إحياء روح الجماعة، وبغير هذا لن تنال الأمة مرادها ولن تحقق شيئا من طموحاتها.

تم بحمد الله

 

------------------------------------------

(1) سورة العنكبوت: من الآية 45.

(2) سورة الرعد، الآية:11.

(3) سورة آل عمران، الآية:104.

سورة الأنفال، الآية: 53.

ابن كثير، البداية والنهاية، ج10،ص63، دار هجر ط1 القاهرة 1998.

سورة الذاريات، الآية: 56.

سورة الرعد: من الآية11.

ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج4، ص30، دار الكتب العلمية، ط1،بيروت1987م.

نفس المصدر، ص 70.

نفس المصدر، ص 45.

 

مقدمة

5

الباب الأول: حقائق التاريخ

11

الفصل الأول: استنطاق التاريخ

12

الفصل الثاني: بدايات الانحراف

57

الفصل الثالث: جسور التاريخ

82

الباب الثاني: مؤامرة التشيع الفارسي

128

الفصل الأول: الغلو والتفريط

129

الفصل الثاني: المؤامرة الكبرى

147

الفصل الثالث: من فصول المؤامرة

212

الفصل الرابع: ثورة الحسين وحقيقة التشيع

289

الفصل الخامس: محبة آل البيت وأكاذيب الفرس

316

الباب الثالث: أخطاء تاريخية عززت من وجود التشيع الفارسي

346

الفصل الأول: أدوار الأمويين والهاشميين في إنماء التشيع الفارسي

347

الفصل الثاني: دور العثمانيين في إنجاح الغزو الصفوي للعراق

377

الفصل الثالث: التهلكة الفارسية

397

الفصل الرابع: الأساليب الفارسية في التوغل

421

الفصل الخامس: من نتائج حلف المجوس واليهود

442

الباب الرابع: الرسالة الخالدة

452

الفصل الأول: خصوصية التكليف

453

الفصل الثاني: من شروط النهوض الحضاري

490

المحتويات

516

 

للإطلاع على مقالات الكاتب إضغط هنــا  
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الجمعة  / ٠٧ جمـادي الاخر ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ٢١أيـــار / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور