دراسة
هوية المقاومة العراقية ومرجعيتها

 
 
شبكة المنصور
حــديــد الـعـربي

تمهيد

 

ترتبط  المقاومة الشعبية بعوامل عديدة، تتفاعل فيما بينها لترسم الإطار، الذي من خلاله تتضح هوية تلك المقاومة  ومدى قدرتها على خوض الصراع مع قوى الاحتلال، وقد تتباين أولويات تلك العوامل بين مقاومة وأخرى من حيث الأهمية والأسبقية تبعا لظروف كل منها، ونوعية الخصم الذي تتجرد لخوض الصراع معه وطبيعة أهدافه وغاياته من الاحتلال ووسائله المتاحة للاستخدام في عدوانه.

 

فالمقاومة تعتمد أساسا على مستوى وعي الشعب الذي تنبثق من بين صفوفه، ويعتمد أيضا على مدى ارتباط ذلك الوعي بالخصائص الوطنية والقومية والعقائدية وانسجامه معها، وتفاعله مع الواقع وفقا لمتطلباتها، كما يعتمد على عامل يرتبط كثيراً بالعامل الأول، وهو الاستعداد النفسي والمادي لتقبل التضحيات الناتجة عن الصراع والخلفية التي يستند إليها الشعب في تبرير تضحياته، سواء أكانت مادية أو روحية، و يسندهما عامل ثالث يتمثل بمنظومة القيم والعادات التي تشكل ثقافة ذلك المجتمع، وقدرتها على استنهاض الهمم وتفجير الطاقات والصمود بوجه التضليل والمغريات التي تترافق عادة مع القوات المعتدية كوسائل لتمرير غايات أصحاب القرار من الاحتلال، فلا يوجد مجتمع يخلو ممن يملكون الاستعداد لتقبل التضليل أو اللهاث خلف المغريات بدوافع مصالحهم الشخصية الضيقة أو إيجاد مبرراتها الخادعة، وليس كل ما تحتويه البلدان المستهدفة بالاحتلال من موارد وثروات تشكل مطمحا لتلك القوى، بل هي وإن كانت بحاجة لها فإنها تعمد لإيجاد شركاء لها من داخل البلد المستهدف بالعدوان كي تجعل منهم بعض وسائلها الدعائية المدافعة عن وجودها بالنيابة عنها بحكم مصالحها وما سيتحقق لها بوجود الاحتلال.

 

أما المقاومة فهي بحاجة إلى أكثر من ذلك، لأنها ستشكل بمقاومتها قطب الرحى الذي يجب أن يدور المجتمع بأغلبيته حوله، متناغما مع حركتها ومستجيبا لمتطلباتها، لذلك فهي بحاجة لوعي كامل لطبيعة المهمة التي تؤديها، والنتائج التي تترتب على فشلها، كما تتطلب قدرة وخبرة ودراية بالقتال وكيفية التعامل مع مستلزماته وأدواته ووسائله، مع الإلمام بأساليبه المختلفة عن عمل وأداء حتى الذين لديهم خبرات عسكرية مستمدة من مناهج الجيوش النظامية. كما تحتاج الوعي الكافي بطبيعة عدوها وإمكاناته وقدراته ووسائل حربه وخصائصها، فبغير ذلك لن تتمكن من تحقيق الموازنة أو التفوق في إدارة الصراع معه، لأن واحدة من أهم أسباب القدرة على النجاح في خوض الصراع هي معرفة نقاط ضعف العدو لتهاجمه من خلالها، وعدم الاقتصار على معرفة نقاط قوته لتتجنبها فحسب.

 

أما أخطر الأمراض التي تتعرض لها المقاومات، فهي التفرد نتيجة الغرور، والذي يؤدي إلى كوارث حقيقية لا تصيب ذلك الفصيل فحسب، بل يتطاير شررها ليشمل غيرها أيضا، والغرور يأتي في أغلب الأحيان نتيجة قصور في الوعي وضعف في إدراك مؤهلات الحسم للصراع، والتي تنتج عادة عن حالة من التنافس المرضي خلال المراحل الأولى، تطغى عليها العاطفة وتتحكم في مجرياتها، ليتحول ذلك فيما بعد وشيئا فشيئا إلى تناحر واختلاف مع من يتنافس معهم، فيتعطل بذلك واحدا من أهم شروط النجاح والتفوق، تلك هي الوحدة، والانسجام لا يتحقق إلا بطغيان المحبة والتوادد بين المقاومين، فالوحدة تتطلب أن تنزوي في محيطها كل الخصوصيات أمام الهدف الأكبر المتمثل بالتحرير. وقد ينتج الانقسام والتشرذم نتيجة تغليب الأهداف الثانوية على الهدف الأعلى، تلك الأهداف التي قد تتمثل بالتحزب لمرجعية التمثيل الفئوي في جانبه الروحي لكل فصيل، أو التي تتعداها لمرحلة ما بعد التحرير قبل انجازه. لذلك فإن أغلب المقاومات الشعبية قد مرّت بمخاضات عسيرة ومؤلمة وقاسية قبل أن تنصاع كلها لحقيقة مفادها أنه لا يمكن تحقيق هدف التحرير إلا بانصهار جميع الفصائل المتنافسة في كيان واحد يضمن وحدة مسيرها ويضبط إيقاعه نحو الهدف المنشود.

 

المخاض

 

ولدت المقاومة العراقية وفيها كل تلك العوامل؛ الإيجابية منها والسلبية، لكنها تختلف في شيء يميزها عن غيرها، ذلك هو انطلاقها متداخلة مع وجود المواجهة العسكرية النظامية، وذلك يعود للخبرة التي اكتسبها أغلب أبناء الشعب العراقي نتيجة الحروب السابقة، كمجندين ومطوعين سابقين، ونتيجة الاستعدادات التي ترافقت مع سنوات الإعداد للعدوان النهائي بعدوان متواصل استمر منذ عام 1980م وحتى عام 2003م، تولدت خلال تلك الفترة الطويلة إرادة المقاومة في نفوس من آمنوا بها كطريق للدفاع عن وطنهم وكمسعى منهم لتحقيق رغباتهم في كسب رضى الله تعالى والفوز بما أعد لأمثالهم من خير، نتيجة الوعي الصائب والصادق بالعقيدة الإسلامية، التي سعت قيادة العراق لتعزيزها في نفوس الأجيال من خلال العديد من البرامج والفعاليات.

 

لكن الذي لا يدرك هذا فإنه يستكثر عليها أن تكون قد نهضت قبل أن يتخلى الجيش عن حلته العسكرية، فاستمرت تثار الشكوك والأقاويل حول مدى مصداقية حقيقة ماثلة للعيان، اعتقادا من بعضهم أنه لا يمكن أن يستمد شرعيته إلا من خلال سعيه لتغييب غيره عن الساحة، ناسيا أن القيادة العراقية لم تكن في نظرتها إلى الشعب فئوية أو حزبية خلال كل الظروف التي مرت بها، بل كانت ولا تزال تنظر إليه بمسؤولية كبيرة وصدر يتسع لكل أهله بكل مكوناتهم ومشاربهم كحالة واحدة متجانسة، على ثوابت لا تصان الأوطان إلا بها، ولا تزدهر وتنمو إلا بالاستناد إليها.

 

فهذا "أبو مصعب البغدادي" يدعي أن كتائب مجاهدي الطائفة المنصورة هي نقطة الانطلاق الحقيقية للمقاومة العراقية، مع انها لم تصدر بيانها الأول إلا في مستهل شهر مايس 2003م، حيث بثته قناة الجزيرة بعد إعلان المجرم بوش انتهاء العمليات العسكرية يوم 1/5/2003م، مدعيا أن العمليات التي سبقت ذلك التاريخ كانت عشوائية غير منظمة، وله العذر في ذلك لأنه قد لا يستوعب أن من أهم أسباب نجاح المقاومة هو عدم كشف تفاصيل عملها حتى لحواضنها المقربة، وان أي مقاومة لابد لها ان تتعامل مع الظرف الجديد المفروض عليها في بداية الأمر بتأني وحذر شديد، فإن الاندفاع بتهور قبل دراسة الواقع الجديد واستيعاب خصائصه سوف لا يحقق تفوقا بل ينتج كوارث، لكنه سامحه الله، يعتقد كغيره أن من قاوم الاحتلال وتصدى له، منذ أن أعلن الغزاة أنهم احتلوا بغداد، وهو يجهل لأي جهة ينتمي وبأي فصيل ينتظم، فإنه ينسبه إلى العشوائية والتخبط، وقال آخرون بل هو جيش محمد حين أصدر أولى بياناته بعد منتصف ذلك الشهر، وقال غيرهم بل هي حركة المقاومة الوطنية الإسلامية"كتائب ثورة العشرين" في بيانها التأسيسي الصادر بتاريخ 10/7/2003م، وقال البعض أن السبق لجيش أنصار السنة الذي أصدر بيانه الأول في 20/9/2003م، ثم الجيش الإسلامي في بيانه الأول خلال شهر تشرين الثاني 2003م.

 

والحقيقة أن كل تلك الفصائل وغيرها قد نشأت من رحم المقاومة التي خطط لها وأشرف على نشأتها، بشكل مباشر أو غير مباشر، الشهيد صدام حسين رحمه الله ورفاقه المؤمنين، فكلها قد استندت إلى رجال الجيش والأجهزة الأمنية الأخرى، قيادة وتوجيه وتنفيذ، وكان الجانب الديني فيها يرتكز على أئمة وعلماء العراق، في التعبئة والتثقيف والتوجيه المعنوي، والتعددية لم تكن أسبابها تعود للأجنحة القتالية العاملة في الميدان، لأنهم كلهم من نسيج واحد، لكنها نشأت بسبب الخلافات المذهبية الدينية، فكل فئة تكتلت ضمن فصيل معين، فأسبغوا على مقاتليه تلك الفئوية، الأمر الذي انعكس فيما بعد على الأجنحة العسكرية المقاتلة، بين رافض ومؤيد، وذلك هو السبب الذي أدى فيما بعد إلى انشطار وتشظي أكثر تلك الفصائل وتفتت بعضها. فكتائب مجاهدي الطائفة المنصورة نفسها التي ادعت أنها أول فصيل يعلن عنه قد تبخرت فيما بعد بسبب التجاذبات المذهبية، التي أرادت استثمار الفعل الجهادي لأغراض تنظيمية مذهبية لا علاقة لها بهدف تحرير العراق، فذهب كل واحد في تشكيلاتها إلى حيث كان يرى موقعه الصحيح، ولازالت هذه المشكلة تشكل الثقل والخطر الرئيسي على مستقبل الكثير من الفصائل الجهادية رغم مرور أكثر من سبع سنوات على الاحتلال، ويلاحظ أن هناك الكثير من المتدينين لا يفقهون أن البعث حزب سياسي وليس عقيدة دينية أو مذهب، فالمنتمين للبعث هم خليط متجانس من كل المذاهب والقوميات، بل والأديان تجمعهم روابط لا تستطيع أي طائفة أو مذهب أو عرق توفيرها، رغم أنهم ككل الشعب ينتسبون إلى مذاهبهم وقومياتهم وأديانهم بحرية تامة، لكنهم لا يجعلون منها حالة منافسة أو متقاطعة مع مشروعهم الحضاري المستند إلى الرسالة الخالدة لأمتهم، والتي يعبر عنها البعث الذي ينتمون إليه، ولا يتحزبون لأي منها على حساب مصالحهم وأهدافهم الوطنية والقومية. وذلك ما لم يدركه الكثير من الطارئين على الواقع السياسي في العراق لحد الآن، فتراهم يتوسلون بالذرائع كي لا يقال عنهم أنهم بعثيين حين يتحدثون، فأي وطني شريف مؤمن برسالة أمته لا يمكنه أن يعبر عن إيمانه إلا أن يجاري البعثيين في قولهم. فمتى انطلقت المقاومة إذن؟.

 

البدايات

 

لم تكن العملية الاستشهادية التي نفذتها الشهيدتان نوشة الشمري ووداد جميل الدليمي يوم 4 نيسان 2003م في منطقة حديثة ضد علوج الكفر والضلال الأمريكي بسيارة مفخخة بعد القسم الذي أدتاه من على شاشة تلفزيون العراق عملا عسكريا تمارسه الجيوش النظامية في مواجهاتها مع جيوش معادية، بل هي تعد تطورا متقدما في آليات ووسائل وأساليب المقاومة الشعبية، تنتمي إليها وتحمل هويتها، يضاف إلى ذلك أنهما لم تكونا من أفراد الجيش العراقي، كما لم يكن عملهما الاستشهادي جزءا من منهج القوات المسلحة، فالمقاومة الشعبية بدأت متداخلة مع وجود الجيش العراقي في ميدان الدفاع عن البلد.

 

وهي امتداد للعملية الاستشهادية البطولية التي سبقتها في أم قصر يوم 26 آذار 2003م والتي نفذها استشهادي عراقي ضد القوات الغازية، من خلال تسلله خلف القطعات المعادية وتفجير نفسه وقد أدت العملية إلى تدمير دبابة نوع ابرامز بطاقمها، كما أعلنه الناطق العسكري العراقي حينها. وهي في الحقيقة جزء يسير من كم غير قليل من العمليات الفدائية ذات الطابع الشعبي غير العسكري، انطلقت مع بدء العدوان ورافقته بتواصل دائم حتى يومنا هذا، فشكلت البدايات الحقيقية للمقاومة الشعبية العراقية، وأسست لها منذ ذلك التاريخ.

 

وحتى العمل الاستشهادي البطولي الذي نفذه المجاهد الشهيد علي جعفر النعماني بتفجير نفسه حين قاد سيارته المفخخة باتجاه حاجز للقوات الأمريكية بين النجف والكوفة يوم 29 آذار 2003م فقتل 11 ضابطا وجنديا من القوات الغازية وجرح العشرات منهم فيما دمر ناقلتين مدرعتين وإعطاب عدد من الدبابات، وهو من أهالي النجف الذين لم تتسخ عروبتهم وعقيدتهم بنجاسة المدّ الشعوبي الفارسي، لم يكن عملا عسكريا روتينيا، فهو رغم أنه كان ينتسب للجيش العراقي ويحمل رتبة نائب ضابط فيه، إلا إن العملية التي نفذها لا تمت للسياقات العسكرية النمطية بشيء، فهي عمل فدائي اعتمد على القدرة الذاتية لذلك البطل الشهيد دون أي تعزيز أو إسناد من قبل القطعات العسكرية النظامية خلال التنفيذ، فكان بعمله البطولي رحمه الله قد فتح باب التلاحم بين الجيش النظامي والشعب للاندماج في جحافل المقاومة الشعبية الباسلة.

 

فالمقاومة الشعبية، أية مقاومة، لا يمكن لها أن تكون إن لم تستند في شقها الحربي العملياتي الفني على خبرات منتسبي الجيوش النظامية وبعض معداتها، كما لا يمكنها أن تكون مقاومة شعبية إن لم تخرج على سياقات الجيوش وأنظمتها ومعسكراتها وخنادقها لتنتقل إلى خنادق الشعب وحواضنه، التي تمهد السبيل للمقاومين وتمنحهم حرية الحركة الواسعة والمناورة على أرض الوطن كلها بدلا من المعسكرات وخنادق القتال الاعتيادية والجبهات، فالمقاومة الشعبية إذن هي عملية تفكيك لمؤسسات المجتمع وإعادة تركيبه من جديد وفق صيغ وشروط أخرى، قد تختلف عن صورتها السابقة، فالعسكري المحترف للجندية يندمج في المجتمع الإنساني مع المهندس والطبيب والسائق والعامل والفلاح والميكانيكي وغيرهم كي ينتجوا نظاما جديدا وبنسق مختلف عن سابقه.

 

ولعل التصريحات التي أدلت بها القيادة على لسان الناطق العسكري خلال الأيام الأولى للعدوان من أن آلاف العرب قد انتظموا مع إخوانهم العراقيين لتنفيذ المزيد من العمليات الفدائية، أفرزت  دليلا قاطعا على الإعداد المسبق لصفحة المقاومة الشعبية بصيغتها المعروفة والمختلفة عن معارك الجيوش النظامية، فإن من غير المعقول أن ينتظم آلاف الشبان العرب المؤمنين في صفوف المقاومة العراقية منذ اليوم الأول للعدوان، ويمارسون فعلهم الجهادي المقاوم بكل بسالة وشجاعة، من غير أن يسبق ذلك إعداد متكامل من جانب قيادة العراق ومن جانب المتطوعين أنفسهم، وقد وجدناهم كما يعشقون الشهادة في سبيل الله والوطن يملكون خبرات كافية أهلتهم للتعامل مع المعدات العسكرية التي زودوا بها بحميمية واطمئنان ودراية كافية، وذلك لا يتيسر لمن يمسك بقطعة سلاح طارئة عليه.

 

والقيادة نفسها كانت قد انتقلت منذ بدية نيسان 2003م من مواقعها الرسمية إلى صفوف الشعب تماما، فمعركة المطار التي تكبد فيها الغزاة أكثر من ألفي قتيل، واضطرت المجرم بوش لاستخدام قنابل "مؤاب" المكافئة في قواها التدميرية للقنابل النووية التكتيكية، قد تمت بجهود تفاعلية مشتركة بين الجيش والمجاهدين العراقيين والعرب، وبإشراف الشهيد صدام حسين المباشر ومشاركته الفعلية في تنفيذ صفحاتها، فقد استخدموا وقود الطائرات برشه في أجواء المطار عن طريق منظومة مرشات الماء التي تغطي مساحة أرض المطار بشبكة واسعة في نفس الوقت الذي أطلقوا مساحيق بلاستيكية خاصة بواسطة قنابر الهاونات، ثم حانت لحظة الجحيم بقذائف هاون حارقة أشعلت في علوج الكفر كتلة من اللهب جعلتهم فريسة بيد المجاهدين جيشا ومتطوعين عراقيين وعربا يقوهم الشهيد صدام بنفسه، فحققوا واحدة من أروع صولات الفرسان في التاريخ، اختلطت فيها قيم الجندية بقيم الفداء.

 

القرار بتحول القوات المسلحة إلى المقاومة الشعبية

 

لقد كانت قيادة العراق تملك الكثير بعد معركة المطار لولا التهديد الصليبي بعشرات القنابل " مؤاب" التي لا تحمل في طياتها الموت والدمار فحسب، بل حقدا صليبيا صهيونيا يبحث عن ذريعة ليقع بكثافة على شعب العراق الأبي، ومعها كانت مفاجئات الخيانة التي تركت آثارها القاتلة على صمود الجيش العراقي إزاء الغزو، فكان خيار القيادة بالانتقال إلى صفحة المقاومة الشعبية خيارا صائبا ومسؤولا.

 

والخيانة حصلت رغم الخلافات الدائرة حولها، ذلك أن أصدق الوثائق التي يجب أن نستند إليها هي التي وردت على لسان القائد الشهيد صدام حسين رحمه الله، لأنها تشكل الفيصل في ذلك الخلاف والتخبط، وبخاصة ما صرح به خلال تلك الفترة، ففي خطابه الإذاعي الذي سجله يوم 9/4/2003م في مدينة الأعظمية وبثته فيما بعد قناة أبو ظبي استهله الشهيد صدام حسين رحمه الله بالقول التالي، والذي يدلل على فعل الخيانة وجرمها "  تذكروا الله في أمركم، وتذكروا وعدكم أمامه وأمام كل الخيرين" ثم قال بعد ذلك " فمن كبا منكم يستطيع أن يصلح موقفه ورؤيته الآن أو في المستقبل، ومن يطلق قول ضعف ذكروه ليطلق بدلا عنه معنى ودعوى الثبات ويقين واستقرار في الصدور، ونخوة تعز الأحياء في الدنيا وتضمن للأموات الجنة" وهذا دليل على أن هناك من كبا وتخاذل أو خان وغدر، فالشهيد رحمه الله – كما عهدناه زمنا طويلا – لا يقول قولا إلا ويريد به أمرا، فهو لا يلقي القول على عواهنه، ولا يحشو باللفظ حشوا.

 

أما رسالته الأولى الموجهة للشعب العراقي وأبناء الأمة بتاريخ 28/4/2003م فقد استهلها بالآية الكريمة: { وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً} (سورة الأحزاب، الآية: 15)، وفي ذلك دلالة أكيدة على وجود خيانة، ثم يشير إليها بوضوح حين يقول: " مثلما دخل هولاكو بغداد دخلها المجرم بوش بعلقمي، بل وأكثر من علقمي. لم ينتصروا عليكم، يا من ترفضون الاحتلال والذل ويا من في قلوبكم وعقولكم العروبة والإسلام، إلا بالخيانة"، فشبه وأحسن التشبيه، لأن الذين خانوا وغدروا لم تكن مبرراتهم الكاذبة إلا كمبررات ابن العلقمي والطوسي حين توسلا تبريرا لتآمرهما على دولة الخلافة فسهلوا سقوط بغداد في أيدي المغول بذات الحجة الواهية التي استند إليها الخونة بشقيهم؛ من كان متسولا على أعتاب الأجنبي يعرض ظهره مطية يركبها في مسيرة الأحقاد المبنية على أمراضهم النفسية وأطماعهم الشيطانية، ومن اؤتمن فخان وغدر من بين صفوف الشعب أو الجيش وبأبخس الأثمان وأسوأ العواقب، والعياذ بالله، فقد كانت دعواهم كما الذين من قبلهم المظلومية المزعومة، وكما تسبب العلقمي بإهلاك الشيعة على يد هولاكو رغم دعواه أنه فعل ذلك لأجل إنصافهم، فقد أهلك العملاء والمأجورين والخونة والغادرين الشيعة مرة أخرى بدعوى مظلوميتهم، وليس هذا فحسب، بل لقد جللوهم بعار لا يمحى أبد الدهر، حمله ثقيل تنوء به الرواسي، فلهم الله.

 

والخيانة لم تنحصر فيمن يحسبون على الشيعة، بل هم من كل أطياف الشعب، أو هم يحسبون عليها؛ سنة وشيعة، عربا وأكرادا وتركمان وغيرهم، مسلمين ومسيحيين وكفرة ملحدين.

 

ولعل من أدق كلمات الشهيد صدام حسين تلك التي خاطب بها الذين يرفضون الاحتلال حين يسند رفضهم لما يستقر في قلوبهم وعقولهم من نخوة العروبة وشهامتها ونبلها، وعدل العقيدة الإسلامية وصواب المتمسكين بمنهجها وأمانة معتنقيها وشرف مواقفهم.

 

وفي رسالته الثانية بتاريخ 7/5/2003م أكد مرة أخرى على الخيانة ودورها في سرقة نصر العراق على أعدائه وأعداء الله بعد معركة المطار، فقال رحمه الله: " في معركة المطار خاض المتطوعون العرب نزالاً عنيداً جباراً مع إخوتهم أبناء العراق في الجيش والشعب حتى بلغت خسائر المجرمين الأمريكان أكثر من ألفي قتيل وأعداداً أكثر من الجرحى، ومعدات لو سمحوا للمصورين أن يلتقطوا فيها الصور لكانت صور محرقة قد تمت لهم، في هذه المنازلة. ولكن الخيانة من أناس هان عليهم دينهم ووطنهم وأمتهم وعرضهم ولقاء ثمن مهما كبر فهو بخس بحجم ما ألحقوا بالعراق والأمة من أذى. لقد قاتلنا برجولة وشرف وعزة وكرامة، ولن  ننهزم طالما بقي الإيمان بالله في نفوسنا والجهاد خيارنا والمقاومة ردنا." وحقا فقد قاتل الشهيد رحمه الله ومعه كل أشراف العراق والأمة برجولة وشرف وعزة وكرامة وثبات استجابة لأمر الله تعالى وقيم الأمة وفطرة الرجال النقية، لكن الغدر وخيانة الأمانة والعهد قد غرسا خنجرا مسموما في الظهر على غير تحسب واستعداد فوقعت بغداد في أسر جلاديها ومزوري تاريخها.

 

على أن هناك أمراً هاماً يجب استيعابه، ذلك أن الذين خانوا وغدروا ممن كانوا في مواقع تؤهلهم للقيام بأداء دور فاعل في تعويق القوات المسلحة وثنيها عن أداء دورها المطلوب، لم يكونوا كل الجيش، ولم يكونوا كل قياداته، بل هم قلة قليلة، ولا تشكل نسبة تذكر بالقياس الى حجم القوات المسلحة العراقية آنذاك - فرعد الحمداني قائد فيلق الحرس الثاني لم يكن معه الكثير ممن باعوا أنفسهم وعهدهم وخانوا أماناتهم، فكثير من القادة والآمرين قد خدعوا من قبل هذا وغيره - لكن فعلها كان مؤثرا لأنه اعتمد الغدر وخيانة الأمانة والعهد الذي قطعوه على أنفسهم طائعين مختارين أمام الله تعالى وأمام قيادة العراق، التي وضعت كل ثقتها بهم وبعهودهم، فالسرائر لا يعلم بها إلا الله سبحانه، لذلك فإن التعميم الذي سعت بعض تلك الأطراف لجعله مبررا لأن تقول أن مقاومتنا لا ترتبط بقيادة العراق وجيش العراق الوطني، " فنحن حملنا الراية بعدما تخلت عنها الدولة وأنهزم جيشها" فذلك غير صحيح، وغير صائب، لأنها تحاول بتلك الادعاءات الباطلة أن تضخم من دورها وحجم تأثيرها الفئوي، فجيش العراق لم يكن للقيادة العراقية، بل ولم يكن للدولة العراقية بكل ما تعنيه الدولة ككيان فحسب، بل هو جيش الأمة كلها، وسفره الخالد يؤكد هذا ويزكيه منذ تكوينه وحتى يومنا هذا، فكيف إذن تتوزع هويته بين الفئويات الضيقة، كما أراد هؤلاء سامحهم الله، أما لماذا هم في هذا الفصيل وليسوا في غيره، فذلك أمر غاية في الأهمية، لأن الجندي حين ينحاز لوطنيته فإنه لا يختار وحدته العسكرية كي يؤدي واجبه في محيطها ما دامت كلها تسعى لتحرير البلد من رجس الغزاة وأذنابهم، أما الاقتداء بهذا المذهب الديني أو ذاك فهو ليس مما يعرقل وطنية الجندي ويمنع عليه أداء واجبه، لأن من ثوابت العقيدة الإسلامية، وبخاصة منها ما يتعلق بجهاد الأعداء الصائلين، لا يرتبط بالمذهبية بشيء، فلا خلاف عليها، حتى من قبل الطوائف المتهمة بالمروق عن ربقة العقيدة، وإن كان هناك خلاف بين المذهبيات، فهو يتعلق بالدنيا ومصالحها الضيقة فحسب.

 

أوان الانتقال من حال إلى حال

 

لقد كانت المعركة التي جرت في الليلة التي سبقت معركة المطار تعد المعركة الأخيرة التي خاضها الجيش العراقي منفرداً، تخطيطا وتنفيذا، قبل أن ينتقل إلى صف الشعب كمقاومة شعبية، تلك المعركة التي جرت مساء 6 نيسان 2003م الأحد حين قاد الشهيد البطل اللواء مصطفى عزيز نمور صدام الأبطال، منتسبي اللواء 37 من فرقة الفاروق فيلق الحسين للحرس الخاص لمواجهة القوات الغازية بهجوم فدائي صاعق انطلاقا من منطقة الرضوانية باتجاه جسور ذراع دجلة حيث كانت القوات المعادية تتحشد للانطلاق باتجاه مطار صدام الدولي ودارت المعركة الضارية في تلك الليلة المباركة التي أطلق عليها الأمريكان " الليلة السوداء" للخسائر الجسيمة التي منيت بها أفضل قطعاتهم العسكرية على الإطلاق، ورغم التضحيات السخية التي قدمها نمور صدام الأبطال بسبب استخدام  العدو لقنابل نووية من الجيل الثالث بواسطة الطيران، فإنهم تمكنوا من عرقلة تقدم القوات الغازية باتجاه المطار بعد أن كبدوها خسائر جسيمة، وقدموا خلالها تضحيات كبيرة، مما أعطى الفرصة الكافية للقيادة كي تنظم الدفاع عن المطار مجدد، وبصيغ تداخلت فيها أعمال الجيش النظامي مع العمل الشعبي المقاوم، فكانت معركة المطار هي البداية الواضحة لانتقال الجيش إلى صف الشعب وتحولهما باعتماد منهج المقاومة الشعبية، رغم أن الشهيد البطل علي حسن المجيد قد سبق الجميع منذ أيام العدوان الأولى حين نجح في تفكيك نسبة كبيرة من القطعات في القاطع الجنوبي ودمجها بالشعب لتتحول إلى مقاومة شعبية حقيقية لقنت الغزاة دروسا لا تنسى.

 

ولهذا فإن الشهيد صدام حسين رحمه الله انتقل من منطقة اليرموك في الكرخ، بعد أن تحول إليها قادما من حي المنصور القريب، إلى جامع أم الطبول، ومنه إلى منطقة الأعظمية، حيث التقى هناك في الساحة المقابلة لجامع أبو حنيفة النعمان بالجماهير المحتشدة وتحدث إليهم، وحثهم على الدفاع عن وطنهم وأمتهم، ثم انتقل إلى جامع عبد العزيز في نفس المنطقة ثم سجل خطابا صوتيا بثته فيما بعد قناة أبو ظبي  قال فيه: " تذكروا الله في أمركم، وتذكروا وعدكم أمامه وأمام كل الخيرين، وان الله على نصركم لقدير، وعند ذلك وبعد الانفراج الذي يأذن به الله سبحانه، يقتطف مع النصر ثواب عظيم، هو زاد الآخرة وذخيرة الدنيا الطيبة، وعز يجعله الله مستقر النفوس في الدنيا، وكشارة على بداية المسرى والنتيجة الصحيحتين للأمة كلها، وبعكسه يقيم - لا سامح الله- الفساد على أرضكم وارض الأمة كلها، وتدفعون ثمن ضعف من تضعف نفسه فيدوم الضعف فيها، فانتم أهل المعاني العالية، فمن كبا منكم يستطيع أن يصلح موقفه ورؤيته الآن أو في المستقبل، ومن يطلق قول ضعف ذكروه ليطلق بدلا عنه معنى ودعوى الثبات ويقين واستقرار في الصدور، ونخوة تعز الأحياء في الدنيا وتضمن للأموات الجنة. وان قيادتكم لو أردتم أن تسالوا عنها، ثابتة لا يهزها أي شيء يهز الضعفاء، لا الآن ولا في المستقبل مثلما هي في الماضي، وتبني على أعلى خصائص الأقوياء والمعاني العالية، وما القوة والتوفيق إلا بالله... "

 

وعند المساء قاد الشهيد رحمه الله معركة المواجهة الدامية مع الغزاة في شوارع الأعظمية وأزقتها القديمة خلف المقبرة وقرب مسجد صالح أفندي، استمرت زهاء تسع ساعات، كبدوا العدو خلالها خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات، وشواهد تلك المعركة شاخصة في الحديقة الخلفية المطلة على دجلة لجامع الإمام الأعظم، حيث ترقد رفات الشهداء الذين سقطوا خلال تلك المعركة، في مقبرة لشهداء معركة ليلة 9-10 نيسان 2003م تضم قرابة الأربعين رفات، بينهم ثمانية سوريين ومصري واحد وعشرين عراقيا بينهم عضو قيادة فرع وأعضاء قيادات فرق في حزب البعث العربي الاشتراكي ومعهم بحدود عشرة من العرب لم تعرف هوياتهم.

 

وفي الوقت الذي كانت بغداد تشهد خلال يوم الخميس 10 نيسان معارك متواصلة في أغلب مناطق بغداد صلى الشهيد صدام حسين الفجر في جامع بشر الحافي ثم عبر نهر دجلة من منطقة السفينة بزورق صغير إلى منطقة الكاظمية ومنها إلى التاجي والتقى هناك بعدد من الرفاق والقادة، كان من بينهم الشهيد بإذن الله علي حسن المجيد القادم لتوه من البصرة بناء على طلب الشهيد صدام، ومنذ ذلك اليوم والقائد يتنقل بين المناطق ويتابع بنفسه تنظيم الصفوف والنهوض السريع بمستوى المواجهات مع قوات الاحتلال، وتوفير مستلزماتها المستجدة.

لذلك بمجرد أن غادر القائد للاعظمية صباح يوم الخميس 10/4/2003م اندلعت فيها مواجهات عنيفة بين فدائيي صدام ومن التحق بهم من الحزبيين والمواطنين وبين وحدات من اللواء الأول الفرقة الخامسة الأمريكية قرب قصر الأعظمية وكبدوهم خسائر كبيرة أرعبت الأمريكان وأرغمتهم على التخلي عن نشوة النصر المزعوم، والذي روج له الإعلام العربي قبل الإعلام المعادي. هذا حدث ومناطق بغداد الأخرى مشتعلة بالمواجهات، فالمنطقة الممتدة بين شارع حيفا وحتى العطيفية كانت تشهد مواجهات ضارية مع القوات الغازية، وقد دارت معركة ضارية قرب نادي الزوراء تكبد فيها الغزاة خسائر جسيمة، وتم تفجير سيارة ملغمة قرب مدرعة برادلي قتل فيها رئيس العرفاء تيري دبليو.همنغواي فيما لقي العريف جيفري بوهر مصرعه في شمال بغداد بنيران فدائيي صدام الأبطال في ذلك اليوم أيضا . 

 

كما كان الرفاق والمتطوعين في منطقة المنصور قد رتبوا أوضاعهم سريعا لأن القائد كان قريبا منهم حتى صباح يوم الأربعاء 9 نيسان 2003م فتواصلت فيها المقاومة بلا انقطاع حتى نهاية شهر نيسان، في مواجهات دامية مع قوات الاحتلال، وبخاصة المنطقة المحيطة بساحة اللقاء، وقد ضمت حدائق مستشفى الطفل العربي القريب من الساحة رفات المئات لشهداء عراقيين وعرب استشهدوا في تلك المواجهات، أما المنطقة القريبة من نفق الشرطة فقد شهدت أكثر من ملحمة، كان الثقل فيها للفدائيين العرب.

 

فيما خاضت المقاومة في ذلك اليوم أيضا معركة دامية مع قوات الغزو في منطقة الدورة اشتركت فيها المروحيات والطائرات الحربية ومقاتلات الدروع، واستمرت المواجهات بلا انقطاع يذكر، وفي منطقة السيدية والمناطق القريبة منها خصوصا عند جسر صدام تواصلت المواجهات الدامية ولم تتوقف.

 

وفي أبو غريب كانت هناك مواجهات متواصلة مع مواجهات أبناء الفلوجة الشجعان، وفي المدائن أيضا، ومدينة الثورة شهدت هي الأخرى مواجهات مع الغزاة في ذلك اليوم.

 

وفي منطقة الطارمية قاد الشهيد علي حسن المجيد معركة ضارية عند الجسر العائم في منطقة الطارمية يوم 12 نيسان 2003م كبدوا العدو خلالها خسائر فادحة، استشهد خلالها مجموعة من المتطوعين العرب، من سوريا والأردن ولبنان ودفنوا جميعا في مقبرة الشيخ جميل.

 

ولم تقتصر المعارك التي خاضتها المقاومة في ذلك اليوم على بغداد بل شملت أغلب محافظات العراق، ففي البصرة دارت معارك وقتل جندي بريطاني بإطلاقة من قناص في أحد شوارعها، فيما تواصلت العمليات في محافظة ميسان وواسط وغيرهما.

 

ثم أصدرت القيادة بيانا تحت عنوان ( قيادة المقاومة والتحرير) نشرته وسائل الإعلام ومنها صحيفة القدس العربي بتاريخ 22 نيسان 2003م تطرقت فيه إلى مواصلة المقاومة وتصاعدها خلال الأيام الماضية، جاء فيه: "منذ يوم 10/4/2003 ورجال ونساء المقاومة والتحرير يخوضون عمليات قتالية ما بين الهجوم الخاطف والعمليات الاستشهادية، ولصعوبة إصدار بيانات في وقتها بسبب إعادة ترتيب بعض الأولويات الجهادية، فقد مرت الأيام ونحن نخوض حرباً لتحرير العراق العظيم من قوات هولاكو العصر المجرم بوش والمجرم بلير والصهاينة الخاسئين..."

 

رؤية القائد المبكرة والصائبة لما سيحدث

 

ولقد كان القائد الشهيد صدام حسين رحمه الله على بصيرة من ذلك الواقع الجديد، ليس فيه ما هو مجهول بالنسبة له، فالصورة كانت واضحة تماما أمامه، لذلك فقد تضمنت رسالته الأولى والتي وجهها إلى الشعب العراقي والأمة بتاريخ 28/4/2003م كل ما لم يكن يدرك تفاصيله أغلب الشعب ، فكان القائد يضع أمامه في تلك السطور القليلة حقائق كثيرة ظهرت كلها بعد مضي سنين من عمر الاحتلال، رغم أنه حين كتبها لم يكن قد مضى على الاحتلال سوى عشرون يوما فقط.

 

فقد دعا الشعب لأن يتوحد خلف وطنيته لأن الغزاة سيأتون بمن يفرقهم اثنيات وطوائف ومذاهب ومناطق، حين قال رحمه الله: " ولا تثقوا بمن يتحدث عن السنة والشيعة فالقضية الوحيدة التي يعيشها الوطن عراقكم العظيم الآن هي الاحتلال"، وقد كادوا يفرقونهم ويذهبون بريحهم لولا رحمة الله وعطفه، فقد ذهب خيرة أبناء العراق من البناة ورواد البناء ضحية لتلك الدسيسة الغادرة حين انساق إليها الجهال والرعاع فاندفعوا لأجل رائحة الدولار نحو شعبهم كالضباع الجائعة، دفع الشعب خلالها أثمانا باهظة ولا زال.

 

ثم أكد على ضرورة أن يعتمد شعب العراق على الله تعالى ثم على قدراته، ولا يرتجي من أحد عونا، فكل أنظمة المحيط؛ عربية وإسلامية متآمرون ومتورطون لا يملكون قياد أنفسهم، بل هم بين مجند برغبته أو منساق رغم أنفه في مسار العدوان ومخطط قوى الاحتلال، حين قال: " أقول لكم إن كافة الدول المحيطة بكم ضد مقاومتكم، لكن الله معكم، لأنكم تقاتلون الكفر وتدافعون عن حقوقكم" ويومها لم يكن شيئا قد ظهر جليا مما كانت تخفي تلك الأنظمة من شرور، خشية منها أن لا ينجح الغزو ويتسيد الغزاة على واقع العراق، فصدام حسين كان الأسد الذي ترتعد منه فرائصهم فحسبوا لعودته ألف حساب، وقد اتضح ذلك فيما بعد جلياً فظهرت نوايا الأنظمة الحقيقة، التي كانت تضمرها فيما مضى، بل كانت كلها تصرح بما يناقضها.

 

كما يقول رحمه الله "لقد سمح الخونة لأنفسهم الجهر بخيانتهم، رغم كونها عاراً، فاجهروا برفضكم للمحتل" وكما توقع فقد جاهر العملاء بعمالتهم، بل وفاخروا بها حين أسقط الغزاة قطرة الحياء من على جبينهم، ووفروا لهم موطئ قدم على ثرى العراق وأتخموا جيوبهم بالسحت الحرام من ثروات الشعب وممتلكاته، فكان على الشعب الأبي أن يجاهر كله بوطنيته وانحيازه لقيم الخير والشرف والمعاني العالية، فالمذل والقبيح قد جاهر به أهله، فكيف لا يجاهر أهل الفضائل بفضلهم؟ فإلى اليوم لم يقل كل الشعب كلمته التي كان ينبغي أن يقولها منذ ذلك اليوم، ولا زالت شهادات الزور تترى على مسامع العراقيين فلا تجد من يتصدى لها ويفضح زورها وبهتانها، فإنا لم نسمع أن إحدى العوائل التي أوصل لها الشهيد صدام حسين رحمه ورفاق دربه الكهرباء والمدارس في أعماق الأهوار والنائي من القرى والأرياف، التي كانت تغط في ظلام الجهل والتخلف، ولم تقف إحداها فتنطق بالحق لتقول أن رجال البعث منحوني كل متطلبات الحياة الجديدة من ثلاجة وتلفاز وغيرها مما كنا لا نحلم حتى برؤيتها. ولم تجاهر بالقول أن قيادة العراق المحبة لشعبها قد استوردت لهم الثلاجة التي تعمل على النفط وأجهزة التلفاز التي تعمل على البطارية مجانا ريثما تصلهم الطاقة الكهربائية، ولم يجاهر الشعب إلى اليوم بشكل فاعل وجدي مقراً بفضل البعث ورجاله حين بددوا ظلمات الجهل والتخلف وطاردوها في كل زوايا المجتمع العراقي، فأناروا الدروب لهم، رغم أن الأمية والجهل والتخلف قد خيمت عليهم من جديد في ظل عهد الظلام هذا، فالعملاء أنفسهم يقولون اليوم أن عدد الأميين قد تجاوز الثمانية ملايين، بعدما كان العراق محررا منها.

 

أمر آخر كان رحمه قد نبه عنه ولم تكن بوادره قد ظهرت، يقول: " فالخطيئة تبدأ عندما تكون هناك أولويات غير المحتل وطرده" وقد حدث، فالأولويات التي وضعت مع هدف طرد الاحتلال وتحرير الوطن أو تقدمت عليه صارت كثيرة وواضحة للعيان، امتد أثرها حتى شملت بعضا من فصائل المقاومة والجهاد، حين عرقلت مشروح التحرير بتعطيلها لوحدة فصائل الجهاد بسبب تلك الأولويات التي وضعوها في طريق الوحدة والتحرير، والتي لا تصح أن توضع في الميدان والبلد مازال محتلا، وقد كان ذلك ولا يزال واحدا من أهم أسباب امتداد عمر الاحتلال كل تلك السنين العجاف.

 

أمر آخر لم يكن قد تجلى مظهره آنذاك، نبه عليه شعبه وحذره من عواقبه التي يعيش في ظل تداعياتها اليوم، حين قال: " وتذكروا أنهم يطمحون لإدخال المتصارعين من أجل أن يبقي عراقكم ضعيفاً ينهبوه كيفما شاؤوا" وقد تمكن الغزاة من إدخال كل المتصارعين إلى ساحة العراق فأحرقوه بتلك الصراعات، وها هو الشعب يجني اليوم ثمار الدمار الذي حاق به نتيجة تلك الصراعات، فالفرس لم يدخلوا ساحة العراق بإرادتهم لولا حاجة الغزاة لوجودهم ولدورهم الإجرامي في العمل على تقزيم العراق وتمزيق أوصاله.

 

كان رحمه الله أعرف من غيره بتلك الشراذم المنحرفة التي جاء بها الاحتلال ممن ينسبون إلى العراق زورا، فقد نبه الشعب إلى حقيقتهم بقوله: " واعلموا أن من جاءت قوات الغزو معه وطارت طائراته لقتلكم لن يرسل لكم إلا السم." وقد تجرع شعب العراق من أذناب الاحتلال سماً قاتلاً، فلم يكفهم سرقة الوطن وتبديد خيرات الشعب وتمزيق أوصاله، بل جندوا كل طاقاتهم وتفننوا بالفتك فيه، فحولوه إلى أطلال وطن لا يملك أهله إلا النحيب عليه.

 

وأمر آخر كان قد استبق فيه الأحداث ببصيرته رحمه الله حين قال: " ومن وقف ضد العراق وتآمر عليه لن ينعم على يد أميركا بالسلام." وقد حدث، فكل الذين وقفوا مع الغزاة بقصد إيذاء العراق قد حلت بهم الزلازل وتداعت أنظمتهم، وخيرها اليوم يترنح بفعل فتن طائفية وعرقية وأطماع دولية وإقليمية، والفضل في ذلك كله للولايات المتحدة الأمريكية بما نقلت لهم من أوبئة كانت قد جربت فاعليتها على أرض العراق.

 

كان رحمه الله حين قال أيضا في تلك الرسالة: " لم يكن لصدام ملك باسمه الشخصي، وأتحدى أن يثبت أي شخص أن تكون القصور إلا باسم الدولة العراقية، وقد تركتها منذ زمن طويل لأعيش في منزل صغير." ليزكي نفسه أمام الشعب فيما كان مؤتمنا عليه، لأنه كان يعلم أن الشعب يثق بمن جاء بالخير العميم له منذ ركوبه الصعاب واستعادته لثروات الشعب بقرار التأميم الخالد، والذي يأتي بالخير لا يسرقه، لأن فيه عرقه وجهاده، لكنه رحمه الله كان بذلك القول يضع شعبه أمام حقيقة اكتشفها فيما بعد، تلك هي أن من يبيع الأوطان لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون أمينا على ثروات شعبه وممتلكاتهم، فقد استيقن الشعب بعد حين أن هؤلاء الأراذل ما قدموا خلف الغزاة إلا لينهبوا ويسرقوا خيرات أرضهم ويشوهوا قيمهم ويمسخوا عقيدتهم ويشيعوا الفاحشة فيهم كي يتساوون معهم في الخسة والدناءة والانحطاط، وقد فعلوا.

 

فهل يعقل أن قائدا يرسم صورة واضحة جلية لما سيحصل بعد ذلك التاريخ بسنين، رغم الظروف الصعبة التي أحاطت به نتيجة الغزو ونجاح الجيوش المعتدية من دخول بغداد خلال تلك الفترة القصيرة نسبيا، لم يكن قد احتاط لما سيحدث قبل الغزو؟

 

لقد وصلت احتياطات الشهيد رحمه الله حدّ البحث عن معدات للقتال والمقاومة لما بعد نضوب الأسلحة المتاحة، فشكل لجانا كانت تدرس كيفية الاستفادة من معدات حربية بدائية اندثرت منذ مئات السنين، وذلك لم يكن سرّا، بل أعلن عنه وقد بثته أغلب وكالات الأخبار العالمية المقروءة والمسموعة والمرئية حينها.

 

لكن الادعاءات التي تقول أن المقاومة لا تنتمي لجيش العراق الوطني ولا تنتسب لقائده الشهيد صدام حسين رحمه الله ليست إلا من أعراض مرض الشعور بالنقص أمام رجل فذ منحه خالقه سبحانه وتعالى قدرة وخصالا لم يمنحها لغيره من الذين يحاولون التجني على تاريخه سدّا للنقص والعجز. وفي هذا المقام أدعوهم لأن يشكروا نعم الله عليهم أن مكنهم لأن يكونوا ضمن حماة الديار وليسوا من بائعيها، يشكرون فضل الله عليهم أن جعلهم يسعون لرضاه والفوز برحمته، فيما هم يرون غيرهم وقد تلبسهم الشيطان فتولوه وانصاعوا لأمره فأهلكوا أنفسهم ومن تبعهم، وفي ذلك الفخر كل الفخر، ولا تحسدوا الذين منّ الله عليهم فزادهم بفضله وميّز مواقعهم، أما يكفيكم ما أنتم فيه حتى تدعوا ما لستم بأهل له، غفر الله لي ولكم أيها الأحبة، فإن صدام حسين أخٌ لكم في الدين والوطن والإنسانية، بذل ما في وسعه واجتهد فأصاب وأخطأ، صوابه بيادر قمح وأخطاؤه التبن الذي يستخلص منع القمح، فهل يستبدل القمح بالتبن؟

 

بعض الشواهد

 

وهكذا فإن فاصلة زمنية بين الدفاع البطولي الذي قامت به القوات المسلحة ضمن تشكيلات الجيش العراقي الباسل وبين انطلاق شرارة المقاومة الشعبية، المستندة أصلا إلى منتسبي الجيش ومن التف حولهم من أبناء الشعب والأمة، لا توجد إلا في خيال أصحاب النوايا والأغراض المشبوهة أو الواهنين الذين أذهلتهم صدمة الاحتلال وأفقدتهم قدرة التفكير ومتابعة الأحداث، فقد بدأت المقاومة الشعبية متزامنة مع بدء العدوان، ولم يتغير فيها بعد التاسع من نيسان 2003م سوى تحلل التركيبة النمطية لوحدات الجيش واندماجها بالشعب بطرق تبدوا وكأنها عفوية غير مدروسة، وذلك هو السر في نجاح اندماجها وفاعليته في تطور الفعل المقاوم وارتقائه إلى مستويات عالية في التخطيط والتنفيذ والتميز في انتخاب الأهداف المعادية، بسرعة مذهلة لازالت إلى اليوم مثار إعجاب الشعوب بانطلاقتها السريعة، ولا زالت تشكل السمة المميزة لها عن كل تجارب الشعوب السابقة في مقاومتها للغزاة.

 

سنذكر هنا بعض الفعاليات التي كانت تنفذها المقاومة العراقية الباسلة كأمثلة تدلل على مواصلة مسيرة التصدي دون انقطاع منذ الغزو، ففيها ما يدلل على القدرة المستندة لإرادة المقاومة والتنظيم والخبرة العسكرية في الميدان، والتي لم يكن يملكها إلا منتسبي القوات المسلحة ومن كان فيها من قبل والتنظيمات الحزبية والمتطوعين من أبناء الشعب، الذين تلقوا تدريبات متواصلة منذ يوم حملة تدريب الشعب عام 1998م وحتى حصول العدوان، ومما يؤكد ذلك أن العمليات كانت ذات أفق وطني خالص من كل الفئويات، كما تؤكد أيضا أنها ليست – كما قيل – جيوب من مخلفات النظام، فالجيوب عادة تكون عاطفية سرعان ما تتوقف حين تخبو فيها تلك العاطفة، لكنها تواصلت بوتيرة متصاعدة.

 

في 1/5/2003م تم إسقاط طائرة مروحية أمريكية قرب النجف وقتل من فيها، كما تعرض رجال العراق الأشداء لموكب وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد في شارع مطار صدام الدولي مما اضطره للهرب عائدا إلى المطار والهروب من العراق بطائرته دون أن يلتقي أحدا من العملاء الذين كانوا في انتظار وشوق لسيدهم وولي نعمتهم. فيما لم تكن في ذلك اليوم منطقة من مناطق العراق لم تشهد عملية للمقاومة فيها.

 

إن استهداف موكب لوزير دفاع دولة متفردة في الهيمنة على العالم، وفوق ذلك تحتل البلد منذ أيام وليس شهور، يدلل على قدرة عالية في التخطيط والتنظيم والمتابعة والتخصص المهني للمقاومين، فذلك لا يمكن أن ينشأ عن مقاومة عشوائية، فالعملية تلك كانت محكمة في جوانبها الاستخبارية والعملياتية، فمن المؤكد أن القوة التي كانت ترافق وزير دفاع دولة غازية لم تكن قليلة، لكنها لم تتمكن من تحقيق غايتها في إيصال رامسفيلد إلى المنطقة الخضراء، وذلك يدلل بما لا يقبل الشك أن تلك القوة المجاهدة التي تصدت للرتل لم تكن عشوائية، كما لم تكن شعبية خالصة تفتقد للخبرات العسكرية والاستخباراتية المتقدمة.

 

أما في يوم 3  أيار /5/2003م فقد كان المعلن من العمليات، وهو نزر يسير بسبب التعتيم الإعلامي الصارم المفروض على العراق من قبل الغزاة: مقتل عدد من الجنود الأمريكان وتدمير سيارة عسكرية في حي الخضراء في بغداد،  وفي مكان آخر مقتل جندي أمريكي بهجوم بالأسلحة الخفيفة، فيما تعرضت الفرقة 82 المجوقلة إلى تعرض صاعق قرب الفلوجة، وتعرضت مجموعة أخرى لدورية من الفوج الثاني من الكتبة الخامسة من مشاة البحرية قرب مدينة السماوة وألحقت بها أضرارا بالغة. فالذي قاوم في السماوة لم يكن قطعا من الفصائل التي ادعت أنها هي التي قادت المقاومة ولا أحد غيرها في الساحة، وحتى ما يسمى بجيش المهدي فإنه لم يكن قد تشكل في ذلك الوقت، فهو كما معروف أعلن  عن النية في تشكيله يوم 19/7/2003م.

 

ولعل أحد يتسائل: فأين ذهبت المقاومة في الجنوب إذن؟ وذلك جوابه لا يخفى على متتبع منصف، فالعصابات القادمة من بلاد فارس لم تكن قد تمركزت خلال تلك الأيام في الواقع العراقي، وتحديدا في الجنوب، حتى أن بعضهم لم يدخل العراق من شدّة الجبن إلا بعد التأكد من أن أسد العراق القائد الشهيد قد تم أسره فعلا، فحوصر الأشراف في جنوب العراق من قبل أجهزة المخابرات الفارسية الصفوية مدعومة بجيوش الاحتلال، وقتل منهم الآلاف وشرد منهم مئات الآلاف، لكنهم لم يتوقفوا إلى اليوم رغم الظروف القاسية التي يعيشونها، ورغم التضليل الذي أريد منه أن يكونوا خارج منظومة الدفاع عن وطنهم بما هلل الغزاة وطبلوا من أن المقاومة مذهبية لا تخرج عن مصالح أهل السنة في العراق.

 

وقد أجملت خسائر القوات الغازية خلال الفترة من 9/4/2003م وحتى نهاية شهر مايس من نفس العام لما أعلن عنه فقط في وسائل الإعلام المختلفة بـ 89 قتيلا وأضعاف العدد من الجرحى، و 5 طائرات مروحية، 7 مدرعات، 3 ناقلة جنود، وتلك الأرقام لا تشكل في الحقيقة نسبة 50% من حجم الخسائر التي تكبدتها القوات الغازية. فهل يمكن لمقاومة أن تحقق كل تلك المنجزات إن كانت عشوائية كما يدعي البعض؟

 

أما خلال شهر حزيران، في يوم الأحد 1/6/2003م تم تدمير دبابة في بغداد واعترف العدو بمقتل جندي 1 وإصابة 2 كانوا فيها، فيما تمكن رجال المقاومة من قتل 3 جنود وجرح 6 في استهداف ألية للعدو في محافظة صلاح الدين، وتواصلت المناطق الجنوبية في تصديها للغزاة، فقد تمكن رجال العراق الأباة من تدمير ثلاثة زوارق حربية معادية وقتل 35 علجا كانوا على متنها قرب الفاو.

 

وفي يوم الخميس 5/6/ 2003م تكبد العدو 10 قتلى وأعداد من الجرحى في عملية بطولية استهدفت المقاومة رتلا  عسكريا في الرمادي دمرت خلاله 3 مدرعات بقذائف مضادة للدروع، فيما تصدت مجموعة في بغداد لرتل آخر دمرت خلاله ناقلة مدرعة وقتلت 12 جنديا فيها.

 

وفي يوم السبت 10/6/2003م تم تدمير 4 ناقلات مدرعة و2 عربة همفي في بغداد، اثنتان منها بعملية استشهادية، والأخرى بقذائف مضادة للدروع، وقتل فيها ما لا يقل عن 13 جندي أمريكي وجرح أضعافهم، وإسقاط طائرة نقل عسكرية فوق مطار صدام الدولي كانت تقل ضباطا برتب عالية، فيما نصبت مجموعة كمينا لرتل أمريكي قرب الفلوجة وأوقعت فيهم 6 قتلى وأعداد من الجرحى، وتعرضت مجموعة أخرى لرتل مدرع وتمكنت من تدمير مدرعة وقتل 4 جنود، وفي بعقوبة تم تدمير عربة وقتل وجرح من فيها.

 

أما في يوم السبت 17/6/2003م فقد أسقطت طائرتين من نوع أباتشي في قاطع بغداد، وتعرضت القوات الغازية إلى عدد من الضربات اعترف العدو بمقتل 2 فقط، فيما شهدت منطقة بلد ضمن محافظة صلاح الدين تفجير عبوة ناسفة استهدفت عربة قتلت فيها 12 جنديا، وفي مكان آخر استهدفت رتل آخر فدمرت له عربة وقتلت 5 جنود.

وتؤكد الخسائر المعلنة لشهر حزيران رغم عدم تغطيتها إلا لنسبة قليلة من فعاليات المقاومة، تطورا وتصاعدا في حجم خسائر العدو، فقد أعلن عن مقتل 172 جندبا وضابط وتدمير 44 آلية مختلفة و3 زوارق حربية 3 طائرات مروحية و3 حربية من نوع أف 16 وطائرة نقل عسكرية واحدة. 

 

وفي شهر تموز من عام 2003م شهد الواقع العراقي تطورا نوعيا وكميا مهما في العمل الجهادي من خلال نجاح رجال المقاومة من تنفيذ عمليات نوعية تتسم بقدرة عالية على التخطيط والاستحضار والتنفيذ والاستثمار الناجح للنتائج، منها على سبيل المثال لا الحصر عملية نسف جسر يربط بين محافظتي ديالى وصلاح الدين مما أدى إلى شل حركة قوات الاحتلال في تلك المنطقة.

 

خلال ذلك الشهر خاض رجال المقاومة معارك طويلة مع حشود معادية، اتسمت بالتخطيط العالي لأساليب الكر والفرّ، ومعها مورست فعاليات لمسك الأرض بعد تطهيرها، ففي يوم 4/7/2003م شهدت مدينة الرمادي حرب شوارع دامت حتى بعد منتصف الليل، تمكنت المقاومة خلالها من طرد الغزاة خارج المدينة، ثم تجددت المعارك بعد ثلاثة أيام أي في 7/7/2003م خلال الليل رافقها قصف عنيف بالصواريخ لمعسكرين أمريكيين تصاعدت فيهما أعمدة اللهب والدخان، في نفس الوقت شهدت مدينة الموصل معارك استمرت أكثر من ثلاث ساعات في مواجهات عنيفة تكبد العدو خلالها خسائر مهمة وفرضوا سيطرتهم الكاملة على المدينة.

 

وقبلها في 1/7/2003م  تعرضت قافلة أمريكية لنيران المجاهدين على طريق مطار صدام الدولي، وتم تفجير عربة أمريكية قرب الجامعة المستنصرية وكانت الخسائر 4 قتلى و4 جرحى، فيما جرح 2 في هجوم عند محطة وقود في بغداد بقذائف مضادة للدروع على آلية معادية فتم إحراقها، فيما شن المجاهدون في الفلوجة هجوما على مقر أمريكي بقذائف صاروخية وأسلحة متوسطة وكبدوا قوات العدو خسائر كبيرة، فيما أطلق المقاومون في بلد قذائف صاروخية على مركبات عسكرية أمريكية وأشعلوا فيها النيران، وفي أبوغريب تعرض النشامى لقافلة أمريكية، فيما تعرضت قافلة أخرى لهجوم صاعق في ناحية الرشيد التابعة لقضاء المحمودية، وفي العزيزية التابعة لمحافظة واسط شنت هجوما بقاذفات أر بي جي 7 قتلت خلاله 2 وجرحت 2 آخرين.

 

وذلك الجهد المقاوم هو الذي أجبر أمريكا على التخلي عن مزاعمها الكاذبة بانتهاء العمليات الحربية مستهل شهر مايس على لسان المجرم الكذاب بوش الصغير، والإذعان للواقع من خلال الاعتراف بوجود المقاومة وشدة ضرباتها بعد أن فشلت كل أساليب التعتيم عليها رغم كل المضايقات والتهديدات، فحينها أقرّ المجرم تومي فرانكس بأن " قوات أمريكا في العراق تتعرض إلى 10-25 هجوما يوميا" والحقيقة أن معدل الهجمات كانت آنذاك أكثر من ذلك بكثير، فالإدارة الأمريكية مصرّة على منهج الكذب والتضليل تواصلا مع الأكاذيب التي اتخذت منها ذرائع للعدوان على العراق، لذلك فهي لم تعترف سوى بـ 248 قتيل حتى نهاية تموز 2003م، فسانشيز اعترف خلال شهر تشرين أول أن معدل العمليات كان يصل إلى 56 عملية في اليوم الواحد.

 

ومن إشارات تصاعد فعل المقاومة أن المنطقة الخضراء التي يتحصن فيها بريمر والعملاء تعرضت خلال شهر تشرين الثاني 2003م إلى 22 هجوم بالصواريخ وقذائف المدفعية، كما تم إسقاط 10 مروحيات مختلفة الأنواع. فيما تعرضت معسكرات وقواعده للعدو خلال النصف الثاني من شهر تشرين الثاني عام 2003م إثر الإعلان عن أسر الشهيد صدام حسين رحمه الله إلى 76 هجوما منظماً، وارتفع معدل العمليات بشكل كبير، فقد العدو خلالها 772 قتيل وأضعاف العدد من الجرحى وتدمير وإعطاب 41 دبابة و181 آلية مختلفة الأنواع وإسقاط 2 طائرتين للنقل العسكري 13 مروحية، وذلك دليل آخر على مدى ارتباط المقاومة بكل مسمياتها - على الأقل في شقها العسكري - بالرئيس الشهيد.

 

ثم تصاعد زخمها حتى حققت نقلات كبيرة على صعيد التخطيط وانتخاب الأهداف وعلى مستوى والأداء والنتائج، ففي يوم 21 كانون أول 2004م قام أبطال المقاومة بتنفيذ عملية نوعية كبيرة، أذهلت العدو وأفقدته ثقته بنفسه وبأسلحته ومعداته وبكل ما كان يعتقد  أنها عناصر تفوق واقتدار، حين تمكنت من اختراق كل التحصينات والتحسبات الأمنية الصارمة ودخول القاعدة العسكرية الأمريكية في الموصل وتفجير قاعة المطعم فيها، وليس هذا فحسب، بل لقد كان التحكم بتوقيت تنفيذ التفجير بجدارة ودقة متناهية خلال الفترة الزمنية التي تشهد أكبر عدد ممكن من القوات المعادية فيها لتناول وجبة الطعام أمرا يدلل بوضوح تام على مدى التطور وتنامي قدرات ومهارات المجاهدين في التحكم بساحة الصراع وتوقيتاتها الملائمة، وقد تحقق لها ذلك، فقد كبدت العدو خلال تلك العملية ما لا يقل عن 22 قتيل و50 جريح، وذلك ما أفادت به وزارة الدفاع الأمريكية وهي من المؤكد ليست كل الحقيقة، كما عرف يقيناً خلال سنوات المنازلة التاريخية عن تعمد العدو إلى إخفاء نسب كبيرة من خسائره المتحققة في العراق لأسباب كثيرة. جدير بالذكر أن تلك العملية ما كان لها أن تتحقق بدون وجود خبراء عسكريين عراقيين تولوا التخطيط لها والإشراف على تنفيذها، فهي تنتمي للمقاومة التي خططت لها قيادة العراق ورعتها، وإن كانت قد جيرت لجهة أخرى، فالبعث لا يهمه لمن تجير العمليات، لكنه يهتم كثيرا بأي عمل مقاوم يساعد على دحر الاحتلال.

 

لقد تصاعد الفعل المقاوم بشكل مذهل حتى تجاوز عدد العمليات التي تستهدف القوات الغازية لحاجز المائة عملية جهادية مثمرة خلال اليوم الواحد بكثير بعد عام واحد من الغزو، وتعززت بتدرج متسارع كما ونوعا عامي 2005 و 2006م وكما اعترفت به القيادة الأمريكية من خلال تقرير بيكر هاملتون والكثير من القادة الكبار وقادة الميدان. فكان من بين أهم العمليات النوعية التي نفذتها المقاومة العراقية تلك التي استهدفت قاعدة الصقر Falcon Fury جنوب غربي بغداد قرب منطقة السيدية، ليلة 9-10 تشرين أول 2006م، المقامة على أبنية ومخازن تابعة لوزارة التجارة وبناية فرع الحسين العسكري لحزب البعث العربي الاشتراكي. وتعتبر هذه القاعدة الموقع المتقدم لقيادة العمليات الأمريكية في العراق، حيث أجهزت على موجودات تلك القاعدة بالكامل، واستمرت الانفجارات الهائلة تضيء ليل بغداد حتى الصباح، وهي واحدة من أكبر القواعد الأمريكية وأكثرها أهمية، فقد صرف على إنشائها نحو مليار دولار أمريكي، واستخدم فيها ما يزيد على مئة ألف طن من الحصى وآلاف الأطنان من الحديد والاسمنت، فيما جهزته بمطبخ عملاق كانت القيادة الوطنية قد استوردته قبيل الاحتلال بهدف تزويد المستشفيات بوجبات الطعام للمرضى الراقدين فيها بقدرة تصل إلى ثلاثة آلاف وجبة طعام في وقت واحد، وتحتوي على أكبر مستودع للذخائر والمعدات الحربية في العراق، وهو المركز الرئيسي لإعادة تأهيل القطعات الغازية، فيها حينذاك ما لا يقل عن خمسة آلاف عسكري أمريكي من الفرقة الأولى المدرعة وجحافلها المتعددة، نفق منهم ما لا يقل عن ثلاثمائة علج، وأضعاف العدد من الجرحى، وقد فضحت مواقع إخبارية أمريكية أكاذيب الحكومة الأمريكية التي صرحت بأن لا وجود لخسائر بالأرواح، حين نشرت أسماء ثلاثمائة أمريكي قتلوا في الانفجارات، و165 جرحى إصاباتهم خطيرة، فيما قتل 122 من عصابات الإجرام التي أنشأتها قوات الاحتلال كجيش وشرطة من العراقيين، مع 99 جريحا إصاباتهم خطيرة، فيما أكدت تلك المواقع أن من بين أكداس الذخيرة التي تفجرت وتطايرت شظاياها في محيط واسع حول القاعدة كان يحوي يورانيوم منضب. جدير بالذكر أن القاعدة تقع فوق بئر نفطي عملاق يحتوي على أكثر من خمسة مليارات برميل.

 

أن تلك العملية الكبيرة في نتائجها والدقيقة في تنفيذها تعاونت على إنجازها ثلاثة فصائل للمقاومة، كلها تعتمد على خبرات منتسبي القوات المسلحة العراقية في التخطيط والتنفيذ، مما يدلل على التطور الكبير في العمل الميداني المقاوم، وانتقاله إلى مرحلة امتلاك القدرة على حسم الصراع والتحكم في نتائجه بتفوق واضح.

 

وقد أظهر موقع أمريكي يدعى "Boomhower, Information Clearing House" بتاريخ 13/12/2007م أن الخسائر الحقيقية لقوات الإحتلال الأمريكي في العراق منذ العدوان الثلاثيني على العراق عام 1991 وحتى ذلك التاريخ وهو73.846 قتيل و 1.620.906جريح، الأمر الذي يفضح حجم التضليل الإعلامي والأكاذيب التي تمارسها الإدارة الأمريكية حول حجم خسائرها الحقيقية في عدوانها على العراق.

 

بالأزمات سرقوا نصرنا

 

لقد كان عام 2006م عاما حاسما وكاد يكون تاريخا مميزا لسقوط أكبر إمبراطورية للشر على مرّ التاريخ، فكان دور الأجهزة المخابراتية مطلبا ملحا وحاسما في تعطيل تحقق ذلك الهروب المدوي، وكان لابد من الاستنجاد بالفرس كي يلقوا بثقلهم في مواجهة طلائع الشعب العراقي مدعومين بالمكر الصهيوني، فأشعلوا نار الفتن الطائفية بعدما مهدوا لها، لكي تكون حربا أهلية طاحنة تجهر على ما تبقى مع نهاية السنة الثالثة من عمر الاحتلال، لكن تلك الفتنة رغم تحقيقها لنتائج كبيرة في مسارها لصالح الأمريكان والصهاينة، وللفرس باعتبارهم أداتها الأولى، لكنها تحولت من جانب آخر إلى حافز كبير للمقاومة كي تضاعف من عملياتها وتعزز من قدرتها على إيقاع المزيد من الخسائر في صفوف العدو رغم الحرب المعلنة عليها من قبل الفرس تحت ستار الحرب الطائفية، وقد تحثنا آنفا عن واحدة من آلاف العمليات في ذلك العام مع شدّة الاقتتال الطائفي المزعوم، والتي استنزفت جيوش الاحتلال وأوصلتهم إلى حافة الهاوية، ونتيجة لتصاعد الاهتمام الشعبي العربي والعالمي بما يدور في العراق، كان لابد من خلق فسحة من الزمن تلتقط خلالها الأنفاس ويعاد تقييم الوضع وترتيب الأوضاع لجيوش الاحتلال وسياسات حكوماتها، ومن هنا ولدت الحاجة لأزمات هنا وهناك تلفت الأنظار بعيدا عما يدور في العراق.

 

ولعل الكثير من العراقيين والعرب كانوا غافلين أو مستغفلين عن حقيقة التوقيت الذي اختاره عملاء الفرس الصفويين في لبنان خلال تلك الفترة الحرجة على أرض العراق، والمتمثل بأسر جنديين صهيونيين وقتل ثمانية يوم 12/7/2006م لخلق أزمة ودافع للكيان الصهيوني كي يقوم باستهداف لبنان عسكريا بعمليات تهدف بالدرجة الأساس إلى إلحاق الضرر بالشعب العربي في لبنان وتخريب بناه التحتية كي تعود الدول العربية لترميمها مرة أخرى بدلا من تعزيز قدرة الشعب الفلسطيني أو المضي في برامجها التنموية على هشاشتها، كما لم ينتبهوا كثيرا إلى اصطفاف منظمة حماس مع حزب الله في تقمص دورها والانسياق معها في لعبتها التي اختطتها أجهزة المخابرات الأمريكية والصهيونية والفارسية معا، ضمانا منها لتواصل دولارات الفرس عليهم.

 

فالحرب الطائفية التي أشعلتها إيران في العراق وصلت إلى حدودها الحرجة جدا، ووضعت الإدارة الأمريكية وقواتها المحتلة في حرج شديد، أمام تصاعد عمليات المقاومة بشكل كبير خلال الفترة التي شهدتها فصول تلك الحرب الطائفية، وأوقعت فيها خسائر غير مسبوقة، فيما أحدثت الجرائم البشعة، التي لم يسبق لحرب أهلية أن شهدت فضاعاتها وحجم الإجرام والتوحش الذي اكتنف أحداثها، ردود فعل سلبية لدى الأطراف السنية، أو المحسوبة على أهل السنة، التي بذلت الإدارة الأمريكية الكثير من الجهد والمال كي تتمكن من إشراكها في لعبتها السياسية بهدف ضمان الشرعية المزيفة لها، كما واجهت هي والأنظمة العربية السائرة في ركابها ضغطاً شعبيا عربيا كاد ينفلت خارج الحدود المسموح بها، فيما واجهت استنكارا واستهجانا دوليا واسعا امتد ليشمل حتى الداخل الأمريكي.

 

فكان لابد من لفت الأنظار بعيدا عن الساحة العراقية ريثما يتم تحقيق الأهداف الصليبية الصهيونية المجوسية المتمثلة بتمزيق النسيج الاجتماعي للشعب العراقي تمهيدا لتقسيمه إلى دويلات طائفية وعرقية لا تقوى على مواجهة أبسط التحديات ومجابهة كل الأطماع، ومن ثم العمل بعد ذلك على تدارك الأمر من خلال تحجيم دور أدوات الاحتلال الفارسية التي نفذت صفحات الحرب الأهلية واستثمرتها إيران بكامل مدياتها تعزيزا لنفوذها في الواقع العراقي، فانقلب ذلك عليها وأضر بوجودها، حين استشعر شيعة العراق العرب وأيقنوا تماما أن إيران لا تهدف إلى إيذاء أهل السنة فقط بل هي تسعى لتدميرهم أيضا، وعندها صدرت الأوامر لحزب الله الفارسي من قبل الفرس كي يختلق تلك المسرحية الخائبة بحجة إطلاق الأسرى، فيما كان الكيان الصهيوني مرغما للانصياع للمطالب الأمريكية بالاشتراك في تلك اللعبة دون الخروج عن حدود أهدافها.

 

جدير بالذكر أن حزب الله لم تكن هويته الفارسية تهمة له من أحد، بل هو الذي أقرها واستند إليها منذ نشأته، فهو بالإضافة إلى أنه ولد من رحم منظمة أمل الشيعية، التي عبرت عن هويتها الفارسية حين خرجت تطوف شوارع بيروت يوم 20/5/1985م وتهتف " لا إله إلا الله، العرب أعداء الله"، ولم يخرج في سلوكه وممارساته عن سياق تلك الهتافات، فإنه سبق ذلك ببيانه التأسيسي الصادر بتاريخ 16/2/1985 تحت عنوان "من نحن وماهي هويتنا" حيث قال" إننا أبناء أمة حزب الله التي نصر الله طليعتها في إيران، وأسـست من جديد نواة دولة الإسلام المركزية في العالم نلتزم بأوامر قيادة واحدة حكيمة عادلة، تتمثل بالولي الفقيه الجامع للشرائط، وتتجسد حاضرا بالإمام المسدد آية الله العظمى روح الله الموسوي الخميني، دام ظله، مفجر ثورة المسلمين وباعث نهضتهم المجيدة"، فأي هوية يحاول المغفلون العرب إلصاقها بهم وهم يعلنون هويتهم الفارسية الشعوبية المجوسية بلا حياء ولا استحياء، ولا يتصرفون إلا وفقا لمتطلباتها وأهدافها ونواياها!

 

والفرس لم ولن يكونوا في أحد أيامهم محبين للعرب، ومن الدلائل المهمة على ذلك أن في العراق يقطن نحو عشرة آلاف فلسطيني منذ ما بعد النكبة عام 1948م، يعيش أغلبهم في بغداد، تعرضوا إلى القتل والاعتقال والتشريد لأول مرة في تاريخ وجودهم في العراق من قبل العصابات التي أنشأها الفرس وأمدوها بكل سبل ووسائل القتل، وقد أصدر فيلق بدر الفارسي منشورا ووزعه على العوائل الفلسطينية مطلع شهر أيلول عام 2005م ينذرهم بمغادرة العراق خلال شهر واحد وإلا تعرضوا للإبادة، بعد أن قتلوا منهم العشرات وزجوا بمئات آخرين في المعتقلات الصفوية.

 

ولم تكن هذه العملية المتقنة التي تعاون على تنفيذها حلف الشر الذي تقتسم دوله فيما بينها النفوذ في العراق هي المحاولة الأولى، فقد سبقتها محاولة أخرى تمثلت باختلاق أزمة الرسوم المسيئة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم التي استهلت نشرها صحيفة دانماركية، فقد استحوذت على انتباه العرب والمسلمين وأخضعتهم لموجة من الإرباك أشغلتهم هم والأوربيين على السواء عن متابعة الجرائم الوحشية التي واصلت أدوات حلف الغزو على ارتكابها ضد الشعب العراقي كرد فعل على حالة الانهيار التي أصلتها المقاومة العراقية اليه.

 

وكان ذلك امتدادا لما حققته مسرحية الانسحاب الصهيوني من قطاع غزة في منتصف شهر آب 2005م من محاولة إشغال متعمد عن مجريات الصراع في العراق ونتائجه، صحيح أن شارون قد أعلن عن تلك الخطة بعد غزو العراق، حيث أعلن شارون في 18/12/2003م نيته تلك كعمل لابد منه لعزل الأمة العربية عن محنة العراق ومنعها من التفاعل مع معطياتها بصورة إيجابية، وكعملية تعويض مزيفه لما فقده أبناء الأمة باحتلال العراق وانكشاف عوراتهم، لكن تنفيذ الانسحاب كان ملائما للمرحلة التي خططت لها العقول المتصهينة بتدمير الكيان الاجتماعي للشعب العراقي، باعتباره الضمانة الأكيدة لشرذمته، والتي لا يتحقق الأمن الصهيوني من طرف العراق إلا بذلك.

 

فالانسحاب من غزة في حقيقته لم يكن نصرا للعرب والفلسطينيين، بل كان نصرا إعلاميا متميزا للصهاينة، بالإضافة لما حققه من تغييب للمشهد العراقي الدامي خلال أخطر مراحل الاحتلال، إن الخروج من غزة كان مكسبا للصهاينة، تمكنوا به أن يحموا جنودهم ومستوطنيهم من العمليات الفدائية، التي كانت تؤجج الحماس في نفوس الفلسطينيين والعرب أيضا، ولم يفعلوا سوى الخروج من داخل غزة وتطويقها من الخارج تمهيدا لمرحلة قادمة، هي تعلم جيدا كيف ستكون، لأنها هي من وفرت لها كل الأجواء الملائمة لأن يتحول النضال الفلسطيني إلى اقتتال داخلي يفرغ الساحة الفلسطينية من قواها الحية ليعود الصهاينة فيما بعد إليها وقد فقدت مقاومتها وقدرتها على المواجهة والتحدي، وقد حدث ذلك بعد أشهر قليلة، فكان العرب وكأنهم أكثر تحمسا من الصهاينة في تنفيذ خططهم، سهلت ذلك إيران بعد أن تمكنت من خلال عائدات نفط إقليم الأحواز العربي المحتل من وضع أقدام منظمة حماس في مسلك شعوبيتها. لكن الأهم من ذلك أن الكيان الصهيوني وظف الإعلام، والإعلام العربي بالدرجة الأساس ليحقق من خلاله تعاطفا دوليا كبيرا، وتحسينا للصورة المشوهة لليهود، من خلال المشاهد التي أعدت ممثليها إعدادا جيدا، والمتمثلة بمشاهد البكاء والعويل الذي كانت تطلقه العجائز والأطفال اليهود، ممن أتت بهم من مناطق أخرى، بوتيرة متواصلة، توحي بمأساة إنسانية كبيرة، تحمست قنوات العرب الفضائية وغير الفضائية لنقلها مباشرة إلى المشاهد العربي، وتكرار بثها مرات ومرات، ولعل العنوان الرئيس الذي ظهرت به صحيفة هاآرتس العبرية يوم 21/8/2005م والذي يقول أن "بكاء المستوطنين أكبر مسرحية في تاريخ إسرائيل" كان تعبيرا صادقا عن أهداف ذلك الانسحاب المسرحي التراجيدي، لكن الأصدق منه أن العرب كانوا هم المتفرجين على نفقة المحطات الفضائية العربية.

 

إن عملية خلق الأزمات واختيار توقيتاتها والأماكن التي تصدر إليها ليست جديدة في مناهج السياسة الغربية، لكنها تبدو عصية على الاستيعاب من قبل العرب والمسلمين رغم وضوح أهدافها وغاياتها.

 

نقل الأزمات إلى داخل المقاومة

 

ومع تلك الأحابيل فقد تعرضت المقاومة خلال ذلك الوقت إلى محن قاسية ومؤلمة، تراكمت أسبابها الداخلية والخارجية فكادت تقضي عليها لو لم تكن تستند إلى قاعدة رصينة وتمتلك القدرة العالية على مواجهة التحديات وتجاوزها باقتدار. فهي تعتمد في المقام الأول على عون الله تعالى ومدده، وتركن إلى إيمانها الصادق والعميق وصبرها الجميل الذي استحضرت مفرداته من عقيدتها وتاريخها المليء بالمنجزات الحضارية الأصيلة، وقيم العروبة النبيلة التي يستند إليها العراقي في صياغة مفردات سلوكه، ووعي الكثير من المجاهدين بدورهم الكبير في إفشال أخطر مؤامرة صليبية صهيونية مجوسية تتعرض لها الأمة والعقيدة الإسلامية، تتفوق كثيرا بوسائلها وأدواتها وغاياتها عن نظيرتها التي نفذها المغول عام 1258م.

 

منذ بداية عام 2007م ومع نجاح الأمريكان في إيجاد موطئ قدم في حواضن المقاومة خلف مسميات الصحوة والإسناد، فقد شهدت العلاقة بين العديد من فصائل المقاومة احتقانا خطيرا، كانت من نتائجه الصراعات الدامية بين القاعدة وكتائب ثورة العشرين والجيش الإسلامي وجيش المجاهدين كل على حده، في الدورة ومناطق المحمودية  وأبو غريب والعامرية والأنبار، والتي ذهب ضحيتها المئات من كل الأطراف، ثم امتدت عدوى الاحتقان والصراع إلى الكثير من المناطق الأخرى، وبقسوة تكاد تكون اشد من قسوتها مع قوات الغزو وأحلافه وأذنابه بكثير، فقد حدثت تصفيات جماعية وأعمال خطف والإيقاع بالبعض بيد القوات الغازية وتابعتها الصفوية.

وقد كان السبب الظاهر لكل تلك الصراعات أن مجلس شورى المجاهدين قد تحلل، وكما هو معروف فإن ذلك المجلس كان يعتمد بالدرجة الأساس على منتسبي القوات المسلحة العراقية في جانبه العملياتي العسكري، فيما تعددت مراجعه السياسية بين متشدد ومتطرف ووسطي، وكان السبب الحاسم في تفتته الانحراف الخطير الذي مارسته بعض عناصر القاعدة أو الفصائل التي تنسجم معها فكريا، حين استهترت بالدم العراقي وأخذت تنحرف باتجاه تحقيق غايات صليبية وصهيونية وفارسية بالتخلي عن أهداف تحرير العراق والانشغال بفتن طائفية كانت هذه القوى المعادية هي التي أشعلت فتيلها، وغذتها بكل سبل الوجود والبقاء، كمحاولة أخيرة، في حال فشلها لن يكون أمام الغزاة إلا إعلان الهزيمة الكبرى والانتحار سياسيا وعسكريا. وعلى إثر ذلك وانسجاما مع المشروع المعادي بالنتائج النهائية أعلنت تنظيمات القاعدة ومن تحالف معها عن " دولة العراق الإسلامية" وعينوا لها وزراء ومدراء بطريقة تثير السخرية، وتؤكد خواء الخلفية السياسية لتلك الجهات وعدم قدرتها على مجاراة الفعل المخابراتي لأطراف الصراع المقابل، فأوقعت منتسبيها في شباكهم دون أن تملك القدرة والوعي اللازم لاكتشاف حقول الألغام التي أوقعتهم أجهزة المخابرات الأمريكية والصهيونية والفارسية فيها مبكرا، أو امتلاك الرؤية الصائبة التي تخرجهم منها، فعملت على إرغام جميع فصائل الجهاد الأخرى للانضمام إلى تلك الدولة المزعومة، وحين عجزوا عن تحقيق ذلك تخبطوا في حقول الألغام وفجروها تحت أقدامهم وعلى غيرهم، فقد نشبت الصراعات غير المبررة. إن الذي يهدف حقا لتوحيد الجهد المقاوم لا يمكن أن تكون من بين خياراته ترك الاحتلال والعملاء والجواسيس والمرتزقة والسعى لفتح منفذ جديد للصراع مع تلك الفصائل التي رفضت الانضمام لذلك الكيان الذي لا يصح وجوده بكل المقاييس، ولكل منهم أسبابه، رغم أن أغلبهم قد واكب تجربة المقاومة الفلسطينية، والخطأ القاتل الذي أوقعت نفسها فيه حين وافقت على ما خططت له الأجهزة المخابراتية المعادية، فأعلنت عن تشكيل الدولة الفلسطينية من جانب واحد منتصف شهر تشرين الثاني عام 1988م، فكانت نتائجها كارثية على المقاومة الفلسطينية، حين أفقدتها القدرة على الفعل المقاوم المسلح، الأمر الذي أدى بالنتيجة إلى تمزق الشعب الفلسطيني وتشرذم قواه الحية والفاعلة، ثم انتقالها فيما بعد إلى تحويل جهة الصراع ودوافعه، من عمل موحد باتجاه مواجهة العدو المحتل ودفعه بالقتال إلى التكالب على مغانم السلطة المزعومة فيما بين الفصائل والاقتتال في بعض الأحيان بسببها، مما منح الكيان الصهيوني فرصته الذهبية لترسيخ وجوده والتمادي في تجريد الشعب الفلسطيني من كل قدرة الفعل المكافئ وغيب عنه الأمل بالتحرر والانعتاق.

 

فلا أقل من أن يقال أن الإعلان عن تشكيل تلك الدولة المزعومة، والسعي لإرغام الآخرين على القبول بها والانضواء تحت رايتها، إلا دليلا قاطعا على الجهل السياسي والعسكري معا، أو أنها كانت وسيلة فعالة لإنقاذ قوات الاحتلال وإدارته السياسية من هزيمة منكرة من خلال إشغال فصائل المقاومة بصراعات مفتعلة فيما بينها.

لقد كان من نتائج تلك الصراعات أن تمكن الغزاة من استعادة موضع أقدامهم على الأرض العراقية بعد أن كانوا قد أيقنوا تماما بهزيمتهم المنكرة، فلقد تطورت تلك الصراعات لتؤثر على كيانات الفصائل نفسها، بالانشقاق والاندماج وفقا للرؤى العقدية والمذهبية، فكتائب ثورة العشرين شهدت خلال ذلك العام انشقاقا كبيرا تمثل في انفصال الإخوان بكيان يدعى فيلق الفتح الإسلامي (حماس العراق) والذي اندمج بعد ذلك مع الجبهة الإسلامية للمقاومة العراقية باعتبارهما ينسجمان خلف المنهج الإخواني. وتوالت الانشقاقات والاندماجات لتتخندق الفصائل الإسلامية بين إخوانية وسلفية معتدلة وإسلامية عامة، فكانت النتيجة المنطقية أن تتكتل الفصائل في جبهات تستند كل منها إلى خلفية مشتركة في الانتماء، رغم أنها كلها تنسجم، هي وغيرها، على هدف طرد الاحتلال وتحرير العراق.

 

فيما كانت التجربة تقضي بأن تستغل الفصائل تلك الفرصة لتتوحد خلف هوية وطنية عراقية شاملة مجربة وتملك تاريخا وخبرة كفاحية طويلة، زكت نضالها الأحداث التي عصفت بالأمة خلال أكثر من نصف قرن من الزمن، ومنحتها بعدا وطنيا وقوميا بامتياز كبير، أثبتت خلالها صدق انتمائها ومدى إصرارها وعزمها على المضي في تحقيق طموحات أبناء الأمة، لتخرج من أفقها الطائفي أو الفئوي المحدود والعاجز عن امتلاك قدرة التمثيل الجمعي للمجتمع العراقي، وإن كانت بعضها لا تؤمن بتلك الفئوية ولا تستند إليها في جهادها، فهي تمثل الهوية المميزة لها في وعي الكثير من العراقيين، بسبب الإذكاء المتعمد لقوى الاحتلال وعملائهم لتلك الأمراض الفئوية داخل المجتمع العراقي، وسعيهم بكل وسائل التضليل والخداع على جعلها الأرضيات التي انطلقت منها كل الأعمال الإجرامية التي استهدفت فئات الشعب كلها دون رحمة، تحقيقا لمقاصد الغزاة في تمزيق النسيج الاجتماعي للشعب العراقي وإضعاف وحدته التي كانت واحدة من أهم ركائز القوة والاقتدار التي واجه بها كل المؤامرات والاعتداءات منذ زمن طويل ونجح في تجاوزها، وتنفيره من المقاومة بهدف عزل المقاومة عن حواضنها الاجتماعية، التي لا تعيش بدونها.

 

ولم يكن لتلك الفصائل من حجة صالحة تبرر ذلك التقوقع والتحزب الفئوي المحدود، حين تمحورت خلف هويات فئوية فحققت للأعداء مبتغاهم وسهلت لهم غاياتهم، لأنها لا تطلب ولا تطمح لأكثر مما ووضعته قيادة البعث من التزامات على نفسها ومن يقف في صفها من فصائل المقاومة، كما ورد في المنهاج السياسي والستراتيجي للمقاومة العراقية الصادر في 9/9 /2003م.

 

لكننا نعتقد أن الأسباب التي حدت بهؤلاء الأخوة والأبناء الأحبة للتغريد خارج السرب، والمساهمة في تأجيل ساعة الخلاص والتحرير، كما ساهموا من قبل في توفير الفرصة الذهبية للقوات الغازية لتنجو بها من هزيمة لم يكن قد شهد التاريخ مثيلها، حين استجابوا لدواعي المؤامرة الصليبية الصهيونية الفارسية بالانحراف نحو الاقتتال الطائفي، هي الخوف من السباحة في بحر لا يجيدون تجاوز موجاته المتلاطمة لينافسوا أمهر السباحين ومن قطعوا ذلك البحر مرات ومرات، طولا وعرضا، مما سيضيع عليهم - حسب اعتقادهم وتصورهم - فرص التمتع بما منى به البعض نفوسهم التواقة للدنيا، تدفعهم مشاعر النقص على الدوام لخلط الأوراق، متناسين أنه يفترض بهم أكثر من غيرهم، باعتبارهم يدعون الوصاية على الهوية الإسلامية الخالصة من كل الدوافع الأخرى رغم مشروعيتها وعدم تناقضها مع العقيدة الإسلامية بشيء، أن يكونوا أكثر الناس تجردا من الدنيا وأطماعها وأمراضها، فالله تعالى لم يقرن واحدة من العبادات به كما قرن الجهاد فقد ارتبط على الدوام بقوله تعالى " في سبيل الله" رغم أن كل العبادات هي خالصة لوجهه وفيها فوائد دنيوية مقرونة برضى الله ومكافئته، كما الصلاة والزكاة والحج والصوم، ففي الجهاد كانت ترتبط الغنائم. فقد قال تعالى في سورة الممتحنة الآية 1: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ}، وقال في سورة الحج الآية 78: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}، وقال جل شأنه في سورة التوبة الآية 24: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}، وقد وردت في ذلك المعنى أكثر من خمسين آية في كتاب الله تعالى، فمن ذلك يتضح أن الجهاد حين لا يكون في سبيل الله خالصا لوجهه فإن فاصلة دقيقة لا ترى بيسر ستنقل ذلك القتال من صف الجهاد إلى إيغال في الدماء. وذلك لا يذهب بالبعض نحو الوجهة الخاطئة، حين اعتقد البعض أن الوطنية تتعارض مع الجهاد في سبيل الله، فإن تحرير الأوطان شرط أساس لنشر العقيدة وضمان تطبيق شريعتها، فالغرب اليوم يشرع ويصدر العديد من القوانين الوضعية التي تمنع على المسلم في ديارهم أن يمارس كثيرا من شعائره، كما يحدث حول منع الحجاب ومنع بناء المساجد في بعض الدول الأوربية وغيرها الكثير، لكن أوطان المسلمين وبخاصة منها أرض العرب لا يمكن تصور أن يتسيد فيها أعداء الله فيمكنون أهلها من حمل راية العقيدة الإسلامية وينشرون شريعتها في ربوعها، لذلك فإن الوطنية تعبير أصيل عن الارتباط بالعقيدة الإسلامية والرسالة المحمدية، وإلا لما كانت مؤته وذي قار.

ولعل تلك لم تكن كل الأسباب التي أدت إلى ذلك التناحر والاحتراب، فلابد أن تكون هناك أسباب أخرى آزرتها ودفعت بها نحو النهاية المطلوبة، وهنا علينا أن لا ننسى دور أجهزة المخابرات المعادية وبصماتها، ففي منتصف عام 2005م كشفت صحيفة الواشنطن بوست تفاصيل خطيرة عن العصابات التي شكلتها المخابرات المركزية الأمريكية من بعض العراقيين الذين أوقعتهم المكائد المخابراتية بواسطة الزعامات الكردية العميلة وأتباع الفرس، وأطلقت عليهم تسمية العقارب، ودربت بعضهم في معسكرات سرية في الأردن وشمال العراق و أدخلتهم إلى العراق قبيل الغزو أو تزامنا مع بدايته بهدف القيام بأعمال شغب وتخريب واستهداف المواطنين والممتلكات العامة بأعمال إجرامية وطبع وتوزيع مناشير معادية أو كتابة عبارات تحريضية تثبيطية للمواطنين، لزعزعة الأمن الداخلي تسهيلا للعدوان،

 

فأين ذهبت هذه العصابات التي لم تتمكن من تحقيق شيء مما أوكلت لها الإدارة الأمريكية القيام به خلال الغزو، وبعد أن أنفقت عليها ملايين الدولارات، هل حقا كان واجبها بعد ذلك يقتصر على تمثيل أدوار العراقيين في مسرحية إسقاط التمثال في ساحة الفردوس؟ أم هل اكتفوا بجعلهم مجرد أدوات إجرامية تمارس التحقيق مع المعتقلين العراقيين تحت إشراف الجيش الأمريكي؟ أم هل قاموا بتسريحهم حال مساهمتهم في أعمال النهب والسلب وتدمير البنى التحتية للعراق وسرقة كنوزه ووثائق تراثه؟ أم أنهم تحولوا إلى فرق قذرة، كما يسميهم الأمريكان أنفسهم، لتنفيذ التفجيرات الإجرامية التي طالت الشعب العراقي على طول وعرض العراق وبكل أطيافه، بعد أن عززتهم ببعض الكوادر الإجرامية القادمة من بلاد فارس؟؟ فذلك ما سيكشف عنه التاريخ.

 

الخلاصة

 

اليوم وبعد كل تلك المراحل الصعبة التي اجتازتها المقاومة العراقية وهي معافاة بحمد الله، فإن المستقبل لا يخلو من صعاب ومفاجئات، فأساليب الإغراء بالمشاركة السياسية مع الضغط الشديد على بعض الفصائل قد يجعلها عرضة للانحراف، إن لم يضمها جناح قادر على منحها القدرة على الثبات ومواصلة المسيرة، وإن هناك من يريد القفز فوق أولويات التحرير فقرر السبات وادخار الجهد والقدرة لمرحلة ما بعد التحرير، بحجة مواجهة الاحتلال الفارسي بعد هروب الغزاة، وذلك الاتجاه يشكل انحرافا حقيقيا، لأن السبات سيفقد المقاومين قدرة النهوض فيما بعد لأداء دورهم، ولأن في نوايا البعض ما يثير الريبة، فلعل البعض أخذته الأنانية وأطماع الدنيا لادخار الجهد والإمكانات لمرحلة ما بعد التحرير طمعا بالسلطة.

 

إن ذلك كله يتطلب من كل فصائل الجهاد وقفة تاريخية جدية ومسؤولة تجاه المرحلة القادمة، فتحقيق شرطها اللازم يتطلب وحدتها قبل كل شيء، واندماجها جميعا تحت خيمة القيادة التاريخية صاحبة الهوية الوطنية الشمولية، قيادة البعث المؤمنة المجاهدة المجربة في ميادين العراق والأمة، والثابتة على منهجها الكفاحي الجهادي الذي به وحده تتوحد إرادة الشعب العراقي، ليطبق الشعب بشقيه على الغزاة، ففي ذلك بعد التوكل على الله النصر والظفر وعزّ الدنيا والآخرة، فشعبنا الذي تقيحت جروحه الغائرة ويكاد ينزف كل دمه يستحق تضحيات مثل هذه، وذلك ما اشترطه القائد الشهيد صدام حسين رحمه الله كي يتحقق النصر والتحرير.

 

 

للإطلاع على مقالات الكاتب إضغط هنــا  
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

السبت  / ٠٨ جمـادي الاخر ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ٢٢أيـــار / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور