في عيادة المجتمع - أحزاب دينية شوهت الدين ومسخت العقيدة

 
 
شبكة المنصور
حديد العربي

واحدة من أخطر مظاهر الانحراف في الواقع العربي، بروز العديد من التيارات السياسية المغطاة بغطاء الدين، وفي ذلك خطر كبير على مستقبل الأمة والعقيدة معاً، لأن التحزب في الإسلام يفقده القدرة على توحيد الأمة، الوحدة التي بغيرها لا يمكن للأمة أن تنهض برسالة اختصها الله تعالى من بين الأمم لتكون أداة تبليغها، ولتكون قدوتها في تمثل شريعتها، لتكون نقطة الارتكاز في الواقع الإنساني، أمة وسطا، لكن الأخطر من ذلك، والذي يعمق كثيراً من انحرافها، أن هذه الأحزاب لا تتخذ من العقيدة الإسلامية منهجا تستند إليه في عملها وممارساتها السياسية، بل تتخذها أداة ووسيلة لتمرير أغراضها السياسية المرتبطة كلياً بمصالحها الدنيوية الخالصة، فمرة تنسجم معها، ومرات تختلف وتتقاطع معها، لأن المرجع الحاسم في قراراتها ليست العقيدة الإسلامية - كما تدعي كلها - بل هي مصالحها السياسية، فتراها تعمل في كل مرّة على تزييف العقيدة لتطويعها كي تستجيب لرغباتها وطموحاتها السياسية.


فالأخوان في مصر يرفعون الشعارات المعادية للإمبريالية الصليبية والصهيونية ويعتاشون على ناتجها العاطفي في الواقع السياسي المصري، فيما هم في فلسطين ينحون نحوهم لكن باتجاه يخالفهم كثيراً في منهج التحالفات، فذاك يرى في المدّ الصفوي خطرا على الأمة والإسلام، وهذا يركن إليه ويتحالف معه، بل يعمل على تسهيل مهمته بالتغلغل في كيان الأمة، لكنه في العراق يتولى الامبريالية الصليبية والصهيونية والصفوية الشعوبية، ويجند كيانه وطاقاته من أجل تمرير نواياهم الشريرة في العراق، فالواقع الخطير الذي آل إليه العراق بعد الغزو والاحتلال كان بالدرجة الأساس بسبب إقرار الدستور الصهيوني وفرضه على الشعب العراقي في 15-10-2005م، والذي تسبب بإقرار ذلك الدستور المؤامرة هم الأخوان المسلمين منفردين، حين خدعوا أبناء العراق قبل يومين بأكاذيب فحواها أن الدستور سيغير وهناك ضمانات أكيدة بتغييره، فحدث الذي حدث بدوافع مصالح سياسية ليس لها علاقة بالعقيدة الإسلامية، بل هي تتقاطع معها تماماً.


أما السلفيين فشأنهم لا يختلف كثيرا عن الاخوان، ففي السعودية، وهي راعيتها وحامية حماها، تطلبت المصالح السياسية أن تؤمن تلك السلفية وتطوع العقيدة لتزكي ذلك الإيمان بأن علاقة التبعية الكاملة للقوى الامبريالية الصليبية والصهيونية أمرٌ تتطلبه العقيدة ولا تمنعه ففيه المصالح وفيه درء للمفاسد، أما في العراق فالعداء يتعدى أشكاله الطبيعية، فلأجل أن يقتل السلفي، المرتبط روحياً وعمليا بالنظام السعودي ومنهجه الوهابي، واحدا من علوج الصليبيين فإن عليه أن يضحي بعشرات المسلمين العراقيين في سبيل الوصول إليه.


التشيع الفارسي بكل أحزابه ومسمياتها عدو للشيطان الأكبر الامبريالية الصليبية والصهيونية في إيران ولبنان، ويجد أن مجاهدتهم فرض عين يتوجب على المسلم أن ينهض به وإلا فإن زوجته ستحرم عليه، وهم لا يطيقون هذا، فليكن أي شيء إلا تحريم الزوجة، لكنهم في العراق حلفاء وأصدقاء، يحرقون العراقي بإطارات السيارات ويثقبون جسده ورأسه بالمثقب الكهربائي ويغتصبونه ويعتدون على شرفه وعرضه إن مسّ علوج الأمريكان والصليبيين واليهود بشيء. بل إن أداتهم المقاومة في جنوب لبنان حسن نصر الله يصف من يقاوم الغزاة المحتلين لبلده من العراقيين بأوصاف لم يصف بها حتى الصهاينة الذين يدعي العداء لهم، والفرس بذلوا كل ما أمكنهم بذله، حين أشعلوا حرباً طائفية في العراق كان وقودها السنة والشيعة على السواء من أجل أن يحقق لهم الشيطان الأكبر أمنيتهم بالتشفي بمجاهد مؤمن بالله كان الوحيد من بين مخلوقات الله في هذا الزمن العقور قد وقف في وجه الصليبيين والصهاينة وقال لهم لا.


أليس هذا هو حال كل الأحزاب المتسترة بغطاء الإسلام والإسلام منهم براء؟
نحن نعلم أن الحقيقة قاسية ومؤلمة، لأنها تكشف كل مستور، فالنور دائما يرهق الذين اعتادوا على العيش في الظلام ويثير جنونهم ويفقدهم السيطرة على تصرفاتهم، لكن مامن حيلة غير أن تكشف الحقائق كي من غُرّر بجلده قبل فوات الأوان.


في العراق اليوم كم كبير من الأحزاب المتسترة بالدين، تشكل نموذجاً شاملاً لكل مناهج الظاهرة الدينية السياسية في الوطن العربي والعالم الإسلامي برمته، فلينظر الإنسان إلى هذه الأحزاب ومدى انحرافها جميعاً عن العقيدة الإسلامية.


مما لا شك فيه أن عهد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يشكل النموذج النقي للرسالة الإسلامية، فهو صلى الله عليه وسلم مبلغها بأمر الله تعالى ووحيه، لذلك فإن عرض الأحداث التي تقع لأمتنا على ذلك الواقع من خلال سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة آل بيته وأصحابه الذين تتلمذوا على يديه، يحمل مصداقية تكاد تكون مطلقة، وهي مطلقة إن لم يكن هناك ما يتعلق بالنقل التاريخي للأحداث من شكوك، لكنا سنتطرق لأحداث تاريخية ليس عليها شكوك في النقل ولا تحوم حولها الشبهات، فهي إذن وفق العقيدة الإسلامية تشكل مصدراً تعرض عليه الأحداث فتعرّف وتقيم وفقا لثوابتها.


كل الذين أسسوا أو انتسبوا لأحزاب سياسية مغطاة بغطاء الدين هربوا خارج العراق - والعراق هنا نموذج تقاس عليه أقطار الأمة كلها - مدعين أنهم تعرضوا للبطش والتنكيل، وأغلبهم لم يهرب إلى دول عربية، وكلها كانت تصلح كحواضن لهم، لأن كل الأنظمة العربية عميلة وسائرة في ركاب الامبريالية والصليبية، وكلها كانت تتآمر وتبذل الأموال الطائلة من أجل التخلص من قيادة العراق، لأنها تحرجهم في كل يوم، مرّة تدعوهم لتحرير فلسطين والمسجد الأقصى، وذلك يستند إلى عقيدة الإسلام وأمر الله تعالى، لكنهم عاجزين بسبب العمالة والتبعية ومصالحهم الدنيوية، ومرة يقول لهم دعونا نحرر ثروات الأمة، لأنكم تضعونها بيد الأعداء فيقتلون إخوانكم بها، ومرة يقول لهم دعونا نستخدم النفط سلاحا في معاركنا من نيل حقوقنا من المعتدين والمتجبرين، ومرة يدعوهم لأن يجعلوا لفقراء الأمة نصيبا مما رزقهم الله، ومرة يقول لهم اخرجوا عن صمتكم وانهضوا بأماناتكم، فأنتم ولاة أمر هذه الأمة والله سائلكم يوم القيامة على ما فرطتم في حقوقها. لكن هؤلاء الهاربين قد اتخذوا من معاقل الصليبية والصهيونية ملاذات آمنه لهم، ومن هناك انطلقوا يحرضون على بلدهم وأمتهم بالكذب والتضليل والخداع.


فهل فعل أحد ممن عاش في كنف رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل فعلهم كاسلوب ومنهج للمعارضة؟ لم يشهد لنا التاريخ بشيء من هذا، بل حتى الوثائق التاريخية المزورة لم تكن واحدة منها توحي بذلك.


بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حدثت اجتهادات تتلائم ومنهج الشورى الذي اختطه الله تعالى كاسلوب لاختيار ولي الأمر، لكن الأمر ألقي على كاهل ابو بكر الصديق رضي الله عنه كخليفة للمسلمين، وكان الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أبرز المنافسين له على ولاية الأمر، لكنه لم يهجر المدينة المنورة، بل ولم يعود إلى مسقط رأسه مكة المكرمة، لكنه بقي قريبا منه يشاوره ويبذل له النصح والعون حتى توفاه الله تعالى، ثم تولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلي راغب فيها ويجد في نفسه ما يؤهله للنهوض بأمر المؤمنين لكنه كذلك لم يهاجر ولم يغادر المدينة، بل فعل كما فعل مع الصديق، ثم اغتيل الفاروق بمؤامرة الثالوث الصليبي اليهودي المجوسي فاختير عثمان بن عفان رضي الله عنه ولم يعهد الأمر لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه مرّة أخرى، لكنه أيضا لم يهرب رغم أنه يملك قدرة أكبر من ابن عفان الحيي اللين العطوف على قيادة الأمة في ظرف شديد الخطورة، بدأت خلاله تبرز مظاهر اّلردّة الجاهلية الخفية وتكالب الأعداء بمؤامراتهم على الأمة، وبقي يذود عنه خلال أحداث الفتنة ويناصحه بما يسعف الحال حتى استشهاده رضي الله عنه ضحية لمؤامرة ابن سبأ اليهودي.
فما الدافع الذي فرض على الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن لا يعتزل مقر الخلافة ويفارق من يعتقد أنهم نافسوه على أمر هو أحق بهم منه؟ إنه الإيمان الصادق والحقيقي والواعي بعقيدة الإسلام، فهو كان يعلم جيداً ويؤمن أن من أهم أسباب عافية الأمة والعقيدة هي وحدتها، وإن أي عمل يخل بوحدة الأمة ووحدة العقيدة سيفقدهما قدرة التأثير، لذلك لم يحدث مفاضلات بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة، بل ولم يسمح بعقد تلك المفاضلات من قبل غيره، فذلك هو الإسلام، وما يخالفه لا ينتسب لعقيدته ولا يمثلها.


موقف آخر من ذلك الزمن النقي، بطله الصحابي الجليل أبو ذرّ الغفاري رضي الله عنه، الذي ذهب إلى بلاد الشام عام 30 هـ فأرعبه واقع أهل الشام المختلف كثيراً عن واقع الصحراء التي قدم منها فاعتبر أنهم قد ركنوا إلى الدنيا لما وجد في أيديهم من خيرات بلاد الشام، رغم أن التفاوت في الثراء كان موجودا في المدينة وغيرها من مدن الحجاز، لكنه كان يجد أن للفقراء حقوق في أموال الأغنياء يجب أن تؤخذ منهم، فنشأت فتنة كان ابن سبأ رائد التشيع الفارسي قد أعد لها على عجل في الشام، بسبب الخبرة المحدودة لدى ابي ذرّ في شؤون السياسة والإدارة، والتي دفعته لأن يتوجه إلى الشعب بحديثه ذاك، في حين كان يفترض به أن يتوجه إلى أمير الشام أو الخليفة بأمر خطير كهذا، يتعلق بالدنيا ومغرياتها، فتم استدعائه إلى مركز الخلافة في المدينة المنورة، ثم خرج منها إلى الربذة معتزلا حتى توفي رضي الله عنه، وما يهمنا في هذا المقام هي الطريقة التي عبّر عنها ابو ذر في معارضته لحال استنكره على ولي الأمر ومساعديه، فمن المؤكد أن أبي ذر لم يهاجر من أرض العرب بل ولم يخرج من حدود المدينة نفسها، فالربذه على أطرافها، وكان قادراً حينها أن يخرج إلى الكوفة أو مصر أو البصرة التي كانت تشهد تمرداً على الخليفة ابن عفان، وهو يشترك مع رواد ذلك التمرد في استنكار ما اسجد على واقع الأمة خلال خلافة ابن عفان، رغم أنه يختلف معهم كلياً في الغايات ووسائل الرفض. ولم يذكر لنا التاريخ أبن الغفاري قد حرّض أحداً من العرب المسلمين على ولي الأمر، لكن الثابت أنه كان يمارس قانون الإسلام المتمثل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع حرصه الشديد على وحدة الأمة وقوتها، فكان خروجه للربذة دليلاً قاطعاً على ذلك الحرص.


لكن الذين أسسوا وانتظموا بالأحزاب المتأسلمة كلها قد هربوا إلى الغرب الكافر، ولم يكتفوا باتخاذه ملاذا لهروبهم، بل مارسوا كل وسائل التحريض ضد بلدهم حتى تمكنوا من جلب الغزاة فاحتلوه واستباحوا حرماته ودنسوا مقدساته ونهبوا خيراته وفتكوا بأهله، ولسنا بصدد تجميع الأدلة على قولنا هذا، فليس من أحد في قادة الاحزاب الدينية الشيعية والسنية التي تتهالك اليوم على خدمة مشاريع الغزاة في ترسيخ احتلالهم وتنفيذ غاياته كلها، لا يحمل جوازاً أمريكيا أو بريطانياً أو هولنديا أو فارسياً... والقائمة تطول.


فأي انحدارٍ هذا، وأي انحرافٍ وأي خطر تتعرض له الأمة في وجوها وعقيدتها، وجلّ أهلها غافلون أو نائمون؟
والغريب أن كثير من هذه الأحزاب لم تكن قد نشأت على أنقاض الفكر القومي، كما يدعون، ويضللون الرأي بأن الفكر القومي هو الذي أوصل الأمة إلى هذا الحال، بل إن منها من نشأ مترافقاً مع الأحزاب والتيارات القومية، وكان أحد أهم أسباب فشل مشاريعها النهضوية، كما حدث في مصر والعراق وسوريا والجزائر،  فالفكر القومي كان طيلة قرن من الزمن الذائد الوحيد في الساحة عن الأمة وكيانها ووجودها، ومنع على أعدائها أن يذهبوا بريحها، كما يحاولون اليوم بمشروعهم الشرق أوسطي، الذي انطلق من العراق إثر احتلاله فتحطم على صخوره الصماء المتمثلة بصدور رجال مقاومته المجاهدة الباسلة، والتي ستطمره إلى الأبد بعون الله ومدده إن توحدت ولم تنالها عدوى التحزب الديني السياسي، فهي في جوهرها ناتج أصيل للبناء الذي رصّ لبناته البعث، وهو رائد الفكر القومي العربي،


رغم كل هذا فإن صحوة ونهضة وعودة حميدة لجوهر العقيدة الإسلامية تنمو بين الأجيال، تنبأ بخير كثير، إن لم تلتف عليهم هذه الأحزاب المتأسلمة وتغرقهم في مناهجها العملية الضالة المضلة، فالمشكلة أن أغلب هذه الأحزاب لا تتقاطع مع العقيدة من النواحي النظرية، لكن العلة في المعاملة، وكما معلوم فإن الدين المعاملة، فهم يستغلون المعارف النظرية لتبرير نواياهم وطموحاتهم الدنيوية المنحرفة عن المنهج الصحيح للعقيدة الإسلامية، والذي يكتشف حقيقة الانحراف يكون قد انغمس وارتبطت مصالحه الدنيوية في ذلك المنزلق الذي قادته أقدامه إليه، وليسوا كلهم حينذاك بقادرين على التراجع.

 

 

للإطلاع على مقالات الكاتب إضغط هنــا  
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الاربعاء  / ١٢ جمـادي الاخر ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ٢٦أيـــار / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور