في عيادة المجتمع : محنة التطرف بين الشباب

 
 
شبكة المنصور
حديد العربي

يعاني بعض شباب أمتنا، وشباب العراق خصوصا،ً حالة من الضياع والتخبط الفكري، خلال المرحلة التي يعيشها العراق ويلقي بظلاله على كيان الأمة برمتها منذ احتلاله من قبل الصليبيين والصهاينة والفرس الصفويين بحملتهم المسعورة التي بدأت عام 1980م ولم تنتهي في عام 2003م، الأمر الذي دفع بقسم منهم نحو السلبية باتجاه التطرف، فيما دفع بقسم آخر نحو الاتجاه الآخر للسلبية، وهو التفريط، معتمدين عليهما ومستندين في مناهجهم ورؤاهم وقناعاتهم الفكرية و ممارساتهم السلوكية.


وعلى الرغم من أن هذا الحال هو القاعدة التي تحكم واقع الشعوب في كل زمان ومكان، ففي كل مجتمع هناك من يقف على مرتكز الفطرة البشرية، وسطاً بين طرفي الانحراف؛ مناهج الإفراط والتطرف والغلو من جهة ومناهج التفريط والتقصير والتخلي من جهة أخرى، لكنها اليوم أضحت في واقعنا العربي، والعراقي بشكل أوضح، ظواهر تغطي مساحات واسعة في الواقع الاجتماعي، تمارس تأثيرها الفاعل في الحياة، وليست مركونة على هامشها تتحين الفرص التي قد لا تجدها، كما كان يحدث في العديد من الحقب التاريخية الماضية، مما أدى إلى تقلص المساحة التي تشكل نقطة الارتكاز لدرجة أنها تكاد تتلاشى بين هذا المنهج السلبي أو ذاك.


وفي ذلك خطر كبير على المجتمع، ليس في واقعه فحسب، بل على صعيد المستقبل أيضا، فكما أن التفريط يضيع الحقوق ويوقف البناء ويبدد الثروات، فإن التطرف هو الآخر يؤدي بسلوكه وتفكيره المنغلق إلى ذات النتائج السلبية التي يفرزها التفريط.


إن العامل الرئيسي الذي يؤدي بالإنسان إلى الخروج عن صراط الفطرة والانحراف بمنزلقات السلبية والافتراق عن منهج الوسطية، هو ضعف الشخصية الذي ينتج عن العجز الكلي أو الجزئي المبتور لإدراك حقائق الأشياء، والفشل في التعامل معها بإيجابية، وحين ذاك يمرض ذلك الإنسان نفسيا وينتابه الشعور بالنقص، تلك الآفة التي تخضعه لحبائل الشيطان ومكره وسطوته، وعند ذلك لا يمكنه إلا أن يكون متطرفاً أو مفرطاً في أحكامه وفي ممارساته السلوكية، وذلك هو الفاصل بين الحمق والحكمة، بين الاهتزاز والاتزان، بين العقل المستجيب للفطرة وطهارة الروح وبين العقل المتشيطن الماكر الخبيث.


إن ذلك كمثل الدجاجة التي تكسر بيضها أو تخنق أفراخها كي لا يأكلهم الثعلب، ومثل الدجاجة التي تحنو على أفراخها وتوفر لهم كل ما أمكنها من سبل العيش والبقاء وتسعى لتجنيبهم الأخطار، لكن حين يهاجمها الثعلب فإنها تستحضر فطرتها وتملك إرادتها فتدافع عنهم بكل ما أمكنها فعله. ومثل ذلك الذي كان يئد مولودته خوفا من أن تصيبه بعار، حين يعجز عقله أن يدله على أساليب التربية الناجحة ليجعل من تلك المولودة فتاة صالحة تحفظ شرفها وكرامة أهلها، وحين يعجز عن استيعاب أن لهذه المخلوقة خالق يتكفل رزقها كما تكفل رزقه هو.


هناك فرق كبير بين أن يوظف العقل في خدمة الحواس كالعين والأذن، وبين أن توظف الحواس في خدمة العقل؛ بين أن يرى الإنسان الأشياء بعينية فيتخذ منها أساساً تبنى عليه حقائق الوعي والإدراك التي تتحكم بالقناعات وتحدد اتجاهات الرأي والإرادة والسلوك، وبين أن يراها ببصيرته وعقله حين تكون الحواس أدوات للعقل تحفز فيه القدرة على البحث عن الحقيقة لكشفها. وسنسوق هنا أمثلة لأنماط من التفكير والسلوك تتفاعل اليوم في الواقع، لكي نكون أقرب لتلك الظواهر الفكرية والسلوكية المنحرفة.


فرّط اليهود وقصّروا في شأن مريم عليها السلام حين اتهموها بالزنى، {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً* يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } (سورة مريم، الآية:27-28).


وأفرط النصارى وغالوا فيها حين جعلوها وأبنها عيسى عليهما السلام إلهين، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (سورة التوبة، الآية:30).


أما السبيل القويم فهو الوسطية التي جاء بها الإسلام، كما ورد في كتاب الله تعالى: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ } (سورة النساء،الآية: 171).


فالذي يتفكر في مواقف اليهود والنصارى سيجدها قد اعتمدت على الظاهر من الأشياء، فيما سيجد إن موقف العقيدة الإسلامية قد بني على البصيرة والعقل والحكمة، التي تقول بأن الذي يخلق الإنسان من عدم لقادر على خلقه بالطريقة التي خلق بها عيسى عليه السلام، وهو سبحانه لا ينتابه العجز في شيء، وعند ذاك فإن المسلم ليس بحاجة لأن يربط خلق عيسى عليه السلام بالظاهر المبني على أن الجنين لا يكون إلا بنتيجة جماع بين رجل وامرأة، لأن الحكمة تدله على أن الذي خلق الرجل والمرأة، وأنشأ فيهما الحيمن والبيوضة ليكونا الجنين قادر على أن يخلقه من دونهما، فالوعي في منهج المسلم لم يتوقف عند ظاهر الأشياء ومحسوساتها المادية بل يتعداها قدرة الإدراك لأسبابها، ذلك لأنه لا يرى خالقه سبحانه بعينه لكنه يدرك وجوده بعقله وحكمته وبصيرته، وتلك الوسطية هي التي أهلت أمة محمد صلى الله عليه وسلم لتكون مرتكزا للفطرة البشرية السوية المعتدلة، بقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}(سورة البقرة 143).


وقد ورد في تفسير الطبري " جامع البيان عن تأويل آي القرآن"(وَأَنَا أَرَى أَنَّ الْوَسَط فِي هَذَا الْمَوْضِع هُوَ الْوَسَط الَّذِي بِمَعْنَى الْجُزْء الَّذِي هُوَ بَيْن الطَّرَفَيْنِ , مِثْل " وَسَط الدَّار " ... وَأَرَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذِكْره إنَّمَا وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ وَسَط لِتَوَسُّطِهِمْ فِي الدِّين فَلَا هُمْ أَهْل غُلُوّ فِيهِ غُلُوّ النَّصَارَى الَّذِينَ غَلَوْا بِالتَّرَهُّبِ وَقَيْلهمْ فِي عِيسَى مَا قَالُوا فِيهِ , وَلَا هُمْ أَهْل تَقْصِير فِيهِ تَقْصِير الْيَهُود الَّذِينَ بَدَّلُوا كِتَاب اللَّه وَقَتَلُوا أَنْبِيَاءَهُمْ وَكَذَبُوا عَلَى رَبّهمْ وَكَفَرُوا بِهِ ; وَلَكِنَّهُمْ أَهْل تَوَسُّط وَاعْتِدَال فِيهِ , فَوَصَفَهُمْ اللَّه بِذَلِكَ , إذْ كَانَ أَحَبّ الْأُمُور إلَى اللَّه أَوْسَطهَا .)


فالذي ينظر بعينيه لشخص يصلي وفقا للمنهج الشيعي، فإنه سيحكم عليه بأنه صفوي شعوبي حاقد على الأمة والإسلام، إن لم يلحق بها قناعة أخرى تفيد بأنه موالي لقوى الكفر والضلال التي احتلت العراق ظلماً وعدواناً، وتسعى من خلال احتلالها هذا أن تطبق برنامجها الصليبي الصهيوني مدعوما من قبل الفرس الصفويين، والذي يطلق عليه الشرق أوسط الكبير، والهادف إلى تذويب كيان الأمة العربية في محيطها الإقليمي على شكل أجزاء ممزقة لا تقوى على شيء، بل لا تملك خياراً إلا الاقتتال فيما بينها من أجل البقاء، فيسهل عند ذلك إفراغها من عقيدتها الإسلامية، التي يعتقدون ويتوقعون أنها ستشكل خطراً على وجودهم وكياناتهم وحضارتهم المجافية لله ولرسالة نبيه الأكرم صلى الله عليه وسلم، وأنه - ذلك الشيعي - قد خان وتآمر وأفترى الأكاذيب ضد بلده تعضيداً لحجج الغزاة في عدوانهم، وعند ذاك فإن التطرف والسلبية سيكونان الأساس الذي يعتمد عليه، من رأى بعينيه أو سمع بأذنيه، في صياغة قناعاته وفي توجيه فعله السلوكي أيضاً، وفي هذا يشترك طرفي الانحراف، ولا يختلفان فيما بينهما إلا بردّة الفعل.


أما الذي ينظر ببصيرته فإنه لا يسلك مسلك من نظر بعينيه، بل يخضع مشاهدته تلك لأحكام العقل والحكمة، فظاهر الأشياء قد لا يوحي بجوهرها، لذلك فهو يبحث عن الحقيقة بما يقع خلف الظاهر منها بعد أن يخضعها لفعل العقل وحكمته، وعندها قد يصل إلى النتيجة نفسها التي توصل إليها غيره، وقد يصل إلى نتيجة مختلفة عنها تماماً، وقد تكون مناقضة لها، فمن المتشيعين العراقيين من لا يستند في تشيعه للمنهج الفارسي الشعوبي، وهم كثير وليس قلة، فليس كل متشيع مصاب بعقدة الشعور بالنقص، فالمؤكد أنه لا يركن للتشيع الفارسي إلا المصاب بعقد نفسية مرضية تجعله يشعر بالاغتراب عن بيئته وموطنه وأمته وعقيدته فيبحث عن بديل لهما ليجده في التشيع الفارسي المبني بكل تفاصيله على معاداة العرب والسعي لتشويه عقيدتهم الإسلامية، التي بها توحدوا فامتلكوا قدرة التأثير وأذهبوا إمبراطوريتهم الفارسية، والتي تشكل جوهر الفكر الشعوبي الفارسي الذي يتخذ من آل بيت النبوة الطاهر وسيلة قادرة على تحقيق أهدافهم تلك، فكثير من الشيعة العراقيين تمسك بوطنيته وعروبته وعقيدته الخالية من الدس والتشويه، وكثير منهم فقد حياته بسبب ذلك. ومنهم من يقصد مراقد الأئمة الأطهار من آل بيت النبوة، لكنه لا يقصدها كما يقصدها من اتخذ من التشيع الفارسي علاجاً واهيا لمرضه النفسي، فلا يطلب منهم ما ليس من اختصاصهم، ولا يطوف حولهم طواف الحجيج حول الكعبة، ولا يختصهم بالنذور، بل يترحم ويدعو لهم كما لو زار قبر أبيه وأمه كما يفعل المسلمون. ومنهم الكثير من يتخذ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة له، ومنهم من سمى أولاده بأسمائهم، وعند ذاك لم يتبق فيهم إلا الاجتهاد في الرأي بما لا يمس جوهر العقيدة وثوابتها، وهذا لا يخرج مثل هؤلاء عن منهج الإسلام، بل ولا يثلم إسلامهم، ولا يضعهم بعيداً عن المذاهب الأخرى، وهذا القول ليس توفيقياً، ولا توسل بالأعذار للغير، بل هو تعبير عن حقائق تعيش بيننا في وسط المجتمع العراقي اليوم، وليست نقولات من بطون التاريخ.


وهنا يتضح الفرق الشاسع بين من يجعل ظاهر الأشياء مرجعاً وسبباً لقناعاته التي تنعكس على سلوكه، وبين من يتروى فلا يضع لذلك الظاهر اعتباراً كبيراً في بحثه عن الحقيقة. لكن المشكلة تكمن في أن البحث عن الحقيقة وفقاً للبصيرة وقدرة العقل تحتاج إلى مزيد من الجهد والصبر والتأني والتجرد من النوايا المسبقة والأغراض، لذلك يركن المتطرف إلى ظاهر الأشياء لأنها منهج الكسالى، فهي لا تحتاج إلا قدرة على الظن، ففيه الكفاية لأن يزوق لصاحبه ما يشاء من حقائق تكون في كثير من الأحيان واهية، ولهذا فقد نهانا الله تعالى عن الظن، بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (سورة الحجرات، الآية:12).


إن الجهل بحقائق الأشياء يسوق صاحبه إلى السلبية بأحد الاتجاهين، فإن كان ذو همة تهور فأفرط، وإن كان يفتقدها تبلد ففرّط، وتلك هي الأسباب الكامنة خلف التسرع بإصدار الأحكام، التي غالباً ما تكون مجافية للحقيقة وتفتقد للعدل والإنصاف.


في المجتمع اليوم شبابا متهورين، حين تضع أحدهمً على ميزان الفطرة البشرية السوية، تجده منغلق العقل، جامد الفكر، لا يطيق سماع صوت غيره، ولا يجيد التفاعل مع محيطه، يكفر ويكذب ويفند، يضع الجميع على طاولة التشكيك وسوء النوايا، فمنهم الخامل المنطوي على ملذات الدنيا، لا يعنيه المجتمع ومصالحه بشيء، ومنهم من يضع الكون على رأسه، يريد تغييره، والأخير يتقاطع مع سابقه في شكل السلبية، لكنه لا يختلف عنه كثيرا في النتيجة، لأنه يسعى للتغير من غير علم ودراية وحكمة، لا يملك أسباب التغيير وعدده وأدواته. فهما كالذي استسلم لواقع الاحتلال وراح يبحث عن مورد يحقق له ملذاته الدنيوية، دون اعتبار منه بما يعاني غيره، ولا أين ستذهب الموارد الأخرى، وكالذي استنكر الاحتلال وقرر أن يتصدى له، لكن لم يتمكن من تحديد وجهة سيره، لأنه كسابقه لا يجيد البحث عن الحقائق، فانحرف من التصدي للمحتل ومقاتلته إلى ضحاياه، فحققا كليهما ما يبغي المحتل ويريد، لأن من مصلحة المحتل أن ينقسم الشعب العراقي بين البراء والولاء على أن يشترك الطرفان في سلبية النتائج، أي بالتطرف بالاتجاهين معاً، فالشجاعة بلا تعقل ستكون تهور، والتأني بلا حكمة سيكون جبناً وتخاذلا، والعدو لا يبغي إلا أن يكون عدوه أحمقا فيسهل صرعه أو جبانا رعديدا فيسهل تطويعه، والشعب لا يمحقه الغزاة مهما امتلكوا من قوة، لكن الذي يمحقه تطرف بنيه، فإن تماسك المجتمع يحول أهداف الغزاة إلى مستحيلات غير قابلة للتحقق، وعندها فلا خيار لهم إلا التخلي عنها أو تجميدها والعودة من حيث أتوا، لكن تفرق السبل بالمجتمع يفقده ذلك التماسك، وهو لا يتفرق إلا بوجود وفاعلية التطرف باتجاهيه السلبيين معاً.


هذا شاب ممن وصفنا، يرى في المفخخات التي تجتث المواطنين الأبرياء بالعشرات، وقد تنال في طريقها أحداً من جنود الاحتلال أو ممن شاركه في السلبية وناقضه في الاتجاه، يعتقد في هذا جهاداً وتعبيراً صادقاً عن العقيدة الإسلامية، ويرى فيه واجباً شرعياً، من لا يؤمن به فهو مرتد وخارج عن الملة، فيما يتهكم ويشكك بنوايا مقاومين ركنوا إلى منهج الوسطية في التفكير والسلوك واتخذوا من العقل دليلاً على عملهم، من جيش النقشبندية، نصبوا عبوة ناسفة يوم 23-5-2010م في أرض زراعية ليس فيها إلا القصب، سدد الله رميتهم فقتلت سبعة من علوج الكفر والاحتلال، والعملية مصورة بتفاصيلها، وليس عليها شائبة، ولم يؤذي عراقياً، فلم يتناثر مع أجساد الغزاة إلا القصب الذي لا يفيد الفلاح بشيء، فما الذي دفع ذلك الشاب إلى التشكيك بقدرة هؤلاء وأمثالهم على تحرير الوطن ودحر الأعداء والتهجم عليهم ووصفهم بالأدعياء، أمام حقيقة لا تحتاج إلى تأويل أو توضيح؟


إنه الأفق الضيق الذي احتبس عقله خلف عينية، وحشره بوعي زائف، اعتمد على ما أوحى له غيره ممن يشترك معه في المنهج المنحرف، حين لم يجعل لعقله واجب التحقق من كل الذي سمعه ممن يسميهم الأمراء والقادة، فهو يعيب الفعل لأنه يرتبط بقيادة البعث، وهو يعلم أن لا عيب فيه، لكن تلك العملية البطولية لو كانت تنتسب لجماعة متهورة كمثله لباركها واعتبرها فاتحة نصر كبير، حتى لو ذهب ضحيتها أضعاف من الأبرياء الذين يدعي تحريرهم، وذلك ناتج عن استناده لوعي زائف، يحتكم لظاهر الأشياء وليس لجوهرها، فهو إما أن يكون ممن وقع عليه ضرر بفعل سلوك أحد المنتسبين للبعث من قبل، فقاس البعث وفكره وكل رجاله على فرد تضرر منه، أو اعتقد أنه ألحق به حيفاً، وليس كل ما يعتقده المرء حيفاً هو حيف، فهل رضي مجرم بحكم قاضٍ على جرمه؟ رغم أنه فرد ولا يمكن له أن يكون معبرا صادقاً عن المجموع وعن الفكر إن لم يكن مقرّا من قبلهم، وإما أن يكون كسلة النفايات على قارعة الطريق يقذف فيها كل صاحب وسخ أوساخه وقاذوراته، فصار لا يعرف إلا بتلك الأوساخ، ولا يجيد شم رائحة إلاها.


الوسطية لا تقرّ بالتعميم ولا تأخذ به كمنهج في التقييم وطلب الحقائق، وهذا ابن تيمية يدلك على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جانب من أهم جوانب السلوك، مستندا إلى الحديث الشريف: ( اللهم إني أسألك خشيتك فى السر والعلانية، وأسألك كلمة الحق فى الغضب والرضا، وأسألك القصد فى الفقر والغنى )، فيقول في المجلد 14 من مجموعة فقه وفتاوى ابن تيمية الخاص بالتفسير، مشترطاً على المسلم أن: " ألا يعتدى على أهل المعاصي بزيادة على المشروع فى بغضهم أو ذمهم، أو نهيهم أو هجرهم، أو عقوبتهم، بل يقال لمن اعتدى عليهم : عليك نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، كما قال : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ } الآية [ المائدة : 8 ] ، وقال : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } [ البقرة : 190 ] ، وقال : { فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ } [ البقرة : 193 ] ، فإن كثيراً من الآمرين الناهين قد يتعدى [ فى المطبوعة : يعتدى : والصواب ما أثبتناه ] حدود اللّه، إما بجهل وإما بظلم، وهذا باب يجب التثبت فيه، وسواء في ذلك الإنكار على الكفار والمنافقين والفاسقين والعاصين".


فهل يدل هذا القول على سلوك بعض السلفيين اليوم في العراق وغيره؟ إنهم في الواقع يفعلون ما يناقضه كلية، رغم أنهم يدعون أنه أحد أبرز من يعتمدون على فقههم ومنهجهم في عقيدتهم السلفية، وليسوا كلهم سواء.


فالصوفية ليسوا كلهم مغالين ومبتدعين، فيهم المفرِّط المقصر وفيهم المفرط الغالي، بل وفيهم من أخرجته الجهالة عن منهج العقيدة الإسلامية، لكن فيهم العباد الزهاد الذين لا يقرون بهذا ولا ذاك من سلوك من انحرف بالاتجاهين معاً، فلا يصح أن تجعل التسمية بديلاً عن دور العقل وواجبه في تقصي الحقائق. وكذلك البعث كحزب سياسي فهو ليس بديلاً للعقيدة الإسلامية، ولا يتقاطع معها، إنما هو فكر وتنظيم تطلبته ظروف الأمة والأخطار المحدقة بها، استوجب وجوده من أجل وضع الأمة على مسار واحد يمنحها القوة والقدرة على مواجهة التحديات، وأهدافه لا تتعلق بمنهج غريب أو مفتعل، إنما هي مستوحاة من جوهر العقيدة الإسلامية بكل تفاصيلها، وأن مبررات وجوده تكمن بالدرجة الأساس من حالة الوهن والتمزق والتشرذم التي سببتها المذهبية والطائفية في الجسد العربي الإسلامي، فلم يعد قادراً بواحدة منها أن ينهض من كبوته، ولا هو بقادر على التوفيق فيما بين أشتاتها فيمتلك قدرته، فكما علمنا من القرآن الكريم والسنة النبوية فإن الوحدة شرط لازم لا تستطيع الأمة النهوض بدورها ورسالتها من دونه، والحال لا يسمح بأي شكل من أشكال تلك الوحدة، فالذين أوجدوا فكر البعث وكيانه لم يغالوا في دينهم ولم يفرطوا بمنهجه، لكنهم رفضوا واقع الخنوع وانتظار المعجزات التي لا تأتي في واقع كواقع أمتهم، فالله تعالى { لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ }(سورة الرعد: من الآية11) فسعوا جهدهم لتحقيق ما يعتقدون أنه يجمع شمل الأمة ويضعها على مسارها الصائب الذي أراده الله تعالى لها.


فهل في ذلك ما ينقض شيئاً من العقيدة الإسلامية أو يتقاطع معها؟ لا يقول نعم إلا من سفه عقله وتطرف بعيداً عن منطق الحكمة والعقل، وقاس حقائق الأشياء على ما أبصرت عيناه من أفعال الرجال، والعين لا يتسنى لها أن تبصر كل الأشياء في وقت واحد مطلقاً، فأفقها محدود، والتضليل لا يجافيها في كل الأحوال. ولو قلنا أن من بين البعثيين من هو على شاكلة غيرهم من الكيانات والتنظيمات البشرية، ففيه المقصر وفيه المغالي وفيه المعتدل، فذلك حق، لأنهم وإن كانوا طلائع ينبغي لها أن تكون على مستوى عال من الوعي والإدراك والإيمان، تنقلب على واقعها وتتجرد من كل مظاهر الانحراف في السلوك والتفكير، وتتجرد أيضاً عن مغريات الدنيا والمصالح الشخصية الضيقة، قبل ان تنتقل إلى صفوف الجمهور، كي تكون قدوة صالحة لأن تستحوذ على قناعته وتضمن التفافه حول برنامجها، لكن فيهم من يشذّ عن تلك القواعد والشروط، بهذا الاتجاه أو ذاك، ممن لا يحسنون التفاعل مع واقع جديد امتلكوا الأمل والرغبة في تحقيقه لكنهم لا يملكون القدرة والصبر والإيمان الكافي لأن يجعلهم منسجمين مع ما يدعون. لكن الذي لا يصح أن يختزل تلك الحالات الشاذة فتعتمد للقياس والتعميم، فذلك الجهل بعينه، وذلك هو الجفاء لعقيدة الإسلام والتجني عليها.


والتنظيم إن كانت مقاصده صائبة لا ترفضها العقيدة الإسلامية ولا تتقاطع معها، فالله تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم لم يلغيا مظاهر التنظيم في الإسلام، بل أقرّا كل صائب فيها، فالمهاجرين، وهم تنظيم بكل ما تعنيه مفاهيم التنظيم، كانوا يخاطبون بتلك التسمية التنظيمية غير مرّة في كتاب الله وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الأنصار، فإذا قال النبي " يا معشر المهاجرين" أو " يا معشر الأنصار" فإنه بذلك كان يعني كياناً اجتماعياً مميزاً بتلك التسمية عن غيره، بل إن كثيراً من شؤونهما كانت تعالج وفق تلك الصيغة، بما فيها الاستعداد للغزو وغيره، ولم تقتصر تلك التنظيمات عليهما بل كان هناك غيرهما الكثير، كأهل اليمن وأهل الشام والكنانة، والقبائل كذلك تعتبر من التنظيمات الاجتماعية المعروفة، قد أقرها النبي صلى الله عليه وسلم تحت خيمة الإسلام، ومارست في حياته الكثير من خصوصياتها التنظيمية فيما بينها.


لكن هل كانت تلك التنظيمات بمسمياتها مانعاً لكل منتسبيها من أن تزل أقدام بعضهم؟ ألم يكن عبدالله بن سعد بن أبي سرح أحد المهاجرين، ألم يكن من كتاب الوحي؟ ألم يرتد بعد ذلك فيكفر بعد نعمة الإسلام؟ أليس هو الذي أنزل الله تعالى بحقه الآية الكريمة:{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}(سورة الأنعام، الآية:93)؟ ألم يكن أحد الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهم ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة حين فتحها الله عليه؟ ثم ألم يعد بعد ذلك ويتولى في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه إمارة الجيش الإسلامي في مصر؟


ولو كان التعميم منهجاً صائباً لما وجدنا الخلاف يدب ويتوسع بين السلفيين أنفسهم، فالقاعدة سلفية المنهج والنظام السعودي كذلك، لكن أحدهم يكفر الآخر ويوجب حربه وقتله، وعلماء الجزيرة العربية اختلفوا فيما بينهم على الموقف من الشيعة بدرجات متفاوتة وصلت بعضها حدّ التناقض، تماماً كما فعلوا في مواقفهم إزاء الشهيد صدام حسين رحمه الله، وذلك التناقض والتصدع ناتج كله عن منهج التعميم الذي يخرج صاحبه عن وسطيته، فالوسطية في جانب من معانيها تشمل العدالة في الحكم.


وحين يقال لذلك الشاب الذي أطلق أحكامه بلا روية وبلا وسطية وبلا حكمة العقل: يا فتى أنت بدأت بخطأ، ولأنك لا تحتكم لعقلك وبصيرتك التي ما وهبها الله تعالى عبثا للإنسان في حكمك على ما يدور حولك من أحداث، فليس بمقدورك إذن ان تتراجع عنه، لأنك لا تملك أداة التصحيح، فتصحيح الأخطاء لا يتم إلا بوجود العقل وحكمته. ولأنك متهور فأنت لا تدع غيرك يعينك كي تتراجع عما أنت فيه. فهؤلاء استهدفهم الغزاة واحتلوا بلدهم، فهم يجاهدونه بما منحهم الله من قدرة وإيمان، وهم لا يسعون لجعل بلدهم المحتل وشعبه وسيلة لتحقيق مآربهم، بل هم يؤدون واجباً تجاه ربهم وتجاه شعبهم وأنفسهم، فالديار ديارهم والدفاع عنها واجبهم، تماما كالدجاجة حين يداهم أفراخها ابن آوى، وهم في ذلك ليسوا طلاب سلطة، لأنهم كانوا يملكونها، وكان سهلاً عليهم الاحتفاظ بها، وما كان عليهم أن يصنعوا معجزة كي يحتفظوا بسلطتهم، بل ما كان مطلوباً منهم إلا أن يفعلوا كما فعلت كل الأنظمة العربية الموجودة حاليا على كراسي حكمها، ولو كانوا فعلوا فقد لا يعاب ذلك عليهم حتى من قبل المتطرفين، ممن كدسوا نفايات أنفسهم المريضة في وعاء وعيك المضلل، لكنهم لا يجدون في السلطة هدفاً، إنما يعتبرونها وسيلة لتحقيق أهداف كبيرة، لا ترضى بها جموع الكفر والنفاق والضلال، فتخلوا عنها لصالح احتفاظهم بمبادئهم، كي تبقى مصانة ويبقى الأمل بتحقيقها وارداً، وإلا لخانوا الله والأمانة والعهد الذي قطعوه على أنفسهم. ولطالما تمنت القوى الامبريالية الصليبية والصهيونية ومن تحالف معها من حكام أذلاء وفرس شعوبيين حاقدين أن ينصاع قادة العراق؛ أبناء البعث حماة الرسالة الخالدة لمطلبهم ذاك، فيكفون أنفسهم وميزانياتهم شرّ القتال والخسائر والإنفاق والضجيج، لكن ثبات البعث وقادته على ما احتكموا إليه وإصرارهم على التمسك بحقوق الأمة أرغم الطغاة وأحلافهم على غزو العراق، ولهذا تجد جهاد هؤلاء يختلف عن جهادكم في الوسائل والأهداف، فحرصهم على أن لا يكون جهادهم سببا في إزهاق أرواح الشعب، لأنهم العدة التي بها يبنى مشروعهم الحضاري. فهل ترضى لنفسك أن تكون عدوا لهم وهم أعدى أعداء اليهود الصهاينة والصليبيين والشعوبيين الفرس؟


أما أنت ومن على شاكلتك فقد وجدتم في احتلال العراق فرصة ذهبية للوصول إلى غاياتكم المريضة، فقدوتكم وقائدكم وموئل فكركم هو الزرقاوي رحمه الله، وهو أردني الجنسية، وبلده أحوج من العراق لإمارة إسلامية كالتي أعلنتم عنها في العراق، فنظامه ضالع بالعمالة للماسونية الصهيونية حتى أخمص قدميه، وهو الذي ذبح المقاومة الفلسطينية في مجزرة أيلول الأسود عام 1970م وما كان سيبقي منهم أحدا لولا تهديد العراق وتحرك جيشه الذي كان مرابطاً على الأراضي الأردنية، وهو الذي باع الأرض والمقدسات في وادي عربه، فلم لم يعلن إمارته الإسلامية في الأردن، وهي أقرب لفلسطين والمسجد الأقصى، أم إنه كالفرس الشعوبيين حين قالوا احتلال بغداد هو طريقنا للقدس؟ والنظام الأردني أهون عليكم من أسياده الطغاة، فلا يملك جيشاً كجيشهم، ولا سلاحاً كسلاحهم، ولا عدداً كعددهم، ولا تمويلاً كتمويلهم، فهل لك أن تسأل نفسك هذا السؤال؟ وهل أنت قادر على الإجابة؟ أشك كثيراً في هذا، وإن كنت قادر على تبريرات السفسطة.


ستقول إن الاحتلال هو الذي أجبرنا على ذلك، فنرد على قولك، يا حبيبي يابن أخي، العراق احتله الأعداء عام 2003م، لكن فلسطين التي هي الموطن الأصلي لقائدكم وأمير دولتكم المزعومة محتلة منذ عام 1948م بشكل رسمي، إذا تجاوزنا عن السنين التي سبقت ذلك التاريخ، والكيان الصهيوني ارتكب من الجرائم والفضاعات ما لا يقل وحشية عن جرائم الغزاة الأمريكان في العراق، والمنطق يقول أن مصارعة الشبل أسهل وأهون من مصارعة الأسد، فلم لم يفكر أميركم بالإعلان عن تلك الإمارة على ثرى فلسطين إذا كان تكوين الإمارة يسهل التحرير، ففلسطين أحوج للتحرير من العراق، الاحتلال الأمريكي إلى زوال، اليوم أو غداً، لأنهم لم يدّعوا أن العراق أرضهم وموطنهم، ورجال العراق يملكون القدرة على طردهم، لكن اليهود يدعون أن أرض فلسطين قدرهم وموطنهم المقدس، فخطر اليهود في فلسطين أعظم من خطر الأمريكان في العراق.


فالسلطة أو الإمارة كما تسمونها هي الغاية وليس الجهاد في سبيل الله، كما تدعون، فإن كان هدفكم جهاد الأعداء من الكفار والمنافقين، وجهادهم حق وواجب لأنهم صائلين على ديار المسلمين وليسوا مسالمين، فلماذا جعلتم من أجساد العراقيين الأبرياء هدفاً لمتفجراتكم، أرض العراق واسعة، وثلثيها قفار، تجوب فيها جيوش الاحتلال بعيدا عن العراقيين ليل نهار – كما شاهدنا عملية النقشبندية - فلم تتركون كل هذه المناطق الخالية من السكان وتعشقون التفجير في الأسواق المكتظة بالأبرياء، وجلهم من الفقراء المعدمين، وأنتم تعلمون جيداً أن الأغنياء والسراق والعملاء لا يتجولون في الأسواق الشعبية، فمواطن تواجدهم باذخة أنتم لم تستهدفوها مرّة واحدة. والذي يجاهد إما أن يكون في سبيل الله وإما أن يكون من أجل إمارة، فسبيل الله لا يشرك به سبيل أخر بالجهاد، فارجع لكتاب الله تعالى وسترى صدق قولي، وستجد أن الله تعالى قرن الجهاد دون غيره من العبادات بذاته العلية فقرنه بسبيله على الدوام، فهل أنتم طلاب جهاد في سبيل الله، أم أنتم طلاب إمارة تغطون بها على مشاعر النقص فيكم؟


أليس الاحتكام للعقل وحكمته هو الذي يفرض علينا أن نفكر بهذه الطريقة، وليس بالطريقة الساذجة التي تأقلمت عقولكم عليها أيها الأحبة؟


شيء آخر، حكم العقل ومنطقه يقول إن أي مقاومة لا تستند إلى حاضنة ترعاها وتتستر عليها، تمدها بأسباب القوة والمواصلة لا يمكن لها أن تعيش طويلا، بل ولا يمكن لها أن تحقق شيئاً من غاياتها حين تكون الموازنة بين المتصارعين غير متكافئة، فمقاومة كهذه تفتقد لحواضن اجتماعية تكون كجيش نظامي لا يملك العدة ولا العدد اللذان يؤهلانه لخوض صراع مع جيش يتفوق عليه بكل شيء، من هنا يتضح أن المقاومة الشعبية تستمد قوتها وشرعيتها من الشعب الذي تنبثق منه، كلما تعززت صلتها به كلما ازدادت قوة وصلابة وقدرة على مواجهة العدو ودحره، وكلما ضعفت صلتها به كلما فقدت جانباً يكافئ ذلك الضعف من قوتها ومصدر ديمومتها.


بدأ العدوان وحصل الاحتلال، وانتقل الرجال الأمناء على عهدهم وواجبهم من منتسبي الجيش العراقي والأجهزة الأمنية إلى صفوف الشعب لمواصلة التصدي للغزاة بإسلوب المقاومة الشعبية، لأنها الخيار الوحيد القادر على مواجهة القوة الغاشمة للأعداء والصمود بوجهها ومقارعتها حتى التحرير، أما الذين نكصوا على أعقابهم ممن خان وغدر وتخاذل فهذا ليس ميداناً لهم، فأبحث عنهم وستجدهم في ميادين أخرى كثيرة، ليس من بينها ميدان الجهاد ومقارعة الأعداء. والمؤكد أن المقاومة بدأت بصيغتها الشعبية متزامنة في كل مناطق العراق، شارك فيها سنة وشيعة وعرب وأكراد وتركمان ومن كل المكونات الأخرى، وحصدت على الفور تجاوباً شعبياً رغم الذهول و الإحباط الذي استحوذ على الشعب بعد تحول الجيش إلى صفوف الشعب ومقاومته الباسلة، نتيجة مشاعر الفخر بالقوات المسلحة العراقية والصورة الراسخة في أذهان الشعب عن مآثره البطولية طيلة تاريخه المجيد، فكانت الصورة الموحية بالهزيمة على غير حقيقتها قد أذهلته زمناً، لكنه مع تواصل المقاومة بصيغتها الجديدة استعاد وعيه وأفاق من محنته ليلتف حول المقاومين بحميمية وإعجاب كبيرين، وتفاعل معها بجدية وايجابية مميزة، لكن المنطقة الجنوبية سرعان ما تأثرت بوجود المليشيات الإجرامية التي أنشأتها إيران ورعتها وأمدتها بكل الوسائل والسبل من أجل أن تحقق للغزاة نوعاً من الأمن في المناطق الجنوبية كثمن متفق عليه لما ستحصل عليه دولة الفرس من مكاسب سياسية واقتصادية وجغرافية، فكان ذلك هو السبب الأساس في تعثر المقاومة في جنوب العراق، وليس ما أشاعته قوى العدوان من أن الشيعة قد حققوا مكسباً تاريخياً من خلال الاحتلال واستعادوا حقاً لهم في السلطة، فسكان الجنوب الشيعة لم يكونوا خارج السلطة قبل الاحتلال، بل هي سلطتهم، لكن ليس بصفتهم الطائفية المقيتة، بل بوطنيتهم وعروبتهم وإخلاصهم لهما.

 

لكن فرية الاحتلال تحولت على أيديكم إلى واقع لابد لسكان الجنوب العراقي من أن يتعايشون معه، ذلك أن استهدافكم المسعور لكل شيعي بغض النظر عن موقفه قد خلق لديهم قناعات زائفة أيضاً، تفيد أن أهل السنة يذبحون الشيعة من أجل السلطة، أو إنهم يقاتلون المحتل لأنه سلبهم إياها، فتحزب الرعاع والجهال ومرضى الشعور بالنقص والصغار إلى ما سعت قوى الاحتلال ومعها الفرس الشعوبيين لجعله الدافع المحرك لسلوك سكان الجنوب، فأنتقل مرض الطائفية الذي كان منزويا في نفوس العملاء والأراذل إلى صفوف الجهلة من أبناء الجنوب، فأوجد في نفوسهم على الفور مشاعر الاغتراب عن الوطن، فتنكر حينذاك البعض لوطنيتهم وتحزبوا خلف العملاء والجواسيس كرد فعل سلبي على فعل هو الآخر كان سلبيا، وهو كما قلنا استهدافكم للشيعة بلا تمييز.


فكان من نتائج ذلك أن تعطل جانب مهم من قدرة الشعب عن مواجهة الاحتلال والتصدي لمشاريعه، فيما خلق أرضية خصبة تنبت الخبائث، فالذين لا يملكون في وعيهم أكثر من البحث عما يوفر لهم متطلبات الحياة البهيمية قد وجدوا في هذا الحاجز الذي تعاون غزاة العراق وأمراء دولته الإسلامية على تشييده فرصة ذهبية لتحقيق مطامعهم الدنيئة، فتحولوا إلى عملاء وخونة ومأجورين وسراق لثروات الشعب وقوته، وما كان بمقدورهم فعل ذلك لو أن المقاومة استمرت في المناطق الجنوبية.


وقد قال بعضكم لسنا نحن من استهدف المواطنين الأبرياء، وقد يكون قول ذلك البعض صادقاً، فنحن لا نجزم أن كل من انتسب للقاعدة في العراق استهواه قتل العراقيين الأبرياء بغير ذنب أو جريرة، كما لا نجزم أنهم قلة أو كثرة، فالتعميم مهلكة لصاحبه، لكن أما كان بمقدور هذه المجموعة، كبر حجمها أم صغر، أن تتخذ موقفاً صائباً وحاسماً مما يحدث، وتعمل على تصحيح مسار من يحسب عليهم أو التبرؤ من أفعالهم والانفصال عنهم، وإشهار ذلك بكل الوسائل والسبل، فلو حدث مثل ذلك لما تأثر الموقع الجهادي المقاوم في العراق، كما زعموا، بل لتعزز موقعه في المجتمع العراقي كثيراً، فالعداء الذي نشأ بين العراقيين تجاه تنظيم القاعدة لم يكن مردّه المنهج الذي يعتمدون عليه، بل كان السلوك الإجرامي المستهتر بالحرمان كما يفعل الغزاة هو الدافع والسبب. ولأن المواطن يصعب عليه التفريق بين من ينتسب للقاعدة ومن ينتسب لغيرها من فصائل مقاومة فإنه لجأ إلى التعميم، فحقق للغزاة ومن تحالف معهم بعض غاياتهم الثمينة، حين ساهم معهم في تشويه صورة المقاومة عموما والنيل من سمعتها.


ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل لقد ساهمت ممارساتكم المتخلفة والمشوهة لحقيقة العقيدة الإسلامية ومنهجها العظيم إلى انتهاج البعض من سكان الوسط والشمال ممن ينتسبون لأهل السنة ذات المسلك الذي دُفِع إليه أبناء الجنوب من قبل، فساروا على منهجهم، وأفقدوا المقاومة حواضن أخرى، بما سمي بالصحوات ومجالس الإسناد، حين تحولت من ظهير لكم إلى خناجر للغدر بكم وبغيركم، فأيهما بربكم أهم وأولى بالاعتبار الديني والإنساني قتل النفس بالشبهات وبغير ذنب أم تدخين السكائر؟ أيهما أهم إيقاف ترميل النساء أم إكثارهن" أيهما أوجب الذود عن المؤمنات المحجبات اللاتي يهتك الغزاة في كل يوم سترهن، أم قطع رؤوس السافرات؟ أيهما أولى بالردع ذلك الذي يطيل ثوبه أم الذي يكشف الثياب عن عورات المحارم أمهات المجاهدين وأخواتهم وزوجاتهم؟ أيهما أولى بالقصاص من أمام توبته مغفرة الله ورحمته والأمل به لم ينقطع، وهو غير صائل، أم الذي أركس نفسه ومن طاوعه في جهنم بكفرهم وطغيانهم وعدوانهم، ومن تلطخت أيديهم بدماء المسلمين المؤمنين بغير ذنب ولا جريرة؟ أما علمتم أن رسول الله لم يفرض سلوكاً بالإكراه والعنف، ولم يمنع سلوكاً جاهلياً مخالفاً للعقيدة الإسلامية بالعسف والتنكيل، بل فرضه بالمحبة والنصح والإرشاد والتوعية بالأسباب والدوافع والضرورات، ألم يقرأ أحدٌ منكم قول ربه تعالى وهو يخاطب نبيه: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (سورة النحل، الآية:125)؟؟ ألم تفقهوا قول الله تعالى: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (سورة آل عمران، الآية:159)؟ فما بالكم وقد وقعتم بالمسلمين الموحدين قتلاً وتنكيلاً لاعتبارات ما أنزل الله بها من سلطان؟ ألم تكونوا حملتم السلاح من أجل جهاد المحتل الكافر الساعي لطمس العقيدة الإسلامية وذبح حملة رسالتها؟ فلم إذن تركتم الغزاة الكفرة، بل وشاطرتموهم قتل العراقيين بلا رحمة ولا شفقة؟


ألم يعلمكم أحد من أمراء المؤمنين وخلفاء المسلمين في دولة العراق الإسلامية شيئاً صحيحاً من منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة والتوجيه والإصلاح؟ يبدو لي أنهم لم يفعلوا، لأن هوس بعضهم ممن تطرف بالسلطة التي اعتقدوا أنها ستشفيهم من أمراضهم النفسية قد شغلهم عن فعل ذلك، فلتنظر ماذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف كان يتعامل مع الناس، ولن نحدثكم عن صلته وسلوكه صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين، بل سنحدثكم عن تعامله مع الذين هم أكثر مقتاً من الذين تقتلونهم اليوم ممن فرطوا، عن المنافقين الذين فضحهم الله تعالى في كتابه الكريم نحدثكم، فهذا رأس النفاق عبدالله بن أبي بن ابي سلول، تشاجر أجير له مع أجير لعمر بن الخطاب على سقاء الإبل عند العودة من غزوة بني المصطلق عام 6 هـ فانتخى أحدهما بالمهاجرين فيما انتخى الآخر بالأنصار وكادت تحدث فتنة، فماذا قال ابن سلول المنافق؟ قال: "لأن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذّل" يقصد بقوله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين هم الأذلاء، لقد أراد في ذلك فتنة عظيمة وشرّ مستطير، فالإخراج بذل لا يكون إلا بسيف، كل هذا ينوي فعله بالمسلمين ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، ثم أنكر بعد ذلك أنه قال فكذب حين لم يجد من يصغي إليه بسبب حكمة المصطفى صلى الله عليه وسلم، لم يكذبه النبي، بل الله تعالى أكذبه وفضحه بالوحي بقوله تعالى: { يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} (سورة المنافقون، الآية:8) وقد طالبه بعض الصحابة أن يأمر بقتله على ما فعل، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلمه ورفقه وإرادته للإصلاح لم يفعل، وقال لابنه عبدالله حين طلب منه صلى الله عليه وسلم أن يكون هو قاتله إن كان يريد قتله" بل نترفق به، ونُحسن صحبته ما بقي معنا"، وعند ذلك حقق رسول الله صلى الله عليه وسلم هدفه دون أن يفرق الأمة، لأن الحكمة جعلت من الأنصار هم الذين يقفون بوجه نفاق ابن سلول ويردعونه، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه مذكرا إياه بطلب قتله " كيف ترى يا عمر، أما والله لو قتلته يوم قلت لي أقتله، لأرعدت له أُنفٌ، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته" وقد ترفق به حتى مات فصلى عليه ثم أقام على قبره حتى فُرِغ منه، رغم أنه مبتدع فرية الإفك على أم المؤمنين عائشة للتغطية على فعلته الشائنة تلك. فهل أنتم من منهج هذا النبي الكريم تنهلون حين تسترخصون أرواح المسلمين، وهم ليسوا كابن سلول رغم أخطائهم؟


فكم بائع للخضر قتلتموه لأنه كان يبيع الطماطة إلى جنب الخيار؟ وكم مجلس عزاء فجرتموه، فحتى وإن كان الذي قتلتموه يستحق القتل بشرع الله، فإنه لا يحل لكم قتل من جلس في مجلس العزاء عليه، وإلا فأين أنتم من حكم الله تعالى في الآية الكريمة: { وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (سورة الأنعام، الآية:164) فمجالس العزاء تجمع أقرباء وأصدقاء وجيران ومعارف يمارسون عرفا اجتماعيا قد لا يرتبط بأسباب القتل ومنهج المقتول، وكم من مسلم فقد روحه أو عاش ببعض جسمه بوشايات كاذبة أو باستعراض العضل أمام الضحايا، والعضل لا قيمة له إلا على حلبة الصراع.


ذلك وغيره مما قد أفرزه الركون إلى الوعي الزائف نتيجة اعتماد ظاهر الأشياء دون إعمالٍ لوظائف العقل وقدرته على استبصار الحقائق قبل الحكم عليها، وذلك الذي انزلق بأقدام فزلت عن مسارها، بنسبة لا يستهان بها من الشباب نحو التطرف والانحراف.


إن منهج التعميم هو واحد من إفرازات الرؤى السطحية للأشياء، فالتعميم منزلق لا يصل بصاحبه إلا إلى التطرف والانحراف، فأنت حين تذكر أمامك مفردة أمريكي فلا يتبادر إلى ذهنك إلا الكفر والتفسخ والفجور والطغيان والعدوان، لكن الحقيقة أن من الأمريكيين من هم مسلمين ومؤمنين، وأعدادهم ملايين وليس عشرات، كذلك حين كان يذكر السوفييت فلا يقفز أمام السامع المتطرف إلا الإلحاد، لكن الحقيقة أيضاً غير ذلك، فقد كان في الاتحاد السوفييتي ملايين من المسلمين، وبخاصة جمهوريات أسيا الوسطى، حافظوا على عقيدتهم ومارسوا شعارهم رغم كل المخاطر التي كانت تواجههم، وصمدوا بوجه الفكر الشيوعي سبعين عاماً ولم يستسلموا حتى فرّج الله عليهم شدتهم.


إن استيعاب هذا الواقع يستوجب على الأمة وطلائعها أن تضع منهج الحكمة والعقل في مقدمة أولوياتها، فإن انحرافاً في وعي الشباب وسلوكهم يكاد يقلب المعادلة المنصفة والصائبة التي كانت تحكم المجتمع، فقد كان المجتمع العراقي يستند إلى وسطيته في التفكير والسلوك بقاعدة واسعة تشكل الثقل الرئيس فيه، فيما لم تكن أطراف الانحراف بوجهيها إلا أشتات ضعيفة في تكوينها وتأثيرها، لكن المعادلة قد اختلت بعد الاحتلال، فالوسطية اليوم قد انحسر موقعها، فهي محاصرة تتأرجح بين طرفي السلبية، تتقاذفها الأهواء بدفع من نوايا النفوس المريضة وإرادة الاحتلال.


اليوم لا يعرف الرجال بالحكمة، لكن الحكمة صارت تعرف بالرجال، فلم يعد سلوك الرجال يعرض على مفاهيم وقيم المنطق والعقل ليتبين مدى صحتها، بل صارت تلك المفاهيم والقيم تعرض على سلوك الرجال، فما وافقه منها يقبل وما خالفه يرفض، وذلك لا يصح إلا مع الأنبياء والرسل، لكن التفرق عن الاعتصام بينابيع الرسالة المحمدية، والذهاب خلف غيره متتبعين آثارهم وجاعلين من سلوكهم وفكرهم فيصلاً تعرض عليه المفاهيم والسلوك، أضعف دور العقل اليوم وجعل التبعية في التفكير والسلوك، كلّ لمن تحزب له دون تمحيص وتبصر واستغلال لخصائص عقله، وتلك طامة كبرى.


ولا نعتقد أن أحد طرفي الانحراف يتقدم على الآخر في مخاطره، فعلى الرغم من أن التهور قد جلب على الشعب العراقي مآسي ومشاكل ستبقى آثارها تتفاعل لزمن ليس بالقصير، لكن التطرف باتجاه التفريط هو الآخر جلب من المآسي والآلام ما لا تحمد عقباها، ذلك أن هؤلاء انسلخوا من مجتمعهم وتاريخهم وقيمهم، وليس هذا فحسب بل يسعون لفرض قيم وأعراف لو امتلكت القدرة على التأثير فإنها ستقضي على الكيان الاجتماعي العراقي برمته، فكيف لعاقل أن يستوعب واقع صار يعلو فيه صوت يريد تغييب كيانه الروحي والمادي لصالح أطماع غيره، ممن لا حق له في هذا؟ أيعقل أن عراقي يمكن له أن يتخلى عن وطنيته ويستعيض عنها بولاء زائف لدولة أو جهة أخرى؟ وهو قد نشأ في واقع يقتل الأخ أخاه من أجل كلب لا يباع ولا يشترى؟ فالانحراف جعل من الكلب أعزّ وأحرى بطلب ثأره من الوطن والهوية والانتساب والمأوى والقيم.


معاهد العلم لم تعد تؤدي دورها في التربية والإصلاح والتنشئة السليمة ومحاصرة الانحراف في أضيق الحدود، كما كانت من قبل رغم كل سلبياتها والظروف الصعبة التي رافقتها بسبب العدوان والتآمر والحصار، فمع الإهمال الذي أصاب مؤسساتها بسبب الاجتهاد في اختيار الأولويات خلال الظروف غير الاعتيادية التي مرّ بها البلد، لكنها كانت تؤدي دورها المشهود، فاليوم، وفي ظل الاحتلال المجرم تحولت إلى أدوات للتبشير بمناهج الانحراف مع حرب شرسة، ترغم على خوضها، ضد القيم النبيلة التي كان المجتمع قد تسلح بها، كان لها فيما مضى دور فاعل في ترسيخها وتنميتها بين أوساط الشباب، وهي في أفضل حالاتها اليوم لا تتعدى أن تقدم للشباب تلقيناً لقيم بالية ليس لها وجود في منظومة السلوك الاجتماعي، إنما هي مجرد مقررات الهدف منها تحصيل الدرجات واجتياز المراحل الدراسية فحسب، وهي بالنتيجة لا تخلق قادة، لكنها تهيئ الشباب للولوج في أحد طرفي الانحراف إلا من رحم ربي.


ومدارس المجتمع المختلفة والمتعددة، المدنية منها والريفية أغلقت أبوابها، لأن قيم السلبية هي التي تتحكم اليوم في حركة المجتمع العراقي، وهي التي تحدد مساراته، لذلك تحول المجتمع من صفوف مدارسه العظيمة، التي كانت بمثابة منظومة الإشراف والمتابعة للواقع السلوكي، تعدل وتصحح، وحين تستفحل مفردة للانحراف يقف وقفته الصلبة بوجهها، تحول اليوم إلى خوض صراع من أجل الوجود، فالكيان الاجتماعي مستهدف بقيمه وثقافته الاجتماعية ومنظومتها السلوكية، مستهدف في هويته ووجوده، لذلك لا يتاح له أن يؤدي دور الرقيب اليوم في ظل الاحتلال البغيض.


والطلائع لا يسعها أن تمارس دورها كاملاً في هذا المجال أيضاً، لأن متطلبات مقاومة المحتل من أجل التحرير تفرض عليها أن تتجنب ممارسة ذلك الدور كاملاً، لأنه سيشغلها عن أداء جزء من واجبها الجهادي، ولأنه سيوقع من يمارسه في قبضة الغزاة وأدواتهم ويمنعه عن أداء دوره القتالي، فالذي يتحدث بالقيم النبيلة اليوم يعتبر بعثياً نشطاً وإن لم يكن منتمياً من قبل للبعث، والذي يتحدث عن الانحراف والسلبية وآثارها القاتلة يعتبر وفقاً لقانون الغزاة وأدواتهم معادياً يشهر بهم ويحرض على إرهابهم، والذي يحاول استنهاض روح المواطنة وشرف الانتماء قد تصل تهمته إلى حدّ أنه يعدّ لانقلاب بعثي.


المساجد هي الأخرى تعرضت للتغييب، فالمذهبية والطائفية استهلكت جانباً، والقتل والتنكيل استهلك جانباً آخر، حتى تحول ارتيادها إلى مجازفة وتهمة كبيرة وخطيرة، والأخطر من كل ذلك فإن المساجد أقحمت في مناهج التحزب السياسي المغطى بغطاء الدين والمذهبية، فتحولت كثير منها من دور للعبادة ومدارس للقيم النبيلة والسلوك القويم إلى بؤر للصراعات على المصالح الدنيوية المنحرفة، وبعضها تحول إلى مقرات للتعذيب والقتل، وبعضها انتقل من عبادة الله إلى السب والشتم والإفك والتكفير، وبذلك فقد افتقد أغلبها ذلك الدور الكبير التي كانت تنهض به قبل الغزو في غرس الإيمان وقيم الحق والخير والعدل في النفوس، وبخاصة بين الناشئة من خلال الدورات الإيمانية المنتظمة على مدار العام.


والعائلة أيضاً تخلفت كثيراً خلال عمر الاحتلال عن أداء دورها وواجبها تجاه أبنائها، فالعائلة مستلبة مغيبة بسبب ما حلّ بها من بلاء ووباء نتيجة الغزو، فهي ممتهنة في كرامتها، مستلبة الحقوق، تفتقد للأمان والأمن، اهتزت أمام الكثير منها قيم ومفاهيم وروابط الانتماء والشعور بالمسؤولية، فقد تعمد الغزاة وأدواتهم لإضعاف وطنية العراقي بكل ما أوتوا من قوة، وشوهوا أمامه صورة وطنه، فلم يعد يعتز بها كثيراً، لأنه قد لا يستوعب أن الذين يتصدرون اليوم لتلك الأفعال الشائنة من العملاء والجواسيس والخونة الأراذل لم يعودوا مواطنين، لأنهم باعوا وطنيتهم وتخلوا عنها لصالح مكاسبهم الدنيوية المنحرفة، فالمواطن الذي يعتز بوطنه لا يبيعه ولا يسلمه لمن لا حق له فيه، ولا يولي عليه من لا ينتسب إليه بالولاء، فقليل هم الذين يتحدثون مع أبنائهم اليوم عن الوطنية، فالصورة السوداء التي يقف ضمن إطارها الخونة لا توحي بشيء من الوطنية والمواطنة.


والإعلام لم يعد تربوياً ولا أخلاقياً، جلّه يفتقد للقيم والهوية، فالكل يتسابق على تزييف الحقائق والوعي، إعلام يروج للمتع الحيوانية المبتذلة، وغيره يروج لمناهج الفرقة والتطرف، حتى صار العربي يفتقد لبصيص الأمل في غدٍ أفضل، أغلبه ضالع في المؤامرة الكبرى على الأمة وعقيدتها، من لا تدعمه الامبريالية الصليبية والصهيونية والشعوبية الفارسية فإنه خاضع لإرادة الحكام الخونة، لا يستجيب إلا لمتطلبات مصالحهم وتبرير تهافتهم على الخضوع والركوع، ومن يغرد خارج السرب فهو محاصر لا يسعه أن يسمع صوته للشعب من فرط التشويش، فالإعلام اليوم ليس عوناً للمجتمع بل هو آفة من آفاته العديدة.


هذا واقع لا مفر منه، لكن شيئاً لا يستعصي على الإنسان حين يملك إرادته ويشحذ فكره ويرسخ إيمانه.

 

 

للإطلاع على مقالات الكاتب إضغط هنــا  
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الاثنين  / ١٧ جمـادي الاخر ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ٣١ / أيـــار / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور