موت بالخنق العمدي مع سبق الإصرار

 
 
شبكة المنصور
نزار السامرائي

ليست هي المرة الأولى التي يستهدف فيها المعتقلون والمحتجزون العراقيون لدى أجهزة الأمن الحكومية المختلفة بالموت اختناقا ، فقد سبق لوزارة الداخلية في حكومة إبراهيم الجعفري وعلى عهد باقر صولاغ أن اعترفت بوقوع ما أسمته بالخطأ الفادح بمقتل عشرات المحتجزين اختناقا أثناء نقلهم بصناديق محكمة الإغلاق أشبه ما تكون بصناديق نقل الأموال بين المصارف .


قبل أيام توفي سبعة محتجزين أثناء نقلهم من معسكر التاجي إلى سجن التسفيرات سيء الصيت في بغداد ، والمسافة بين الموقعين لا تزيد على ثلاثين كيلومترا في أعلى التقديرات ، فكيف حصلت الوفاة خلال هذه المسافة القصيرة لو لم تكن هناك خطة متعمدة للتخلص من جميع المعتقلين الذين يبلغ عددهم خمسة وستين عراقيا ألقي بهم في صندوق لا يستوعب إلا خمسة عشر شخصا وهل أن من نجا من الموت قد تعافى تماما أم سيصاب بإعاقة تشل الجهاز العصبي ؟ وأنا هنا لا أتحدث عن هذا افتراضا ، فقد عايشت حالة مماثلة تعرض لها أسرى عراقيون لدى السلطات الإيرانية خلال عقد التسعينات من القرن الماضي ، بعد إلقائهم وهم اثنا عشر أسيرا في زنزانة صندوقية محكمة الإغلاق في معسكر قمصر كاشان ، وبعد ليلة خانقة كاد الموت أن يخطف أرواحهم جميعا لولا تدخل العناية الإلهية ، ولكن بعضهم أصيب بإعاقة دائمية أثرت على قدرته على الحركة ، فقد أدى انعدام الأوكسجين إلى إحداث خلل فادح في وظائف الدماغ ، وانعكس على آلية عمل الأعضاء ، ويبدو ودون أدني تردد أن ما جرى هذه الأيام وفي وزارة صولاغ وما أعقبها ، هو استنساخ لما جرى في قمصر كاشان ، تماما كما يمكن الافتراض أن عمليات التعذيب التي تشهدها السجون السرية والعلنية التابعة لحكومة الاحتلال الرابعة هي تطبيقات لدروس وخبرات تكونت في معسكرا الأسر الإيرانية .


فإذا كانت داخلية الجعفري فد عزت سبب الاختناق حينذاك إلى جهل العاملين على السيارات الصندوقية بكيفية التعامل مع أبوابها ونوافذها ، لأنها صناديق مستوردة حديثا ، ومن دخل دوراتها التدريبية قد أخفق في الوصول إلى حد اكتساب الخبرة الفنية المطلوبة في منع خنق الكائنات الحية التي تنقل فيها ، فهل ما زال السبب نفسه قائما أم أن الشرطة المحلية الجديدة التي تدربها أكبر أجهزة الشرطة في العالم وأكثرها تطورا ولها خبرات بوليسية متنوعة ، قد عجزت عن الارتقاء بمستوى شرطتنا الجديدة في الألفية الثالثة ؟ معنى ذلك أننا بإزاء قضية ترتبط بسمعة أفراد هذه الشرطة وينبغي أن يؤكدوا أنهم لا يجهلون استخدام سيارات نقل المعتقلين بعد أكثر من خمس سنوات من استيرادها ، خاصة أن أعداد هذه السيارات تفوق أعداد سيارات نقل الأغنام .


لا أعرف هل كان من أمر بنقل كائنات حية ينطبق عليها وصف الإنسان بما لديه من حقوق ثبتها القرآن الكريم كان يمكن أن يفعل ذلك مع عشر نعاج تعود ملكيتها له وينقلها بهذه الطريقة ؟ حينها ماذا لو علمت بذلك جمعيات الرفق بالحيوان ؟ هل كانت ستسكت أم أنها ستنظم ضدها حملات وفعاليات وتظاهرات شجب واستنكار واسعة النطاق ؟


هناك تساؤل ملح آخر يرتبط بدور الشركة المنتجة لهذه السيارات الصندوقية والدول التي تنتمي إليها ، ما هي المسؤولية الأخلاقية والقانونية التي ستترتب عليهما في حال رفع ذوو الضحايا دعاوى قضائية تطالب بملاحقة المتسببين بهذه الفضيحة السياسية لبلد جند كل أمواله للإنفاق على أجهزة القتل والتعذيب ، وعلى الرغم من مرور أكثر من سبع سنوات لم تتمكن الحكومة المشغولة بكل شيء إلا بما يريد المواطن ، فأن المليارات من مداخيل النفط لا يعرف العراقي أين تذهب وهل سيأتي اليوم الذي تخصص فيه للحياة بدلا من القتل ، وللبناء بدلا من التهديم ؟


وهل يعرف الأمريكيون الذين غزت قواتهم العراق أين يقع هذا البلد ؟ وما هي حصيلة سبع سنوات من الاحتلال ؟ ولماذا تجند الولايات المتحدة كل ما لديها من طاقة لإلقاء المزيد من مظلات الحماية لجناة معروفين بسيماهم وبلحن القول ، ولماذا تتستر على جرائم ترتكب خرقا لحقوق الإنسان في العراق هي أكبر مليون مرة مما يرتكب في مناطق أخرى تصدر وزارة الخارجية الأمريكية تقريرا سنويا عن أوضاع حقوق الإنسان فيها ؟


المعتقلون في السجون السرية والذين يتعرضون للتعذيب بكل الوسائل القديمة والمستحدثة ، كلهم معتقلون على الشبهة وبفعل المخبر السري ، ومع أن كل هذه الفضائح التي كان يمكن أن تهز الدنيا لو وقعت في بلد غير العراق ، كانت ضد معتقلين أبرياء ، فإن ضمير العالم يحتاج على ما يبدو إلى هزة قوية ليستيقظ من رقدة الأبدية ، ولما كان العراقيون على مر التاريخ سباقين في تقديم كل جديد للإنسانية ، فها هم اليوم يقدمون قرابين من طراز جديد ، ليس ذبحا على الطريقة الإسلامية وإنما خنقا على الطريقة الأمريكية بغاز ثاني أوكسيد الكربون ، وربما كان عادم سيارة النقل الصندوقية ينفث دخانه من أول أوكسيد الكربون إلى داخل غرفة ظنها البعض فرصة للخلاص ، وإذا بها أقصر طريق إلى السماء .

 

 

للإطلاع على مقالات الكاتب إضغط هنــا  
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الاربعاء  / ١٢ جمـادي الاخر ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ٢٦أيـــار / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور