شبكة ذي قار
عـاجـل










منذ إنتصار الثورة التونسية وهروب الدكتاتور بن على في جنح الظلام تمنّى كلّ واحد منّا أن تكون جلّ ايامنا اللاحقة ربيعا. بعد أن قضينا في ظل أنظمة القمع والفساد والهيمنة العائلية عقودا من الزمن في شتاء شديدة البرودة , سماؤه ملبّّدة بغيوم الخوف والرعب والترقّب وانتظار المجهول. وكاد الكثير منا أن يطير فرحا وإبتهاجا بعد أن بدأت أشعة شمس الحرية , الخجولة نوع ما والغير معتادة على الشروق فوق أرض العرب , تداعب قلوبنا وعواطفنا التي أوشك الجفاف أن يحوّلها الى حجر أصم. وإمتدّت نظراتنا المتلهّفة الى أي تغيير في أي بلد عربي , الى ما هو أبعد من هذه الحدود أو تلك. وأدركنا أن ساعة الخلاص من الأنظمة الفاسدة المستبدة الجائرة , قد إقتربت.


لكن ليس كلّ ما يتمنّاه المرء يدركه. فسرعان ما تلبّدت السماء بشتى أنواع الغيوم , الطائفية والمذهبية والقبلية والجهوية. وإشتدّت رياح "الثورة" المضادّة في أكثر من بقعة , ترافقها عادة زخّات مطر سلفي أو إخواني أو قبطي , كما في مصر مثل , أو هطول أمطار غزيرة على شكل قنابل وصواريخ ورصاص"ثوري" في شمال الوطن العربي. يقابلها في نفس الوقت ضغط أرضي "حكومي" شديد بالدبابات وراجمات الصواريخ وغيرها. الى درجة لم تعد تنفع فيها"شمسية"مظلّة أو مطرية , ولا حتى الاحتماء تحت خيمة حلف الناتو السميكة جدا. فالجميع وجدوا أنفسهم شبه عُراة , لا حول ولا قوّة لهم , وسط عواصف وزوابع حرب إختلط فيها الحابل بالنابل.


كل هذا يحدث لأن خبراء الأنواء الجويّة في واشنطن وتل أبيب وأوروبا وطهران أيض , لم يرق لهم رؤية سماء العرب صافية ولو لبضعة أيام. ووفقا لقرائتهم لأسرارالطقس "السياسي" ومعرفتهم بتغيّر فصول الحكام والأنظمة , قرّروا أن يكون ربيع العرب أكثر سوادا من شتاء دامس الظلام , مغبّر الهواء ومليء بالمفاجآت الغير سارة. وآخذت الرياح العكسية"المضادة" تهب من تونس مخلّفة وراءها عددا من الضحاي , مع إنخفاض تدريجي في منسوب الثقة الشعبية في بعض الأحزاب التي إنتشرت إنتشار النار في هشيم المجتمع. ثمّ بدأت مرحلة الهرولة والجري السريع والقفز العالي , بل حتى القفز بالزانة , نحو كراسي السلطة والفوز بالجوائز الكبرى.


أما ألأحوال الجويّة في المشرق العربي , كمصر على سبيل المثال , فلا يبدو فيها أن لربيعنا طعم المواسم الطبيعية الزاهية , حيث النور والزهور والخضرة النضرة في كل مكان , وحيث إبتسامات الصبايا وقهقهات الأطفال وهمس العشاق وهم يتبادلون أطراف أحاديث شبه سرّية , وكأنهم يخشون من رحيق الأزهار أن يستمع الى دقات قلوبهم. فما ينتهي يوم "سلفي"ممطر في مصر حتى تبدأ رياح "إخوانية"عاتية ترافقها رعود من التصريحات التي يرتجف لها جسد وعقل ووجدان الأنسان من شدّة غرابتها.


وكثيرا ما تسبق الأمطار والرياح الشديدة , طبعا سياسية الاتجاه والكثافة , غيوم "قبطية"داكنة وغير معروفة النتائج , بينما يجهد "المجلس العسكري" الحاكم هناك في التقليل من الأضرار معتمدا على ما لديه من وسائل وقائية ما زالت فعّالة الى حدّ ما. كوطنية هذا المجلس وإلتفاف الشعب حوله وموقفه الذي ما زال حتى هذه اللحظة محايد , وغير ذلك.


بيد أن "الربيع العربي" لم يعلن بعد عن مجيئه في الخليج العربي. لأن أصحاب الشأن هناك متعوّدون سياسيا على ما يبدو على فصل الخريف , وقد تكيّفوا بشكل تام خصوصا وأنهم تفنّنوا في دفع أية سحابة مكفهّرة مشؤومة عن سمائهم الى ما وراء الحدود , الى دول الجوار تحديد , كسوريا واليمن ولبنان. تتقدّمهم دولة "الجزيرة"العظمى وكأنها في حرب كونية , وخلفها أطنان من الدولارات التي تُوزّع لا على التعيين , الى ثوار هنا وخونة هناك ومعارضين في مكان ما وجهاديين في بقعة آخرى وجواسيس أجانب في بلد عربي آخر. ولم يزل الطقس في خليج النفط العربي , رغم إختلاط ربيع الثورات بخريف الدولارات في بعض الأحيان , معتدل للغاية ومقبول نسبيا من قبل سكان المنطقة.


وفي خضم هذه الأجواء التي بدأ فيها معدل التفاؤل بالانخفاض , رغم إعتراض البعض على هذا الكلام , لدى قطاعات واسعة من الشعوب العربية , ما زالت أمريكا وخلفها أروربا "المتحضرة" تعد السيناريو الدموي تلو الآخر. وجميعها سوف تنفّذ وتُطبق على أرض وأجساد العرب , حقل التجارب الجهنمية المفضّل لدى دولة العام سام , بحجج وذرائع مختلفة , الديمقراطية والحرية والمساواة أبعد ما تكون عن الواقع والحقيقة. لكنها تجد آذانا صاغية وأفواها فاغرة من قبل الكثير منّا. مع إدراكنا العميق بأن أمريكا سوف تستمر في الضحك على ذقوننا المتآكلة.

 

أما نحن فلم نجد في المقابل ردّا أفضل سوى الضحك على ذقون ولحى بعضنا البعض.


mkhalaf@alice.it

 

 





الاربعاء١٣ رجـــب ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ١٥ / حــزيــران / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مكتب الثقافة والإعلام القومي - لقاءُ القُوى الوَطَنيّة والقَوميّة التَقدُّميّة الديمُقراطِيّة ضَرورة حَتميّة للخَلاص مِن حالَةِ الضَعفِ العَرَبي د. عامر الدليمي في ظل الاستهداف المنقطع النظير الذي تتعرض له أمتنا العربية في أغلب أقطارها، وفي ظل غياب أية حدود أو سقف للبشاعة التي يتم فيها تنفيذ حلقات المؤامرة، وليس آخرها محرقة رفح، والمجزرة البشعة التي يتعرض لها شعبنا العربي في فلسطين، والتي وصلت إلى إحراق الخيام بقاطنيها حيث تم استهداف النازحين قسرًا شمال غرب رفح. تلك المجزرة التي خلّفت عشرات الشهداء الذين تحولت أجسادهم إلى أشلاء، بالإضافة إلى عشرات الجرحى معظمهم من الأطفال والنساء، مع استهداف الاحتلال الصهيوني للمنظومة الصحية وإخراجها من الخدمة، كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم أجمع العاجز عن كبح جماح جرائم العدو الصهيوني. في ظل هذا الواقع المأساوي، وعجز الأنظمة العربية عن وقف عجلة التدهور وبشاعته، يصبح من أعلى الأولويات والواجبات الحتمية، أن تلتقط القوى السياسية الوطنية والقومية زمام المبادرة، نحو بلورة مشروع يرقى إلى مستوى التحديات الوجودية الجسيمة التي تستهدف الأمة في وجودها. ويتقدم تلك الأولويات فهم الواقع الذي تمرُ به الأمة العربية في هذه الظروف وتحليلها بقدرٍ عالٍ من المسؤولية الوطنية والقومية والوقوف بواقعية وموضوعية على أسباب الانكسارات والتراجعات والاستسلام للقوى المعادية، حيث يتقدم تلك الأسباب الانقسام والتشظي العربي بسبب تناقضات ثانوية تاركين التحديات الأساسية والمصيرية تحرق الأمة وتنهي هويتها ووجودها. وفي مقدمة متطلبات تحقيق ذلك، والذي يعد من الضرورة القومية الحاسمة أن تكون هناك نظرة وفعل حقيقي جاد لتجديد الخطاب القومي العربي وتحديث مشروعه النهضوي التحرري التقدمي. ومن هنا فإن لقاء القوى السياسية المخلصة للوطن والأمة العربية، والعمل ضمن قواعد عمل مشتركة للتوصل إلى مشروع يمكِّن الأمة من مواجهة التحديات الوجودية الجسيمة التي تتعرض لها، ويعيد لها كرامتها، ويؤكد بأنها أمة جديرة بالحياة، من خلال إيجاد تفاهمات سياسية على قاعدة جماهيرية تكون أساساً لقوتها، وتستطيع من خلال ذلك وغيره التخلص من الضعف والتخلف والتقهقر الذي أصابها. إن ذلك من شأنه أن يرسم الخطوات الأولى التي تخطوها القوى الوطنية والقومية لقيادة الأمة نحو مرحلة جديدة لتكون أمة مجاهدة تسعى نحو التثوير والتنوير والتغيير والتقدم بكل جوانبه. كما وتشكِّل أساساً لإطلاق الحريات الفكرية والسياسية التي تعد الدعامة الرئيسية لمجتمع حضاري جديد، وتحقيق نهضة عروبية تقدمية ديمقراطية في الساحة السياسية كما في الساحة الفكرية. إن كل ذلك يقتضي تجاوز الحالات التي تعرضت لها من مناكفات وخصومات بينية أوصلتها إلى الاحتراب الفعلي فأضعفت نفسها، وجعلت القوى المعادية تتحكم بمصيرها. وليس أدل على ذلك ما وصلت إليه بعض الأنظمة العربية في الاستسلام والضعف أمام العدو الصهيوني، وتمدد استعماري للمشروع الفارسي في أقطار أمتنا العربية بدءاً من المشرق واندفاعاً نحو أقطارها في شمال افريقيا. إن الضرورة الوجودية والحتمية في تاريخنا الحالي تقتضي عودة التيار القومي العربي التحرري والمنظمات القومية لممارسة دورها الفعلي في الساحة العربية بقوة وثقة عالية، متحصِّنة بالإيمان المطلق بقدرها، وبمسؤوليتها التاريخية في قيادة الأمة لتحقيق أمل الجماهير في خلاصها من الاستعباد والاستبداد والهزيمة والتشظّي. ومن أولويات هذه المهمة النضالية الكبيرة هي أن ينهض المثقفون والمفكرون والكتاب العرب الذين يؤمنون برسالة الأمة كرسالة إنسانية خالدة لممارسة دورهم الريادي في بلورة الطموحات المأمولة، وتحديد معالم الطريق العملية والواقعية لتحقيقها، بعيداً عن الإنشاء أو العواطف أو التنظير العقيم. على أن مثل هذا التفاعل وتلاقح الأفكار يتطلب من الجميع العمل من أجل هذا المشروع بروح ديمقراطية متجددة، كشرط أساسي لنجاحه كي يعيد للأمة العربية مجدها وكرامتها وحقها في الحياة.
مواضيع الكاتب محمد العماري نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة
مكتب الثقافة والإعلام القومي - لقاءُ القُوى الوَطَنيّة والقَوميّة التَقدُّميّة الديمُقراطِيّة ضَرورة حَتميّة للخَلاص مِن حالَةِ الضَعفِ العَرَبي د. عامر الدليمي في ظل الاستهداف المنقطع النظير الذي تتعرض له أمتنا العربية في أغلب أقطارها، وفي ظل غياب أية حدود أو سقف للبشاعة التي يتم فيها تنفيذ حلقات المؤامرة، وليس آخرها محرقة رفح، والمجزرة البشعة التي يتعرض لها شعبنا العربي في فلسطين، والتي وصلت إلى إحراق الخيام بقاطنيها حيث تم استهداف النازحين قسرًا شمال غرب رفح. تلك المجزرة التي خلّفت عشرات الشهداء الذين تحولت أجسادهم إلى أشلاء، بالإضافة إلى عشرات الجرحى معظمهم من الأطفال والنساء، مع استهداف الاحتلال الصهيوني للمنظومة الصحية وإخراجها من الخدمة، كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم أجمع العاجز عن كبح جماح جرائم العدو الصهيوني. في ظل هذا الواقع المأساوي، وعجز الأنظمة العربية عن وقف عجلة التدهور وبشاعته، يصبح من أعلى الأولويات والواجبات الحتمية، أن تلتقط القوى السياسية الوطنية والقومية زمام المبادرة، نحو بلورة مشروع يرقى إلى مستوى التحديات الوجودية الجسيمة التي تستهدف الأمة في وجودها. ويتقدم تلك الأولويات فهم الواقع الذي تمرُ به الأمة العربية في هذه الظروف وتحليلها بقدرٍ عالٍ من المسؤولية الوطنية والقومية والوقوف بواقعية وموضوعية على أسباب الانكسارات والتراجعات والاستسلام للقوى المعادية، حيث يتقدم تلك الأسباب الانقسام والتشظي العربي بسبب تناقضات ثانوية تاركين التحديات الأساسية والمصيرية تحرق الأمة وتنهي هويتها ووجودها. وفي مقدمة متطلبات تحقيق ذلك، والذي يعد من الضرورة القومية الحاسمة أن تكون هناك نظرة وفعل حقيقي جاد لتجديد الخطاب القومي العربي وتحديث مشروعه النهضوي التحرري التقدمي. ومن هنا فإن لقاء القوى السياسية المخلصة للوطن والأمة العربية، والعمل ضمن قواعد عمل مشتركة للتوصل إلى مشروع يمكِّن الأمة من مواجهة التحديات الوجودية الجسيمة التي تتعرض لها، ويعيد لها كرامتها، ويؤكد بأنها أمة جديرة بالحياة، من خلال إيجاد تفاهمات سياسية على قاعدة جماهيرية تكون أساساً لقوتها، وتستطيع من خلال ذلك وغيره التخلص من الضعف والتخلف والتقهقر الذي أصابها. إن ذلك من شأنه أن يرسم الخطوات الأولى التي تخطوها القوى الوطنية والقومية لقيادة الأمة نحو مرحلة جديدة لتكون أمة مجاهدة تسعى نحو التثوير والتنوير والتغيير والتقدم بكل جوانبه. كما وتشكِّل أساساً لإطلاق الحريات الفكرية والسياسية التي تعد الدعامة الرئيسية لمجتمع حضاري جديد، وتحقيق نهضة عروبية تقدمية ديمقراطية في الساحة السياسية كما في الساحة الفكرية. إن كل ذلك يقتضي تجاوز الحالات التي تعرضت لها من مناكفات وخصومات بينية أوصلتها إلى الاحتراب الفعلي فأضعفت نفسها، وجعلت القوى المعادية تتحكم بمصيرها. وليس أدل على ذلك ما وصلت إليه بعض الأنظمة العربية في الاستسلام والضعف أمام العدو الصهيوني، وتمدد استعماري للمشروع الفارسي في أقطار أمتنا العربية بدءاً من المشرق واندفاعاً نحو أقطارها في شمال افريقيا. إن الضرورة الوجودية والحتمية في تاريخنا الحالي تقتضي عودة التيار القومي العربي التحرري والمنظمات القومية لممارسة دورها الفعلي في الساحة العربية بقوة وثقة عالية، متحصِّنة بالإيمان المطلق بقدرها، وبمسؤوليتها التاريخية في قيادة الأمة لتحقيق أمل الجماهير في خلاصها من الاستعباد والاستبداد والهزيمة والتشظّي. ومن أولويات هذه المهمة النضالية الكبيرة هي أن ينهض المثقفون والمفكرون والكتاب العرب الذين يؤمنون برسالة الأمة كرسالة إنسانية خالدة لممارسة دورهم الريادي في بلورة الطموحات المأمولة، وتحديد معالم الطريق العملية والواقعية لتحقيقها، بعيداً عن الإنشاء أو العواطف أو التنظير العقيم. على أن مثل هذا التفاعل وتلاقح الأفكار يتطلب من الجميع العمل من أجل هذا المشروع بروح ديمقراطية متجددة، كشرط أساسي لنجاحه كي يعيد للأمة العربية مجدها وكرامتها وحقها في الحياة.