شبكة ذي قار
عـاجـل










منذ ايام والحديث عن الصراع بين نوري المالكي واياد علاوي، او بين القائمة العراقية ودولة القانون لم يتوقف ساعة واحدة، ليس في اوساط الطبقة السياسية او المعنيين بالشان العراقي فحسب، وانما شمل عامة الناس. اما التوقعات حول مصير هذا الصراع وما سينتهي اليه من نتائج وانعكاساتها على مجمل العملية السياسية، وبالتالي على معسكر الاحتلال، فقد اتسعت مساحتها وارتفع سقفها لتصل حد كبير من الاوهام والخيال. فمنهم من وصفه بانه سيطيح بحكومة المالكي وحزبه جراء البيان الناري الذي اصدره علاوي، والذي يذكرنا بالبيان رقم واحد في الانقلابات العسكرية، حيث توعد فيه "باسم الشعب" بالقصاص العادل من المالكي وحزبه، كونهم خفافيش ظلام خربوا البلاد والعباد وفسحوا المجال لايران بالهيمنة على العراق ومقدراته، ومنهم من ذهب عكس ذلك تماما واعتبره بمثابة بداية النهاية لعلاوي جراء تهديدات المالكي باعتقاله وتقديمه للمحاكمة بتهمة الارهاب والتامر على الوطن، بل ان احدهم تخيل علاوي وهو معلقا في ساحة التحرير عن قريب. ومنهم من ذهب ابعد من ذلك وتوقع بانه سيؤدي الى انهاء العمليةالسياسية والاحتلال معا. ولا زال الحديث والجدال مستمرا وبشدة حتى كتابة هذه السطور، بل اصبح هذا الموضوع الشغل الشاغل للعراقيين او الموضوع الاكثر اهمية من بقية المواضيع الاخرى. في حين ان هذا ليس سوى صراع مفبرك وصناعة امريكية مستهلكة لها اهداف واغراض محددة.


اصل الحكاية، ان المحتل عادة ما يلجا الى استحضار هذه الوسيلة او الصناعة الجاهزة كلما واجه مشكلة او وقع في مازق او تزايد حجم الاستياء الشعبي ضده، مثلما يلجا اليها كلما اراد تحقيق هدف يصعب تحقيقه، او تمريره في جنح الظلام، اي من دون مواجهة شعبية محدودة او شامله. وذلك لكونها اداة تشغل الناس وتحرف الانظار وتقلل الاهتمام بالشؤون الاخرى حتى اذا كانت مهمة. ويزداد تاثير هذه الوسيلة في الحالات التي يجد المرء نفسه غير قادر على التاثير، فيرى في مثل هذه الصراعات الامل الذي يبحث عنه. في حين تستخدم هذه الوسيلة ايضا في عملية الخداع والتضليل لاقناع الناس بصحة او مصداقية ما يقوم به المحتل من خطوات لتكريس الاحتلال، مثل بناء النظام الديمقراطي، حيث الصراع هنا بين الكتل والاحزاب داخل البرلمان دليل قاطع، كما يدعون، على الديمقراطية التي ينعم بها الشعب العراقي بعد سقوط الديكتاتورية!!!!.، او ان الصراع ما بين موافق ومعارض لعقد هذه الاتفاقية او تلك المعاهدة، دليل على استقلال القرار السياسي العراقي. وقد نجد نموذجا عنه ما يحدث الان حول تمديد فترة وجود قوات الاحتلال، او حول مسالة التعويضات. في حين ان مثل هذا الامر عادة ما يتم حسمه، حين يدرك المحتل الصباح ويسكت سكنة المنطقة الخضراء عن الكلام المباح. ولكي لا نطيل اكثر فان الصراع الذي يدور بين علاوي والمالكي يدخل ضمن هذا النطاق. ودعك من الضجة المثارة حول هذا الامر وما رافقه من اوهام وخيالات واسعة كالتي تحدثنا عنها قبل قليل. ولا نجازف بالقول بان هذا الصراع سينتهي عما قريب، كما كان يحدث في السابق، بلقاء حار او دافيء بين علاوي والمالكي وتذهب كل هذه التهديدات المتبادلة مع الريح، اي ستكون نهاية هذا الصراع نهاية سعيدة كما يحدث في الافلام المصرية ايام زمان، ويعود الجميع الى مقاعدهم في مدرسة المحتل الامريكي كتلاميذ نجباء.


ثمة امر اخر ذا اهمية متعلق بهذه المسالة لا يجوز اغفاله. فاختيار المحتل لعلاوي والمالكي لاداء هذه المهمة كان مقصودا ومدروسا، كونهما الاكثر قدرة على اداء المهمة بنجاح، حسب وجهة نظر المحتل، لما يتمتعان به من ثقل كبير داخل العملية السياسية، او كونهما يشكلان، كما يقال، قطبي الرحى لهذه العملية السيئة الصيت والسمعة. وبالتالي فان الصراع بينهما يكون اكثر اثارة من بقية الصراعات التي تدور بين الاخرين، او حتى بين الكتل والطوائف، ولتحقيق مزيد من النجاح وتشجيع الناس على الاشتراك في هذا الصراع ما بين مؤيد لهذا الطرف او ذاك، اضفى المحتل زورا الطابع السياسي والوطني على هذا الصراع، حيث مل الناس الصراعات التي تدور حول المكاسب او المناصب والوزارات. بل ان المحتل دخل في هذا المجال بطرق غير مباشرة لكسب مزيد من اهتمام والاثارة. فعلى سبيل المثال لا الحصر سرب المحتل اخبارا حول قرب مجيء علاوي الى السلطة عبر انقلاب عسكري برعاية امريكية، في حين سرب في نفس الوقت اخبار عن هروب علاوي خارج البلاد خوفا من التصفية الجسدية، مثلما اشاع اخبار متناقضة ايضا عن نوري المالكي وحكومته.


هذا الكلام لا يدخل في خانة نظرية المؤامرة التي يلجا الى ترديدها العاجزون عن الرد او الدفاع عن وجهة نظرهم، فهناك من الاسباب والدواعي ما يعشي البصر وتدفع الامريكان الى ولوج هذا الطريق، رغم علمهم بصعوبة نجاحه جراء ادراك العراقيون لما ينطوي عليه من خداع وتضليل، وجراء خبرتهم الواسعة في اساليب من هذا النوع. حيث المحتل، وفي الاونة الاخيرة على وجه التحديد، قد واجه حالة من الغليان في الشارع العراقي تمثلت في الانتفاضة المستمرة التي تشهد فصولها ولم تزل تشهدها مدن العراق من شماله الى جنوبه ضد الظلم والاستبداد وتردي الخدمات، ثم تطورها الى ثورة ذات طابع سياسي وطني شامل تعدى المطالب الحياتية الى المطالبة برحيل الاحتلال والحكومة معا. والمحتل يدرك بعمق خطورة هذا الامر كونه لا يقاس بحجم المتظاهرين العددي، وانما يقيسه بمعياره السياسي والوطني،من خلال الشعارات التي عبرت عن رفض العراقيين للاحتلال وعمليته السياسية من جهة، ومن جهة اخرى اكدت على وحدة العراق كدولة ومجتمع، وكل ذلك ترافق مع تصاعد عمليات المقاومة المسلحة بشكل فعال ومؤثر جدا، وفي اغلب المدن العراقية ومنها مدن الجنوب، بعدما ظن المحتل بان المقاومة انتهت او في طريقها للزوال.


وقد ازدادت حالة الغليان هذه بعد اعلان المحتل قراره ببقاء قواته في العراق الى ما بعد نهاية هذا العام، دون تحديد فترة زمنية لرحيلها، في حين كان من المفترض انسحاب جميع القوات المحتلة في نهاية هذا العام وفق الاتفاقية الامنية المشؤومة التي كتبها بنفسه وليس غيره. وهذا يعني سقوط اخر المراهنات على انهاء الاحتلال عبر الاتفاقيات او المعاهدات مهما كانت مجحفة او مذلة. ومعلوم بانه لا يوجد شعب في كل انحاء المعمورة يقبل بالاحتلال مهما كان شكله او نوعه، الامر الذي زاد طين الاحتلال بله واصبح من الصعب عليه او على حكومته الخامسة ترويض الناس والاستسلام للامر الواقع او القبول به. خاصة وان كل وسائل القمع والاضطهاد لم تثن العراقيين عن عزمهم على مواصلة الكفاح ضد المحتل وعمليته السياسية.


اما الامر الاخر الذي دعا المحتل للاسراع في افتعال هذا الصراع والايعاز لعتاولته بالاستمرار فيه حتى ياذن لهم بالانصراف عنه، فينحصر في مسالة التعويضات وطريقة المطالبة بها. حيث اخذت صيغة الامر وكأن العراق اصبح ضيعة امريكية واصبح اهله عبيدا للسيد الامريكي. حيث طالب وفد الكونغرس الامريكي الذي زار العراق لهذا الغرض، طالب نوري المالكي علنا، مرة من خلال الاجتماع به واخرى من خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده الوفد في مبنى السفارة الامريكية "بدفع تعويضات خسائر الجيش الأميركي في العراق، جراء عدم قدرة الحكومة الأميركية على تحمل مبالغ طائلة في ظل الوضع الاقتصادي الحرج" الامر الذي ولد غضب عارم لدى العراقيين في كل المدن ضد هذا المطلب، خصوصا وان العراقيين اعتبروا هذا المطلب امتدادا لقرار مجلس الوزراء الذي اتخذه في منتصف أيلول الماضي 2010، والذي يقضي "بتعويض الأميركيين المتضررين من النظام السابق بنحو 400 مليون دولار"، اضافة الى تصويت مجلس النواب خلال جلسته الـ60 التي عقدت، مطلع أيار الماضي بالأغلبية على "تصديق اتفاقية تسوية المطالبات بين حكومة جمهورية العراق وحكومة الولايات المتحدة الأميركية، التي تتضمن قرار التعويض".


ترى هل نجح الامريكان في مسعاهم، ام ان العراقيين شاهدوا ما وراء المسرحية، وقراوا ما بين سطورها كعادتهم وتصرفوا على اساسها؟
الوقائع تقول بان الامريكان لم ينجحوا في تحقيق كامل هدفهم المنشود، على الرغم من اهتمام العراقيين بهذا الصراع اهتماما كبيرا، وهناك بعض العلامات التي تدل على ذلك، فعلى سبيل المثال لا الحصر، صرح الناطق الرسمي باسم البيت الابيض بان ادارته لا علاقة لها بما قام به وفد الكونغرس الامريكي فيما يخص مسالة التعويضات، كون هذا الوفد لا يمثل الا نفسه، في حين اكد مسؤول اخر على مدى الصداقة التي تربط البلدين العراق وامريكا وبين الشعبين العراقي والامريكي والتعامل فيما بينهما على اساس الاحترام المتابدل الى اخر هذه الترهات. اما الحكومة فقد خرج علينا الناطق باسمها علي الدباغ ليقول "بان الحكومة العراقية ابلغت السفارة الامريكية بوجوب مغادرة عدد من اعضاء الكونغرس الذين يزورون العراق حاليا مؤكدا انه لم يعد مرغوبا بوجودهم بسبب المطالب التي عرضها بطريقة غير لائقة وبعيدة كل البعد عن اللياقة الدبلوماسية". وعليه لا نستبعد قيام المحتل باسدال الستار على مسرحيته البائسة ووضع حد لهذا الصراع المفبرك عما قريب، وبذات الطرق البائسة بدخول "العقلاء" او "اهل الخير" امثال البرزاني والطالباني على الخط من خلال مبادرة تسعى الى الصلح بين الاثنين.


هذا هو الحال المزري الذي وصل اليه المحتل وحكومته الخامسة، والذي يحتاج من شعبنا ومقاومته الباسلة توحيد الصفوف لمواصلة الكفاح لاجبار المحتل على الرحيل دون قيد او شرط.


اليس كذلك؟

 

 





الاربعاء٢٠ رجـــب ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٢ / حــزيــران / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مكتب الثقافة والإعلام القومي - لقاءُ القُوى الوَطَنيّة والقَوميّة التَقدُّميّة الديمُقراطِيّة ضَرورة حَتميّة للخَلاص مِن حالَةِ الضَعفِ العَرَبي د. عامر الدليمي في ظل الاستهداف المنقطع النظير الذي تتعرض له أمتنا العربية في أغلب أقطارها، وفي ظل غياب أية حدود أو سقف للبشاعة التي يتم فيها تنفيذ حلقات المؤامرة، وليس آخرها محرقة رفح، والمجزرة البشعة التي يتعرض لها شعبنا العربي في فلسطين، والتي وصلت إلى إحراق الخيام بقاطنيها حيث تم استهداف النازحين قسرًا شمال غرب رفح. تلك المجزرة التي خلّفت عشرات الشهداء الذين تحولت أجسادهم إلى أشلاء، بالإضافة إلى عشرات الجرحى معظمهم من الأطفال والنساء، مع استهداف الاحتلال الصهيوني للمنظومة الصحية وإخراجها من الخدمة، كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم أجمع العاجز عن كبح جماح جرائم العدو الصهيوني. في ظل هذا الواقع المأساوي، وعجز الأنظمة العربية عن وقف عجلة التدهور وبشاعته، يصبح من أعلى الأولويات والواجبات الحتمية، أن تلتقط القوى السياسية الوطنية والقومية زمام المبادرة، نحو بلورة مشروع يرقى إلى مستوى التحديات الوجودية الجسيمة التي تستهدف الأمة في وجودها. ويتقدم تلك الأولويات فهم الواقع الذي تمرُ به الأمة العربية في هذه الظروف وتحليلها بقدرٍ عالٍ من المسؤولية الوطنية والقومية والوقوف بواقعية وموضوعية على أسباب الانكسارات والتراجعات والاستسلام للقوى المعادية، حيث يتقدم تلك الأسباب الانقسام والتشظي العربي بسبب تناقضات ثانوية تاركين التحديات الأساسية والمصيرية تحرق الأمة وتنهي هويتها ووجودها. وفي مقدمة متطلبات تحقيق ذلك، والذي يعد من الضرورة القومية الحاسمة أن تكون هناك نظرة وفعل حقيقي جاد لتجديد الخطاب القومي العربي وتحديث مشروعه النهضوي التحرري التقدمي. ومن هنا فإن لقاء القوى السياسية المخلصة للوطن والأمة العربية، والعمل ضمن قواعد عمل مشتركة للتوصل إلى مشروع يمكِّن الأمة من مواجهة التحديات الوجودية الجسيمة التي تتعرض لها، ويعيد لها كرامتها، ويؤكد بأنها أمة جديرة بالحياة، من خلال إيجاد تفاهمات سياسية على قاعدة جماهيرية تكون أساساً لقوتها، وتستطيع من خلال ذلك وغيره التخلص من الضعف والتخلف والتقهقر الذي أصابها. إن ذلك من شأنه أن يرسم الخطوات الأولى التي تخطوها القوى الوطنية والقومية لقيادة الأمة نحو مرحلة جديدة لتكون أمة مجاهدة تسعى نحو التثوير والتنوير والتغيير والتقدم بكل جوانبه. كما وتشكِّل أساساً لإطلاق الحريات الفكرية والسياسية التي تعد الدعامة الرئيسية لمجتمع حضاري جديد، وتحقيق نهضة عروبية تقدمية ديمقراطية في الساحة السياسية كما في الساحة الفكرية. إن كل ذلك يقتضي تجاوز الحالات التي تعرضت لها من مناكفات وخصومات بينية أوصلتها إلى الاحتراب الفعلي فأضعفت نفسها، وجعلت القوى المعادية تتحكم بمصيرها. وليس أدل على ذلك ما وصلت إليه بعض الأنظمة العربية في الاستسلام والضعف أمام العدو الصهيوني، وتمدد استعماري للمشروع الفارسي في أقطار أمتنا العربية بدءاً من المشرق واندفاعاً نحو أقطارها في شمال افريقيا. إن الضرورة الوجودية والحتمية في تاريخنا الحالي تقتضي عودة التيار القومي العربي التحرري والمنظمات القومية لممارسة دورها الفعلي في الساحة العربية بقوة وثقة عالية، متحصِّنة بالإيمان المطلق بقدرها، وبمسؤوليتها التاريخية في قيادة الأمة لتحقيق أمل الجماهير في خلاصها من الاستعباد والاستبداد والهزيمة والتشظّي. ومن أولويات هذه المهمة النضالية الكبيرة هي أن ينهض المثقفون والمفكرون والكتاب العرب الذين يؤمنون برسالة الأمة كرسالة إنسانية خالدة لممارسة دورهم الريادي في بلورة الطموحات المأمولة، وتحديد معالم الطريق العملية والواقعية لتحقيقها، بعيداً عن الإنشاء أو العواطف أو التنظير العقيم. على أن مثل هذا التفاعل وتلاقح الأفكار يتطلب من الجميع العمل من أجل هذا المشروع بروح ديمقراطية متجددة، كشرط أساسي لنجاحه كي يعيد للأمة العربية مجدها وكرامتها وحقها في الحياة.
مواضيع الكاتب عوني القلمجي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة
مكتب الثقافة والإعلام القومي - لقاءُ القُوى الوَطَنيّة والقَوميّة التَقدُّميّة الديمُقراطِيّة ضَرورة حَتميّة للخَلاص مِن حالَةِ الضَعفِ العَرَبي د. عامر الدليمي في ظل الاستهداف المنقطع النظير الذي تتعرض له أمتنا العربية في أغلب أقطارها، وفي ظل غياب أية حدود أو سقف للبشاعة التي يتم فيها تنفيذ حلقات المؤامرة، وليس آخرها محرقة رفح، والمجزرة البشعة التي يتعرض لها شعبنا العربي في فلسطين، والتي وصلت إلى إحراق الخيام بقاطنيها حيث تم استهداف النازحين قسرًا شمال غرب رفح. تلك المجزرة التي خلّفت عشرات الشهداء الذين تحولت أجسادهم إلى أشلاء، بالإضافة إلى عشرات الجرحى معظمهم من الأطفال والنساء، مع استهداف الاحتلال الصهيوني للمنظومة الصحية وإخراجها من الخدمة، كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم أجمع العاجز عن كبح جماح جرائم العدو الصهيوني. في ظل هذا الواقع المأساوي، وعجز الأنظمة العربية عن وقف عجلة التدهور وبشاعته، يصبح من أعلى الأولويات والواجبات الحتمية، أن تلتقط القوى السياسية الوطنية والقومية زمام المبادرة، نحو بلورة مشروع يرقى إلى مستوى التحديات الوجودية الجسيمة التي تستهدف الأمة في وجودها. ويتقدم تلك الأولويات فهم الواقع الذي تمرُ به الأمة العربية في هذه الظروف وتحليلها بقدرٍ عالٍ من المسؤولية الوطنية والقومية والوقوف بواقعية وموضوعية على أسباب الانكسارات والتراجعات والاستسلام للقوى المعادية، حيث يتقدم تلك الأسباب الانقسام والتشظي العربي بسبب تناقضات ثانوية تاركين التحديات الأساسية والمصيرية تحرق الأمة وتنهي هويتها ووجودها. وفي مقدمة متطلبات تحقيق ذلك، والذي يعد من الضرورة القومية الحاسمة أن تكون هناك نظرة وفعل حقيقي جاد لتجديد الخطاب القومي العربي وتحديث مشروعه النهضوي التحرري التقدمي. ومن هنا فإن لقاء القوى السياسية المخلصة للوطن والأمة العربية، والعمل ضمن قواعد عمل مشتركة للتوصل إلى مشروع يمكِّن الأمة من مواجهة التحديات الوجودية الجسيمة التي تتعرض لها، ويعيد لها كرامتها، ويؤكد بأنها أمة جديرة بالحياة، من خلال إيجاد تفاهمات سياسية على قاعدة جماهيرية تكون أساساً لقوتها، وتستطيع من خلال ذلك وغيره التخلص من الضعف والتخلف والتقهقر الذي أصابها. إن ذلك من شأنه أن يرسم الخطوات الأولى التي تخطوها القوى الوطنية والقومية لقيادة الأمة نحو مرحلة جديدة لتكون أمة مجاهدة تسعى نحو التثوير والتنوير والتغيير والتقدم بكل جوانبه. كما وتشكِّل أساساً لإطلاق الحريات الفكرية والسياسية التي تعد الدعامة الرئيسية لمجتمع حضاري جديد، وتحقيق نهضة عروبية تقدمية ديمقراطية في الساحة السياسية كما في الساحة الفكرية. إن كل ذلك يقتضي تجاوز الحالات التي تعرضت لها من مناكفات وخصومات بينية أوصلتها إلى الاحتراب الفعلي فأضعفت نفسها، وجعلت القوى المعادية تتحكم بمصيرها. وليس أدل على ذلك ما وصلت إليه بعض الأنظمة العربية في الاستسلام والضعف أمام العدو الصهيوني، وتمدد استعماري للمشروع الفارسي في أقطار أمتنا العربية بدءاً من المشرق واندفاعاً نحو أقطارها في شمال افريقيا. إن الضرورة الوجودية والحتمية في تاريخنا الحالي تقتضي عودة التيار القومي العربي التحرري والمنظمات القومية لممارسة دورها الفعلي في الساحة العربية بقوة وثقة عالية، متحصِّنة بالإيمان المطلق بقدرها، وبمسؤوليتها التاريخية في قيادة الأمة لتحقيق أمل الجماهير في خلاصها من الاستعباد والاستبداد والهزيمة والتشظّي. ومن أولويات هذه المهمة النضالية الكبيرة هي أن ينهض المثقفون والمفكرون والكتاب العرب الذين يؤمنون برسالة الأمة كرسالة إنسانية خالدة لممارسة دورهم الريادي في بلورة الطموحات المأمولة، وتحديد معالم الطريق العملية والواقعية لتحقيقها، بعيداً عن الإنشاء أو العواطف أو التنظير العقيم. على أن مثل هذا التفاعل وتلاقح الأفكار يتطلب من الجميع العمل من أجل هذا المشروع بروح ديمقراطية متجددة، كشرط أساسي لنجاحه كي يعيد للأمة العربية مجدها وكرامتها وحقها في الحياة.