من يلاحق من؟ ليس هذا السؤال واحداً من قصص جيمس بوند ولا من أفلام رامبو أو سؤال مستل من الأحداث الدراماتيكية الجارية في ليبيا الآن، بل هو سؤال فرضه علي ما أكتب عن حقيقة إيران من الداخل، قبل أن تتولى أكبر شركات التسويق الإعلامي تغليفها وتقديمها للمواطن العربي في أحلى صورها وأفضل ما عندها من مواقف، هذا إذا كان عندها موقف واحد يستحق أن يقال عنه جيد.
بعضهم يعاتبني على أنني أترك إسرائيل التي تحتل فلسطين التي فوق أنها أرض مغتصبة من أهلها الذين تم تشريدهم منها، فهي أرض مقدسة دينياً عند كل مسلم يؤمن بما جاء به النبي الكريم، وألاحق إيران التي خصص الخميني لها آخر جمعة من رمضان وأسماه يوم القدس.
ربما من المناسب مناقشة الفكرة كلها من الأصل كي تفهم الدوافع السياسية وراء السلوك الذي يطلق عليه أتباع إيران صفة الموقف المبدئي من القضية الفلسطينية. الموقف من الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين لا يختلف عليه عربيان إلا من وضع نفسه خارج الزمن العربي، وعلى الرغم من أن العراق ليس من دول المواجهة المباشرة بالأرض مع فلسطين، إلا أنه دفع أعلى ثمن من استقراره وسيادته ووحدة أراضيه وتدمير بنية الدولة فيه، لموقفه الراسخ من فلسطين والذي لو تغير موقفه المعلن على الأقل منها لكان العراق اليوم هو غير ما نعرف كما تحتله أمريكا اسماً وتديره إيران فعلاً، العراقيون هذا موقفهم وربما فيه بعض التطرف والتشدد والحدية التي لا تحظى بدعم واسع النطاق حتى من بعض الفلسطينيين أنفسهم.
من المعروف أن حركة المقاومة الفلسطينية التي اضطرت للانتقال إلى لبنان بعد أحداث أيلول في الأردن عام ,1970 وضعت نفسها غير مختارة بين المطرقة الصهيونية التي تلاحق رموزها بلا هوادة وتستهدفهم جماعات أو فرادى، وسندان الحركات السياسية اللبنانية التي ارتدت ثياباً دينية، والتي ارتبطت بإيران الشاه على علم بتحالفاته ويقين من أنه ممثلها الديني والدنيوي، مثل حركة أمل التي أسسها رجل الدين الإيراني موسى الصدر، والذي استوطن لبنان في ظروف غامضة وخلال مدة قصيرة أصبح من اللاعبين الذين لا تفوتهم مباراة سياسية، ولكن العقبة الرئيسة التي كانت تحول دون تمدد الصدر على الساحة اللبنانية كلها، أنه كانت ثمرة استزرعها الشاه، وأنه لم يكن يحسن التحدث بالعربية إلا بصعوبة بالغة وبلكنة فارسية غير يسيرة التسلل للأذن، ومع هذه الموانع فقد تراصف معه معممون لبنانيون باعوا أنفسهم لشياطين قم، فناصبوا المقاومة الفلسطينية عداء تنقل بمرونة عالية بين المجالس السياسية وميادين المواجهة المسلحة، حتى تساءل المقاوم الفلسطيني ترى كم من الروم سوى الروم وراء ظهري؟ ولم يلتقط جواباً بقدر ما تلقى الرصاص، ولكن حركة أمل ورموزها عندما سقط شاه إيران الذي كان يشكل ثاني الضلعين الإقليميين لمثلث كراهية العرب بعد إسرائيل ليلتقي مع الضلع الغربي، خلعت ولاءها للشاه ولم تبرر سبب الخلع كما إنها لم تبرر سبب الولاء القديم، ومنحته إلى مركز صنع القرار الجديد في طهران، ولم تأخذ استراحة لدراسة المتغيرات التي يمكن أن تدخل على الخطاب السياسي المنطلق على أجنحة عمامة الخميني، وخاصة أن ثورة الخميني كانت ماتزال ذات برنامج محلي له عقد شخصية أيضاً لأن جهاز استخبارات الشاه (السافاك) كان اغتال مصطفى الخميني، أكبر أبناء آية الله الخميني ويبدو أن لهذه العقدة دوراً مؤثراً في ما يحمله من كراهية للشاه تتجاوز حدود السياسة.
لم تحاول حركة أمل في ثوبها الفضفاض الجديد أن تسأل، عما إذا كان يتعارض مع خطابها السابق أم يتطابق معه وما هو مصير التحالفات السابقة التي فرضتها التبعية للشاه، وعما إذا كان الولاء المتجه البوصلة نحو الخميني سيفرض التزامات تجاه أعداء تحولوا إلى أصدقاء وأصدقاء سابقين انتقل الموقف منهم نحو الرصيف الآخر، وتغيرت لهجة الخطاب تدريجياً وإن كان النمط التجريبي به حاجة إلى وقت أطول من النمط المجرب في قياس حجم النجاح في البدائل الجاهزة للتطبيق الواحد تلو الآخر، وتم تبني الشعارات الجديدة بلغة تحاول التنصل من الماضي برفع الصوت عالياً والطعن في الشعارات السابقة على طريقة الريمونت كونترول، وكأن من كان يتبناها أو يدافع عنها هو طرف ثالث وكأن الناس جميعاً يعانون من ضعف الذاكرة أو الخرف السياسي المبكر، وتغير الموقف المعلن من القضية الفلسطينية أو في الأقل من قضية القدس، وكأن من يطرح المسألة على هذا النحو يحاول اختزال القضية الفلسطينية بموضوع القدس وحده، مع يقيني الثابت أن للقدس خصوصية عند كل عربي ومسلم، بحيث إن شاه إيران وهو من هو في التحالف مع إسرائيل، وبعد إحراق المسجد الأقصى في أواخر ستينات القرن الماضي، لم يتمكن من السباحة ضد التيار المستنكر لتلك الجريمة، فدعا إلى عقد مؤتمر إسلامي تحول مع الوقت إلى منظمة المؤتمر الإسلامي ثم استقرت على اسم منظمة التعاون الإسلامي.
لماذا نهمل الملفات كلها ونلاحق إيران؟
هناك من يهمل ملفاً يستحق الاهتمام ويركز على ملفات عديمة الأهمية وما هي الحكمة والمصلحة من ذلك؟ تبدو تلك أسئلة نزيهة وبريئة في ظاهرها، ومن أجل دعم حجة من يطرحها، فإنه يقول لقد استبدل الخميني السفارة الإسرائيلية وأنزل العلم الإسرائيلي ورفع محله العلم الفلسطيني ألا يستحق الشكر على ذلك؟ حسنا لنفترض أن هذا كله صحيح مائة بالمائة وأن دوافعه مبدئية تماماً، فهل في عرف هؤلاء تجوز مقايضة الموقف اللفظي من دون تضحيات من قضية القدس أو قضية فلسطين، وغض النظر عن جهود إيران من أجل التوسع في الأراضي العربية؟
حسنا إذا كان موقف الشاه خاطئاً في علاقاته مع إسرائيل، وهو خاطئ قطعاً، فلماذا لا يتم الحديث عن مواقف خاطئة أخرى للشاه في مواقع أكثر خطورة في نتائجها، مثلاً احتلال الجزر العربية الثلاث أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى والتابعة لدولة الإمارات العربية بعد قرار بريطانيا الانسحاب من شرقي السويس مطلع عقد السبعينات من القرن العشرين، فلماذا لم يصحح الخميني ذلك الخطأ الاستراتيجي الذي أقام جداراً عالياً من الكراهية والتحسس بين العرب والإيرانيين، والأنكى من ذلك أن النظام الإسلامي الجديد في إيران عدّ قرار نظام الشاه القبول بنتيجة استفتاء الشعب البحريني واختيار الاستقلال ورفضه الانضمام لإيران، قراراً خاطئاً ولا يجوز الاعتراف به وبدأت المطالبات الشوفينية الطائفية، ترتفع تدريجياً في أوساط السلطة الجديدة، التي وجدت دعماً مؤكداً من الخميني شخصياً لهذا التوجه المتنامي في جمهورية إيران الإسلامية التي ترفع تارة شعار تصدير الثورة وتارة تتحدث عن علاقات ودية مع دول المنطقة، فبمن نثق وبمن نصدق؟ وأي الخطابين نعده هو المعبر الحقيقي عما يفكر به رجل حسينية جمران؟
المواقف لا يمكن مقايضتها، فلا يجوز أن نقبل أن نسير وراء الخميني مغمضي العيون وهو يسعى لقضم أرضنا العربية جزءاً بعد جزء، لمجرد أنه ركب قطار فلسطين، التي يعرف كم لها من الرصيد النفسي والسياسي والأخلاقي والديني لدى كل مواطن عربي، وبالتالي فإنه وهو لم يقدم لها شيئاً غير آخر جمعة من كل رمضان والذي يزورنا كل عام وله قدسيته عند المسلمين، فهو حتى في هذا الموقف لم يقدم لا للقدس ولا لفلسطين شيئاً، بقدر ما قدم لنفسه من رصيد متخيل بأن أجهزة الإعلام ستكرر أن هذا اليوم اختاره آية الله الخميني ليكون يوماً للقدس، وكأن رمضان لم يكن يمر على العرب بهذه القدسية من يوم فرض الله فيه الصيام، أو كأن رمضان يمكن أن يمر من دون جمعة في بدايته وأخرى في نهايته، هذه هي المقايضة التي يدفع فيها الخميني وحالياً أحفاده وعوداً جوفاء مقابل حصولهم على وجاهة ورصيد سياسي ومعنوي يبتزون به أعداءهم والذين يرفضون السياسة الإيرانية الإقليمية التي تحمل هذا الموروث البغيض وتريد تنفيس بعضه في وجوه العرب.
الخميني وحرب أكتوبر 1973؟
حتما سيبادر أحفاد الخميني إلى القول وأين كان الخميني في هذا الوقت؟ أما أنا فأعرف أين كان وماذا كان يعمل، ولهذا قصة أخرى.
أذكر في حرب رمضان، أو حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 وحينها كنت أظهر على شاشة تلفزيون بغداد يومياً لأقدم تحليلاً سياسياً لما تشهده المنطقة من تطورات خطرة، مع عرض لآخر المستجدات الميدانية على الجبهتين المصرية والسورية، وكان حاييم هيرتزوك مدير الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية مدة من الزمن ثم مندوباً لإسرائيل في الأمم المتحدة وبعدها أصبح رئيساً لدولة إسرائيل على ما أظن، هو الذي يحلل من تلفزيون إسرائيل وإن كان ليس بصفة مستمرة، وكنت في حينها أتعمد أن أجعل وقت حديثي المباشر بعد حديث هيرتزوك كي أتعرف على آخر المستجدات الميدانية. بتوجيه من الرئيس الراحل صدام حسين الذي كان يشغل منصب نائب الرئيس العراقي، استدعى محمد سعيد الصحاف الذي كان مديراً عاماً للإذاعة والتلفزيون، استدعى عبد الأمير قاسم وهو مدير الإذاعة الفارسية من بغداد، وأبلغه أن يذهب إلى النجف لإجراء مقابلة مع رجل دين إيراني معارض، اسمه روح الله الموسوي الخميني، لأن العرب يخوضون معركة ضد عدو العرب والمسلمين الأول، إسرائيل، وخاصة أن هناك توجهاً لدعم استخدام النفط كسلاح في المعركة، وهذا يتطلب دعم إيران لموقف العراق والسعودية في هذا التوجه، ثم أن العراق الذي أرسل صفوة قواته المسلحة إلى الجبهة السورية لحماية دمشق، يتطلب توجيه رسالة تحذيرية من الشعب الإيراني إلى الشاه، كي تبقى حدود العراق مع إيران هادئة، لأن ذلك سيعزز من حماسة المقاتل العراقي في التصدي للصهاينة على جبهات القتال، ذهب الرجل ولكنه لم يتأخر بالعودة في اليوم نفسه مما أثار دهشتنا، ولكنه قال: (لقد رفض الخميني أن يعطي تصريحاً بشأن الحرب أو حماية دمشق أو خط بارليف أو استخدام النفط في المعركة أو حتى توجيه نداء للشعب الإيراني)، حينما حاولنا تكوين فكرة عن أسباب الرفض، قال لنا مدير الإذاعة الفارسية العراقية: إن الخميني غير متحمس لأن يعطي رأيا يصب في غير إنائه، ويعتقد أنه إن نفذ ما طلبه منه العراقيون فإنه قد لا يوثر في الشارع الإيراني، ولكن النظام في العراق سوف يوظف الموضوع لصالحه سياسياً وإعلامياً، حينما علم صدام حسين بموقف الخميني تأسف على أن معمماً قبله العراق على أساس أنه معارض للشاه يرفض اقتناص فرصة مناسبة لمعركته، ولم يقتنع أحدنا بمبررات الخميني تلك.
هنا تكمن المعادلة السياسية للخميني وإيران كلها في عهدها الجمهوري الذي أقامه الخميني فالخميني سيئ ظن بالجميع وهذا من حقه فيما لو أحس أن بعضهم يستهدفه، ولكن لو كان النظام في العراق يستهدفه لما أبقاه، وهذا ما فعله عندما طلب منه صراحة أن يترك العراق عند بدء الاحتجاجات في إيران، المبدأ الذي يتعامل به رهط الخميني هو تحقيق الربح الصافي سياسياً على أن يكون فورياً وملموساً على الأرض، ومن دون أن يدفعوا مقابلاً للطرف الآخر، وهذه خاصية يتميز بها رجال الدين الإيرانيين الذين يلاحقون الخمس والحقوق المالية عبر شبكة من الوسطاء المنتفعين، واستطاعوا نقل هذه التجربة بآلياتها وحرفياتها إلى العراق في الزمن الأمريكي حتى تحول المعممون إلى طبقة اجتماعية ربما تعيد إلى واجهة الأحداث في العراق في يوم من الأيام الحبلى بالمفاجآت ما حصل ضد الكنيسة في أوروبا، لأنهم طبقة طفيلية على المجتمع تمتص ما فيه من موارد وخيرات ويريدون الكسب من دون جهد أو دفع ثمن، بل يظنون أن تصريحاً هنا وآخر هناك من دون أن يلزمهم بشيء كفيل بطي الوسادة لهم والسير على البساط الأحمر، شرط أن يصب ذلك في رصيدهم السياسي حصراً، وليس في رصيد القضية التي يتم تناولها أو رصيد أي طرف آخر حتى أقرب الأصدقاء إن كان لهم أصدقاء. ولنستل مفارقة واحدة من تاريخ الخميني بعد أن قفز على تضحيات الإيرانيين وأصبح حاكماً مطلقاً ومنزهاً من المساءلة من أحد لأنه نائب الإمام الحجة ويحكم باسمه، بعد وصول الخميني إلى الحكم عد موافقة الشاه على نتائج استفتاء البحرين بالاستقلال غير شرعية، وكذلك توقيع الشاه على اتفاقية الجزائر لعام 1975 مع العراق غير شرعية أيضاً، ولكن حينما تتحول البوصلة نحو الجزر العربية الثلاث، فلا أحد يستطيع القول إن الشاه الذي أراد أن يتحول إلى شرطي للخليج العربي، كان في احتلاله للجزر ينفذ استراتيجية غربية وحصراً أمريكية واضحة المعالم تهدف إلى الهيمنة على المنطقة بأدوات محلية، وأن تلك السياسة كانت مرسومة للشاه من دوائر استكبارية من الشيطان الأكبر، على وفق المصطلحات التي يكثر الخميني من استخدامها في خطابه السياسي والديني والإعلامي، فهل هناك امكانية للتوفيق بين الموقفين الرافض لسياسة الشاه في العراق والبحرين والمتمسك بها في الجزر الثلاث؟ وماذا يريد من اعتماد هذه المعايير المزدوجة مع العرب؟
قد يعتقد راكبو سفينة الخميني، أن إغلاق السفارة الإسرائيلية في طهران ورفع العلم الفلسطيني فوقها، يعد سبباً وثمناً كافيين لحصولهم على أراض عربية أخرى يراد قضمها ومؤشر عليها في أدراج رئاسة الأركان الإيرانية من عهد الشاه السابق ومن عهد أبيه، ومن عهد العائلة القاجارية، ومن سبقها من عائلات حكمت بلاد فارس، على أنها أهداف مرشحة للضم في العراق أو البحرين أو في الخليج العربي فتلك قسمة ضيزى وسيواجهها العرب بمقاومة مؤكدة، لأن نظام الحكم في إيران رابح في كلا الأمرين، هو ربح عندما استخدم القضية الفلسطينية قطاراً للعبور فوق جسر الحدود النفسية إلى الوطن العربي وكسر جدار العزلة الفارسية، وسيربح في حال تحقق ذلك الحلم التوسعي المجنون، في إيران عقد تاريخية مركبة وراسخة في الضمير الفارسي، تمتد إلى أن بلاد فارس أرض شهدت حضارة لا تنكرها العين، بصرف النظر عما إذا كانت أصيلة أو هجينة أو ملفقة أو مستوردة بالكامل، إلا أن حضارة فارس على علو شواهدها تقوضت على يد العرب الذين جاءوا من جزيرة العرب ولم يسجل لهم سبق في التاريخ على ما يزعم اعداء العرب، سواء في فن العمارة أو الفلسفة أو الفنون، وإن كان الشعر العربي واحداً من أعظم افصاحات حضارتهم الممتدة من يوم بنى سيدنا إبراهيم عليه السلام الكعبة المشرفة فوق أرضهم، والتي توجت بنزول رسالة السماء الأخيرة على رجل منهم هو النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم وبلغتهم، دون سواهم من الأمم الأخرى لخصال فيهم لا يعرفها إلا الله سبحانه وتعالى، الذين نقلوا إليها الدين الإسلامي في بضع سنين، على حين أن حضارتها التي كانت قائمة على تخومهم وأحيانا داخل أراضيهم لم تتمكن من إقناع عربي واحد بالتحول من عبادة الأوثان على ما فيها من جاهلية مقيتة إلى عبادة النار، وتحولت فارس خلال عقد أو يزيد عن ديانتها إلى الإسلام ولو ظاهرياً وهنا تكمن قوة الإسلام الغلابة، هذه واحدة من عقد كثيرة، وربما تأتي بعدها عقدة لا تقل عنها تأثيراً في صياغة سلوك الشخصية الإيرانية الحاقدة والمعقدة في حقيقتها والمتظاهرة بالتسامح والمتعايشة بوجه ثان أو ثالث أو أكثر مع الآخر، وهي عقدة عدم قدرة الفرس على حكم العرب حتى الآن وتستنهض فيهم الرغبة في الوصول إلى هذا الحلم الجميل، على حين أنهم يظنون أنهم أصحاب حضارة أعرق مما يمتلك العرب، يضاف إلى هذا أن القبائل التركية التي شكلت نواة للدولة العثمانية، كانت قبائل همجية ومتخلفة وبلا رصيد حضاري، فجاءوا من المجهول وتحولوا من القتل إلى بناء دولة جديدة أصبحت مع الوقت إمبراطورية تدق أبواب فينا بقوة، وحكموا الشرق والغرب، ولهذا أججت هذه الفكرة أحقاد فارس التي لا دواء لها فالعقد تتركب عند الإحساس بالعجز عن تنفيذ أحلام مريضة، فخرج الفرس على الدولة العثمانية وتعاضدوا مع الصليبين في حروبهم ضد الدولة العثمانية بعد أن انسلخوا عنها، مما يعد مأخذاً أخلاقياً ودينياً على بلاد فارس لن تستطيع الدفاع عنه أبداً أنها عقدت حلف مصلحة مقدس وغير مكتوب مع أوروبا المسيحية، لتشتيت جهد الدولة العثمانية ومنعها من مواصلة نشر الإسلام في أوروبا، حينما كانت قوات الدولة الفارسية تستغل أحرج وقت تمر به الدولة العثمانية عندما تكون قواتها مشتبكة مع الدول الأوروبية، فتشن عليها هجمات تضطر العثمانيين إلى إعادة انتشار قواتهم وتعيد جزءاً من قواتها من غرب أوروبا إلى حدود الدولة العثمانية في العراق مع الدولة الفارسية، على هذا فإن فارس لن تتوقف خططها الهادفة إلى محاولة إخضاع العرب لحكم أعجمي جديد وهذه المرة حكم فارس في إمبراطورية الولي الفقيه التي يجب أن يخضع لها العرب من دون استثناء، ولا يهم من يقع إلى الشمال من إيران أو من يقع إلى شرقها، فلا عقدة تفوق أو دونية بين فارس وتلك الأمم. ومن هذا يمكن فهم الإمبراطورية الإيرانية التي ترفع شعار تصدير الثورة تحت لواء نظرية الولي الفقيه، أنها لا تفكر بالتمدد الجدي شرقاً أو شمالاً، لأنها لا تجد الحافز لذلك على الرغم من أن أفغانستان على سبيل المثال كانت لحقبة غير قصيرة جزء من الدولة الصفوية حتى خرج مير محمود في مدينة قندهار على الشاه الصفوي حسين بن سليمان واحتل عاصمة الدولة الصفوية أصفهان وأسر الشاه وأسرته في العام ,1727 ثم أن اللغة الفارسية منتشرة على نطاق واسع في أفغانستان، ولكن لا يوجد الدافع للتمدد شرقاً، أما الشمال فمن المفارقات العجيبة أن الجمهورية الإيرانية الاسمية الجعفرية الإثنا عشرية وقفت إلى جانب أرمينيا المسيحية في حربها ضد جمهورية أذربيجان الشيعية الإثنا عشرية، فهل يجد أحد تفسيراً لهذا السلوك المنحرف؟
ربما كانت عيونهم المتجهة نحو الشرق أو الشمال قد فقأت، وبقيت العيون المتجهة نحو الوطن العربي وسيحين وقت فقئها.