شبكة ذي قار
عـاجـل










مَن عايش أيام وأسابيع وشهور ما بعد يوم احتلال بغداد 9_4_2003 وقدّر له أن يتعايش مع مجريات ووقائع الأحداث السياسية والاجتماعية والإعلامية، فهو يدرك ويعي ويعرف تماما ما يقصده الناس حين يتحدثون عن طائر العنقاء والانبعاث من حواضر الموت. فلقد كانت تلك الفترة توحي بأمر واحد لكل العراقيين هو إن حزب البعث العربي الاشتراكي قد ذهب إلى الأبد كفكر وكتنظيم وكحضور سياسي في العراق. وكان واضحا إن الاحتلال قد جاء بقوة أربعين دولة أو يزيد بهدف واحد لا غير هو هذا: ذبح البعث ودفنه وإنهاء وجوده في العراق إلى الأبد.

 

ولم يكن تصميم العملية السياسية بدءا من مجلس حكم بريمر ومرورا بكل ما جرى منذ يوم 9-4 -2003 والى يومنا هذا إلا لتحقيق هدف واحد هو: قبر حزب البعث العربي الاشتراكي بكل ما أوتيت الامبريالية والصهيونية والمنهج الطائفي من قوة وبكل ما توفر لها من سبل وأدوات. لماذا؟سؤال قد يبدو بلا أسس متينة لطرحه حيث كل سؤال يجب أن يكون له مقومات انطلاق ... لكنه في جوهر الأمور سؤال محوري تقف وراء إجابته كل مسوغات ومبررات غزو العراق واحتلاله وتسليط المنهج العرقي الشوفيني والمذهبية السياسية متعددة الأطراف والأهداف والارتباطات والأوجه عليه: لأن عروبة العراق وما أنجز تحت رايتها في ظل حكم البعث أو ما قبله من حكم يوصف بأنه وطني صارت مقترنة كتاريخ وكآفاق مستقبل بالمنهج القومي العروبي الثوري الوحدوي التحرري لحزب البعث العربي الاشتراكي. لقد سلط الاحتلال كل قدراته العسكرية والفنية والإعلامية وكل أدواته المجرمة التي تعاقد معها في مؤتمرات الخيانة والعمالة لإنهاء البعث فكرا وعقيدة ومبادئ ومنجزات شاخصة عبر الهدم والإزالة من الوجود أو عبر تغيير الأسماء والتواريخ. ومَن كان في العراق عام 2003 بعد الاحتلال وصل إلى قناعات إن البعث قد انتهى وان محاولات إعادة تشكيل التنظيم لا يمكن أن تؤدي إلا لأمر واحد هو كشف أعضاءه وقياداته لتقع تحت سيوف الغدر لا أكثر ولا اقل حيث تصير هدفا للمليشيات وأحزاب إيران وكل القوى الأخرى التي دخلت وراء الدبابات الغازية أو تشكلت في الداخل لتكون جزءا من برنامج الفوضى والتخريب والتدمير والفساد،

 

وعليه: فان ولادة البعث من جديد في أشهر ما بعد الغزو في بغداد وعدد من المحافظات على أيدي رجال منه معدودين وبتوجيهات من قيادة الحزب التي غطست تحت الأرض لتعيد الحياة من جديد لطائر العنقاء وتبعثه بعثا معافى باسمه بلا تحوير ولا تبديل وبنقائه وطهره وعقيدته الوطنية والقومية التحررية وليكون عمود مقاومة الاحتلال بالسلاح وبالسياسة المساندة للسلاح تعد ولادة من طراز خاص, نوعي وكمي, والرجال الذين تصدوا لها حتى ارتقوا بالحزب من حالة العدم إلى حالة تعد الآن بمقاييس ومعايير القوة المادية والاعتبارية هي الأفضل في تاريخ الحزب كله هم الأجدر والأحق في تحديد مسارات العمل التنظيمي والفكري المتواصل بأصالة لا تنقطع عن جذر البعث وعقيدته وأهدافه ومن بين ذلك إدارة أهم وأخطر عملية تنظيمية هي: المراجعة والنقد. إن الرجال الذين تحملوا أعباء، بل يحق لنا أن نصفها معجزة إخراج الحزب من توابيت الموت ومن بين طيّات مقابر الفناء وفي مقدمتهم شهيد البعث أمينه العام صدام حسين رحمه الله ونائبه على طول سنوات التجربة ورفيقه الأزلي أمين عام البعث والأمين على بنادق المقاومة والثورة الشعبية عزة إبراهيم وأعضاء قيادة القطر وكادر الحزب المتقدم هم أصحاب الحق والأقدر على أداء واجب المراجعة والنقد فهم مسلحون بالعقيدة الراسخة ومبادئ الحزب المتعشقة مع مبادئ الرجولة والإخلاص المطلق والعفة النضالية والشخصية المطلقة. النقد والمراجعة منهج وسمة الأحزاب والحركات الثائرة الأصيلة الحية. وهي الطريق الذي لا مناص منه لمواصلة النمو والانتشار ومنفذ من منافذ الاقتدار الذاتي والموضوعي. ولا قدسية ولا عصمة لإنسان أيا كان فهو عرضة للخطأ وهو ينتج السليم والبناء والفالح والصالح. علماء العلوم الطبيعية يخطئون وهم في طريق إنتاج الجزيئات والنظريات والأفكار العبقرية والجديدة والمصلحين الاجتماعيين يخطئون في حياتهم اليومية وكذا الوجهاء والقادة وحتى الأنبياء إلا في ما أراد له الله سبحانه أن يكون خارج أي احتمال للعثرات والأخطاء.


لا يحق لكائن مَن كان أن يعصم قيادة حزب أو حركة أو حكومة أو منظمة من احتمالات الخطأ ولأنها منظمة أو حركة جمعية جماهيرية وقيادتها جماعية، فان خطأ أي من رموزها لا يحسب عليه بشخصه، بل على المجموع الموصوف بالقيادة .كما إن مراجعة المسيرة ونقدها لا يعني أبدا استهداف شخص من شخوص قيادتها، بل إن الحركة برمتها معنية بالأمر. إن المراجعة والنقد هي ممارسة علمية تتناول جناحي المنتج الانجازي : الايجابي ينقد لأنه لا يوجد عمل انجازي كامل بالمطلق، بل هو متكامل قابل للإضافة المعززة والتهذيب المجمل لمظهره وربما حتى جوهره والسلبي ينقد ومن بين ما يوصف بالسلبي هو عدم النضج التام للمنتج لعدم اكتمال مسوغات وحيثيات استحضرت عند البدء به كفكرة أو عند اقتران الفكرة بأدوات التحويل إلى فعل تطبيقي ميداني.


النقد الذاتي والمراجعة سمة الشجعان والكبار وأهل المشاريع الوطنية والقومية وسلاحهم النافذ والأهم في إصلاح ذات البين وإعادة شحن الهمم والطاقات وتحشيد الشعب في خط سير حثيث إلى الأهداف المرسومة .


الحزب الأصيل وقيادته الشجاعة تعقد المؤتمرات للمراجعة وإعادة تقييم الأحداث والنتائج وتعلم أعضاءه علم النقد والمراجعة .. لا مكابرة ولا شخصنة في ممارسة إعادة تأهيل الذات والخروج من المأزق أو المحنة أو الكارثة هو ولادة جديدة من صلب الأصل لكن تغيير مقومات الحياة ومتطلباتها المختلفة حقيقة يهلك من لا يتعاطاها أو ينزوي في خنادق النسيان وانعدام الوزن والفعل.

 

وفي هذا يقول الرفيق القائد المجاهد الأمين العام في خطابه التاريخي : (( أيها الرفاق المناضلون .. يا جماهير الأمة المتحفزة للثورة .. إننا في قيادة قطر العراق للحزب، نقول في هذه المناسبة، باسم التنظيم الثوري المناضل، وباسم المجاهدين في فصائل الحزب، أننا نأسف أشد الأسف لأن الحزب في مرحلة حكمه في العراق وعلى امتداد ثورة تموز المجيدة، بالرغم من تحقيقه لأعظم الإنجازات التاريخية على الصعيد الوطني والقومي، وحتى على الصعيد الدولي، فقد أهدرت قيادته الكثير من الفرص التاريخية، كان بالإمكان استثمارها لصالح نضاله الوطني والقومي الوحدوي التحرري، وارتكبت بعض الهفوات القاتلة للانحرافات الخطيرة، قد ساهمت إلى حد كبير في توفير فرص العدوان الإمبريالي الصهيوني الصفوي على الحزب وتجربته الرائدة في العراق. نعاهد حزبنا في العراق، وفي الوطن الكبير، ونعاهد جماهير شعبنا الأبي أننا سنقف عند كل هفوة وكبوة وخطأ جسيم وغير مبرر في أول مؤتمر قطري للحزب، ثم في أول مؤتمر قومي للحزب، لكي نستخلص الدروس والعبر بمزيد من الالتحام بعقيدتنا ومبادئنا وأهدافنا وبقواعد الحياة الداخلية لحزبنا. سنذكر الأخطاء والهفوات والانحرافات، كما نذكر الإنجازات والانتصارات من أجل التصحيح والتطوير والتجديد، ويحدونا الأمل الكبير بأننا سنصحح وننتصر على أنفسنا أولاً ثم على أعدائنا وأعداء أمتنا. لقد أعدت قيادة قطر العراق الدراسة الشاملة والعميقة لمسيرة الخمسة والثلاثين عاماً من حكم الحزب وثورته في العراق، وهي جاهزة وموضوعة تحت اليد لكي تستفيد منها القيادة في مسيرتها اليوم، سواء داخل الحياة الحزبية أو على صعيد الكفاح والجهاد من أجل التحرير والاستقلال. تحية المحبة والاعتزاز لروح القائد المؤسس الرفيق المؤمن المبدع أحمد ميشيل عفلق واضع اللبنات الأولى لهذا الصرح العظيم. تحية المحبة والاعتزاز لروح الرفيق الشهيد صدام حسين. تحية تقدير واعتزاز للرفاق الأوائل الذين رافقوا الرفيق القائد المؤسس وآزروه وعززوه وناصروه ونخص منهم الرفيق المناضل المرحوم الشهيد صلاح الدين البيطار. تحية لمن خطا خطوة صادقة ومخلصة في مسيرة الـ 67 عاماً مع البعث المبارك المجيد، حادي ركب المجاهدين والمناضلين صوب الرفعة والنهوض والتقدم الوطني والقومي والإنساني الشامل. تحية العز والفخار لمجاهدي البعث والمقاومة البواسل ولأبناء شعبنا الأبي وأمتنا العربية المجيدة. تحية الاعتزاز والتقدير لأسرانا ومعتقلينا وعلى رأسهم أعضاء القيادة .))

 

هكذا إذن .. بوضوح لا لبس فيه وبإرادة الحزب ومناضليه وكوادره المقاتلة وتلبية لإرادة الشعب والأمة ستتم المراجعة للأخطاء والهفوات والفرص التي ضاعت وتلك التي كانت سببا في منح العدوان الفرصة ليمارس أهدافه وخططه المبيتة ضد الحزب وضد العراق والأمة العربية المجيدة وليس استجابة لإرادة خارجية مهما كان عنوانها أو قوة تأثيرها وليس استجابة لرد فعل أفرزته رغبة فردية أو أحداث طارئة وعرضية. وبذلك تكون وقفة النقد وقراءة التاريخ حق وواجب وضرورة تاريخية لتنطلق منها بدايات جديدة لرسالتنا المتجددة على المدى الخالدة خلود الأمة الذي عبرت عنه حضارتها وعطاءها الثر في سفرها المجيد من جهة وتوقها لإدامة العطاء والمشاركة الإنسانية وتواصل الدور الحضاري لها من جهة أخرى. إن تجدد الروح وشخوص القيادة المناضلة المجاهدة وتواصل الجهد القتالي الثوري التحرري والانفتاح الفكري على مستجدات العصر وضروراته وتواصل المد الفكري المغذي لثقافة الحزب والمعبر عن عقيدته ومبادئه وتصدي البعث المتواصل للأحداث ومشاركته الفاعلة في هذه الأحداث التي واجهتها و تواجهها الأمة منذ غزو العراق وإثباته المقتدر لروحه ومنهجه الجهادي والنضالي كلها ستكون سطورا في صفحات المراجعة كتبها الأحرار بدم الرقاب ونبض الضمائر ورياض الشجاعة والإقدام وسيكون المؤتمر القطري الموعود محطة لقراءتها وإقرارها سوية مع انجازات الثورة التي جعلت العراق بلدا متقدما في كل مناحي الحياة والإخفاقات التي فرضتها ظروف داخلية أو موضوعية وأخرى كانت تعبيرا عن قناعات هي ابنة زمنها وظروفها.

 

 





السبت ١٩ جمادي الثانية ١٤٣٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٩ / نيســان / ٢٠١٤ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مكتب الثقافة والإعلام القومي - لقاءُ القُوى الوَطَنيّة والقَوميّة التَقدُّميّة الديمُقراطِيّة ضَرورة حَتميّة للخَلاص مِن حالَةِ الضَعفِ العَرَبي د. عامر الدليمي في ظل الاستهداف المنقطع النظير الذي تتعرض له أمتنا العربية في أغلب أقطارها، وفي ظل غياب أية حدود أو سقف للبشاعة التي يتم فيها تنفيذ حلقات المؤامرة، وليس آخرها محرقة رفح، والمجزرة البشعة التي يتعرض لها شعبنا العربي في فلسطين، والتي وصلت إلى إحراق الخيام بقاطنيها حيث تم استهداف النازحين قسرًا شمال غرب رفح. تلك المجزرة التي خلّفت عشرات الشهداء الذين تحولت أجسادهم إلى أشلاء، بالإضافة إلى عشرات الجرحى معظمهم من الأطفال والنساء، مع استهداف الاحتلال الصهيوني للمنظومة الصحية وإخراجها من الخدمة، كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم أجمع العاجز عن كبح جماح جرائم العدو الصهيوني. في ظل هذا الواقع المأساوي، وعجز الأنظمة العربية عن وقف عجلة التدهور وبشاعته، يصبح من أعلى الأولويات والواجبات الحتمية، أن تلتقط القوى السياسية الوطنية والقومية زمام المبادرة، نحو بلورة مشروع يرقى إلى مستوى التحديات الوجودية الجسيمة التي تستهدف الأمة في وجودها. ويتقدم تلك الأولويات فهم الواقع الذي تمرُ به الأمة العربية في هذه الظروف وتحليلها بقدرٍ عالٍ من المسؤولية الوطنية والقومية والوقوف بواقعية وموضوعية على أسباب الانكسارات والتراجعات والاستسلام للقوى المعادية، حيث يتقدم تلك الأسباب الانقسام والتشظي العربي بسبب تناقضات ثانوية تاركين التحديات الأساسية والمصيرية تحرق الأمة وتنهي هويتها ووجودها. وفي مقدمة متطلبات تحقيق ذلك، والذي يعد من الضرورة القومية الحاسمة أن تكون هناك نظرة وفعل حقيقي جاد لتجديد الخطاب القومي العربي وتحديث مشروعه النهضوي التحرري التقدمي. ومن هنا فإن لقاء القوى السياسية المخلصة للوطن والأمة العربية، والعمل ضمن قواعد عمل مشتركة للتوصل إلى مشروع يمكِّن الأمة من مواجهة التحديات الوجودية الجسيمة التي تتعرض لها، ويعيد لها كرامتها، ويؤكد بأنها أمة جديرة بالحياة، من خلال إيجاد تفاهمات سياسية على قاعدة جماهيرية تكون أساساً لقوتها، وتستطيع من خلال ذلك وغيره التخلص من الضعف والتخلف والتقهقر الذي أصابها. إن ذلك من شأنه أن يرسم الخطوات الأولى التي تخطوها القوى الوطنية والقومية لقيادة الأمة نحو مرحلة جديدة لتكون أمة مجاهدة تسعى نحو التثوير والتنوير والتغيير والتقدم بكل جوانبه. كما وتشكِّل أساساً لإطلاق الحريات الفكرية والسياسية التي تعد الدعامة الرئيسية لمجتمع حضاري جديد، وتحقيق نهضة عروبية تقدمية ديمقراطية في الساحة السياسية كما في الساحة الفكرية. إن كل ذلك يقتضي تجاوز الحالات التي تعرضت لها من مناكفات وخصومات بينية أوصلتها إلى الاحتراب الفعلي فأضعفت نفسها، وجعلت القوى المعادية تتحكم بمصيرها. وليس أدل على ذلك ما وصلت إليه بعض الأنظمة العربية في الاستسلام والضعف أمام العدو الصهيوني، وتمدد استعماري للمشروع الفارسي في أقطار أمتنا العربية بدءاً من المشرق واندفاعاً نحو أقطارها في شمال افريقيا. إن الضرورة الوجودية والحتمية في تاريخنا الحالي تقتضي عودة التيار القومي العربي التحرري والمنظمات القومية لممارسة دورها الفعلي في الساحة العربية بقوة وثقة عالية، متحصِّنة بالإيمان المطلق بقدرها، وبمسؤوليتها التاريخية في قيادة الأمة لتحقيق أمل الجماهير في خلاصها من الاستعباد والاستبداد والهزيمة والتشظّي. ومن أولويات هذه المهمة النضالية الكبيرة هي أن ينهض المثقفون والمفكرون والكتاب العرب الذين يؤمنون برسالة الأمة كرسالة إنسانية خالدة لممارسة دورهم الريادي في بلورة الطموحات المأمولة، وتحديد معالم الطريق العملية والواقعية لتحقيقها، بعيداً عن الإنشاء أو العواطف أو التنظير العقيم. على أن مثل هذا التفاعل وتلاقح الأفكار يتطلب من الجميع العمل من أجل هذا المشروع بروح ديمقراطية متجددة، كشرط أساسي لنجاحه كي يعيد للأمة العربية مجدها وكرامتها وحقها في الحياة.
مواضيع الكاتب الأستاذ الدكتور كاظم عبد الحسين عباس نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة
مكتب الثقافة والإعلام القومي - لقاءُ القُوى الوَطَنيّة والقَوميّة التَقدُّميّة الديمُقراطِيّة ضَرورة حَتميّة للخَلاص مِن حالَةِ الضَعفِ العَرَبي د. عامر الدليمي في ظل الاستهداف المنقطع النظير الذي تتعرض له أمتنا العربية في أغلب أقطارها، وفي ظل غياب أية حدود أو سقف للبشاعة التي يتم فيها تنفيذ حلقات المؤامرة، وليس آخرها محرقة رفح، والمجزرة البشعة التي يتعرض لها شعبنا العربي في فلسطين، والتي وصلت إلى إحراق الخيام بقاطنيها حيث تم استهداف النازحين قسرًا شمال غرب رفح. تلك المجزرة التي خلّفت عشرات الشهداء الذين تحولت أجسادهم إلى أشلاء، بالإضافة إلى عشرات الجرحى معظمهم من الأطفال والنساء، مع استهداف الاحتلال الصهيوني للمنظومة الصحية وإخراجها من الخدمة، كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم أجمع العاجز عن كبح جماح جرائم العدو الصهيوني. في ظل هذا الواقع المأساوي، وعجز الأنظمة العربية عن وقف عجلة التدهور وبشاعته، يصبح من أعلى الأولويات والواجبات الحتمية، أن تلتقط القوى السياسية الوطنية والقومية زمام المبادرة، نحو بلورة مشروع يرقى إلى مستوى التحديات الوجودية الجسيمة التي تستهدف الأمة في وجودها. ويتقدم تلك الأولويات فهم الواقع الذي تمرُ به الأمة العربية في هذه الظروف وتحليلها بقدرٍ عالٍ من المسؤولية الوطنية والقومية والوقوف بواقعية وموضوعية على أسباب الانكسارات والتراجعات والاستسلام للقوى المعادية، حيث يتقدم تلك الأسباب الانقسام والتشظي العربي بسبب تناقضات ثانوية تاركين التحديات الأساسية والمصيرية تحرق الأمة وتنهي هويتها ووجودها. وفي مقدمة متطلبات تحقيق ذلك، والذي يعد من الضرورة القومية الحاسمة أن تكون هناك نظرة وفعل حقيقي جاد لتجديد الخطاب القومي العربي وتحديث مشروعه النهضوي التحرري التقدمي. ومن هنا فإن لقاء القوى السياسية المخلصة للوطن والأمة العربية، والعمل ضمن قواعد عمل مشتركة للتوصل إلى مشروع يمكِّن الأمة من مواجهة التحديات الوجودية الجسيمة التي تتعرض لها، ويعيد لها كرامتها، ويؤكد بأنها أمة جديرة بالحياة، من خلال إيجاد تفاهمات سياسية على قاعدة جماهيرية تكون أساساً لقوتها، وتستطيع من خلال ذلك وغيره التخلص من الضعف والتخلف والتقهقر الذي أصابها. إن ذلك من شأنه أن يرسم الخطوات الأولى التي تخطوها القوى الوطنية والقومية لقيادة الأمة نحو مرحلة جديدة لتكون أمة مجاهدة تسعى نحو التثوير والتنوير والتغيير والتقدم بكل جوانبه. كما وتشكِّل أساساً لإطلاق الحريات الفكرية والسياسية التي تعد الدعامة الرئيسية لمجتمع حضاري جديد، وتحقيق نهضة عروبية تقدمية ديمقراطية في الساحة السياسية كما في الساحة الفكرية. إن كل ذلك يقتضي تجاوز الحالات التي تعرضت لها من مناكفات وخصومات بينية أوصلتها إلى الاحتراب الفعلي فأضعفت نفسها، وجعلت القوى المعادية تتحكم بمصيرها. وليس أدل على ذلك ما وصلت إليه بعض الأنظمة العربية في الاستسلام والضعف أمام العدو الصهيوني، وتمدد استعماري للمشروع الفارسي في أقطار أمتنا العربية بدءاً من المشرق واندفاعاً نحو أقطارها في شمال افريقيا. إن الضرورة الوجودية والحتمية في تاريخنا الحالي تقتضي عودة التيار القومي العربي التحرري والمنظمات القومية لممارسة دورها الفعلي في الساحة العربية بقوة وثقة عالية، متحصِّنة بالإيمان المطلق بقدرها، وبمسؤوليتها التاريخية في قيادة الأمة لتحقيق أمل الجماهير في خلاصها من الاستعباد والاستبداد والهزيمة والتشظّي. ومن أولويات هذه المهمة النضالية الكبيرة هي أن ينهض المثقفون والمفكرون والكتاب العرب الذين يؤمنون برسالة الأمة كرسالة إنسانية خالدة لممارسة دورهم الريادي في بلورة الطموحات المأمولة، وتحديد معالم الطريق العملية والواقعية لتحقيقها، بعيداً عن الإنشاء أو العواطف أو التنظير العقيم. على أن مثل هذا التفاعل وتلاقح الأفكار يتطلب من الجميع العمل من أجل هذا المشروع بروح ديمقراطية متجددة، كشرط أساسي لنجاحه كي يعيد للأمة العربية مجدها وكرامتها وحقها في الحياة.