شبكة ذي قار
عـاجـل










يزداد تضييق الخناق على نظام الملالي في إيران، على الرغم من مظاهر القوة التي يحاول أن يضفيها على نفسه، أو ما يتوهم أنها مظاهر قوة. وأما السبب في ذلك فلأنه يعمل من أجل إيديولوجيا تتناقض مع قواعد الواقع المعاصر على كل الصعد المحلية والعربية والدولية، من حيث ابتعادها عن مواصفات الأنظمة القومية السياسية المعاصرة وحقوقها في تقرير مصيرها. تلك الحقوق التي على الرغم من خضوعها لمصالح قطبية أميركا الوحيدة، إلاَّ أنها لن تبقى كذلك.

لقد قيل : ( لولا إيران لما دخلت أميركا العراق ) ، ونقول : ( لولا أميركا لما صمدت إيران فيه حتى الآن ) . لذا سيبقى التحالف بينهما طالما ظلَّ طرفاه يأملان في إحداث خرق في صفوف من اصطفَّ ضده. وقد بدأت مظاهر المواجهة ضد التحالف المذكور تتصاعد على مستوى الساحة العراقية والعربية والدولية. ونحسب أن نقطة البداية في انحسار النفوذ الأميركي لا بُدَّ من أن تعلن انطلاقتها بعد إنجاز الاستحقاق الانتخابي في أميركا في الأشهر القليلة القادمة، وذلك لأن أميركا ضمن سياستها ما بعد احتلال العراق، وخاصة في تحالفها مع نظام الملالي في إيران، راكمت خصومات كثيرة. ولكي تتوازن سياستها الخارجية، نحسب أنها لا بُدَّ من أن تعود إلى سياسة تقليل أعدائها وخصوماتها.

وأما البرهان على عدم تطابق مواصفات نظام ولاية الفقيه مع مواصفات النظام الدولي، بما فيه من تشريعات وقوانين، فيمكن رؤيتها من خلال الأسباب التالية :

إن جموح نظام الملالي في إيران نحو تأسيس حكومة عالمية تقود العالم باسم ( ولاية الفقيه ) ، لا يستند إلى أسس علمية، بل لا يستند إلى أية شرعية دينية إسلامية، بل والأهم من كل ذلك، فهو لا يستند إلى أسس مذهبية شيعية يمكنها أن تحقق إجماع الشيعة أنفسهم. ومع كل هذا فما يزال الملالي في طهران ضالعين في مشروعهم الإمبراطوري. والأدهى من كل ذلك أن قطاعاً واسعاً من الشيعة منجرف وراء مشروع لا يمتلك أكثر من نزعات سياسية تبرر قيادة ملالي طهران لنظام سياسي. ولذلك يعمل نظام الملالي على سلب هويتهم الوطنية وتجعله ملحقاً بالقرار الإيراني بشعارات دينية لأهداف سياسية. والملفت من بين كل ذلك، أن قطاعاً من المذاهب الأخرى، والأديان الأخرى منبهرون بذلك النظام، الذي يسوِّغ قيام الفوضى والقتل والجريمة وسرقة ثروات الشعوب لتمويل مشروعه الجهنمي.

ولأن لهذا المشروع تأثيرات أكثر من سلبية على المجتمع المدني، بل على المجتمع العربي من المحيط إلى الخليج، يقتضي هذا الواقع أن نلقي أضواء كاشفة للبرهان على لامشروعية قيام نظام ( ولاية الفقيه ) من شتى النواحي.

والحقيقة أن نظام ولاية الفقيه يُخضع الديني لخدمة السياسي. يبدو هذا واضحاً إذا عدنا للأسباب التي على أساسها وُضعت النظرية.

تعود نظرية ولاية الفقيه أصلاً لرغبة في استلام الحكم أبداها الشاه اسماعيل الصفوي، في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، وهو ما كانت تحرمه النظرية الشيعية التقليدية، أي التي تحرِّم تأسيس نظام سياسي طالما ظل ( الإمام المهدي المنتظر ) غائباً. فأفتى له الشيخ علي بن عبد العالي الكركي أحد علماء جبل عامل بأن يكون حاكماً مدنياً على أن يستند في أحكامه إلى فتاوى رجل دين أسماه ( الولي الفقيه ) . وهي النظرية ذاتها التي التقطها الخميني وبنى عليها أسس نظام جديد في إيران، على أن تشكل إيران النواة الأولى لحكومة عالمية تدير شؤون الدولة الإسلامية الشيعية.

فنظام ولاية الفقيه، إذن، مجرد فتوى لتشريع نظام سياسي، فهي تعتبر بمثابة فتوى وُضعت لخدمة أهداف الشاه اسماعيل، وهذا كان ديدن فقهاء السلاطين في التاريخ. فهي لا تمت للأصول الدينية بصلة. ولهذا يستغلها ملالي إيران لتدعيم سلطتهم السياسية، ولا علاقة للفكر الديني بها.

وأما أنها بدعة سياسية، ولا تستند إلى أسس دينية، فهو ما يدعمه قول الخميني في كتابه ( الحكومة الإسلامية ) لتبرير دعوته لقيام دولة دينية، بالقول : ( لقد انتظرنا ألفاً ومايتي سنة ولم يظهر المهدي المنتظر، وقد ننتظر ألفاً ومايتي سنة أخرى، وقد لا يظهر أبداً ) .

وأما في أنها بدعة جاءت لتخفي وراءها أهدافاً لا تمت للدين، أو المذهب بصلة، بل تخفي أهدافاً شخصية تصب في مصلحة الملالي في إيران ومصلحة حلفائهم من السياسيين والتجار من دون غيرهم، فهي تلك الوقائع التاريخية التي ترافقت مع بداية تأسيس نظام ( ولاية الفقيه ) في العام 1979.

وهنا، سوف نضع نظام الملالي في طهران أمام المساءلة، لنرى أن هناك مسافة كبرى تفصل بين مغزى الظهور ورمزيته وبين واقع الممارسات التي يقوم بها النظام، فنرى أن نظرية الظهور ترتكز على قاعدة رمزية دينية إنسانية وأخلاقية تقول إن ظهور المهدي مرتبط بإعادة العدل إلى العالم ومحاربة الظلم والجور، بينما نظام الملالي في طهران يرتكب كل أشكال الظلم والجور أينما وصلت يده.

وأما عن الوقائع فنحصرها، بالتالية :

1 - منذ انطلاقة النظام في العام 1979، أعلن ( مبدأ تصدير الثورة ) من أجل تأسيس حكومة عالمية. وأعلن أن المبدأ يلزم النظام بتصدير الثورة إلى العراق، وهذا كان يشكل السبب الأساس في الحرب الإيرانية - العراقية التي دامت ثماني سنوات دفع فيها الشعبان الإيراني والعراقي الخسائر الفادحة في الأرواح البشرية والموارد الاقتصادية. وإن كل من أشكل عليه تحديد من بدأ الحرب، فعليه أن لا يتعامى عن رؤية مبدأ ( تصدير الثورة ) الذي وضعه الخميني من جهة، آخذاً بعين الاعتبار من جهة أخرى أن النظام الوطني في العراق لا يجيز تصدير الثورة إلى خارج حدود الوطن العربي.

2 - بالوقائع والوثائق أثبت نظام الملالي في إيران أنه لم يجنح للسلم مع العراق على الرغم من كل الدعوات التي وجهها النظام الوطني العراقي قبل العدوان الإيراني على العراق، وأثناء العدوان، وبعد العدوان. حيث إن العراق وافق على كل قرارات مجلس الأمن الدولي الداعية الى وقف الحرب في حين أن إيران كانت ترفض تلك القرارات إلى أن أجبرت بفعل الوقائع على الأرض على قبول القرار 598 في 20 آب 1988.

3 - على الرغم من إعلان شعار ( أميركا الشيطان الأكبر ) ، والآية القرآنية بمنع الركون إلى الذين ظلموا، فقد أصرَّ نظام الملالي على التحالف مع ( الشيطان الأكبر ) في المشاركة على العدوان على العراق واحتلاله. ونحن علينا أن لا ننسى تصريحات مسؤولين في نظام الملالي، الذين يعترف بـ ( أنه لو طهران لما احتلت أميركا العراق ) .

4 - وعلى الرغم من إعلان نظام الملالي، بأن رمزية نظرية الظهور مشروطة بمحاربة الظلم، فقد كانت إيران أكبر الضالعين في ممارسة كل أنواع الظلم على الشعب العراقي. ومن أهمها ارتكاب ثلاث جرائم أساسية كبرى، وهي :

- الجريمة الأولى : الامتناع عن الاعتراف بالمبدأ الإنساني بحق الشعوب في تقرير مصيرها، عندما شاركت ( الشيطان الأكبر ) في احتلال العراق. وإنها صادرت حق العراقيين باختيار نظام الحكم، واختيار الحكومة التي تقود العراق. وبالعكس من كل ذلك فقد أعلنت أن مندوبها ( قاسم سليماني ) هو الحاكم الفعلي للعراق، يعين من يريد ويقصي عن الحكم من يريد. وأعلن أن بغداد هي عاصمة الإمبراطورية الفارسية.

- الجريمة الثانية : على العكس من كل الثوابت الدينية والإنسانية والتشريعات الدولية، فنظام الملالي يمارس سياسية الاستيلاء على ثروات العراق، والهيمنة على اقتصاده إنتاجاً واستيراداً وتصديراً، لتمويل مشاريعه التوسعية على حساب الشعب العراقي بشكل خاص، والأمة العربية بشكل عام. وما مظاهر إفلاس الخزينة العراقية سوى البرهان الأوضح في ذلك هو التالي : على الرغم من أن الحكومة العميلة في العراق رفعت منسوب إنتاج النفط الى 4.5 مليون برميل يومياً وتطالب بزيادة هذه النسبة الى 5 مليون برميل يومياً، وفي ذات الوقت تسعى للحصول على قروض من البنك الدولي وجهات أخرى، في حين أن العراق كان يتمتع بفائض نقدي في عهد النظام الوطني ولم يتجاوز إنتاجه آنذاك من النفط ثلاثة ملايين برميل يومياً.

وهذا ليس افتراءاً، بل تهمة بارتكاب جريمة موصوفة الأركان. وما سيطرة التحالف الثلاثي، الأميركي – الإيراني – وعملاؤهما، على اقتصاد العراق سوى البرهان الساطع على أن إفلاس الخزينة العراقية، وإفقار الشعب العراقي، يتحمل مسؤوليته أطرافه الثلاثة، وخاصة إيران التي وضعت يدها على الخزينة العراقية من أجل تمويل حروبها في أقطار عربية أخرى، ويعود سبب صمودها اقتصادياً في فترة الحصار الاقتصادي الذي كان مفروضاً عليها، إلى المبالغ الطائلة التي نهبتها من العراق. وهنا، لا بد من التذكير بحقيقة ساطعة، بأن من يحمي الوجود الأميركي في العراق، ومن يحمي الشلة الحاكمة، ليس أحد غير نظام الملالي في إيران.

- الجريمة الثالثة : نشر الفوضى الأمنية، وممارسة كل أنواع الجرائم من قتل وتشريد وتهجير وتجهيل، والقيام بأعمال استيطانية مشبوهة لتغيير معالم التوزيع السكاني بتوطين الملايين من الإيرانيين في العراق لتغيير وجهه الوطني والقومي.

5 - على الرغم من أن جورج بوش الإبن أعلن بعد احتلاله العراق، بأنه الخطوة الأولى لتصدير الديمواقراطية إلى أنظمة أخرى، ولكنه تجرَّع السم عندما اعترف بهزيمته، لم يتعظ نظام الملالي في إيران من درس حليفه الأميركي. ولولا احتلال العراق لما استطاع النظام المذكور من أن يمد يده إلى أقطار عربية أخرى. وكما أعترفت أميركا بالهزيمة وبلاشرعية احتلال العراق من خلال بطلان الأسباب، سيعترف نظام الملالي بهزيمته ولو بعد حين، نحسب أنه لن يطول.

ولأن المقاومة الوطنية العراقية شكَّلت المحور الرئيسي في تخليص كل دول العالم، بما فيها الدول العظمى، من شرور القطبية الأميركية المنفلتة، بدأت المقاومة ذاتها تشكل المحور الرئيسي لمنظومة الحركات السياسية والدول التي تعمل الآن للخلاص من شرور وآثام وجرائم نظام الملالي في إيران، ويأتي في طليعة أهداف المقاومة إعادة إقفال البوابة الشرقية للوطن العربي في وجه الهجمة الإيرانية للهيمنة على أمتنا العربية بكل مقدراتها.





السبت ٣٠ ذو الحجــة ١٤٣٧ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠١ / تشرين الاول / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مكتب الثقافة والإعلام القومي - لقاءُ القُوى الوَطَنيّة والقَوميّة التَقدُّميّة الديمُقراطِيّة ضَرورة حَتميّة للخَلاص مِن حالَةِ الضَعفِ العَرَبي د. عامر الدليمي في ظل الاستهداف المنقطع النظير الذي تتعرض له أمتنا العربية في أغلب أقطارها، وفي ظل غياب أية حدود أو سقف للبشاعة التي يتم فيها تنفيذ حلقات المؤامرة، وليس آخرها محرقة رفح، والمجزرة البشعة التي يتعرض لها شعبنا العربي في فلسطين، والتي وصلت إلى إحراق الخيام بقاطنيها حيث تم استهداف النازحين قسرًا شمال غرب رفح. تلك المجزرة التي خلّفت عشرات الشهداء الذين تحولت أجسادهم إلى أشلاء، بالإضافة إلى عشرات الجرحى معظمهم من الأطفال والنساء، مع استهداف الاحتلال الصهيوني للمنظومة الصحية وإخراجها من الخدمة، كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم أجمع العاجز عن كبح جماح جرائم العدو الصهيوني. في ظل هذا الواقع المأساوي، وعجز الأنظمة العربية عن وقف عجلة التدهور وبشاعته، يصبح من أعلى الأولويات والواجبات الحتمية، أن تلتقط القوى السياسية الوطنية والقومية زمام المبادرة، نحو بلورة مشروع يرقى إلى مستوى التحديات الوجودية الجسيمة التي تستهدف الأمة في وجودها. ويتقدم تلك الأولويات فهم الواقع الذي تمرُ به الأمة العربية في هذه الظروف وتحليلها بقدرٍ عالٍ من المسؤولية الوطنية والقومية والوقوف بواقعية وموضوعية على أسباب الانكسارات والتراجعات والاستسلام للقوى المعادية، حيث يتقدم تلك الأسباب الانقسام والتشظي العربي بسبب تناقضات ثانوية تاركين التحديات الأساسية والمصيرية تحرق الأمة وتنهي هويتها ووجودها. وفي مقدمة متطلبات تحقيق ذلك، والذي يعد من الضرورة القومية الحاسمة أن تكون هناك نظرة وفعل حقيقي جاد لتجديد الخطاب القومي العربي وتحديث مشروعه النهضوي التحرري التقدمي. ومن هنا فإن لقاء القوى السياسية المخلصة للوطن والأمة العربية، والعمل ضمن قواعد عمل مشتركة للتوصل إلى مشروع يمكِّن الأمة من مواجهة التحديات الوجودية الجسيمة التي تتعرض لها، ويعيد لها كرامتها، ويؤكد بأنها أمة جديرة بالحياة، من خلال إيجاد تفاهمات سياسية على قاعدة جماهيرية تكون أساساً لقوتها، وتستطيع من خلال ذلك وغيره التخلص من الضعف والتخلف والتقهقر الذي أصابها. إن ذلك من شأنه أن يرسم الخطوات الأولى التي تخطوها القوى الوطنية والقومية لقيادة الأمة نحو مرحلة جديدة لتكون أمة مجاهدة تسعى نحو التثوير والتنوير والتغيير والتقدم بكل جوانبه. كما وتشكِّل أساساً لإطلاق الحريات الفكرية والسياسية التي تعد الدعامة الرئيسية لمجتمع حضاري جديد، وتحقيق نهضة عروبية تقدمية ديمقراطية في الساحة السياسية كما في الساحة الفكرية. إن كل ذلك يقتضي تجاوز الحالات التي تعرضت لها من مناكفات وخصومات بينية أوصلتها إلى الاحتراب الفعلي فأضعفت نفسها، وجعلت القوى المعادية تتحكم بمصيرها. وليس أدل على ذلك ما وصلت إليه بعض الأنظمة العربية في الاستسلام والضعف أمام العدو الصهيوني، وتمدد استعماري للمشروع الفارسي في أقطار أمتنا العربية بدءاً من المشرق واندفاعاً نحو أقطارها في شمال افريقيا. إن الضرورة الوجودية والحتمية في تاريخنا الحالي تقتضي عودة التيار القومي العربي التحرري والمنظمات القومية لممارسة دورها الفعلي في الساحة العربية بقوة وثقة عالية، متحصِّنة بالإيمان المطلق بقدرها، وبمسؤوليتها التاريخية في قيادة الأمة لتحقيق أمل الجماهير في خلاصها من الاستعباد والاستبداد والهزيمة والتشظّي. ومن أولويات هذه المهمة النضالية الكبيرة هي أن ينهض المثقفون والمفكرون والكتاب العرب الذين يؤمنون برسالة الأمة كرسالة إنسانية خالدة لممارسة دورهم الريادي في بلورة الطموحات المأمولة، وتحديد معالم الطريق العملية والواقعية لتحقيقها، بعيداً عن الإنشاء أو العواطف أو التنظير العقيم. على أن مثل هذا التفاعل وتلاقح الأفكار يتطلب من الجميع العمل من أجل هذا المشروع بروح ديمقراطية متجددة، كشرط أساسي لنجاحه كي يعيد للأمة العربية مجدها وكرامتها وحقها في الحياة.
مواضيع الكاتب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة
مكتب الثقافة والإعلام القومي - لقاءُ القُوى الوَطَنيّة والقَوميّة التَقدُّميّة الديمُقراطِيّة ضَرورة حَتميّة للخَلاص مِن حالَةِ الضَعفِ العَرَبي د. عامر الدليمي في ظل الاستهداف المنقطع النظير الذي تتعرض له أمتنا العربية في أغلب أقطارها، وفي ظل غياب أية حدود أو سقف للبشاعة التي يتم فيها تنفيذ حلقات المؤامرة، وليس آخرها محرقة رفح، والمجزرة البشعة التي يتعرض لها شعبنا العربي في فلسطين، والتي وصلت إلى إحراق الخيام بقاطنيها حيث تم استهداف النازحين قسرًا شمال غرب رفح. تلك المجزرة التي خلّفت عشرات الشهداء الذين تحولت أجسادهم إلى أشلاء، بالإضافة إلى عشرات الجرحى معظمهم من الأطفال والنساء، مع استهداف الاحتلال الصهيوني للمنظومة الصحية وإخراجها من الخدمة، كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم أجمع العاجز عن كبح جماح جرائم العدو الصهيوني. في ظل هذا الواقع المأساوي، وعجز الأنظمة العربية عن وقف عجلة التدهور وبشاعته، يصبح من أعلى الأولويات والواجبات الحتمية، أن تلتقط القوى السياسية الوطنية والقومية زمام المبادرة، نحو بلورة مشروع يرقى إلى مستوى التحديات الوجودية الجسيمة التي تستهدف الأمة في وجودها. ويتقدم تلك الأولويات فهم الواقع الذي تمرُ به الأمة العربية في هذه الظروف وتحليلها بقدرٍ عالٍ من المسؤولية الوطنية والقومية والوقوف بواقعية وموضوعية على أسباب الانكسارات والتراجعات والاستسلام للقوى المعادية، حيث يتقدم تلك الأسباب الانقسام والتشظي العربي بسبب تناقضات ثانوية تاركين التحديات الأساسية والمصيرية تحرق الأمة وتنهي هويتها ووجودها. وفي مقدمة متطلبات تحقيق ذلك، والذي يعد من الضرورة القومية الحاسمة أن تكون هناك نظرة وفعل حقيقي جاد لتجديد الخطاب القومي العربي وتحديث مشروعه النهضوي التحرري التقدمي. ومن هنا فإن لقاء القوى السياسية المخلصة للوطن والأمة العربية، والعمل ضمن قواعد عمل مشتركة للتوصل إلى مشروع يمكِّن الأمة من مواجهة التحديات الوجودية الجسيمة التي تتعرض لها، ويعيد لها كرامتها، ويؤكد بأنها أمة جديرة بالحياة، من خلال إيجاد تفاهمات سياسية على قاعدة جماهيرية تكون أساساً لقوتها، وتستطيع من خلال ذلك وغيره التخلص من الضعف والتخلف والتقهقر الذي أصابها. إن ذلك من شأنه أن يرسم الخطوات الأولى التي تخطوها القوى الوطنية والقومية لقيادة الأمة نحو مرحلة جديدة لتكون أمة مجاهدة تسعى نحو التثوير والتنوير والتغيير والتقدم بكل جوانبه. كما وتشكِّل أساساً لإطلاق الحريات الفكرية والسياسية التي تعد الدعامة الرئيسية لمجتمع حضاري جديد، وتحقيق نهضة عروبية تقدمية ديمقراطية في الساحة السياسية كما في الساحة الفكرية. إن كل ذلك يقتضي تجاوز الحالات التي تعرضت لها من مناكفات وخصومات بينية أوصلتها إلى الاحتراب الفعلي فأضعفت نفسها، وجعلت القوى المعادية تتحكم بمصيرها. وليس أدل على ذلك ما وصلت إليه بعض الأنظمة العربية في الاستسلام والضعف أمام العدو الصهيوني، وتمدد استعماري للمشروع الفارسي في أقطار أمتنا العربية بدءاً من المشرق واندفاعاً نحو أقطارها في شمال افريقيا. إن الضرورة الوجودية والحتمية في تاريخنا الحالي تقتضي عودة التيار القومي العربي التحرري والمنظمات القومية لممارسة دورها الفعلي في الساحة العربية بقوة وثقة عالية، متحصِّنة بالإيمان المطلق بقدرها، وبمسؤوليتها التاريخية في قيادة الأمة لتحقيق أمل الجماهير في خلاصها من الاستعباد والاستبداد والهزيمة والتشظّي. ومن أولويات هذه المهمة النضالية الكبيرة هي أن ينهض المثقفون والمفكرون والكتاب العرب الذين يؤمنون برسالة الأمة كرسالة إنسانية خالدة لممارسة دورهم الريادي في بلورة الطموحات المأمولة، وتحديد معالم الطريق العملية والواقعية لتحقيقها، بعيداً عن الإنشاء أو العواطف أو التنظير العقيم. على أن مثل هذا التفاعل وتلاقح الأفكار يتطلب من الجميع العمل من أجل هذا المشروع بروح ديمقراطية متجددة، كشرط أساسي لنجاحه كي يعيد للأمة العربية مجدها وكرامتها وحقها في الحياة.