شبكة ذي قار
عـاجـل










نظريا، لا يوجد شعب على وجه الأرض دون عقد اجتماعي وسياسي ينظم حياة المجموعة البشرية المعنية ويحدد هويتها الثقافية وسيادتها الوطنية. وهذا العقد الاجتماعي السياسي يتعزز عمليا ودوريا بمستوى تطور المنظومة الثقافية والفكرية وكلما تطور يعمل بدوره على صقل تلك المنظومة المشار إليها حيث توجد علاقة جدلية حيوية بينهما.


والأنظمة التي تدير شؤون المجتمع والحاكمة بمقتضى ذلك العقد الاجتماعي السياسي تسعى بدورها إلى ترقية العلاقات الاجتماعية والمعاملات التبادلية وتنظيمها بما يحقق المصالح المشتركة ويوفر الأمن والرفاهة للجميع.


فكلما كانت الأنظمة الحاكمة وفية للعقد الاجتماعي السياسي وللمنظومة الثقافية والفكرية كانت أكثر فاعلية وانسجاما مع إرادة المجتمع. فمن المفترض أن تستجيب تلك الأنظمة الحاكمة لخيارات وحاجيات المجتمع وبذلك تقترب الأنظمة الحاكمة من مفهوم النظام الشعبي أو الجمهوري. ومن المفترض أيضا أن تتسم صيغ الحكم تلك بالتجدد بحكم تغير الأجيال وتطورها الثقافي والفكري والاجتماعي والاقتصادي تبعا للدوافع الداخلية والتأثيرات الوافدة نتيجة العلاقات والمبادلات القائمة بين المجتمعات البشرية. وهذا شأن الحياة ونواميسها.


وبالانتقال من الفكرة النظرية إلى الحالة المنظورة والموصوفة من خلال اختبار الواقع وفحص تطور المجتمعات عمليا، نجد مجتمعات تتطور بنسق سريع ومجتمعات بطيئة التطور وأخرى منقادة بالتبعية والتأثر بما يفقدها نسقية التطور وانسجامه مع عقدها الاجتماعي السياسي ومنظومتها الثقافية الأصيلة. وهذه يمكن وصفها بالمجتمعات الرهينة. وهذا الوصف ينطبق تماما على المجتمعات العربية دون استثناء.


ولكن لماذا هذا الارتهان وما هي أسبابه؟
عمليا تقع المجتمعات العربية في خانة الصنف الأخير من المجتمعات. فهي أقل تطورا وأبطأ تجديدا وأقل إنتاجا وإبداعا من غيرها. وبحكم الانقياد والتقليد والتأثر المفروض نجدها أولا خاضعة للتطور الشكلي ومحكومة بجمود أو ركود المضمون. وثانيا نجدها تعيش على الشعارات والوعود والآمال وعلى ترداد أمجاد الماضي والسلف الصالح. وهذا ارتهان إما للتقليد الوافد أو للماضي مما يعرقل أو يقتل نزعة التطلع نحو المستقل.


إن الانشداد للخلف أقوى من الانجذاب نحو استشراف الطريق وفتح الآفاق بحثا عن أسباب التطور والتقدم. ولكن لماذا هذا الارتداد؟. أوفى جواب أن الحاضر لم يوفر لها الأرضية الدافعة لكسر الجمود الثقافي والفكري لامتلاك القدرة على تجديد العقد الاجتماعي والانخراط الحر في الابتكار والإبداع والنهضة الحقيقية والشاملة التي من شأنها تحقيق ما هو أفضل من إنجازات الماضي. وهذا يعني أن حاضرنا أسوأ من ماضينا وهو في أشد انكساراته وأن الآفاق أمامنا مسدودة.


والحقيقة عندما يخيم الفشل ويضرب عميقا في شرايين المجتمع وتصبح أسبابه حالة قائمة ودائمة، تلجأ الذاكرة الفردية والجماعية إلى المشرق في ماضيها لتستنير وتستعين به على تخفيف ظلمة الحاضر وضبابية المستقبل وغموضه.


ولكن من المسؤول عن انطفاء شعلة الحاضر واختفاء معالم الطريق نحو النجاة من التيه في دواميس ودهاليز المحن العربية الراهنة؟.
جوابا على هذا السؤال نحمل المسؤولية على النخبة الفكرية والثقافية بدرجة ثالثة لتكون النخبة السياسية المعارضة بدرجة ثانية وهكذا تكون الأنظمة القائدة المسؤول الأول بكل تفرد واحتكار. والمشكلة تكمن في طبيعة هذه الأنظمة ومنهجها القيادي.


في الحقيقة، يقود مجتمعاتنا أنظمة سلطوية تسلطية علما وأن السياسة هي مجمع عوامل وأسباب نجاح أو فشل تقدم المجتمعات. وهذا يعني بكل تأكيد أن علة التخلف ومعضلة العجز تكمن في غياب عقد سياسي سليم ينظم الحياة السياسية ويفرز النظام السياسي المشروع والفاعل. ما نحن عليه أن الأنظمة الحاكمة قد فرضت نفسها من خارج العقد الاجتماعي لتكون فوق الجميع كسلطة متسلطة بلا عقد سياسي نابع من إرادة المجتمع ليمثل خياراته وتطلعاته المختلفة. وعليه يحق القول أنه ليس لدينا أنظمة سياسية حقا بل سلطات حاكمة لترويض المجتمعات وفرض الطاعة والأمن وحماية العروش ومصالحها، دونما احترام أو اعتبار لسيادة وإرادة وحرية الشعب السياسية خصوصا. والمعادلة الواردة في هذه السياق أن الحكم يقوم على تجريد المجتمعات من الممارسة السياسية وعلى فرض قدسية الحاكم وتقديس أحكامه. وطالما هو كذلك بقوة الأمن والقهر فهو يحتكر القيادة والمسؤولية لضمان بقائه. وهكذا تعتمد الأنظمة الحاكمة فلسفة الولاية والوصاية تكريسا للخلافة الأبدية ولو كان نظام الحكم دستوريا وجمهوريا. فهذا النوع من الحكم لن تكون سياساته وليدة الحراك الاجتماعي والثقافي والفكري والاقتصادي واستجابة حقيقة لتطلعات المجتمع بل تكون سياسات مفروضة مبررها أن المجتمع لم يبلغ النضج الاجتماعي والوعي الثقافي والسياسي الكافيين ليتمتع بسيادته وإرادته وحقوقه بكل حرية ومسؤولية مثلما تقتضيه الممارسة الديمقراطية.


إن الأنظمة الحاكمة لدينا تتصرف بمنطق الأبوة والولاية والوصاية والخلافة لتصادر مصير المجتمع وتبقيه عاجزا خاضعا لأهوائها. ولا شك أن المجتمعات إذا قيدت بفلسفة التسلط تفقد سيادتها وحريتها وتضعف إرادتها إلى حد العجز والجمود. ومجتمعاتنا العربية على هذا المنوال من الحكم التسلطي لتكون على أسوئ الحال.


وهذا يعني بالضرورة غياب أنظمة سياسية حاكمة ومحكومة من قبل منظوريها. وهذا يعني أيضا أن ما لدينا هي أنظمة حاكمة، أنظمة سلطوية، أبوية، تسلطية، عسكرية، وراثية، وصية على المجتمعات وليست ممثلة لها وليست إفرازا لخياراتها وإرادتها وإن تسمت بنظام جمهوري، شعبي، ديمقراطي أو كانت ملكية. جميعها حاكمة بالشمولية المطلقة والمستدامة. وحتى تضمن ديمومتها لا بد أن تضع حدودا لسيادة وإرادة وحرية المجتمعات بحكم منطق الوصاية الشاملة. فهي التي تقرر وترسم التوجهات في مختلف شؤون الحياة حيث يلعب المرسوم، جمهوريا كان أو ملكيا، الدور الحاسم في تقرير مصير الدولة برمتها وقد يخطئ ويصيب. وفي جميع الحالات لا رقيب ولا حسيب في المسألة. ومن شأن هذا الحكم أن يجرد المجتمع من المسؤولية ويصيبه بالجمود فينزع إلى الاتكال والانتظار فيفقد روح الإبداع والابتكار.


إن هذا النوع من الحكم لا يستند إلى سياسة نابعة من المجتمع فيها أخذ وعطاء، فيها تجاوب بين الحاكم والمحكوم، فيها تداول ومشاركة بما يسمح بالتعديل والتصحيح ويضمن التجدد والرقي نحو الأفضل.


ما حدث في مجتمعاتنا أنها حرمت من نعمة التجدد والانتقال من مرحلة إلى أخرى بما يعيد الأمل في التطلع والانفتاح على الأجيال وتمكينها من المشاركة بفاعلية والمساهمة بجدية أي تحمل المسؤولية في البناء والتنمية.


بمقاييس التجدد الحديثة لا بد من حدوث تغير يذكر بين عشرية وأخرى سياسيا وتنمويا أما أن يستمر نفس النظام بنفس الوجوه والأفكار والتوجهات والسياسات على مدى عقود من الزمن فإن ذلك لا ينتج غير الجمود والتآكل فالإحباط والانحطاط الفكري والثقافي. وبالنتيجة التردي الاجتماعي وضعف الثوابت. وإن بدا هنا أو هناك بعض التطور المادي الاستهلاكي فإنه لا يمكن أن يخفي انهيار القيم والعلاقات الاجتماعية لتستمر مجتمعاتنا في الارتداد والانكسار وتستمر الأنظمة في التعاظم زيفا واستقواء بأجهزة الأمن ليكون الاستبداد عمادها والفساد حصادها. والحقيقة لا يفسد ويضعف المجتمع إلا بفساد واستبداد حكامه. والخلاصة لا تنهض أمة تحت الوصاية مهما كان مصدرها.


hedi_mathlouthi@yahoo.fr
تونس في 20 جويلية / تموز 2010

 

 





الخميس١٠ شعبـان ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٢ / تموز / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مكتب الثقافة والإعلام القومي - لقاءُ القُوى الوَطَنيّة والقَوميّة التَقدُّميّة الديمُقراطِيّة ضَرورة حَتميّة للخَلاص مِن حالَةِ الضَعفِ العَرَبي د. عامر الدليمي في ظل الاستهداف المنقطع النظير الذي تتعرض له أمتنا العربية في أغلب أقطارها، وفي ظل غياب أية حدود أو سقف للبشاعة التي يتم فيها تنفيذ حلقات المؤامرة، وليس آخرها محرقة رفح، والمجزرة البشعة التي يتعرض لها شعبنا العربي في فلسطين، والتي وصلت إلى إحراق الخيام بقاطنيها حيث تم استهداف النازحين قسرًا شمال غرب رفح. تلك المجزرة التي خلّفت عشرات الشهداء الذين تحولت أجسادهم إلى أشلاء، بالإضافة إلى عشرات الجرحى معظمهم من الأطفال والنساء، مع استهداف الاحتلال الصهيوني للمنظومة الصحية وإخراجها من الخدمة، كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم أجمع العاجز عن كبح جماح جرائم العدو الصهيوني. في ظل هذا الواقع المأساوي، وعجز الأنظمة العربية عن وقف عجلة التدهور وبشاعته، يصبح من أعلى الأولويات والواجبات الحتمية، أن تلتقط القوى السياسية الوطنية والقومية زمام المبادرة، نحو بلورة مشروع يرقى إلى مستوى التحديات الوجودية الجسيمة التي تستهدف الأمة في وجودها. ويتقدم تلك الأولويات فهم الواقع الذي تمرُ به الأمة العربية في هذه الظروف وتحليلها بقدرٍ عالٍ من المسؤولية الوطنية والقومية والوقوف بواقعية وموضوعية على أسباب الانكسارات والتراجعات والاستسلام للقوى المعادية، حيث يتقدم تلك الأسباب الانقسام والتشظي العربي بسبب تناقضات ثانوية تاركين التحديات الأساسية والمصيرية تحرق الأمة وتنهي هويتها ووجودها. وفي مقدمة متطلبات تحقيق ذلك، والذي يعد من الضرورة القومية الحاسمة أن تكون هناك نظرة وفعل حقيقي جاد لتجديد الخطاب القومي العربي وتحديث مشروعه النهضوي التحرري التقدمي. ومن هنا فإن لقاء القوى السياسية المخلصة للوطن والأمة العربية، والعمل ضمن قواعد عمل مشتركة للتوصل إلى مشروع يمكِّن الأمة من مواجهة التحديات الوجودية الجسيمة التي تتعرض لها، ويعيد لها كرامتها، ويؤكد بأنها أمة جديرة بالحياة، من خلال إيجاد تفاهمات سياسية على قاعدة جماهيرية تكون أساساً لقوتها، وتستطيع من خلال ذلك وغيره التخلص من الضعف والتخلف والتقهقر الذي أصابها. إن ذلك من شأنه أن يرسم الخطوات الأولى التي تخطوها القوى الوطنية والقومية لقيادة الأمة نحو مرحلة جديدة لتكون أمة مجاهدة تسعى نحو التثوير والتنوير والتغيير والتقدم بكل جوانبه. كما وتشكِّل أساساً لإطلاق الحريات الفكرية والسياسية التي تعد الدعامة الرئيسية لمجتمع حضاري جديد، وتحقيق نهضة عروبية تقدمية ديمقراطية في الساحة السياسية كما في الساحة الفكرية. إن كل ذلك يقتضي تجاوز الحالات التي تعرضت لها من مناكفات وخصومات بينية أوصلتها إلى الاحتراب الفعلي فأضعفت نفسها، وجعلت القوى المعادية تتحكم بمصيرها. وليس أدل على ذلك ما وصلت إليه بعض الأنظمة العربية في الاستسلام والضعف أمام العدو الصهيوني، وتمدد استعماري للمشروع الفارسي في أقطار أمتنا العربية بدءاً من المشرق واندفاعاً نحو أقطارها في شمال افريقيا. إن الضرورة الوجودية والحتمية في تاريخنا الحالي تقتضي عودة التيار القومي العربي التحرري والمنظمات القومية لممارسة دورها الفعلي في الساحة العربية بقوة وثقة عالية، متحصِّنة بالإيمان المطلق بقدرها، وبمسؤوليتها التاريخية في قيادة الأمة لتحقيق أمل الجماهير في خلاصها من الاستعباد والاستبداد والهزيمة والتشظّي. ومن أولويات هذه المهمة النضالية الكبيرة هي أن ينهض المثقفون والمفكرون والكتاب العرب الذين يؤمنون برسالة الأمة كرسالة إنسانية خالدة لممارسة دورهم الريادي في بلورة الطموحات المأمولة، وتحديد معالم الطريق العملية والواقعية لتحقيقها، بعيداً عن الإنشاء أو العواطف أو التنظير العقيم. على أن مثل هذا التفاعل وتلاقح الأفكار يتطلب من الجميع العمل من أجل هذا المشروع بروح ديمقراطية متجددة، كشرط أساسي لنجاحه كي يعيد للأمة العربية مجدها وكرامتها وحقها في الحياة.
مواضيع الكاتب الأستاذ الهادي المثلوثي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة
مكتب الثقافة والإعلام القومي - لقاءُ القُوى الوَطَنيّة والقَوميّة التَقدُّميّة الديمُقراطِيّة ضَرورة حَتميّة للخَلاص مِن حالَةِ الضَعفِ العَرَبي د. عامر الدليمي في ظل الاستهداف المنقطع النظير الذي تتعرض له أمتنا العربية في أغلب أقطارها، وفي ظل غياب أية حدود أو سقف للبشاعة التي يتم فيها تنفيذ حلقات المؤامرة، وليس آخرها محرقة رفح، والمجزرة البشعة التي يتعرض لها شعبنا العربي في فلسطين، والتي وصلت إلى إحراق الخيام بقاطنيها حيث تم استهداف النازحين قسرًا شمال غرب رفح. تلك المجزرة التي خلّفت عشرات الشهداء الذين تحولت أجسادهم إلى أشلاء، بالإضافة إلى عشرات الجرحى معظمهم من الأطفال والنساء، مع استهداف الاحتلال الصهيوني للمنظومة الصحية وإخراجها من الخدمة، كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم أجمع العاجز عن كبح جماح جرائم العدو الصهيوني. في ظل هذا الواقع المأساوي، وعجز الأنظمة العربية عن وقف عجلة التدهور وبشاعته، يصبح من أعلى الأولويات والواجبات الحتمية، أن تلتقط القوى السياسية الوطنية والقومية زمام المبادرة، نحو بلورة مشروع يرقى إلى مستوى التحديات الوجودية الجسيمة التي تستهدف الأمة في وجودها. ويتقدم تلك الأولويات فهم الواقع الذي تمرُ به الأمة العربية في هذه الظروف وتحليلها بقدرٍ عالٍ من المسؤولية الوطنية والقومية والوقوف بواقعية وموضوعية على أسباب الانكسارات والتراجعات والاستسلام للقوى المعادية، حيث يتقدم تلك الأسباب الانقسام والتشظي العربي بسبب تناقضات ثانوية تاركين التحديات الأساسية والمصيرية تحرق الأمة وتنهي هويتها ووجودها. وفي مقدمة متطلبات تحقيق ذلك، والذي يعد من الضرورة القومية الحاسمة أن تكون هناك نظرة وفعل حقيقي جاد لتجديد الخطاب القومي العربي وتحديث مشروعه النهضوي التحرري التقدمي. ومن هنا فإن لقاء القوى السياسية المخلصة للوطن والأمة العربية، والعمل ضمن قواعد عمل مشتركة للتوصل إلى مشروع يمكِّن الأمة من مواجهة التحديات الوجودية الجسيمة التي تتعرض لها، ويعيد لها كرامتها، ويؤكد بأنها أمة جديرة بالحياة، من خلال إيجاد تفاهمات سياسية على قاعدة جماهيرية تكون أساساً لقوتها، وتستطيع من خلال ذلك وغيره التخلص من الضعف والتخلف والتقهقر الذي أصابها. إن ذلك من شأنه أن يرسم الخطوات الأولى التي تخطوها القوى الوطنية والقومية لقيادة الأمة نحو مرحلة جديدة لتكون أمة مجاهدة تسعى نحو التثوير والتنوير والتغيير والتقدم بكل جوانبه. كما وتشكِّل أساساً لإطلاق الحريات الفكرية والسياسية التي تعد الدعامة الرئيسية لمجتمع حضاري جديد، وتحقيق نهضة عروبية تقدمية ديمقراطية في الساحة السياسية كما في الساحة الفكرية. إن كل ذلك يقتضي تجاوز الحالات التي تعرضت لها من مناكفات وخصومات بينية أوصلتها إلى الاحتراب الفعلي فأضعفت نفسها، وجعلت القوى المعادية تتحكم بمصيرها. وليس أدل على ذلك ما وصلت إليه بعض الأنظمة العربية في الاستسلام والضعف أمام العدو الصهيوني، وتمدد استعماري للمشروع الفارسي في أقطار أمتنا العربية بدءاً من المشرق واندفاعاً نحو أقطارها في شمال افريقيا. إن الضرورة الوجودية والحتمية في تاريخنا الحالي تقتضي عودة التيار القومي العربي التحرري والمنظمات القومية لممارسة دورها الفعلي في الساحة العربية بقوة وثقة عالية، متحصِّنة بالإيمان المطلق بقدرها، وبمسؤوليتها التاريخية في قيادة الأمة لتحقيق أمل الجماهير في خلاصها من الاستعباد والاستبداد والهزيمة والتشظّي. ومن أولويات هذه المهمة النضالية الكبيرة هي أن ينهض المثقفون والمفكرون والكتاب العرب الذين يؤمنون برسالة الأمة كرسالة إنسانية خالدة لممارسة دورهم الريادي في بلورة الطموحات المأمولة، وتحديد معالم الطريق العملية والواقعية لتحقيقها، بعيداً عن الإنشاء أو العواطف أو التنظير العقيم. على أن مثل هذا التفاعل وتلاقح الأفكار يتطلب من الجميع العمل من أجل هذا المشروع بروح ديمقراطية متجددة، كشرط أساسي لنجاحه كي يعيد للأمة العربية مجدها وكرامتها وحقها في الحياة.