شبكة ذي قار
عـاجـل










بدأ مشهد دبلوماسية البلطجة الأميركي أولا بتصريح الرئيس، دونالد ترامب، عن نقل سفارة بلاده في تل أبيب إلى القدس المحتلة، لينتهي بفضيحة مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، نيكي هيلي، التي تبجحت، وقالت إنها ستسجل أسماء الدول التي ستصوت ضد القرار الأميركي، لمعاقبتها وقطع المساعدات عنها. وعلى الرغم من أن أروقة المؤسسة الدولية التي سمّاها الجنرال شارل ديغول machin، أي الشيء، قد مرت بأحداث يذكرها التاريخ، بسبب الوضع السياسي العالمي، كما في الحرب الباردة بين المعسكر الغربي والاتحاد السوفيتي التي دفعت الرئيس نيكيتا خروتشوف إلى رفع حذائه والضرب به، متوعدا بأنه سيظهر لأميركا "بأي خشب أتدفأ"، ترجمة لتعبيره الروسي الذي استعمله في الأمم المتحدة، احتجاجا على خطاب ممثل الفيليبين الذي اتهم الاتحاد السوفيتي بالهيمنة على دول أوروبا الشرقية، إلا أن ما قامت به ممثلة الولايات المتحدة من تهديد وابتزاز للأعضاء في المنظمة سابقة سيئة، تشهد على مستوى متدنٍ للدبلوماسية الأميركية في عهد ترامب التي غالبا ما تردّد شكواها الأزلية من كره العالم لها.

ولحسن الحظ، أثار قرار ترامب سخطا عالميا رسميا وشعبيا، فتصويت 128 دولة لصالح قرار يرفض تغيير وضع القدس، ويؤكد القرارات السابقة المتعلقة بها، نصر لفلسطين المحتلة ولقدسها، ما يعني أن قضية الاحتلال لم تزل قضية احتلال، لن تمرّ، على الرغم من كل محاولات تطبيعه الإقليمية والدولية، ونصر شعبي عالمي لمن يرفض ويناضل من أجل الحقوق الفلسطينية، إذ لقي القرار ارتياحا واسعا في العالم من المنظمات الداعمة للحق الفلسطيني، ومن شعوب هذه الدول التي صوّتت لصالحه، وشجبت بعنف البلطجة الأميركية. ويطرح تصويت هذا العدد من الدول سؤال إمكانية مواجهة دبلوماسية البلطجة الأميركية التي يسوّقها ترامب منذ تسلمه دفة البيت الأبيض، وخصوصا في المنطقة العربية التي تفتح له أبوابها مشرعةً، لترقص معه، وتجزل له العطاء والهدايا، متناسية أن أساس الفوضى هو التدخل الأميركي بأشكاله المتنوّعة.

لسوء حظ شعوبنا العربية أنه ليس لحكوماتنا أي سياسة دبلوماسية، ولو بالحد الأدنى، تمكّنها من المناورة، وأخذ أقل ما يمكن من الطرف الآخر الذي بالضرورة لا يملك كل أوراق اللعبة. يكفي هذه الحكومات أن ترى كيف أن أكبر حلفاء الولايات المتحدة والمرتبطين بها، كما في دول حلف شمال الأطلسي ( الناتو ) يحرّكون بعض الأوراق معها، ويفرضون مواقف تميزهم عنها. هذه المتحدثة بأسم الخارجية الألمانية، ماريا أديبار، تصرح من برلين "صوتنا بما قرّرنا التصويت به". وهي رسالة قوية من الدولة الألمانية، ليس فقط بشأن مدينة القدس، بل وبشأن القضية الفلسطينية برمتها، وكل ما يخصها من قراراتٍ شرعيةٍ، أقرّتها الأمم المتحدة، وصوتت عليها الدول الأعضاء. ويعبر موقف ألمانيا أيضا عن رفض تصريح شعبوي، لا يليق بالموقع الرئاسي، ولا بالدبلوماسية، بل ربما ناتج عن وضع الرئيس الأميركي نفسه، المحشور في الزاوية، منذ رغبة بعض نواب الكونغرس إقالته وإجباره على الاستقاله من منصبه.

ليس ذلك فحسب، فقد صوّتت فرنسا لصالح القرار، على الرغم من كل تصريحات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، التي تصب في صالح الأحتلال، وقد قال، في مؤتمره الصحافي، مع الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، إن الولايات المتحدة قد همّشت، ليترجم موقفا فرنسيا يعبر عن شعور بالمسوؤلية لدوره عضوا في مجلس الأمن، يحترم القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية.

ليس هذا التصويت فقط، كما قال ماكرون، تهميشا للأميركيين، لكنه يبدو بشكل جلي خطأ سياسي فادح من ترامب إزاء دول العالم كافة، وإزاء مدينة القدس خصوصا، أطاح صورة الولايات المتحدة، على الرغم من أن كل المرشحين الأميركيين للرئاسة كانوا يعدون بنقل سفارتهم إلى القدس، لكن هذا الأمر غالبا ما كان شعارا انتخابيا وليس للتنفيذ. أظهر التصويت الأممي على وضع القدس باعتراف دول كبيرة أن موازين القوى بدأت فعلا بالتغير، ومستمرة في الانقلاب في اتجاهات تهميش الغرب عموما، وليس فقط الولايات المتحدة، ما سيحدّ من تأثيرها مستقبلا، ومن دورها في الشرق الأوسط لحساب دول أخرى.

تظهر هذه القضية، مرة أخرى، وجود هامشٍ تستهين به الدول العربية منذ عقود، وفي كل المناسبات الكبيرة والصغيرة التي تمر بها المنطقة، أن في وسع هذه الدول أن تلعب، هي الأخرى، على تغيير موازين القوى لصالحها، ولو بالحد الأدنى، وتحمي نفسها، وتحمي مصالحها المستباحة، بإرادة مشلولة، بسبب العلاقة مع الولايات المتحدة. فمن وقف أمام البلطجة الأميركية هي دول أقل أهمية، وأقل غنى من كل الدول العربية، لم يردعها تهديد القوة العظمى، ولا ابتزاز ممثلتها، بل أعطاها ذلك كله مزيدا من العزم على الوقوف بوجه العنجهية، وعقلية الكاوبوي التي تمارسها الولايات المتحدة مع دول العالم.





الاثنين ١٤ ربيع الثاني ١٤٣٩ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠١ / كانون الثاني / ٢٠١٨ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مكتب الثقافة والإعلام القومي - لقاءُ القُوى الوَطَنيّة والقَوميّة التَقدُّميّة الديمُقراطِيّة ضَرورة حَتميّة للخَلاص مِن حالَةِ الضَعفِ العَرَبي د. عامر الدليمي في ظل الاستهداف المنقطع النظير الذي تتعرض له أمتنا العربية في أغلب أقطارها، وفي ظل غياب أية حدود أو سقف للبشاعة التي يتم فيها تنفيذ حلقات المؤامرة، وليس آخرها محرقة رفح، والمجزرة البشعة التي يتعرض لها شعبنا العربي في فلسطين، والتي وصلت إلى إحراق الخيام بقاطنيها حيث تم استهداف النازحين قسرًا شمال غرب رفح. تلك المجزرة التي خلّفت عشرات الشهداء الذين تحولت أجسادهم إلى أشلاء، بالإضافة إلى عشرات الجرحى معظمهم من الأطفال والنساء، مع استهداف الاحتلال الصهيوني للمنظومة الصحية وإخراجها من الخدمة، كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم أجمع العاجز عن كبح جماح جرائم العدو الصهيوني. في ظل هذا الواقع المأساوي، وعجز الأنظمة العربية عن وقف عجلة التدهور وبشاعته، يصبح من أعلى الأولويات والواجبات الحتمية، أن تلتقط القوى السياسية الوطنية والقومية زمام المبادرة، نحو بلورة مشروع يرقى إلى مستوى التحديات الوجودية الجسيمة التي تستهدف الأمة في وجودها. ويتقدم تلك الأولويات فهم الواقع الذي تمرُ به الأمة العربية في هذه الظروف وتحليلها بقدرٍ عالٍ من المسؤولية الوطنية والقومية والوقوف بواقعية وموضوعية على أسباب الانكسارات والتراجعات والاستسلام للقوى المعادية، حيث يتقدم تلك الأسباب الانقسام والتشظي العربي بسبب تناقضات ثانوية تاركين التحديات الأساسية والمصيرية تحرق الأمة وتنهي هويتها ووجودها. وفي مقدمة متطلبات تحقيق ذلك، والذي يعد من الضرورة القومية الحاسمة أن تكون هناك نظرة وفعل حقيقي جاد لتجديد الخطاب القومي العربي وتحديث مشروعه النهضوي التحرري التقدمي. ومن هنا فإن لقاء القوى السياسية المخلصة للوطن والأمة العربية، والعمل ضمن قواعد عمل مشتركة للتوصل إلى مشروع يمكِّن الأمة من مواجهة التحديات الوجودية الجسيمة التي تتعرض لها، ويعيد لها كرامتها، ويؤكد بأنها أمة جديرة بالحياة، من خلال إيجاد تفاهمات سياسية على قاعدة جماهيرية تكون أساساً لقوتها، وتستطيع من خلال ذلك وغيره التخلص من الضعف والتخلف والتقهقر الذي أصابها. إن ذلك من شأنه أن يرسم الخطوات الأولى التي تخطوها القوى الوطنية والقومية لقيادة الأمة نحو مرحلة جديدة لتكون أمة مجاهدة تسعى نحو التثوير والتنوير والتغيير والتقدم بكل جوانبه. كما وتشكِّل أساساً لإطلاق الحريات الفكرية والسياسية التي تعد الدعامة الرئيسية لمجتمع حضاري جديد، وتحقيق نهضة عروبية تقدمية ديمقراطية في الساحة السياسية كما في الساحة الفكرية. إن كل ذلك يقتضي تجاوز الحالات التي تعرضت لها من مناكفات وخصومات بينية أوصلتها إلى الاحتراب الفعلي فأضعفت نفسها، وجعلت القوى المعادية تتحكم بمصيرها. وليس أدل على ذلك ما وصلت إليه بعض الأنظمة العربية في الاستسلام والضعف أمام العدو الصهيوني، وتمدد استعماري للمشروع الفارسي في أقطار أمتنا العربية بدءاً من المشرق واندفاعاً نحو أقطارها في شمال افريقيا. إن الضرورة الوجودية والحتمية في تاريخنا الحالي تقتضي عودة التيار القومي العربي التحرري والمنظمات القومية لممارسة دورها الفعلي في الساحة العربية بقوة وثقة عالية، متحصِّنة بالإيمان المطلق بقدرها، وبمسؤوليتها التاريخية في قيادة الأمة لتحقيق أمل الجماهير في خلاصها من الاستعباد والاستبداد والهزيمة والتشظّي. ومن أولويات هذه المهمة النضالية الكبيرة هي أن ينهض المثقفون والمفكرون والكتاب العرب الذين يؤمنون برسالة الأمة كرسالة إنسانية خالدة لممارسة دورهم الريادي في بلورة الطموحات المأمولة، وتحديد معالم الطريق العملية والواقعية لتحقيقها، بعيداً عن الإنشاء أو العواطف أو التنظير العقيم. على أن مثل هذا التفاعل وتلاقح الأفكار يتطلب من الجميع العمل من أجل هذا المشروع بروح ديمقراطية متجددة، كشرط أساسي لنجاحه كي يعيد للأمة العربية مجدها وكرامتها وحقها في الحياة.
مواضيع الكاتب ولاء سعيد السامرائي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة
مكتب الثقافة والإعلام القومي - لقاءُ القُوى الوَطَنيّة والقَوميّة التَقدُّميّة الديمُقراطِيّة ضَرورة حَتميّة للخَلاص مِن حالَةِ الضَعفِ العَرَبي د. عامر الدليمي في ظل الاستهداف المنقطع النظير الذي تتعرض له أمتنا العربية في أغلب أقطارها، وفي ظل غياب أية حدود أو سقف للبشاعة التي يتم فيها تنفيذ حلقات المؤامرة، وليس آخرها محرقة رفح، والمجزرة البشعة التي يتعرض لها شعبنا العربي في فلسطين، والتي وصلت إلى إحراق الخيام بقاطنيها حيث تم استهداف النازحين قسرًا شمال غرب رفح. تلك المجزرة التي خلّفت عشرات الشهداء الذين تحولت أجسادهم إلى أشلاء، بالإضافة إلى عشرات الجرحى معظمهم من الأطفال والنساء، مع استهداف الاحتلال الصهيوني للمنظومة الصحية وإخراجها من الخدمة، كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم أجمع العاجز عن كبح جماح جرائم العدو الصهيوني. في ظل هذا الواقع المأساوي، وعجز الأنظمة العربية عن وقف عجلة التدهور وبشاعته، يصبح من أعلى الأولويات والواجبات الحتمية، أن تلتقط القوى السياسية الوطنية والقومية زمام المبادرة، نحو بلورة مشروع يرقى إلى مستوى التحديات الوجودية الجسيمة التي تستهدف الأمة في وجودها. ويتقدم تلك الأولويات فهم الواقع الذي تمرُ به الأمة العربية في هذه الظروف وتحليلها بقدرٍ عالٍ من المسؤولية الوطنية والقومية والوقوف بواقعية وموضوعية على أسباب الانكسارات والتراجعات والاستسلام للقوى المعادية، حيث يتقدم تلك الأسباب الانقسام والتشظي العربي بسبب تناقضات ثانوية تاركين التحديات الأساسية والمصيرية تحرق الأمة وتنهي هويتها ووجودها. وفي مقدمة متطلبات تحقيق ذلك، والذي يعد من الضرورة القومية الحاسمة أن تكون هناك نظرة وفعل حقيقي جاد لتجديد الخطاب القومي العربي وتحديث مشروعه النهضوي التحرري التقدمي. ومن هنا فإن لقاء القوى السياسية المخلصة للوطن والأمة العربية، والعمل ضمن قواعد عمل مشتركة للتوصل إلى مشروع يمكِّن الأمة من مواجهة التحديات الوجودية الجسيمة التي تتعرض لها، ويعيد لها كرامتها، ويؤكد بأنها أمة جديرة بالحياة، من خلال إيجاد تفاهمات سياسية على قاعدة جماهيرية تكون أساساً لقوتها، وتستطيع من خلال ذلك وغيره التخلص من الضعف والتخلف والتقهقر الذي أصابها. إن ذلك من شأنه أن يرسم الخطوات الأولى التي تخطوها القوى الوطنية والقومية لقيادة الأمة نحو مرحلة جديدة لتكون أمة مجاهدة تسعى نحو التثوير والتنوير والتغيير والتقدم بكل جوانبه. كما وتشكِّل أساساً لإطلاق الحريات الفكرية والسياسية التي تعد الدعامة الرئيسية لمجتمع حضاري جديد، وتحقيق نهضة عروبية تقدمية ديمقراطية في الساحة السياسية كما في الساحة الفكرية. إن كل ذلك يقتضي تجاوز الحالات التي تعرضت لها من مناكفات وخصومات بينية أوصلتها إلى الاحتراب الفعلي فأضعفت نفسها، وجعلت القوى المعادية تتحكم بمصيرها. وليس أدل على ذلك ما وصلت إليه بعض الأنظمة العربية في الاستسلام والضعف أمام العدو الصهيوني، وتمدد استعماري للمشروع الفارسي في أقطار أمتنا العربية بدءاً من المشرق واندفاعاً نحو أقطارها في شمال افريقيا. إن الضرورة الوجودية والحتمية في تاريخنا الحالي تقتضي عودة التيار القومي العربي التحرري والمنظمات القومية لممارسة دورها الفعلي في الساحة العربية بقوة وثقة عالية، متحصِّنة بالإيمان المطلق بقدرها، وبمسؤوليتها التاريخية في قيادة الأمة لتحقيق أمل الجماهير في خلاصها من الاستعباد والاستبداد والهزيمة والتشظّي. ومن أولويات هذه المهمة النضالية الكبيرة هي أن ينهض المثقفون والمفكرون والكتاب العرب الذين يؤمنون برسالة الأمة كرسالة إنسانية خالدة لممارسة دورهم الريادي في بلورة الطموحات المأمولة، وتحديد معالم الطريق العملية والواقعية لتحقيقها، بعيداً عن الإنشاء أو العواطف أو التنظير العقيم. على أن مثل هذا التفاعل وتلاقح الأفكار يتطلب من الجميع العمل من أجل هذا المشروع بروح ديمقراطية متجددة، كشرط أساسي لنجاحه كي يعيد للأمة العربية مجدها وكرامتها وحقها في الحياة.