شبكة ذي قار
عـاجـل










بالرغم من ما تقدم والتعهدات التي كتبها خميني برسائله المتبادلة مع الإدارة الامريكية - الرئيس كارتر - أعلن حالة العداء ضد حزب البعث ونظامه الوطني في العراق ورفع شعار تصدير الثورة والذي هو التدخل المباشر بالشأن الداخلي للعراق والدول العربية التي يستهدفها لتحقيق الحلم الصفوي بانبعاث الإمبراطورية الفارسية الجديدة تحت عنوان الهلال أو القمر الشيعي ، واليوم يشهد المشهد العربي ذلك التدخل الفاضح في العراق وسوريا واليمن ولبنان وبشكل واخر في المغرب العربي والجزيرة والخليج العربي ، وقام بتكفير المذاهب الإسلامية الأخرى ، وبالنتيجة إن الحركتين معاً – جماعة الاخوان وولاية الفقيه - هما دعوتان دينيتان سياسيتان ترفضان أي نظام حكم آخر ، وخاصة الأنظمة العلمانية وكان هذا الرفض مبنياً على مبدأ ( لا حكم إلاَّ لله ) وإن الأنظمة المدنية أنظمة كفر يجب إسقاطها ومع أن الحركتين اتفقتا على مبدأ إعادة نظام الخلافة إلا أنهما اختلفتا على مضمون تطبيقه فالأولى تدعو إلى استعادة نظام ما تسميه ( الخلافة الراشدة ) ، وأما الثانية فتدعو إلى حكم ( الولي الفقيه ) في ظل غيبة ( الإمام المهدي المنتظر ) وان المرشد الأعلى خميني وما بعده خامنئي ومن سياتي بعده هو ولي امر المسلمين كافة أينما كانوا ويكونون لأنه يعطي لنفسه تفويضا بانه نائب الامام المنتظر الغائب ، وامره وقراراته واجبة التنفيذ والالتزام بها دون قيود إقليمية او قطرية لان رسالته عالمية ، وتصديا لكل هذه الأفكار الشعوبية المتسترة بالدين الاسلامي والسالبة لحقوق الامه يعود القائد المؤسس رحمة الله عليه ليوضح منشأ الفكر البعثي في خطابه بمناسبة ميلاد الحزب ٧ نيسان عام ١٩٧٧ بقوله {{ بالنسبة الى بذور فكرة البعث ، التي كانت ارض سوريا العربية موطنها الاول .. كانت بداية لقاءين حاسمين في أثرهما العميق لقاء مع الفكر العلمي العقلاني التحرري الحديث ، ولقاء مع الاسلام العربي ورسوله الكريم ، لقاء الحب والاعجاب والانتماء الحميم }} في سبيل البعث الجزء الثالث خطاب القائد المؤسس في ٧ / ٤ / ١٩٧٧ ، ولأن نقد الفكر الديني يُعتبر خطاً أحمر عند الحركات الإسلامية ، ولأنه لا يمكن اقتحامه من دون اتهام القائمين به بالكفر والإلحاد تحاشى معظم المفكرين القوميين سلوك هذا الطريق ، وهم إذا مارسوا النقد فمنهجهم لا يتجاوز حدود التوفيق بين القومية والدين بشكل سطحي ، الأمر الذي أحدث التباساً بين حدود الفكر القومي وحدود الفكر الديني ، وهي بدلاً من أن تحل الإشكاليات فقد ظلت الحدود غامضة بينهما مع أرجحية التشبع بالفكر الديني على حساب التعمق بالفكر القومي ، فالحقيقة إن الدين مسألة قديمة قدم الإنسان ، وسيبقى عاملاً من أهم عوامل بناء تكوينه النفسي ، على ألا يتعدى وظيفته الروحية لهذا فإنه ليس بمقدور أي قوة أن تلغي الدين ، لأنها لا تستطيع أن تلغي هواجس البشر بالتساؤل عن مصير الأنفس بعد الموت ، ولا شك بأن الإجابة عن ذلك المصير ستبقى بغير برهان حسي ، ومن هنا وُصف الباحثين عن مصير الإنسان بعد الموت بأنه قضية البحث بالغيب وتفسير الفكر الغيبي سيبقى من دون براهين حسية طالما أن مصير الإنسان بعد الموت سيبقى مصيراً غامضاً ولم يستطع الفكر الإنساني حتى الآن أن يجد تفسيراً ملموساً له ، بل ظل هذا المصير مجهولاً ، ولكي لا يبقى هذا المصير من دون تفسير ، جرت محاولات كثيرة لتفسيره ، وندب كل من الفكر الفلسفي والأديان لهذه المهمة وعن ذلك نجد أن هناك مرجعيتين تصدتا لها وهما {{ تفسير الفلاسفة ولكن هذا التفسير ظل عاجزاً عن ملامسة مدارك العامة من البشر بسبب بحثه في قيم ومُثُل مجردة ، و تفسير الأديان بكل أشكالها وعقائدها ، وهي لم تنتج أكثر من تفاسير مبسَّطة تقوم على مبدأي ( الثواب والعقاب ) ، أي ( الترغيب والترهيب ) وتلك التفاسير زرعت الخوف في نفوس البشر أكثر مما زرعت فيهم الاطمئنان النفسي ، ولذا أصبح الدين حتى بمنظور الأديان السماوية ، عامل تخويف من الخالق أكثر مما هو عامل احترام وإعجاب ، وأصبح الترغيب بالجنة والترهيب من النار عاملين رئيسين في التربية الدينية }} ، ولكن الأديان غرقت في متاهة أي طريق يشكل خشبة الخلاص للأنفس بعد الموت فزعم كل دين ، بل كل مذهب متفرع عن الدين نفسه ، أن طريق الخلاص لن يكون لغير أبناء هذا الدين ، كما لن يكون لغير أبناء ذلك المذهب وبذلك تعقَّدت علاقات المتدينين داخل المجتمع الواحد فنشأت العداوات وانتشرت مفاهيم التكفير فيما بينهم ، وبين تعقيد تفاسير الفلاسفة ، وتبسيط تفاسير الأديان ، يبقى الدين عاملاً مهماً من عوامل المحافظة على القيم العليا ، والقيم العليا ليست غيبية بل هي تمس حياة الإنسان بشكل يومي ومباشر ، وهي الجامع المشترك بين كل شعوب الكرة الأرضية فليس لمبادئ العدالة والمساواة بشكل عام دين أو قومية فما هو مبدأ للعدل هنا هو مبدأ للعدل هناك ، وهلم جرى ، واستناداً لكل ذلك جاءت النظرية القومية لتدلو بدلوها من أجل حل مشكلة المجتمعات المتعددة الانتماءات الدينية ، ويمكننا السؤال فكيف نظرت القومية إلى هذه المشكلة ؟ والجواب ان اكتشاف القائد المؤسس رحمه الله للعلاقة بين العروبة والإسلام هو الذي ميز المشروع الفكري والبرنامج العملي للبعث العربي الاشتراكي ، فابعده عن الفكر القومي الشوفيني المنغلق والمناهض لمبادئ الدين ، التي تعتبر البشر متساويا وخيرهم عند الله اتقاهم ، وعن الليبرالية الغربية العلمانية الرافضة للدين من خلال الفصل الكامل بين الدين والدولة ، وعن الماركسية الشيوعية الكافرة بالدين والتي تعتبر الدين افيون الشعوب ، حتى وصل الفهم البعثي للعروبة انها جسد روحه الإسلام {{ لذلك لم يكن غريبا ان يعود الحزب بين الحين والآخر ليؤكد على من منطلقاته الأساسية التي لم تعطى الاهتمام الذي تستحقه، ولم يستخرج منها العبر الكامنة فيها ، كالموقف من التراث والإسلام }} ، ترى النظرية القومية أن اختيار الدين هو اختيار طوعي وليس إلزاماً اجتماعيا أو قانونياً والثواب والعقاب في مثل هذه الحالة ليست من صلاحيات السلطات الزمنية حتى ولا الدينية ، ولأن شرائح المجتمع الدينية تعتبر أن لها قوانين وتشريعات خاصة تعتقد أنها مقدسة تتناقض مع التشريعات للشرائح الأخرى كان لا بدَّ من أن تضع الدولة تشريعات موحدة تطبقها على الجميع من دون تمييز ، ولأن حزب البعث يعتقد بالنظرية القومية كحل لمشاكل المجتمع الوطني الواحد ، وهنا أيضا السؤال كيف وضع الحزب حلولاً لها ؟ والجواب حذَّر الحزب من خطورة ما أطلقوا عليه اسم ( الحركات السياسية المغلَّفة بالدين ) ، التي لا تبيح حرية الاعتقاد الديني من جهة ، وتُلزم جماعاتها بتشريعاتها الخاصة من جهة أخرى ، واعتبر ( حرية الكلام والاجتماع والاعتقاد والفن مقدسة لا يمكن لأية سلطة أن تنتقصها ) كما جاء في الفقرة ( ١ ) من المبدأ الثاني من دستور الحزب ، وأكَّدت المادة ( ١٥ ) منه على أن ( الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدولة العربية التي تكفل الانسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوتقة واحدة وتكافح سائر العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية ) ، وهذا يعني منع رجال الدين من التدخل بالسياسة فلماذا حصل المنع ؟ سؤال مشروع والاجابة عليه ببساطة {{ إن بناء الدولة الدينية يعني أن منبع دستورها هو الدين وتشريعاته وإذا تعددت التشريعات ، يعني تعددت السلطات وتعدد السلطات في المجتمع الواحد يقود إلى تفتيت المجتمع إلى دويلات ، لكل دويلة تشريعاتها الخاصة التي تعتبرها مقدسة ، ولأن حماية المقدس تقتضي أحياناً الموت في سبيل تطبيقه ، سيشق الاتهام بتكفير الآخر طريقه للتطبيق ، وسينتشر مبدأ - الجهاد المقدس - على قاعدة أنه من واجب ( الفرقة الناجية ) أن تجاهد ضد ( الفرقة الضالة ) أو ( الفرقة المرتدة ) ، وهنا يعتبر الفكر القومي أن تدخل رجل الدين بالسياسة تدخل خطير ومميت ، وخطورته تبدأ عندما يفتي رجل الدين بقضايا السياسة ، يعني أن فتواه واجتهاده تُعتبران بمثابة أمر إلهي يقع على عاتق المتدينين وزر تنفيذه تحت طائلة العقاب في الآخرة ، لذلك يأتي الفصل بين رجل الدين والسياسة على قاعدة أنه لرجل الدين حقله الروحي ، وللدولة حقلها الزمني ويبقى مفهومنا للدين كحاجة روحية للبشر ، مقيَّداً بين حدَّين - الحد الأول يلعب فيه رجل الدين دور المرشد الروحي ، وليس أن يلعب دور المحاسب خاصة وقد جاء في بقوله تعالى بمحكم كتابه القرأن الكريم ﴿ لا إكراه في الدين ﴾ ، و ﴿ من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ﴾ ، و ﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ﴾ ، والحد الثاني تلتزم فيه السلطات الزمنية جانب الحياد في التدخل بدور رجل الدين على أساس أن تُلزمه فيها بالابتعاد عن الدعوة لكل ما يزرع الشقاق بين مكونات المجتمع الدينية }} يقول المرحوم القائد المؤسس {{ نحن مهددون بأن تحل المادة محل الروح ، وأن يحتل الالحاد مكان الايمان ، والانفلات محل الاخلاق ، اذا لم يعي الشباب مسؤوليته الخطيرة ، وهي في أن يعطي المفاهيم الروحية والقيم السامية معناها الحقيقي حتى تعود الروح فتسيطر مرة اخرى على الواقع وتفهمه وتستجيب لضروراته فاذا ارجع الشباب الى هذه القيم الروحية معانيها الاصيلة الحقيقية أنقذ امته من اخطار العقلية المادية التي تهددنا في أخلاقنا وحيويتنا وحرية فكرنا وأفرادنا ، كما تهددنا في قضيتنا القومية }} في سبيل البعث صفحة ١٣٤ / دار الطليعة / بيروت ١٩٧٤ ( معالم الاشتراكية العربية )

يتبع بالحلقة الخامسة





الجمعة ٦ ذو الحجــة ١٤٤٢ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٦ / تمــوز / ٢٠٢١ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مكتب الثقافة والإعلام القومي - لقاءُ القُوى الوَطَنيّة والقَوميّة التَقدُّميّة الديمُقراطِيّة ضَرورة حَتميّة للخَلاص مِن حالَةِ الضَعفِ العَرَبي د. عامر الدليمي في ظل الاستهداف المنقطع النظير الذي تتعرض له أمتنا العربية في أغلب أقطارها، وفي ظل غياب أية حدود أو سقف للبشاعة التي يتم فيها تنفيذ حلقات المؤامرة، وليس آخرها محرقة رفح، والمجزرة البشعة التي يتعرض لها شعبنا العربي في فلسطين، والتي وصلت إلى إحراق الخيام بقاطنيها حيث تم استهداف النازحين قسرًا شمال غرب رفح. تلك المجزرة التي خلّفت عشرات الشهداء الذين تحولت أجسادهم إلى أشلاء، بالإضافة إلى عشرات الجرحى معظمهم من الأطفال والنساء، مع استهداف الاحتلال الصهيوني للمنظومة الصحية وإخراجها من الخدمة، كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم أجمع العاجز عن كبح جماح جرائم العدو الصهيوني. في ظل هذا الواقع المأساوي، وعجز الأنظمة العربية عن وقف عجلة التدهور وبشاعته، يصبح من أعلى الأولويات والواجبات الحتمية، أن تلتقط القوى السياسية الوطنية والقومية زمام المبادرة، نحو بلورة مشروع يرقى إلى مستوى التحديات الوجودية الجسيمة التي تستهدف الأمة في وجودها. ويتقدم تلك الأولويات فهم الواقع الذي تمرُ به الأمة العربية في هذه الظروف وتحليلها بقدرٍ عالٍ من المسؤولية الوطنية والقومية والوقوف بواقعية وموضوعية على أسباب الانكسارات والتراجعات والاستسلام للقوى المعادية، حيث يتقدم تلك الأسباب الانقسام والتشظي العربي بسبب تناقضات ثانوية تاركين التحديات الأساسية والمصيرية تحرق الأمة وتنهي هويتها ووجودها. وفي مقدمة متطلبات تحقيق ذلك، والذي يعد من الضرورة القومية الحاسمة أن تكون هناك نظرة وفعل حقيقي جاد لتجديد الخطاب القومي العربي وتحديث مشروعه النهضوي التحرري التقدمي. ومن هنا فإن لقاء القوى السياسية المخلصة للوطن والأمة العربية، والعمل ضمن قواعد عمل مشتركة للتوصل إلى مشروع يمكِّن الأمة من مواجهة التحديات الوجودية الجسيمة التي تتعرض لها، ويعيد لها كرامتها، ويؤكد بأنها أمة جديرة بالحياة، من خلال إيجاد تفاهمات سياسية على قاعدة جماهيرية تكون أساساً لقوتها، وتستطيع من خلال ذلك وغيره التخلص من الضعف والتخلف والتقهقر الذي أصابها. إن ذلك من شأنه أن يرسم الخطوات الأولى التي تخطوها القوى الوطنية والقومية لقيادة الأمة نحو مرحلة جديدة لتكون أمة مجاهدة تسعى نحو التثوير والتنوير والتغيير والتقدم بكل جوانبه. كما وتشكِّل أساساً لإطلاق الحريات الفكرية والسياسية التي تعد الدعامة الرئيسية لمجتمع حضاري جديد، وتحقيق نهضة عروبية تقدمية ديمقراطية في الساحة السياسية كما في الساحة الفكرية. إن كل ذلك يقتضي تجاوز الحالات التي تعرضت لها من مناكفات وخصومات بينية أوصلتها إلى الاحتراب الفعلي فأضعفت نفسها، وجعلت القوى المعادية تتحكم بمصيرها. وليس أدل على ذلك ما وصلت إليه بعض الأنظمة العربية في الاستسلام والضعف أمام العدو الصهيوني، وتمدد استعماري للمشروع الفارسي في أقطار أمتنا العربية بدءاً من المشرق واندفاعاً نحو أقطارها في شمال افريقيا. إن الضرورة الوجودية والحتمية في تاريخنا الحالي تقتضي عودة التيار القومي العربي التحرري والمنظمات القومية لممارسة دورها الفعلي في الساحة العربية بقوة وثقة عالية، متحصِّنة بالإيمان المطلق بقدرها، وبمسؤوليتها التاريخية في قيادة الأمة لتحقيق أمل الجماهير في خلاصها من الاستعباد والاستبداد والهزيمة والتشظّي. ومن أولويات هذه المهمة النضالية الكبيرة هي أن ينهض المثقفون والمفكرون والكتاب العرب الذين يؤمنون برسالة الأمة كرسالة إنسانية خالدة لممارسة دورهم الريادي في بلورة الطموحات المأمولة، وتحديد معالم الطريق العملية والواقعية لتحقيقها، بعيداً عن الإنشاء أو العواطف أو التنظير العقيم. على أن مثل هذا التفاعل وتلاقح الأفكار يتطلب من الجميع العمل من أجل هذا المشروع بروح ديمقراطية متجددة، كشرط أساسي لنجاحه كي يعيد للأمة العربية مجدها وكرامتها وحقها في الحياة.
مواضيع الكاتب زامل عبد نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة
مكتب الثقافة والإعلام القومي - لقاءُ القُوى الوَطَنيّة والقَوميّة التَقدُّميّة الديمُقراطِيّة ضَرورة حَتميّة للخَلاص مِن حالَةِ الضَعفِ العَرَبي د. عامر الدليمي في ظل الاستهداف المنقطع النظير الذي تتعرض له أمتنا العربية في أغلب أقطارها، وفي ظل غياب أية حدود أو سقف للبشاعة التي يتم فيها تنفيذ حلقات المؤامرة، وليس آخرها محرقة رفح، والمجزرة البشعة التي يتعرض لها شعبنا العربي في فلسطين، والتي وصلت إلى إحراق الخيام بقاطنيها حيث تم استهداف النازحين قسرًا شمال غرب رفح. تلك المجزرة التي خلّفت عشرات الشهداء الذين تحولت أجسادهم إلى أشلاء، بالإضافة إلى عشرات الجرحى معظمهم من الأطفال والنساء، مع استهداف الاحتلال الصهيوني للمنظومة الصحية وإخراجها من الخدمة، كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم أجمع العاجز عن كبح جماح جرائم العدو الصهيوني. في ظل هذا الواقع المأساوي، وعجز الأنظمة العربية عن وقف عجلة التدهور وبشاعته، يصبح من أعلى الأولويات والواجبات الحتمية، أن تلتقط القوى السياسية الوطنية والقومية زمام المبادرة، نحو بلورة مشروع يرقى إلى مستوى التحديات الوجودية الجسيمة التي تستهدف الأمة في وجودها. ويتقدم تلك الأولويات فهم الواقع الذي تمرُ به الأمة العربية في هذه الظروف وتحليلها بقدرٍ عالٍ من المسؤولية الوطنية والقومية والوقوف بواقعية وموضوعية على أسباب الانكسارات والتراجعات والاستسلام للقوى المعادية، حيث يتقدم تلك الأسباب الانقسام والتشظي العربي بسبب تناقضات ثانوية تاركين التحديات الأساسية والمصيرية تحرق الأمة وتنهي هويتها ووجودها. وفي مقدمة متطلبات تحقيق ذلك، والذي يعد من الضرورة القومية الحاسمة أن تكون هناك نظرة وفعل حقيقي جاد لتجديد الخطاب القومي العربي وتحديث مشروعه النهضوي التحرري التقدمي. ومن هنا فإن لقاء القوى السياسية المخلصة للوطن والأمة العربية، والعمل ضمن قواعد عمل مشتركة للتوصل إلى مشروع يمكِّن الأمة من مواجهة التحديات الوجودية الجسيمة التي تتعرض لها، ويعيد لها كرامتها، ويؤكد بأنها أمة جديرة بالحياة، من خلال إيجاد تفاهمات سياسية على قاعدة جماهيرية تكون أساساً لقوتها، وتستطيع من خلال ذلك وغيره التخلص من الضعف والتخلف والتقهقر الذي أصابها. إن ذلك من شأنه أن يرسم الخطوات الأولى التي تخطوها القوى الوطنية والقومية لقيادة الأمة نحو مرحلة جديدة لتكون أمة مجاهدة تسعى نحو التثوير والتنوير والتغيير والتقدم بكل جوانبه. كما وتشكِّل أساساً لإطلاق الحريات الفكرية والسياسية التي تعد الدعامة الرئيسية لمجتمع حضاري جديد، وتحقيق نهضة عروبية تقدمية ديمقراطية في الساحة السياسية كما في الساحة الفكرية. إن كل ذلك يقتضي تجاوز الحالات التي تعرضت لها من مناكفات وخصومات بينية أوصلتها إلى الاحتراب الفعلي فأضعفت نفسها، وجعلت القوى المعادية تتحكم بمصيرها. وليس أدل على ذلك ما وصلت إليه بعض الأنظمة العربية في الاستسلام والضعف أمام العدو الصهيوني، وتمدد استعماري للمشروع الفارسي في أقطار أمتنا العربية بدءاً من المشرق واندفاعاً نحو أقطارها في شمال افريقيا. إن الضرورة الوجودية والحتمية في تاريخنا الحالي تقتضي عودة التيار القومي العربي التحرري والمنظمات القومية لممارسة دورها الفعلي في الساحة العربية بقوة وثقة عالية، متحصِّنة بالإيمان المطلق بقدرها، وبمسؤوليتها التاريخية في قيادة الأمة لتحقيق أمل الجماهير في خلاصها من الاستعباد والاستبداد والهزيمة والتشظّي. ومن أولويات هذه المهمة النضالية الكبيرة هي أن ينهض المثقفون والمفكرون والكتاب العرب الذين يؤمنون برسالة الأمة كرسالة إنسانية خالدة لممارسة دورهم الريادي في بلورة الطموحات المأمولة، وتحديد معالم الطريق العملية والواقعية لتحقيقها، بعيداً عن الإنشاء أو العواطف أو التنظير العقيم. على أن مثل هذا التفاعل وتلاقح الأفكار يتطلب من الجميع العمل من أجل هذا المشروع بروح ديمقراطية متجددة، كشرط أساسي لنجاحه كي يعيد للأمة العربية مجدها وكرامتها وحقها في الحياة.