شبكة ذي قار
عـاجـل










لماذا تتكرر قوارب الموت ولا تتوقف...

طرابلس : أكثر من اشكالية وتحديات جمّة .

نبيل الزعبي

لا يوجد مدينة لبنانية كبرى على شاطئ المتوسط ، فيها من التناقضات ما لا تحتويه اية مدينة اخرى لدرجة ان اسمها الثلاثي المركب من المدن الثلاث ، ينعكس بدوره على حياتها العامة ايضاً المركبة من مزيجٍ كبير من الحال وعكسه ، حيث فيها من الفقر بقدر ما تعيشه من الغِنَى ، ومن البحبوحة بقدر ما تلعن فيه البؤس ، تتمسك بانتمائها للدولة ثم لا تلبث ان تتمرد على السلطة في آن ،

ربما ما تقدم يعكس او انه انعكاس حاد لما يعيشه ابناء المدينة من تنازع ذاتي في دواخلهم وفي نظرتهم الى الدولة العادلة والخوف من السلطة الظالمة ايضاً .

فالتراجيديا الطرابلسية ليست وليدة اليوم وهذا الزمن الردئ الطارئ حتماً ، انما الذي عاشه ابناء المدينة ومنذ الاستقلال اللبناني الى يومنا هذا ، لا يتخلله اية فسحة من الزمن التي شعروا فيها انهم أبناء ً شرعيين لنظام يعترف بهم ويعاملهم كما يعامل سائر الابناء في المناطق ، وهذا ما يفسر لماذا ، وكلما مرّ عقد او اكثر من السنين ، وكأنه كتب على هذه المدينة ان تثور وينفجر ما تحتها من بركان لا يخمد طويلاً حتى سرعان ما تقذف حممه الغاضبة من جديد ،

وهل ليس من حق المدينة ان تثور وهي التي لولاها لما كان لبنان الكبير ، يوم الذي قبلت فيه و على مضض ان تتخلى عن انتمائها العربي الشامي الذي سرعان ما كفّرت عنه بابقاء شريانها الابهر الاقتصادي الحيوي مرتبطاً بالداخل السوري عبر طريقٍ طويل يشق التبانة من سوق الخضرة الى الملولة اسمته شارع سوريا ،

ومع اشتداد الخطر الصهيوني على فلسطين ، ارسلت ابنها فوزي القاوقجي على رأس قوات الانقاذ والدفاع عن القضية الفلسطينية بوصفها قضية العرب كما ابناء فلسطين ،

ولما احتدم الخلاف السياسي على هوية لبنان ، حملت السلاح ضد حكم الرئيس كميل شمعون في العام ١٩٥٨ ،

وعندما شعرت ان المقاومة الفلسطينية في خطر ، وان جنوب لبنان مهدد بالاحتلال ،

كان لابنائها قصب السبق في تقديم المقاتلين والشهداء ،

وفي حرب السنتين كان على المدينة ان تدافع عن وحدة لبنان وحريته وانتمائه العربي ،

وفي كل تلك المراحل ، كانت طرابلس تدفع ثمن قناعات ابنائها بالدم، وهل هنالك ما يُقدّم اغلى من ذلك !

وهي التي لم تكن يوماً بالفقر والإملاق الذي هي عليه اليوم ، فالمدينة ورغم وضعها البائس راهناً ، لم تزل هي اغنى مدن لبنان واكثرها امتلاكاً لمقدرات اقتصادية لا يملكه غيرها :

- هي المدينة الثانية بعد القاهرة بتراثها المملوكي الذي يغطي المدينة القديمة بشكلٍ شبه كامل ، تطل عليها قلعة " سان جيل " البيزنطية" التي تشكل احدى اهم القلاع في لبنان والتي بنيت على انقاض حصن الصحابي سفيان الازدي احد قادة جيش الخليفة الثالث عثمان بن عفان وتشكل معلماً اثرياً يجمع بين زواياه اربع حضارات تاريخية ، الاسلامية ، الفاطمية ،المملوكية والصليبية وتشكل مع المدينة القديمة مربعاً سياحياً لا مثيل له ، يدرُ على اقتصادها السياحي ما يخلق آلاف فرص العمل فيما لو أُحسِن ترميم الابنية المتهالكة والمهملة في المدينة وتحويلها الى معلمٍ سياحي لا ترى مثيلاً له على ساحل المتوسط ،

-يشقُ المدينة نهر ابي علي الممتد على طول جغرافية المدينة بعدة كيلومترات ، ومن الممكن الاستفادة من ضفتيه بالمشاريع الاستثمارية الجاذبة للتوظيفات المالية المتعددة، كما تفعل العديد من المدن العالمية التي تشطرها الانهار ،

- رباعية الميم التي تشمل المعرض ، المرفأ، المصفاة ، المحجر الصحي :

1-معرضُ دولي يعد من التحف المعمارية المرشحة للتصنيف الاثري المعماري ، وقد تحول بعد اهماله المزمن الى الخرسانة الاقرب منها الى المعرض ، دون ان نغفل العرض الصيني الذي قُدّم للدولة اللبنانية باعتماده كمركز اقليمي تجاري ضمن مشروع طريق الحرير ووُجِد من يُجهِض العرض وتضييع الفرص على المدينة والتي لن تتكرر ،

2-مرفأ هو الاهم على شاطئ المتوسط ويضاهي اهم مرافئ العالم بعد توسعته وما ينتظره من استثمار كبير وهو المرشح ليكون منصةً اقتصادية اساسية لاعمار الداخل السوري ، ولم تزل الحكومات المتعاقبة تُمعن في تجاهله ، سيًما وان اكثر من دور ريادي كان ينتظره بعد توسعته وعقب الدمار الذي حل بمرفأ بيروت،.

3- مصفاة طرابلس التي انشأت اساساً مصبّاً للخط النفطي الذي يبدأ في كركوك العراق ويمر بسوريا تصديراً للنفط وتكريره في آن ،وهذا المِرفق الكبير لم يزل معطّلاً فيما رواتب وأجور موظفيه ومستحقاتهم تُدفَع في اوانها دون تأخير ،

4- المحجر الصحي الذي بقي كتلةً من الباطون بدل ان يُستخدم كما تدل عليه تسميته ك كرنتينا صحية ، يجاوره ، وتلك المفارقة، اعلى جبل نفايات في لبنان يتجاوز في ارتفاعه عشرات الامتار ،

إلى ذلك ثمة :

5-ملعب طرابلس الاولمبي الذي يتهالك ببطء جراء الاهمال وعدم الصيانة ،

6-ومطار القليعات القريب من طرابلس الذي في حال اقراره ، ستتكامل كل مقومات البنية الاقتصادية ، ليس لطرابلس وحسب وانما لعكار والشمال وامتداداً الهرمل بقاعاً .

ان ابناء طرابلس يدركون تماماً اليُسْر الذي عليه مدينتهم ولهذا تراهم دائماً يتوجهون بعتبهم الشديد الى اثرياء مدينتهم بالقدر الذي يتوجهون الى الحكومات المتعاقبة التي تجاهلت طرابلس عاصمةً ثانية للبنان وامعنت في النظر اليها كقرية او بلدة نائية ، ربما لان الاستقلال الاقتصادي اذا ما اقترن بالارادة الحرة المستقلة سيسحب البساط من تحت اقدام النظام الطائفي ومنظومته السياسية التي لا تعيش الا على الريعية ونهب مقدرات البلد وثرواته ،

ولتأمين ذلك على مدى كل العقود المنصرمة ، كانت اولى شروط استمراريتها تحويل الشعب اللبناني الى رعايا والتعامل معه كقطيع داخل حظائرها المناطقية والطائفية المذهبية،

وكل من يرفض هذا التوجه السلطوي لم يُوَاجَه سوى بالتضييق عليه خدماتياً وانمائياً مقدمةً لتطويقه ثم عزله والغاء دوره في الحياة السياسية الداخلية .

لم يكن امام ابناء طرابلس ازاء ما تقدم سوى سلوك طريق المعارضة السلمية الحضارية البنًاءة التي عبّرت عنها افضل تعبير في السابع عشر من تشرين ، فازدادت ضغوط السلطة لاجهاض هذه المعارضة وكأنها تفرض على ابناء المدينة اللجوء الى السلبية والوقوع في فخ يدفعهم الى الصاق تهم الارهاب والتطرُف الديني التي تنتظرهم مع كل تحرُك شعبي متجدّد ،ليختاروا الوسيلة الاسهل في اللجوء الى القوارب تسري بهم في عباب البحر المتوسط مفضّلين الموت والغرق على رهن كرامتهم ومستقبلهم لسلطة لئيمة و رأس مال جبان واثرياء لم يتجرأوا يوماً على التعامل مع المقومات الاقتصادية للمدينة كمشاريع عامة جاهزة توفر البحبوحة والعيش الكريم لابناء جلدتهم ينبغي حمل لواءها والارتقاء بمدينتهم الى مصاف المدن الكبرى التي تعطي من فائضها ولا تعيش على فتات الآخرين ، هؤلاء الذين لم تتحرك نخوتهم يوم غرق قارب الموت بابناء المدينة عشية ٢٣/٤/٢٠٢٢، والذي مضى عليه حوالي الاسبوعين مع كتابة هذه السطور ،ليستقدموا الرافعات من الخارج لانتشال القارب الذي يحوي جثث النساء والاطفال المدفونة فيه تحت مياه البحر وكأن الشعور الانساني فيهم قد دُفِنَ بدوره وهم يسمعون استغاثة الاهالي المفجوعين ،

هي السلطة الغاشمة التي تعامل البريئ في المدينة بجريرة المسيئ فتحتجز وتعتقل دون ان تحاكم ، وتصدر مذكرات توقيف جاهزة قائمة على الشبهات وقد تعدّت الآلاف ، هذه السلطة ورموزها هم من يجب ان تُشار اليها اصابع الاتهام في قضايا هروب خيرة شباب المدينة على قوارب الموت سواء وصلت الى وجهتها بعد طول معاناة او لقت حتفها في عمق المتوسط دون ندم او رجوع على تكرار المحاولة تلو الاخرى ، طالما ما بين الموت جوعاً هنا واحتمالات الغرق هنالك ، املُ في مشروع حياةٍ جديدة ، او لعلّ وعسى !

٥/٥/٢٠٢٢






الخميس ٤ شــوال ١٤٤٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٥ / أيــار / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مكتب الثقافة والإعلام القومي - لقاءُ القُوى الوَطَنيّة والقَوميّة التَقدُّميّة الديمُقراطِيّة ضَرورة حَتميّة للخَلاص مِن حالَةِ الضَعفِ العَرَبي د. عامر الدليمي في ظل الاستهداف المنقطع النظير الذي تتعرض له أمتنا العربية في أغلب أقطارها، وفي ظل غياب أية حدود أو سقف للبشاعة التي يتم فيها تنفيذ حلقات المؤامرة، وليس آخرها محرقة رفح، والمجزرة البشعة التي يتعرض لها شعبنا العربي في فلسطين، والتي وصلت إلى إحراق الخيام بقاطنيها حيث تم استهداف النازحين قسرًا شمال غرب رفح. تلك المجزرة التي خلّفت عشرات الشهداء الذين تحولت أجسادهم إلى أشلاء، بالإضافة إلى عشرات الجرحى معظمهم من الأطفال والنساء، مع استهداف الاحتلال الصهيوني للمنظومة الصحية وإخراجها من الخدمة، كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم أجمع العاجز عن كبح جماح جرائم العدو الصهيوني. في ظل هذا الواقع المأساوي، وعجز الأنظمة العربية عن وقف عجلة التدهور وبشاعته، يصبح من أعلى الأولويات والواجبات الحتمية، أن تلتقط القوى السياسية الوطنية والقومية زمام المبادرة، نحو بلورة مشروع يرقى إلى مستوى التحديات الوجودية الجسيمة التي تستهدف الأمة في وجودها. ويتقدم تلك الأولويات فهم الواقع الذي تمرُ به الأمة العربية في هذه الظروف وتحليلها بقدرٍ عالٍ من المسؤولية الوطنية والقومية والوقوف بواقعية وموضوعية على أسباب الانكسارات والتراجعات والاستسلام للقوى المعادية، حيث يتقدم تلك الأسباب الانقسام والتشظي العربي بسبب تناقضات ثانوية تاركين التحديات الأساسية والمصيرية تحرق الأمة وتنهي هويتها ووجودها. وفي مقدمة متطلبات تحقيق ذلك، والذي يعد من الضرورة القومية الحاسمة أن تكون هناك نظرة وفعل حقيقي جاد لتجديد الخطاب القومي العربي وتحديث مشروعه النهضوي التحرري التقدمي. ومن هنا فإن لقاء القوى السياسية المخلصة للوطن والأمة العربية، والعمل ضمن قواعد عمل مشتركة للتوصل إلى مشروع يمكِّن الأمة من مواجهة التحديات الوجودية الجسيمة التي تتعرض لها، ويعيد لها كرامتها، ويؤكد بأنها أمة جديرة بالحياة، من خلال إيجاد تفاهمات سياسية على قاعدة جماهيرية تكون أساساً لقوتها، وتستطيع من خلال ذلك وغيره التخلص من الضعف والتخلف والتقهقر الذي أصابها. إن ذلك من شأنه أن يرسم الخطوات الأولى التي تخطوها القوى الوطنية والقومية لقيادة الأمة نحو مرحلة جديدة لتكون أمة مجاهدة تسعى نحو التثوير والتنوير والتغيير والتقدم بكل جوانبه. كما وتشكِّل أساساً لإطلاق الحريات الفكرية والسياسية التي تعد الدعامة الرئيسية لمجتمع حضاري جديد، وتحقيق نهضة عروبية تقدمية ديمقراطية في الساحة السياسية كما في الساحة الفكرية. إن كل ذلك يقتضي تجاوز الحالات التي تعرضت لها من مناكفات وخصومات بينية أوصلتها إلى الاحتراب الفعلي فأضعفت نفسها، وجعلت القوى المعادية تتحكم بمصيرها. وليس أدل على ذلك ما وصلت إليه بعض الأنظمة العربية في الاستسلام والضعف أمام العدو الصهيوني، وتمدد استعماري للمشروع الفارسي في أقطار أمتنا العربية بدءاً من المشرق واندفاعاً نحو أقطارها في شمال افريقيا. إن الضرورة الوجودية والحتمية في تاريخنا الحالي تقتضي عودة التيار القومي العربي التحرري والمنظمات القومية لممارسة دورها الفعلي في الساحة العربية بقوة وثقة عالية، متحصِّنة بالإيمان المطلق بقدرها، وبمسؤوليتها التاريخية في قيادة الأمة لتحقيق أمل الجماهير في خلاصها من الاستعباد والاستبداد والهزيمة والتشظّي. ومن أولويات هذه المهمة النضالية الكبيرة هي أن ينهض المثقفون والمفكرون والكتاب العرب الذين يؤمنون برسالة الأمة كرسالة إنسانية خالدة لممارسة دورهم الريادي في بلورة الطموحات المأمولة، وتحديد معالم الطريق العملية والواقعية لتحقيقها، بعيداً عن الإنشاء أو العواطف أو التنظير العقيم. على أن مثل هذا التفاعل وتلاقح الأفكار يتطلب من الجميع العمل من أجل هذا المشروع بروح ديمقراطية متجددة، كشرط أساسي لنجاحه كي يعيد للأمة العربية مجدها وكرامتها وحقها في الحياة.
مواضيع الكاتب نبيل الزعبي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة
مكتب الثقافة والإعلام القومي - لقاءُ القُوى الوَطَنيّة والقَوميّة التَقدُّميّة الديمُقراطِيّة ضَرورة حَتميّة للخَلاص مِن حالَةِ الضَعفِ العَرَبي د. عامر الدليمي في ظل الاستهداف المنقطع النظير الذي تتعرض له أمتنا العربية في أغلب أقطارها، وفي ظل غياب أية حدود أو سقف للبشاعة التي يتم فيها تنفيذ حلقات المؤامرة، وليس آخرها محرقة رفح، والمجزرة البشعة التي يتعرض لها شعبنا العربي في فلسطين، والتي وصلت إلى إحراق الخيام بقاطنيها حيث تم استهداف النازحين قسرًا شمال غرب رفح. تلك المجزرة التي خلّفت عشرات الشهداء الذين تحولت أجسادهم إلى أشلاء، بالإضافة إلى عشرات الجرحى معظمهم من الأطفال والنساء، مع استهداف الاحتلال الصهيوني للمنظومة الصحية وإخراجها من الخدمة، كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم أجمع العاجز عن كبح جماح جرائم العدو الصهيوني. في ظل هذا الواقع المأساوي، وعجز الأنظمة العربية عن وقف عجلة التدهور وبشاعته، يصبح من أعلى الأولويات والواجبات الحتمية، أن تلتقط القوى السياسية الوطنية والقومية زمام المبادرة، نحو بلورة مشروع يرقى إلى مستوى التحديات الوجودية الجسيمة التي تستهدف الأمة في وجودها. ويتقدم تلك الأولويات فهم الواقع الذي تمرُ به الأمة العربية في هذه الظروف وتحليلها بقدرٍ عالٍ من المسؤولية الوطنية والقومية والوقوف بواقعية وموضوعية على أسباب الانكسارات والتراجعات والاستسلام للقوى المعادية، حيث يتقدم تلك الأسباب الانقسام والتشظي العربي بسبب تناقضات ثانوية تاركين التحديات الأساسية والمصيرية تحرق الأمة وتنهي هويتها ووجودها. وفي مقدمة متطلبات تحقيق ذلك، والذي يعد من الضرورة القومية الحاسمة أن تكون هناك نظرة وفعل حقيقي جاد لتجديد الخطاب القومي العربي وتحديث مشروعه النهضوي التحرري التقدمي. ومن هنا فإن لقاء القوى السياسية المخلصة للوطن والأمة العربية، والعمل ضمن قواعد عمل مشتركة للتوصل إلى مشروع يمكِّن الأمة من مواجهة التحديات الوجودية الجسيمة التي تتعرض لها، ويعيد لها كرامتها، ويؤكد بأنها أمة جديرة بالحياة، من خلال إيجاد تفاهمات سياسية على قاعدة جماهيرية تكون أساساً لقوتها، وتستطيع من خلال ذلك وغيره التخلص من الضعف والتخلف والتقهقر الذي أصابها. إن ذلك من شأنه أن يرسم الخطوات الأولى التي تخطوها القوى الوطنية والقومية لقيادة الأمة نحو مرحلة جديدة لتكون أمة مجاهدة تسعى نحو التثوير والتنوير والتغيير والتقدم بكل جوانبه. كما وتشكِّل أساساً لإطلاق الحريات الفكرية والسياسية التي تعد الدعامة الرئيسية لمجتمع حضاري جديد، وتحقيق نهضة عروبية تقدمية ديمقراطية في الساحة السياسية كما في الساحة الفكرية. إن كل ذلك يقتضي تجاوز الحالات التي تعرضت لها من مناكفات وخصومات بينية أوصلتها إلى الاحتراب الفعلي فأضعفت نفسها، وجعلت القوى المعادية تتحكم بمصيرها. وليس أدل على ذلك ما وصلت إليه بعض الأنظمة العربية في الاستسلام والضعف أمام العدو الصهيوني، وتمدد استعماري للمشروع الفارسي في أقطار أمتنا العربية بدءاً من المشرق واندفاعاً نحو أقطارها في شمال افريقيا. إن الضرورة الوجودية والحتمية في تاريخنا الحالي تقتضي عودة التيار القومي العربي التحرري والمنظمات القومية لممارسة دورها الفعلي في الساحة العربية بقوة وثقة عالية، متحصِّنة بالإيمان المطلق بقدرها، وبمسؤوليتها التاريخية في قيادة الأمة لتحقيق أمل الجماهير في خلاصها من الاستعباد والاستبداد والهزيمة والتشظّي. ومن أولويات هذه المهمة النضالية الكبيرة هي أن ينهض المثقفون والمفكرون والكتاب العرب الذين يؤمنون برسالة الأمة كرسالة إنسانية خالدة لممارسة دورهم الريادي في بلورة الطموحات المأمولة، وتحديد معالم الطريق العملية والواقعية لتحقيقها، بعيداً عن الإنشاء أو العواطف أو التنظير العقيم. على أن مثل هذا التفاعل وتلاقح الأفكار يتطلب من الجميع العمل من أجل هذا المشروع بروح ديمقراطية متجددة، كشرط أساسي لنجاحه كي يعيد للأمة العربية مجدها وكرامتها وحقها في الحياة.