شبكة ذي قار
عـاجـل










بسم الله الرحمن الرحيم

( ولقد  كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن و خلقنا تفضيلا )

صدق الله العظيم

 

المقدمة

 

جاء في المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ( يولد جميع الناس أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق ) ، وربما من حيث القوة البلاغية وقوة التأثير في جوانبه الدينية والتشريعية تحتل مقولة الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب ( رض ) ، ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ) موقعا متقدما لاسيما وأنها سبقت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بأكثر من ألف وثلاثمائة سنة ، ولكنها وبعد زوال الدافع الديني لدى من بيده مقاليد الأمور من الخلفاء والسلاطين والملوك الذين توالوا على حكم الدولة الإسلامية أو شعروا بالطمأنينة البالغة بعد تقسيم العالم الإسلامي إلى دويلات صغيرة ، لم تعرف طريقها إلى التنفيذ أبدا إذ انتشرت أساليب الاستبداد وتحول الحكام إلى مالكين للسلطة لا ينازعهم فيها أحد من الرعية ، كما أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لم يجد طريقه نحو التطبيق من قبل الدول التي اتخذت من ذلك الإعلان واجهة سياسية تحاول فيها تقديم واجهات زائفة عن حقيقة سلوكها السياسي ، والعبرة ليست بالأقوال وإنما بمدى قدرة المجتمعات الإنسانية على وضعها موضع التطبيق .

 

ولأن حقوق الإنسان في الإسلام كمنهاج ديني ثابت هو ليس موضوع هذا البحث ، ولأن الغرب أخذ يتخلى عن كثير مما كان يعتبره مسلمات مقدسة وخاصة في مجال الحريات الشخصية على مستوى المجتمعات الغربية نفسها ، ولأن العرب والمسلمين هم أول من اكتوى بنار الاستعمار الأوربي الذي مارس سلوكا أبع ما يكون عن احترام حقوق الإنسان ، فإننا سنحاول تسليط الضوء على بعض من ممارسات الغرب ممثلا بالولايات المتحدة ضد العراقيين في سجن أبو غريب ، مع مرور سريع على جرائم التعذيب التي حصلت في سجن غوانتانامو .

 

على الرغم من أن هذا البحث هو بحث ميداني عما يشهده العراق منذ الاحتلال الأمريكي وحتى الآن وليس بحثا أكاديميا ، فإن الضرورة ستستدعي العودة إلى دستور العراق لعام 2005 وإلى الاتفاقيات والمواثيق والقرارات الدولية ذات الصلة وبخاصة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تم التصويت عليه في جلسة عقدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد دقائق من منتصف ليلة العاشر من كانون الأول / ديسمبر 1948 ، وتم تعزيزه نصوصا ومضامين في مراحل مختلفة بعد ذلك التاريخ .

 

ومن حق المتابع أن يسأل ما هو الهدف من وراء إعداد مثل هذه البحوث والدراسات و إقامة مثل هذه الندوات ؟ وهل أن ما كتب حتى الآن على كثرة ما كتب من بحوث ودراسات ومقالات لا يغطي كل صورة المشهد المأساوي في العراق ؟ وهل أن المقصود في كل المساعي المبذولة في تصدي المجتمع الدولي المتمدن لمواجهة الانتهاكات الحاصلة في النزاعات الدولية أم أن التركيز على ما يحصل في النزاعات الداخلية يجب أن يرتقي إلى مستوى أعلى من الاهتمام وأي الانتهاكات يجب أن تتقدم على الأخرى ؟ وما هو الهامش المتاح لقبول تدخل المنظمات الدولية في الشؤون الداخلية للدول وحصول تنازع بين مبدأ السيادة الوطنية والقبول بشمول الولاية القضائية لمحاكم جنايات الحرب الدولية ؟ وما هي المسؤولية الأخلاقية والقانونية التي تترتب على الولايات المتحدة في ما يحصل من انتهاكات لحقوق الإنسان في العراق استنادا إلى قرارات مجلس الأمن ذات الصلة باعتبارها دولة محتلة للعراق ؟ وهل يعفيها من تلك المسؤولية كونها لم تكن تعرف ما كان يحصل في السجون السرية ؟

 

في محاولة لتبرير جرائم التعذيب التي تعرض لها معتقلو سجن أبو غريب في العراق ومعتقلو سجن غوانتانامو ، حاولت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش تبرير ما وقع فيهما ونتيجة للضجة الدولية الواسعة التي أحدثتها تلك الجرائم ، بأن هناك ضرورات تبيح اللجوء إلى وسائل خاصة للحصول على المعلومات أثناء التحقيقات التي تجريها أجهزة المخابرات المركزية لارتباط المعلومات المنتزعة بالأمن القومي الأمريكي وخاصة التعذيب بالإيهام بالإغراق ، وقد دافع كل من الرئيس جورج بوش ونائبه ديك تشيني ووزير الدفاع في إدارتهما دونالد رامسفيلد عما وقع في أبو غريب وغوانتانامو بقوة واعتبروا ذلك حقا يبرره الأمن القومي الأمريكي ، ولم تنفع كل الضغوط التي مارستها المنظمات الحقوقية الإنسانية والصحافة الأمريكية لثنيهم عن مواقفهم التي حملوها معهم وهم يغادرون الإدارة ، ولم يكن بوسع أي طرف أن يلزم الولايات المتحدة باحترام نص المادة الخامسة من الإعلان والتي جاء فيها ( لا يعرض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملة القاسية أو الوحشية أو الحاطة بالكرامة )  وأمريكا هي الموقعة على كل القوانين المنظمة لحقوق الإنسان ، بل وتعتبر نفسها راعية دولية لمراقبة التزام الدول الاخرى بها ولكنها تعد أكبر دولة تخرق ما وقعت عليه .

 

أما ما وقع من انتهاكات علنية لحقوق الإنسان في المراحل الأولى لغزو العراق وبعد الاحتلال وأثناء المداهمات التي كانت القوات الأمريكية والبريطانية تنفذها تحت ذريعة البحث عن ( الإرهابيين ) أو أثناء حركتها في شوارع المدن العراقية ، وأثناء المواجهات التي  كانت تخوضها ضد المقاومة المسلحة التي أبداها العراقيون ، فإن القيادة العسكرية الأمريكية كانت تسارع على الدوام لنفي ما كان يحصل أو أنها تعد بتشكيل لجان تحقيق للنظر في الوقائع الثابتة ، وفي نهاية المطاف يخرج التقرير داعما للقوة تحت لافتة أن ما حصل وقع ضمن قواعد الاشتباك المنصوص عليها بلوائح الجيش الأمريكي الداخلية ، وحتى جريمة قتل عبير قاسم حمزة الجنابي ذات الأربعة عشر عاما  وحرق جثتها بعد اغتصابها من قبل جنود أمريكيين فقدوا إنسانيتهم في 12 / 3 / 2006 ، وقتل جميع أفراد أسرتها فلم يرتق إلى مستوى جريمة التعمد مع سبق الإصرار والترصد على الرغم من توفر كل أركانها ، وتعامل معها القانون الأمريكي بمنتهى الاستخفاف فكانت الأحكام مثيرة لغضب أقرباء الضحايا وكل  المنصفين في العالم .        

 

فهل يتم اللجوء للتعذيب الجسدي والنفسي من أجل الحصول على المعلومات لخدمة مسار التحقيق فقط ؟ أم أن التعذيب كان يتم اللجوء إليه لمجرد الانتقام من معتقلين ينتمون لتيارات سياسية أو عرقية أو دينية أو مذهبية اخرى من أجل إطفاء نزعة بهيمية تسيطر على من يأمر بالتعذيب أو من يقوم به ؟ ولتصبح هذه النزعة بمرور الوقت حالة مرضية مستعصية وجزء أساسيا من التكوين الشخصي والنفسي لسجانين لا يتمكنون من الشفاء منها مهما أخضعوا للعلاج أو حاولوا التخلص منها ، نعم محترفو التعذيب مرضى حقيقيون بنزعة التلذذ بعذابات الآخرين بكل المقاييس الدينية والأخلاقية والقانونية ، لكن خلاص المجتمعات الإنسانية منهم يجب ألا يتم عن طريق الانتقام منهم ولا بالعفو عنهم ، لأن في الحلين السابقين محاذير وأخطارا كبرى على أي مجتمع من المجتمعات ، فمن ناحية سيؤدي الرد عليهم بجنس ما ارتكبوا من أفعال شنيعة أو إحالة ملفاتهم إلى تطبيق العدالة الشخصية من قبل ذوي ضحاياهم ، إلى استمرار دوامة الفعل والفعل المضاد ، مما سيطبع المجتمع الذي يلجأ إلى هذا الأسلوب بطابع بهيمي فاقد لإنسانيته وغير صالح لمواصلة العيش داخل الأسرة الدولية والتعامل معها ضمن قوانينها ، أما إذا تم العفو عنهم ضمن سياسية عفا الله عما سلف أو تحت أي لافتة اخرى ، فأنه سيوجه رسالة خاطئة لكل من يحمل بذور الشر في داخله ، أن التسامح المفتوح يمكن أن يغريه ويغري أمثاله في مواصلة الخطيئة دون رادع داخلي ، مما سيدفع بضحايا التعذيب أو أقربائهم بالحلول محل الدولة في تطبيق العدالة والاقتصاص من الجناة ، وبالتالي حصول ردة حضارية في المجتمع ، وسيشعر من ارتكب جرائم التعذيب بأن ما فعله يحظى بقبول مجتمعي وقانوني ، ولهذا وفر له مظلة الحماية عما ارتكب وتغريه بممارسة المزيد .

 

وسنتناول موضوع انتهاكات حقوق الإنسان في العراق في ثلاثة عناوين :-

 

الأول : الانتهاكات الحاصلة في السجون .

الثاني : الانتهاكات الواقعة على المرأة والطفل .

الثالث : انتهاك ولاء المواطنة لدى الجيل الناشئ خارج الوطن .

 

التعذيب في السجون الحكومية

 

السجون السرية في العراق منذ الاحتلال حتى اليوم ، تجسد بصورة كاملة حقيقة انتهاكات حقوق الإنسان في العراق بعد نقل تجربة ( الديمقراطية الأمريكية ) إليه ، وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها أجهزة الحكومة لنفي ما يقع من تعذيب منهجي ووحشي ، في مئات السجون السرية ، ناهيك عن الاعتراف بوجودها أصلا ، فإن الكشف عن بعضها بتدخل من القوات الأمريكية من أجل أهداف سياسية ، جوبه بسلسلة من البلاغات المتناقضة ، فمن جهة كانت رئاسة الوزراء تعلن عن تشكيل لجان تحقيقية لكشف حقيقة ما كان يحصل من انتهاكات لحقوق المعتقلين الذين كان اعتقالهم بحد ذاته انتهاكا لحقوق الإنسان سواء بالطريقة التي تم فيها أو لانعدام المسوغ القانوني ، وبعد أن يتم امتصاص قوة الحدث شعبيا ودوليا وتداعيات ردود الفعل عليه ، تبدأ مرحلة جديدة من تحرك حكومي الهدف منه نفي الوقائع جملة وتفصيلا ، ويمكن الإشارة إلى ما وقع في سجن ملجأ الجادرية أثناء رئاسة إبراهيم الجعفري للحكومة وكان باقر صولاغ حينها وزيرا للداخلية ، وقد دهمت القوات الأمريكية السجن المذكور نهاية عام 2005 وعثر فيه على مئات المعتقلين الذين تعرضوا لتعذيب همجي ومنهجي منظم ، وتشكلت لجنة للتحقيق في ظروف التعذيب التي تعرض لها المعتقلون بما في ذلك استخدام المثقب الكهربائي     ( الدريل ) لأول مرة في سجون العراق بل والعالم أجمع ، وكانت اللجنة برئاسة أحد وزراء الحكومة وهو روز نوري شاويس وقيل حينها أن التحقيق قد اكتمل ، ولكن نتائجه لم تظهر حتى اليوم ، وبدلا من تصحيح مسار السجون السرية فإن وزير الداخلية صولاغ ظهر في لقاءات تلفزيونية حاول فيها تبرير ما وقع ، وأشار أن الرقم الحقيقي للذين شملهم التعذيب لم يتجاوز الثمانية وهم من عتاة الإرهابيين على حد وصفه ، ومن حديث صولاغ يمكن استنتاج أن الخلاف انصب على الرقم فقط وليس على جوهر الفعل ، وكذلك فإن صولاغ وعلى ما حاول أن يطرحه من مفاهيم أخلاقية جديدة ، بشأن شرعية التعذيب إذا كان من يتعرض له هم من الإرهابيين ، ويبدو أن هذه الفلسفة التي تفرض حضورها الدائم والراسخ في سجون الحكومات التي تعاقبت على مقاليد الأمور في عراق ما بعد الاحتلال الأمريكي أصبحت تقليدا ثابتا وراسخا في تقاليد الأجهزة الأمنية التابعة لها وتقليدا ثابتا في توفير مظلة الحماية لها من طرف تلك الحكومات .

 

وتناسلت السجون السرية حتى أوشك عددها أن يزيد على 400 سجن ، فمن المعروف أن لكل فرقة سواء تلك التي ترتبط بوزارة الدفاع أو المرتبطة بوزارة الداخلية سجنها الخاص ، ونزولا حتى السرية مرورا بالألوية والأفواج بالإضافة إلى السجون الكثيرة العائدة لوزارة الدفاع وأكثر منها لوزارة الداخلية وحتى مراكز الشرطة لها سجونها الخاصة ، هذا من غير السجون النظامية والمخصصة لزيارات الصحفيين ولجان المنظمات الحقوقية والإنسانية الدولية ، وترتبط تلك السجون عادة بوزارة العدل ، وقد ينصرف التفكير أن السجون التابعة للجهات العسكرية والأمنية هي سجون خاصة بالمخالفين من منتسبيها كما هو شائع في الظروف العادية ، غير الأمر ليس كذلك فكل سجن من تلك السجون يعتقل فيه من يلقى القبض عليهم أثناء العمليات الأمنية أو الدهم وفي أحيان كثيرة نتيجة اعتقالات كيدية بهدف الحصول على الفدية المالية مقابل إطلاق سراح الموقوفين من ذوي الإمكانية المالية ويتم الاحتفاظ بهم لوقت غير محدد يتعرضون فيه لكل صنوف الضغط النفسي والجسدي ، غير أن التطور اللافت أن يتم الكشف عن سجون تابعة لمكتب رئيس الوزراء الذي حاول خلال السنتين الأخيرتين طرح نفسه زعيما لدولة القانون ، بدأت خطواتها الأولى في انتخابات مجالس المحافظات نهاية كانون الثاني / يناير 2009 ولتواصل مسيرتها في الانتخابات النيابية في آذار / مارس 2010 تحت نفس الاسم ، ولعل سجن مطار المثنى الذي تم الكشف عنه نهاية نيسان / أبريل 2010 / ما يجسد الثنائية الفاضحة في سلوك المالكي وحكومته ، وبمجرد أن تم الكشف عن السجن السري من قبل صحيفة لوس أنجلوس تايمز ، أنكر المالكي علمه بوجود السجن وأمر بتشكيل لجنة تحقيق للتعرف على ملابسات الموضوع ، ومن المفارقات التي رافقت الضجة الإعلامية أن وزير الدفاع في حكومة المالكي تطوع لتخفيف الضغط عن رئيسه في محنته المتزامنة مع معركة ما بعد الانتخابات النيابية ، ولكن شهادة وزير الدفاع كانت مجروحة لأنها صدرت عن موظف يخضع لقانون عسكري تلقى الأوامر من مراجعه العليا لينفي الطابع السري عن السجن المذكور أولا وارتباط السجن بمكتب رئيس الوزراء ثانيا ، ومن المعروف أن المكتب الرئيسي لحزب الدعوة الإسلامية الذي يتزعمه نوري المالكي نفسه قد اتخذ من مطار المثنى مقرا له بعد الاحتلال مباشرة ، وهذا لا بد أن يرتب على الحزب المذكور مسؤولية جنائية لوجود حزب ملحق بمقره العام .

 

وغير سجني الجادرية ومطار المثنى هناك سجون اخرى تثير الهلع في نفوس العراقيين ، حتى بات البعض من العراقيين ينحر الذبائح فيما لو علم أحدهم أن مفقودا له معتقل لدى القوات الأمريكية وليس لدى قوات الحكومة ، وتم اكتشاف سجون اخرى مثل سجن مكافحة الإرهاب وسجن لواء بغداد وسجن الكاظمية ، والتي تخضع لسلطة محققين من القتلة المحترفين الذين تدربوا في إيران وجاءوا لينقلوا خبرتهم إلى العراق ، وليرغموا المعتقلين على توقيع اعترافات لا أساس لها ، فمن يدخل في تلك السجون لا أمل في نجاته من موت محقق ، ومن يخرج منها بمحض الصدفة التي صنعتها صحيفة لوس أنجلوس تايمز ، لا بد أن ينظر إلى ذلك اليوم على أنه ولادة جديدة ، ولعل في المشاهد التي عرضتها قناتا العربية والشرقية عن تعذيب أحد المعتقلين أمام مركز شرطة الفضل في بغداد نهاية نيسان / أبريل 2010 حتى الموت وتلذذ الجناة ورقصهم فوق جثته ، ما يحكي حقيقة ما يجري في السجون الحكومية دون استثناء ، والغريب في كل ما جرى أن هذه المشاهد وشهادات 42 معتقلا التقت بهم منظمة هيومن رايتس ووتش ، تحدثوا فيها عن أساليب غير معهودة من التعذيب التي تعرضوا لها بما في ذلك الاغتصاب ، لم تأخذ حظها ومداها من الاهتمام وخاصة لدى الولايات المتحدة والمنظمات الدولية والإنسانية المتخصصة ، لأنها أي الولايات المتحدة وببساطة تنظر إلى تجربة الحكم في العراق على أنها من إنتاجها وعليها بالتالي أن تدافع عنها ولو بالصمت عما يرتكب من جرائم ضد الإنسانية ، وهنا يحق للمراقب أن يطرح سؤالا محددا ، عن ماهية الرسالة التي أرادت حكومة المالكي توجيهها عبر بث جريمة قتل السجين ؟ وهل تحاول إرعاب المواطن بأن عليه أن يكف عن التدخل في الشأن السياسي وإلا فإن مصير هذا السجين هو ما ينتظره فيما لو خالف إرادة الحكومة ، وغني عن البيان أن هذه الرسالة واضحة القصد بأن العقاب لا يطبق وفقا للقانون وبأدواته المعروفة ، وإنما على أيدي كل من وجد في نفسه الرغبة والاستعداد لفعل ذلك ، وهنا لا بد أن يستذكر المواطن العراقي ما كان قاله باقر صولاغ عن عمليات التعذيب في ملجأ الجادرية عندما وصف الذين تعرضوا للتعذيب بأنهم إرهابيون ، وكأن هذه الصفة تبيح نزع الحق عنهم في محاكمة عادلة على أساس القانون .

 

فما هو موقف الدستور الذي ساهمت الحكومة في وضع بنوده ؟

جاءت المادة 37  من دستور 2005 لتضع قواعد شكلية مهمة ، فتقول الفقرة ( أ ) ما نصه       ( حرية الإنسان وكرامته مصونة ) ، أما الفقرة ( ب ) فنصت على ( لا يجوز توقيف أحد أو التحقيق معه إلا بموجب أمر قضائي ، وأخير جاءت الفقرة ( ج ) قاطعة في نصها إذ تقول ( يحرم جميع أنواع التعذيب النفسي والجسدي والمعاملة غير الإنسانية ولا عبرة بأي اعتراف انتزع بالإكراه أو التهديد أو التعذيب ) فأين هذه النصوص من الخروقات المنهجية التي تشهدها سجون العراق السرية منها والعلنية ، والتابعة لكل سلطة خولت نفسها حق اعتقال المواطن العراقي تحت ذرائع مختلفة ، كما أن المادة 9 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان نصت على ( كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته قانونا بمحاكمة علنية تؤّمن فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه ) .

 

الانتهاكات الواقعة على المرأة والطفل

 

تشير تقديرات الخسائر التي لحقت بالعراق منذ عام 2003 وحتى نهاية عام 2008 إلى أن هناك أكثر من مليون ونصف مليون عراقي فقدوا حياتهم وأن مليوني عراقي جرحوا بينهم نسبة كبيرة من المعوقين ، جراء ألعمليات الحربية التي شنتها قوات الاحتلال أو العمليات التي شنتها قوات الحكومة أو أعمال العنف التي شهدتها معظم مدن العراق ،  هذه ليست أرقام مجردة من المعاناة المرة ، وليست مقطوعة عما سيلحق بها من آثار ونتائج على وضع الأسرة العراقية ، فقد خلفت وراءها مليونا ونصف مليون أرملة ، وأكثر من أربعة ملايين يتيم ، والأرقام بتزايد مستمر مع استمرار دوامة العنف ومع تعدد مصادر التهديد .

 

من المعروف أن المرأة والطفل هما الحلقة الضعيفة في النسيج الاجتماعي في المجتمع العراقي خصوصا وفي المجتمع العربي عموما ، وبالتالي فهما الشريحة المتأثرة أكثر من غيرها بالكوارث التي تصيب المجتمع ، وبخاصة الكوارث الناجمة عن فعل الإنسان كالحروب والفتن الداخلية ، وربما لوضع المرأة في المشهد العراقي خصوصية اخرى ، وهي أنها لم تتأثر بنتائج ما حل بالعراق كحالة تبعية ، بل أنها تحملت بصورة مباشرة الكثير من العنت والضغط بصورة مباشرة ، فقد اعتقلت المرأة وعانت من التعذيب الجسدي والنفسي والاغتصاب الجنسي ، وتشير أرقام موثقة للنائب السابق محمد الدايني عن تعرض 1053 امرأة لحالة اغتصاب في السجون الأمريكية والحكومية منذ 2003 .

 

واستخدمت المرأة كأداة للضغط النفسي على الآباء والأبناء والأزواج والإخوان ، وذلك باعتقالهن ومساومة من تعتبره القوات الأمريكية أو الحكومية مطلوبا من قبلها ، ويتم إيصال رسائل لهم باحتمال اغتصاب المعتقلات ما لم يسلموا أنفسهم ، وتؤكد الأرقام المتاحة عن عدد السجينات إلى وجود أكثر من عشرة آلاف امرأة في سجون تتوزع على سجن الكاظمية ومطار المثنى والشيخان والسجون التابعة لوحدات الجيش وأجهزة الأمن .

 

واجهت المرأة العراقية صنوفا مختلفة من الانتهاكات لحقوقها الإنسانية ، فقد تحملت نيابة عن الرجل مسؤولية إدارة شؤون أسرتها الفاقدة للزوج والأب ولمصادر الرزق ، فقد وصلت نسبة العائلات التي تديرها إناث إلى أكثر من 11% كما جاء في تقرير لليونسيف ، وهذه النسبة آخذة بالارتفاع مع استمرار العنف الذي يستهدف الرجال ويحصد منهم العشرات كل يوم ، مما يعني ارتفاع عدد الأرامل بنسب متقاربة مع عدد الخسائر في صفوف الرجال ، ويضيف حوالي 400 طفل إلى رصيد الأيتام ، أم الفتنة الطائفية التي نشبت أظفارها في العراق بعد الاحتلال فقد أضافت سببا آخر لتهديم بناء الأسرة العراقية ، وتعرضت ألاف العائلات للتمزق نتيجة الاختلاف المذهبي بين الزوجين ، مع كل ما يتركه ذلك من ضياع لمركز الإرشاد في بناء شخصية الطفل ثقافيا وفكريا ودمجه في المجتمع .

 

أما الصليب الأحمر فقد أشار في تقرير له أصدره في آذار / مارس 2009 إلى ( تعرض المرأة العراقية للموت والعوق بسبب الانفجارات وعمليات العنف في المناطق الساخنة ) كما أشار إلى معاناة المرأة بسبب الخطف والاغتصاب والقتل وأثر ذلك على الترمل واليتم ، ومعاناة زوجات المعتقلين والأسرى والمفقودين .

 

لم يتأثر مركز المرأة على مستوى الأمن فقط ، بل امتد ليشملها بضغط البطالة التي ميزت المجتمع العراقي لما بعد الاحتلال الأمريكي ، وانتشرت البطالة في أوساط المرأة على نحو لم يسبق له مثيل وذلك نتيجة المخاطر التي يتسبب بها انعدام الأمن في الشارع ومقر الوظيفة ، ومما ضاعف من آثار ذلك أن المرأة التي حلت محل الرجل في رعاية الأسرة واجهت ظروفا مركبة التعقيد في التربية والإشراف وتوفير أسباب الرزق ، وجراء ذلك انتشرت ظاهرة التسول بين أوساط النساء والأطفال كجزء من حل الأزمة المعاشية التي مرت بها العائلة العراقية ، وفي تقرير لوزارة التخطيط فإن هناك ما يقرب من عشرة ملايين عراقي يعيشون تحت خط الفقر .

 

وتراجع مستوى التعليم الأساسي في العراق على نحو خطير ، وارتفعت نسبة الأمية مرة اخرى في العراق ، وبعد أن كان نظام التعليم فيه يحتل المرتبة المتقدمة في المنطقة ، عادت الأمية في الشرائح العمرية الجاهزة لتلقي التعليم الابتدائي لتحتل نسبا أعلى مما كانت عليه في عقد الأربعينات من القرن الماضي ، ولعب خوف العائلات على أبنائها من الخطف للحصول على فدية أو الخطف المحسوب على أسباب سياسية أو مذهبية ، لعب دورا مهما في إحجام الآباء وألأمهات عن إرسال أبنائهم إلى المدارس ، ليس هذا وحده المانع من إرسال الأطفال في عمر الدراسة إلى المدارس ، فقد كان تدهور المستوى المعاشي عائقا إضافيا عن دخول الملايين من التلاميذ إلى صفوف الدراسة أو تسربهم منها بعد فترة وجيزة من بدء الموسم الدراسي ، إذ كان عليهم التحول إلى ميدان العمل كمنتجين بدلا من مقاعد الدراسة كمستهلكين ، فهل ينسجم هذا مع ما جاء في المادة 36 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتي نصت على ما يلي ( لكل شخص الحق في التعلم ويجب أن يكون التعليم في مراحله الأولى والأساسية على الأقل بالمجان وأن يكون التعليم الأولي إلزاميا ) ؟

 

كانت المرأة في العراق قبل الاحتلال وحتى في ظروف الحصار الاقتصادي الدولي المفروض على العراق ، كانت تعيش ظرفا إنسانيا مناسبا لها وللأسرة ، كما أن التشريعات الضامنة لحقوق المرأة والطفل كانت محترمة على المستوين الرسمي والشعبي ، حتى جاء الاحتلال الذي ألحق المرأة والطفل بظروف القهر التي توزعت على زوايا المجتمع العراقي دون استثناء .

 

انتهاك ولاء المواطنة لدى الجيل الناشئ خارج الوطن

( تدمير الهوية الوطنية العراقية )

 

لا تقع الهجرة إلا بتوفر شروطها القاهرة ، فلولا التهديد خارج نطاق القانون ، ولولا الظلم الواقع في التعامل مع معارضي الحكومات سواء بالاعتقال الكيفي وعلى الشبهة ودون إذن قضائي ، أو بالاستهداف من قبل مليشيات متعددة الولاء ولولا ما يواجهه المعتقلون المخالفون لوجهات نظر الحكومات التي يعارضونها في سجونها الرسمية والسرية من ظلم وتعذيب وانتهاك لإنسانيتهم بما في ذلك الانتهاكات الجنسية ، لانتفت الحاجة إلى الهجرة ولواجه المعارض السلطة في بلاده بالأساليب المتعارف عليها ، وللهجرة في العراق إلى الداخل حيث تتوفر عوامل الطمأنينة والملاذ الآمن وفرص العمل ، وإلى الخارج حيث الملاذ القلق لارتباط ملفاته بالأوضاع السياسية والعلاقات الثنائية بين بغداد وعواصم المهجر ، لهذه الهجرة صورها المحزنة نتيجة ما لاقاه المهجرون في بلدهم قبل مغادرته ، وملاحقتهم بأسباب رزقهم بعد تركه مضطرين .

 

تعطي الفقرة ( أ ) من المادة 14 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الحق لأي شخص في أن يلجأ إلى بلد آخر هربا من الاضطهاد أيا كانت صورته ، ولكن هذا الحق تحول إلى كارثة إنسانية على حوالي أربعة ملايين عراقي اضطروا لترك بلدهم لدوافع متقاربة أو متطابقة ، فالعراق أوشك أن يدخل في دوامة حرب أهلية حصد فيها القتل الأعمى أرواح أكثر من مليون ونصف مليون عراقي ، وتركت ندوبا في المجتمع العراقي يمكن أن تفتح ملف العنف في أي ظرف طارئ لعدم توفر الجدية لدى الحكومة أو امتلاكها البرامج الواقعية لتجاوز أسباب الأزمة ، ولم تنجح العمليات الاستعراضية التي دعمتها الحكومة لعودة المهجرين العراقيين إلى بلدهم ، بل على العكس من ذلك كان المهجّر يزداد تشبثا في المنطقة التي استوطن فيها كلما ارتفعت وتيرة العنف في الشارع وكلما تسربت أخبار انتهاكات حقوق الإنسان في سجون الحكومة والقتل على الهوية أو بسبب الماضي الوظيفي أو السياسي ، يضاف إلى ذلك انعدام خدمات التعليم الآمن والخدمات الطبية الآمنة خاصة بعدما تحولت مؤسسات التعليم بمختلف مراحله والمراكز الطبية إلى مصائد لاقتناص المعارضين ، فجاءت هذه الأعداد الكبيرة من المهجرين وهي تحمل مدخراتها لتبدأ حياتها من نقطة الصفر ، ولتكتشف أن الزمن المفترض لانتهاء المحنة لم يأت وأن المدخرات بدأت بالنفاد مع إصرار حكومي على معاقبة المهجرين بقطع مستحقاتهم التقاعدية إذا ما فضلوا العيش في الخارج ، أو قطع صلتهم بالحياة إذا ما قرروا العودة بيوتهم ، فكانت معاناتهم تكبر مع الوقت ، وحقا فقد ترك وجود الثقل العراقي الكبير والذي حل فجأة في بلدان محدودة الموارد ، آثارا سلبية كبرى على البلدان التي استضافتهم وخاصة سوريا والأردن .

 

والمفارقة أن الهاربين من دوامة العنف الطائفي المتضاد ، سرعان ما يجدون أنفسهم في مجتمعهم الجديد وجها لوجه ، لكن دون احتقانات طائفية أو دينية أو عرقية ، فأقاموا نسيجا اجتماعيا متماسكا دون عقد وكأنهم تركوا وراء ظهورهم أسباب هجرتهم المتعارضة ، من أحياء المدن التي شهدت عنفا طائفيا وخاصة مدينة بغداد .

لكن مجرد وجود المواليد الجدد ، أو من هم أكبر منهم سنا في منازل ومدن ليست منازلهم ولا مدنهم ، لا بد أن تثير لديهم أسئلة مريرة عن أسباب العيش تحت ضغط الفاقة وفي مدن غريبة ، مما يؤدي إلى الكثير من الانفعالات التي تقود الفرد إلى التحصن بطائفته للحصول على حمايتها من الأخطار الخارجية ، وذوبان العامل الوطني مع الزمن .

 

لم يكن هناك خيار للعائلات من إرسال أبنائها إلى المدارس في المجتمع الجديد ، من كان يمتلك الإمكانية المادية وهم من القلة النادرة فإن الفرص متاحة أمامه لأكثر من خيار ، أما محدودو الموارد وهم الغالبية الساحقة من العراقيين في الخارج ، فإن خيارهم الوحيد هو إرسال أبنائهم إلى المدارس الحكومية ، ومن المعروف أن مؤسسات التعليم في أي بلد بنيت على أساس استيعاب أبناء البلد مع الأخذ بنظر الاعتبار الزيادة السنوية المعتادة للسكان ، أي أن تواجد العراقيين بالثقل الذي حصل منذ عام 2003 ، قد أثر كثيرا على قدرة استيعاب التلاميذ الجدد في المدارس الابتدائية والثانوية ، أما الدراسات الجامعية بكل مراحلها وفروعها ، فقد بقيت خاضعة لشروط القبول وبمقاعد محدودة ومحددة للعراقيين ، وعلى ممن يرغب بإكمال دراسته الجامعية خارج هذه الشروط أن يبحث عن التعليم الخاص .

 

وفي كل الأحوال فإن الجيل الجديد سينشأ على قيم مختلفة وولاء لغير وطنه وستتداخل المفاهيم التربوية ، فلكل بلد اليوم مناهجه ورسالته الفكرية والثقافية والتربوية ، وعلى الوافدين أن يتكيفوا معها أو يتركوا مقاعد الدراسة أو البلد بكامله ، لهذا فإن جيلا سينشأ مقطوعا عن بلده ، وسيتعلم قيما جديدة ويردد مفاهيم وأناشيد لا صلة لها بوطنه ، ومع مرور الوقت ستضعف رابطته بوطنه وتتلاشى مع الزمن وسوف تنقطع جذوره ويصبح مزدوج الولاء وسوف يختار الغربة الإرادية حتى في حال توفر الفرصة للعودة إلى الوطن ، وربما يمكن تأشير ضياع الشخصية الوطنية على أنها أخطر انتهاك تسبب به الاحتلال الأمريكي للعراق وما أفرزته العملية السياسية المبنية على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية ، كان المطلوب تقويض ثقة العراقي بوطنه واعتزازه به ، وهذه الخطوة الأولى الضامنة لتلاشي منظومة الدولة العراقية وتحويل الولاء لها إلى ولاءات طائفية وعرقية ومناطقية داخليا ، وقطع الطريق على من تشرب بقيم المجتمع الجديد الذي نشأ فيه خارجيا ، عندها قد تستقر نفوس من كان يرى في استمرار العراق كحالة حضارية ووطنية متماسكة ، خطرا عليه لأنهم حذفوا العمق الحضاري للعراق تمهيدا لحذف دوره السياسي في المنطقة والعالم .

 

الخاتمة

 

وماذا بعد ؟ في عالم تسوده غرائز القتل ونشوة التعذيب ، ومن أجل تهذيب السلوك الإنساني وحسر النزعات البهيمية لا بد من وجود ضوابط قانونية وأخلاقية ملزمة للأفراد والجماعات والحكومات على حد سواء ، لتمنع أي انتهاك لحقوق الإنسان وكرامته ومن أجل ذلك يجب الدعوة إلى : -

 

1 - تدويل جرائم التعذيب حيثما جرت ، وشمول الولاية القضائية للمحاكم الدولية القائمة حاليا أو التي سيتم تشكيلها للنظر في أفعال الأفراد والحكومات المخالفة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، وعدم اعتبار تلك الجرائم ذات طابع محلي ويجب اعتبار جرائم التعذيب من الجرائم المخلة بالشرف والنازعة للحقوق السياسية والتي لا تسقط بالتقادم .

 

2 – ينبغي مراجعة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسد الثغرات فيه وإلزام الدول كافة صغيرها وكبيرها باحترام بنوده وعدم عرقلة تنفيذ الأحكام الواردة فيه ، وإمهال دول العالم سنة واحدة للمصادقة على التشريع الجديد ، وفي حال التلكؤ أو الرفض تعلق عضوية البلد الممتنع في الأمم المتحدة ، وتحجب عنها أية مساعدات ذات طابع اقتصادي أو عسكري لحين المصادقة على التشريع الجديد .

 

3 – وحتى يتم التوصل إلى ذلك المستوى ، يجب عدم ترك الباب مفتوحا أمام من يشعر أنه بمأمن من العقاب في حال ارتكابه لأي انتهاك لحقوق الإنسان ، يجب تفعيل القوانين الدولية السارية والضامنة لحقوق الأفراد الذين تعرضوا للتعذيب والانتهاك .

 

لقد عرف العالم القديم التشريعات القانونية لتنظيم حياة الأفراد والجماعات مع بعضها وترتيب الالتزامات المتقابلة ، قبل أن تتطور معرفة الإنسان بقوانين الطبيعة ، وحينما أطل عصر النهضة وبدأ علماء الفيزياء والكيمياء والفلك والحركة ، وضع القوانين لاكتشافاتهم العلمية ، كانت التشريعات القانونية قد قطعت شوطا متقدما قبل ذلك بعدة آلاف من السنين في بلاد ما بين النهرين حينما كانت لوائح شريعة حمورابي تلاحق أصغر القضايا التي كان الإنسان يشعر بالحاجة إليها لتنظيم علاقته بالدولة ومع الأفراد الآخرين ، وانتشرت إلى أرجاء العالم يقظة قانونية ألقت بأنوارها على معظم أرجاء العالم القديم .

 

وتطورت في زمن قصير جدا حركة الاكتشافات العلمية وتطورت قوانين الفيزياء والكيمياء وتم سبر أغوار الذرة وغزو الفضاء حتى تم إرسال المركبات المأهولة إلى الفضاء الخارجي ، وتقلص حجم الكرة الأرضية بثورة الاتصالات ، كل هذا حصل في أقل من خمسمائة سنة وأصبح الإنسان أسيرا لما اكتشفه من قوانين الطبيعة ، فهو لم يعد قادرا على الخروج على قوانين الطبيعة من فيزياء وكيمياء ، إلا أنه في واقع الحال كان على الدوام قادرا على الخروج كل يوم على التشريعات والقوانين الضامنة لحياة أفضل ، وحتى في الدول المؤشر عليها باحترام حقوق الإنسان ، فإنها بدأت تصادر تدريجيا المكاسب التي حققتها الشعوب لنفسها بنفسها تحت لافتة مكافحة الإرهاب ، فها هي بدأت بالتراجع عن احترام الحريات الخاصة وتخرق سرية الأفراد ، فقد ألقت كاميرات المراقبة بوطأتها على صدور الأفراد وكتمت أنفاسهم ، وعلى مستوى الخارج كانت تلك الدول تمارس أسوأ حالة من التمييز بين سكان الأرض ، فهي حينما كانت توفر لشعوبها أجواء الديمقراطية وترعى حقوق الإنسان فإنها كانت تواجه حركة الشعوب للتحرر بالبطش والتنكيل .

 

لماذا لم تتطور التشريعات القانونية بالسرعة التي تطورت بها العلوم الطبيعية ، وألا تستدعي مصلحة سكان الأرض توازنا بين القوانين الإنسانية والقوانين الطبيعية ؟ أليس من حقنا أن نحلم بعالم يحترم حقوق الإنسان ولا يقبل بتجزئتها ، أليس من حقنا أن نتوقع أن تحترم القوانين المنظمة لحياة الأفراد والجماعات بنفس درجة احترام القوانين المنظمة لحركة الالكترونات حول نواة الذرة ؟ فأيهما أهم للإنسان نواة المجتمع أو نواة الذرة ؟

 

 





الخميس٢٦ رجــــب ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٨ / تموز / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نزار السامرائي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة