شبكة ذي قار
عـاجـل










 

القسم الاول

 

مقدمة لا بد منها :

ترددت كثيرا قبل طرح هذا الموضوع ليس فقط لحساسيته لدى البعض ولكن لعدم رغبتي في التطرق بكتاباتي إلى الأمور ذات الطبيعة الدينية  , وبالرغم من اعتمادي على مصادر موثوقه, حاولت جهدي الابتعاد عن التحليل ,وقد قمت بنقل الوقائع كما هي دون تعليق أو إبداء أي رأي حولها,ولكني وجدت نفسي مجبرا على إعطاء وجهة نظري في نهاية المقال لأهمية وخطورة الموضوع ولكني التزمت بطرح وجهة النظر السياسية البعيدة كل البعد عن التجاذبات الطائفية أو الديني.

 

إضافة إلى ذلك فان الكثير يتصورون إن طرق مثل هذه المواضيع مضر بالوحدة الوطنية أكثر مما هو مفيد ,وأنا على خلاف هؤلاء ,وخاصة بوجود الانترنيت وأساليب الإعلام الحديثة حيث أصبح كل شيء معلن ,وبالتالي فان طرح الحقائق واستخدام الإعلام لرفع ثقافة ووعي القارئ لا بد ان يساعد في الوصول إلى الحقيقة ,وخاصة إن موضوعنا هذا يشوبه الكثير من الغموض حتى لمن يؤمن به لعدم وجود دراسات جادة كثيرة ومحايدة تتناول هذا الموضوع تاريخيا وبأسلوب مفهوم وواضح ودون الدخول في المهاترات .

 

1_  نظرية الإمامة الإلهية :

لا يمكن تحديد موقع أي نظرية إلا ظمن سياقها التاريخي ,ولا يمكن فهمها دون معرفة الأرضية التي نشأة منها ,والتطور التاريخي الذي حدث قبلها والذي أدى إليها وكذلك المبررات التي أدت إلى ظهور هذه النظرية بالرغم من أن دراستنا تخص مفهوم نظرية ولاية الفقيه المطلقة والتطور التاريخي لها ,فلا بد من توضيح مختصر للنظريات التي سبقتها وبصورة موجزة لأنها امتداد وتطور لهذه النظريات التي سبقتها وليتسنى فهم ما استحدثته هذه النظرية ضمن سياقات التطور التاريخي .

 

لقد ابتدأ فكر أهل البيت أو الفكر الأمامي في بدايات القرن الثاني للهجرة, وقد تمثل في حصر الإمامة في البيت الحسيني وتعيينه في واحد من ولد الإمام السابق واثبات صفة العصمة والتعيين له من الله تعالى ,وذلك بعد انتهاء الصراع بين أجنحة أهل البيت المختلفة على القيادة.

 

فادى ذلك إلى نشوء نظرية (الإمامة الإلهية ) لأهل البيت ,القائمة على النص والتعيين والبيت الحسيني و العصمة , وكان على رأس القائلين بهذه النظرية المتكلم المعروف أبو جعفر الأحول محمد بن علي النعمان الملقب بمؤمن الطاق الذي ألف عدة كتب في هذا الموضوع هي كتاب الإمامة وكتاب المعرفة وكتاب الرد على المعتزلة في إمامة المفضول.

 

وقد قال الطوسي في الفهرست إن أول من تكلم على مذهب الأمامية وصنف كتابا في الإمامة وله الاستحقاق هو علي بن إسماعيل بن شعيب بن ميثم ألتمار أبو الحسن الميثمي ولحقه الكثير وقد قال هؤلاء المتكلمون:

 

إن الإمامة مفروضة من الله وهي في أهل البيت وإنها متوارثة في ذرية الحسين بصورة عمودية إلى يوم القيامة وإنها تثبت بالنص أو بالوصية أو المعاجز الغيبية .وان الإمامة أمر الهي , وان تعيين الإمام الجديد يتم بتدخل من الله ,ولا دخل لإرادة الإمام السابق بذلك .

 

هذا ما قاله الجيل الأمامي الأول, كالكشي والنجاشي والصدوق والمفيد والطوسي والحلي .وقد شهد القرن الرابع الهجري تطورا جديدا في النظرية الأمامية هو حدوث الاثنى عشرية ,وهي نظرية حدثت خاصة في صفوف الشيعة الموسوية ,وخاصة الجناح المتشدد الذي كان يؤمن بقانون الوراثة العمودية بشدة ولا يقبل أي تسامح فيها ,وقد قال بوجود قائمة مسبقة وتحديد أسماء الأئمة من قبل الرسول الأعظم باثني عشر إماما هم علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي وان آخرهم الإمام الغائب محمد بن الحسن العسكري .

 

2_ نظرية التقية والانتظار :

تأثر الفكر السياسي الشيعي بنظرية (وجود الإمام المهدي محمد بن الحسن العسكري ) تأثرا كبيرا والتي تحتم وجود إمام معصوم معين من قبل الله , ولا تجيز للأمة أن تعين أو تنتخب الإمام ,لأنه يجب أن يكون معصوما , والذي ينحصر تعيينه من قبل الله تعالى .

 

وقد كان من الطبيعي أن يترتب على ذلك القول بالانتظار للإمام الغائب وتحريم العمل السياسي أو السعي لإقامة الدولة الإسلامية في (عصر الغيبة ) وهذا ما حدث بالفعل ,حيث أحجم (النواب الخاصون) عن القيام بأي نشاط سياسي في فترة (الغيبة الصغرى) ولم يفكروا بأية حركة ثورية ,في الوقت الذي كان فيه الشيعة الزيدية والإسماعيلية يؤسسون دولا في اليمن وشمالي أفريقيا وطبرستان.

 

لقد كانت نظرية (الانتظار ) للإمام الغائب تشكل الوجه الآخر للإيمان بوجود (الإمام المعصوم ) ولازمة من لوازمه ,ولذلك فقد اتخذ المتكلمون الذين آمنوا بهذه النظرية موقفا سلبيا من مسألة إقامة الدولة في عصر الغيبة وأصروا على التمسك بموقف الانتظار حتى خروج (المهدي المنتظر) وبالرغم من قيام الدولة البويهية الشيعية في القرن الرابع الهجري وسيطرتها على الدولة العباسية ,فان العلماء الأماميين ظلوا متمسكين بنظرية الانتظار وتحريم العمل السياسي .وكانوا يستندون إلى (كل راية ترفع قبل راية المهدي فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله ) و(كل بيعة قبل ظهور القائم فإنها كفر ونفاق وخديعة).

 

وهكذا روى النعماني في (الغيبة )عن أهل البيت :إن من ترك التقية قبل خروج قائمنا فليس منا .

وروى الصدوق عن الإمام الصادق (ع) انه قال :من فات منكم على هذا الأمر منتظرا كان كمن في فسطاط القائم .

وروي عن الرضا (ع)انه قال :ما أحسن الصبر وانتظار الفرج ؟ أما سمعت قول الله عز وجل (فارتقبوا أنى معكم رقيب).

 

وقال الشيخ الصدوق (المتوفي سنة 381هجرية) في كتاب (الاعتقادات ) الباب الخامس والثلاثون(لا قائم غير المهدي وان طالت الغيبة بعمر الدنيا ,لان النبي أشار إلى اسمه ونسبه وبشر به ).

 

وأفتى بناء على هذه النظرية قائلا : التقية واجبة..  وتركها لا يجوز حتى خروج القائم ,ومن يتركها قبل خروج القائم فانه خارج من دين الأمامية ومخالف لله ولرسوله والأئمة.

 

وكذلك قال الصدوق في (اكمال الدين)والشيخ المفيد (المتوفي 413 هجرية)

والمرتضى علم الهدى (355_436)وكذلك الشيخ الطوسي في (تلخيص الشافي).

وقد رفض العلامة الحلي في (الالفين) فكرة قيام الأمة بنصب الإمام واختياره عبر الشورى ,واعتبر إسناد أمر الإمامة إلى اختيار الأمة خلافا لقول الله (وما كان المؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة في أمرهم ).

وقال الميرزا محمد تقي الاصفهاني (توفي سنة 1348هجرية)في (مكيال المكارم في فوائد الدعاء للقائم ) لا يجوز مبايعة غير النبي والإمام .

 

 

القسم الثاني

 

3_   نظرية النيابة الملكية :

انفجرت في تبريز حركة جديدة على أيدي الصفويين ..وهم حركة صوفية تركمانية تحولت إلى التشيع بقيادة شاب صغير لم يتجاوز الرابعة عشر من عمره ,اسمه (إسماعيل صفي الدين بن حيدر )الذي أعلن قيام الدولة الصفوية في مطلع القرن العاشر الهجري سنة 907  في تبريز وكان يعتبر قطبا في الحركة الصوفية وقد ورث هذا اللقب عن أبيه كما كان شيخ تكية ويتمتع بمنزلة روحية بين أتباعه وخاصة انه ينتمي إلى السلالة العلوية.

 

وكان هناك تطور قد حصل في نظرية (النيابة العامة للفقهاء عن الإمام المهدي )في مجال الخمس والزكاة والحدود وصلاة الجمعة ,ولكنها لم تتبلور بعد كنظرية سياسية متكاملة بديلة عن نظرية (الإمامة الإلهية)ولازمتها الأمامية ).

 

وعندما أراد الصفويين التحرك العسكري لإقامة دولة خاصة بهم وجدوا نظرية الانتظار غير معقولة ولا واقعية وتشكل حجر عثرة أمام طموحاتهم .

وبالرغم من إعلانهم التمسك بالمذهب الأمامي الاثنى عشري إلا أنهم في الحقيقة لم يستوعبوا نظرية (الإمامة الإلهية) التي تشترط العصمة والنص  في الإمام,أو أنها كانت ضد مصالحهم ولا تلبي طموحاتهم, فحولوها إلى نظرية تاريخية ورفضوها عمليا ,حيث أجازوا لزعمائهم غير المعصومون ولا منصوص عليهم من الله بالحكم والقيام مقام الإمام وبمهماته.

 

واختلفت تجربة الدولة الصفوية في مرحلتها الأولى (أيام الشاه إسماعيل بن صفي الدين )عن التجارب السياسية الشيعية السابقة كالدولة البويهية والسريدارية والمرعشية والمشعشعية في إن هذه التجارب كانت سياسية بحتة أي غير إيديولوجية ,بينما حاولت الدولة الصفوية تقديم نفسها كدولة عقائدية ومرتبطة بالأئمة الاثنى عشر بصورة روحية غيبية , وكانت تشكل انقلابا في الفكر السياسي الشيعي .

 

وقد طور الشاه إسماعيل ,أو تطور على يديه ,فكر سياسي جديد حاول الالتفاف من خلاله على فكر (التقية والانتظار ) فادعى ذات يوم انه اخذ إجازة من (صاحب الزمان :المهدي المنتظر)بالثورة والخروج على أمراء التركمان الذين كانوا يحكمون إيران ,وبينما كان ذات يوم مع مجموعة من رفقائه الصوفية خارجين للصيد في تبريز مروا بنهر ,فطالبهم بالتوقف عنده وعبر النهر بمفرده ودخل كهف ,ثم خرج متقلد بسيف واخبر رفقاءه بأنه شاهد في الكهف (صاحب الزمان )وانه قال له :لقد حان وقت الخروج وانه امسك ظهره ورفعه ثلاث مرات ووضعه على الأرض وشد حزامه بيده ووضع خنجرا في حزامه وقال له :اذهب فقد رخصتك وادعى بعد ذلك انه شاهد الإمام علي بن أبي طالب (ع) في المنام وانه حثه على القيام وإعلان الدولة الشيعية وقال له بالحرف الواحد:

 

  ابني لا تدع القلق يشوش أفكارك, احضر الفرلباشية _وهم ميليشيا الصوفية_ مع أسلحتهم الكاملة إلى المسجد (في تبريز ) وأمرهم أن يحاصروا المسجد والناس ...وإذا أبدى هؤلاء أية معارضة ,أثناء الخطبة باسم أهل البيت,فان الجنود ينهون الأمر.

 

وقد فعل الشاب إسماعيل ذلك وحاصر جامع تبريز ذات جمعة وأعلن سيادة المذهب الأمامي الاثنا عشري وقيام الدولة الصفوية وذلك بناء على دعوتين :دعوى الوكالة الخاصة عن الإمام المهدي ودعوى رؤية الإمام علي (ع) في منامه .

 

وقد أتاحت هاتان الدعوتان للحركة الصوفية أن تتحرر من نظرية (التقية والانتظار) وتأسيس الدولة الصفوية .

ويقول روجر سبوري في (إيران في العصر ألصفوي ) اعتمد الصفويين على فكرة الحق الآلهي للملوك الإيرانيين قبل الإسلام منذ سبعة آلاف سنة وذلك بوراثة هذا الحق باعتبارهم سادة ,وان جدهم الحسين بن علي قد تزوج بنت يزدجرد فأولدها الإمام زين العابدين ,فاجتمع الحقان :حق أهل البيت قي الخلافة (حسب النظرية الأمامية) وحق الملوك الإيرانيين فيهم ,بالإضافة إلى نيابة الإمام المهدي .

 

وبناء على ذلك فقد كان الشاه إسماعيل يعتبر نفسه (نائب الله وخليفة الرسول والأئمة الاثنى عشر وممثل الإمام المهدي في غيبته ) وكان جنوده (القزلباش ) الصوفية يعتقدون : انه تجسيد لله .

 

ولكن صورته اهتزت بعد هزيمته في موقعة (جالدران) مع السلطان العثماني سليمان القانوني عام 920 هجرية _1512 ميلادية .

 

4_  نظرية النيابة العامة

استهوى ظهور الدولة الصفوية بعض علماء الشيعة فذهبوا إلى إيران ولكنهم صدموا , ومن هؤلاء العلماء الشيخ المحقق علي بن الحسين بن عبد العالي الكركي (جبل عامل ) الذي ذهب إلى إيران وعاد منها سنة 916, وبعد ان لاقى اهمالا من الشاه , فقد عاد الى النجف وجلس في الحوزة العلمية فيها ليطور نظرية (النيابة العامة للفقهاء عن الإمام المهدي ) التي كانت حتى ذلك غير الحين نظرية جزئية محدودة سياسية, يطورها إلى نظرية سياسية متأثرا بقيام الدولة الصفوية وزوال ظروف التقية فقال في جامع المقاصد : إن الفقيه المأمون الجامع لشرائط الفتوى منصوب من الإمام (المهدي ) ولهذا تمضي أحكامه ويجب مساعدته على إقامة الحدود والقضاء بين الناس وجزم بان للفقهاء حال الغيبة إقامة الحدود وأجاز للفقيه الجامع للشرائط تولي القتل والجرح إذا تطلبهما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ,ومن صلاحيات الفقيه من الحدود والقضاء إلى صلاة الجمعة .

 

وألف المحقق الكركي ولأول مرة في التاريخ الشيعي في عصر الغيبة رسالة في تحليل الخراج اسماها (قاطعة اللجاج في تحقيق حل الخراج ) وقال فيها ثبت قي طريق أهل البيت :إن ارض العراق ونحوها ممن فتح عنوة بالسيف لا يملكها مالك خاص بل المسلمين قاطبة ,يؤخذ منها الخراج والمقاسمة ويصرف في مصارفه التي بها رواج الدين بأمر إمام من أهل البيت ,كما وقع في أيام أمير المؤمنين ,وفي حال غيبته (ع) قد إذن أئمتنا (ع) لشيعتهم في تناول ذلك من سلاطين الجور .

وقد عزز المحقق في فتاواه هذه موقع العلماء في الدولة الصفوية ,وسلب من الصفويين الشرعية الدستورية بعد أن حصرها بيد الفقهاء الأمناء (نواب الإمام المهدي العامين) رافضا الاعتراف بادعاءات الشاه إسماعيل الصفوي بالنيابة الخاصة المزعومة عن طريق اللقاء السري بالإمام المهدي أو الإمام علي في المنام ,ضمنا دون أن يصرح بذلك .

 

ويقول السيد نعمة الله الجزائري في صدر كتابه (شرح غوالي اللثالى):عند قدوم الشيخ الكركي إلى أصفهان قزوين في عصر السلطان العادل طهماسب مكنه من الملك وقال له :أنت أحق بالملك لأنك النائب عن الإمام وإنما أكون من عمالك ,وأقوم بأوامرك ونواهيك وقد أعطى الكركي الشاه طهماسب إجازة حكم البلاد بالوكالة عن نفسه باعتباره نائبا عن الإمام المهدي ولقبه الشاه بنائب الإمام وعينه (شيخا للإسلام ) .

 

5 _  الحركة الإخبارية

أدى قيام الدولة الصفوية في القرن العاشر الهجري وتطوير نظرية (النيابة العامة للفقهاء )إلى نظرية سياسية على يدي المحقق الكركي الذي فتح الباب إمام الفقهاء الشيعة لمنح الملوك الصفويين ومن ثم القاجاريين في إيران (إجازة شرعية)والحكم بالوكالة عن (نائب الإمام المهدي :الفقيه العادل) أدى إلى حدوث انشقاق وصراع عميق ورفض عنيف من قبل اغلب علماء ألشيعه الأمامية وهو ما سمي بالصراع الإخباري _الأصولي

 

الذي امتد لعدة قرون ومازالت أثاره.

لم يكن هذا الصراع يدور حول أمر جزئي بسيط إنما كان يتعلق بأمر أساسي يدخل في موضوع الهوية العقائدية وكان في حقيقته صراعا بين الخط المتمسك بنظرية (الانتظار )بالتحديد وبين الخط المتحرر من شروط العصمة والنص والمتحرر من نظرية الانتظار.

 

وكان الفكر الأمامي يعطي للإمام مهمتين رئيسيتين هما :_

1_التشريع في المسائل المحدثة التي لا توجد في القران الكريم أو السنة النبوية المطهرة ,ويرفض اللجوء إلى الاجتهاد ويعتبره نوعا من الظن غير الجائز في الدين ويشترط في الحصول على العلم ويقول إن الإمام يحصل عليه من الله مباشرة بطريقة أو بأخرى.

 

2_تنفيذ الشريعة الإسلامية وتطبيق أحكام الدين وقيادة المسلمين .

 وكان الفكر الأمامي يحصر مهمة الامامه في الأئمة المعصومين المعينين من قبل الله ولا يجيز لأي شخص غيرهم أن يقوم بشيء من ذلك ولذا فقد كان من الطبيعي والضروري أن يؤدي الفكر الأمامي إلى حتمية افتراض وجود الإمام الثاني عشر (محمد بن الحسن العسكري )والقول بانتظاره وتحريم العمل السياسي في (عصر الغيبة ).

 

وعندما قام العلماء المتأخرون كالمحقق الكركي بالقول بنظرية (النيابة العامة السياسية) اعتبر الإخباريون أو بالأحرى الأماميون ,العمل السياسي وإقامة الدولة وممارسة مهامها اغتصابا لسلطات وصلاحيات (الإمام المعصوم)وتهديما للركن الثاني الأساسي من أركان نظرية (الإمامة الإلهية) وهو التنفيذ .

 

لقد كانت معارضة الأماميون مرتكزة على قاعدة نظرية الإمامة التي تحرم التشريع والتنفيذ خارج دائرة (الإمام المعصوم ) وكان الأماميون يعتبرون المجتهدين وأصحاب نظرية (النيابة العامة أو ولاية الفقيه ) خارجين عن دين الإمام حسبما يقول الشيخ الصدوق ,وكذلك الفاضل الهندي والميرزا محمد تقي الاصفهاني (المتوفي 1348هجرية)ويضاف ما روي عن البحار (ومرآة الانوار)عن المفضل بن عمر عن الصادق (ع) انه قال : يا مفضل كل بيعة قبل ظهور القائم فبيعة كفر ونفاق وخديعة ولعن الله المبايع بها والمبايع له )  

 

وعندما قام العلماء المتأخرون كالمحقق الكركي بالقول بنظرية (النيابة العامة السياسية)اعتبر( الإخباريون أو بالأحرى الأماميون )العمل السياسي ولقامة الدولة وممارسة مهامها اغتصابا بالسلطات وصلاحيات (الإمام المعصوم)وتهديما للركن الثاني الأساسي من أركان نظرية (الإمامة الإلهية) وهو التنفيذ خارج دائرة (الإمام المعصوم ) وكان الأماميون يعتبرون أصحاب نظرية ( النيابة العامة أو ولاية الفقيه) خارجين عن دين الإمام حسبما يقول الشيخ الصدوق ,وكذلك الفاضل الهندي والميرزا محمد تقي الاصفهاني (توفي 1348هجرية ) ويضاف ما روي في البحار 8 (ومرآة الانوار ) عن المفضل بن عمر عن الصادق (ع) انه قال : ( يا مفضل كل بيعة قبل ظهور القائم فبيعة كفر ونفاق وخديعة ,لعن الله المبايع والمبايع له) .

 

ومن يطلع على الفكر الكلامي الفلسفي للمفيد والمرتضى والطوسي والعلامة الحلي وغيرهم يجد بوضوح موقف الرفض التام لقيام أية سلطة بعيدا عن قيادة الإمام المعصوم .

 

وينقسم الفقهاء الشيعة بعد ذلك إلى قسمين رئيسيين هما الإخباريون :

أي الذين يقبلون الأخبار الواردة في الكتب الروائية الشيعية الأربعة والتراث الشيعي القديم كما هي , بدون نقد أو تمحيص ويحرمون الاجتهاد والاعتماد على القواعد الأصولية .

والأصوليون الذين يمارسون الاجتهاد ويقبلون بالأصول العلمية .

 

حيث يعتقد الإخباريون بصحة جميع ما في كتب الإخبار الأربعة المعروفة عند الشيعة وهي (الكافي ومن لا يحضره الفقيه والتهذيب والاستبصار )

وان الروايات الواردة فيها إما قطعية السند أو موثوق بصدورها ,فلا حاجة إلى البحث عن سندها ,ولا يشترطون للمجتهد العلم بأصول الفقه ,غير المعرفة باصطلاحات أهل البيت ,ولا يجوزون الرجوع إلى الأصول المأخوذة عن العامة كالعقل والإجماع ,ويكتفون بالإخبار ,ولذلك أطلق عليهم اسم (الإخباريون)

 

وبالرغم من حسم العلماء الأصوليين للمعركة لصالحهم في القرن التاسع عشر على يدي الشيخ مرتضى الانصاري ,إلا إن كثيرا من علماء الأصوليين ضلوا يمارسون عمليا نهجا قريبا من الإخباريين في تقبل كثير من الروايات والحكايات التاريخية بدون تمحيص أو اجتهاد  مما جعلهم يهتمون بتمحيص الروايات والأحاديث التي تخص هذا الموضوع أي إنهم تركوا الجوانب الأخرى على حالها مما يوضح استخدامهم للمنهجين في آن واحد ؟ وحسب ما تقتضيه المصلحة .

 

 

القسم الثالث

 

6 _ نظرية ولاية الفقيه

إن نظرية ولاية الفقيه هي الاسم الثاني لنظرية النيابة العامة ولكنها تستند إلى الأدلة العقلية بينما نظرية النيابة العامة تستند إلى الروايات, ولذلك  آثرنا إعطائها عنوانين منفصلين محاولة منا لتوضيح التطور الذي أحدثه الإمام الخميني على نظرية ولاية الفقيه بحيث أصبحت ولاية الفقيه المطلقة وهذا فقط للتفريق بينهما .

فلو كانت لنظرية (النيابة العامة) أو (ولاية الفقيه) أي رصيد من الواقع لتحدث عنها (الإمام المهدي ) أو النواب ,ومن هنا فلم يعرف الشيخ الصدوق نظرية النيابة العامة ,ولم يشر إليها أبدا .

 

كذلك لم تتحدث الرسائل الثلاث التي يقال إن (الإمام المهدي ) قد أرسلها إلى الشيخ المفيد عن النيابة العامة للفقهاء وخلت من أي إشارة إلى تفويضه أو تفويض الفقهاء بأي منصب قيادي في (عصر الغيبة الكبرى )

وبالرغم من ذلك فقد تحدث الشيخ المفيد في (المقنعة)عن تفويض الأئمة للفقهاء إقامة الحدود في عصر الغيبة فقط .

 

وقد تحدث الشيخ الطوسي والسيد المرتضى عن فرضية تفويض الأئمة العام للفقهاء في مجال الحدود والقضاء ,وكان أول من استخدم مصطلح     (النيابة عن ولي الأمر عليه السلام) هو أبو الصلاح الحلبي (توفي 447) وقد حاول آن يسحب النيابة  إلى أبواب الزكاة والفطرة والخمس والأنفال.

وجاء المحقق الحلي (توفي 676) بعد ذلك لكي يطور النظرية,وهكذا تبعه العلامة الحلي والسيخ ابن فهد الحلي والسيد محمد جواد الحسيني ألعاملي .

 

وكان الدور الأكبر عمليا في هذا التطور السياسي الكبير في تاريخ الشيعة والذي نقلهم من مرحلة (التقية وانتظار ) إلى مرحلة إقامة الدولة في عصر الغيبة هو للمحقق الكركي (توفي940)   وجاء النراقي ليطور هذه النظرية في منتصف القرن الثالث عشر الهجري,ودخل الشيخ رضا الهمداني (توفي سنة1310)إلى نظرية النيابة العمة التي اسماها (القائمقامية للفقيه عن الإمام المهدي )من باب القضاء.

 

 وأخيرا جاء الخميني الذي اعتمد في قوله بنظرية (ولاية الفقيه)

على التوقيع المروي عن (الإمام المهدي ):( وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فأنهم حجتي عليكم وإنا حجة الله ) إلا انه اعتمد بصورة رئيسية عل روايات عامة عن الرسول الأعظم (ص) مثل (الفقهاء ورثة الأنبياء وحصون الأمة وخلفاء الرسول ) وروايات خاصة عن الإمام الصادق (ع) مثل (اتقوا الحكومة فإنها لنبي أو وصي نبي ) واستنتج من هذه الأحاديث العامة والخاصة معنى الوراثة والخلافة السياسية والولاية التامة للفقهاء كما كانت للرسول الأعظم (ص) والأئمة من أهل البيت (ع) حسب النظرية الأمامية .

 

وقال :(كما إن الرسول الأعظم جعل الأئمة (ع)خلفاء ونصبهم للخلافة على الخلق أجمعين ,جعل الفقهاء ونصبهم للخلافة الجزئية....وتحصل ما مر ثبوته لهم الولاية فيه من جهة كونهم سلطانا على الأمة .

ولذلك اعتبر الخميني الفقهاء أكثر من (نواب للإمام المهدي الغائب)

وإنما أيضا :  أوصياء للرسول (ص) من بعد الأئمة , وفي حالة غيابهم ,وقد كلفوا بجميع ما كلف به الائمة بالقيام به .

واستخرج نظرية الجعل والنصب والتعيين للفقهاء من قبل الإمام الصادق

من مقولة عمر بن حنظلة :فاني قد جعلته عليكم حاكما .

 

واعتبر الخميني بناء على ذلك ولاية الفقيه على الناس مجعولة من قبل الله كولاية الرسول والأئمة من أهل البيت ,وانه ولاية دينية آلهية .

ولكن الشيخ المنتظري ناقشه في دلالة مقبولة عمر بن حنظلة والأحاديث الأخرى على النصب والجعل والتعيين , وقال إنها تدل على الانتخاب ولا يصح الاستدلال بها لإثبات الولاية المطلقة بالنصب . وهذه احد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى عزله عن الولاية .

 

وكانت نظرية (النيابة العامة ) تقوم على أساس الإيمان بوجود الإمام المعصوم وهو (المهدي المنتظر) وحصر الخلافة الشرعية به ، وعدم جواز تصدي غير المعصوم لممارسة مهماته السياسية التي يشترط فيها العصمة ، وعدم معقولية النيابة الخاصة أو العامة في أمور (الإمامة) . ومن هنا كانت أبعاد نظرية (النيابة العامة) في البداية محدودة جدا بأداء بعض الأمور (الحسبية) التي لا ترقى إلى مستوى تأسيس الدولة في (عصر الغيبة) .

 

وكانت المشكلة الرئيسية التي حالت دون قول بعض الفقهاء (كالشيخ محمد حسن النجفي صاحب الجواهر ) بنظرية (الولاية العامة) هي فلسفتهم عن سر (غيبة الإمام المهدي) واعتقادهم بعدم توفر الظروف الموضوعية للخروج ، ومن ثم اعتقادهم بعدم إمكانية إقامة الدولة في (عصر الغيبة) فضلا عن جوازها ، وذلك لوجود الخوف والإرهاب الذي يمنع الإمام من الظهور ، كما يقول النجفي (صاحب الجواهر) ، الذي قال بنظرية (النيابة العامة) بشكل محدود ، ولكنه لم يقل بنظرية (ولاية الفقيه العامة) بسبب إيمانه بعدم إمكانية تحقق ذلك · وإلا لظهرت دولة الحق .

 

وذلك إضافة إلى عدم قيام الأدلة العقلية لديهم بمقاومة أدلة نظرية (الإمامة الإلهية ) ووليدتها نظرية (الانتظار) .

وربما كان هذا هو السبب في إحجام عدد من العلماء الذين قالوا بنظرية : (ولاية الفقيه العامة) كضرورة لا بد منها في (عصر الغيبة) ولو من باب الحسبة ، عن مد النظرية إلى بعض أبواب الفقه كالجهاد وصلاة الجمعة والحدود ، التي اشترطوا فيها إذن الإمام المعصوم (المهدي المنتظر ).

 

بينما كانت نظرية (ولاية الفقيه) تقوم على أساس منطق كلامي جديد يحتم قيام الدولة في عصر الغيبة كضرورة اجتماعية لا مفر منها ، ولا يلتزم بشرط توفر (العصمة والنص والسلالة العلوية الحسينية) في (الإمام المعاصر) ويكتفي بتوفر شرط (العلم والعدالة والتصدي والكفاءة الإدارية) .

وفي الحقيقة .. لم يدع أحد من أنصار ولاية الفقيه قوة سند تلك الروايات ، وإنما حاولوا تعضيدها بالعقل وعدم إمكانية بقاء الحكومة بلا والٍ ، وقالوا ان الفقيه هو القدر المتيقن المسموح به على قاعدة اختصاص الولاية بالله والرسول والأئمة الاثني عشر .

 

و قد قام النراقي في الاستدلال على ضرورة إقامة الدولة في عصر الغيبة بالأدلة العقلية ثم حصر الجواز في الفقهاء فقط ، بناء على تلك الأخبار الضعيفة ، والتي قد تعطي معنى النيابة والخلافة عن النبي الأعظم (ص) وليس الأئمة من أهل البيت ، كحديث : ( اللهم ارحم خلفائي ) وحديث ( العلماء ورثة الأنبياء) وما شابه ، ولم يطرح ( النيابة العامة عن الإمام المهدي ) بصراحة و بقوة . ولذلك استعان بالاطلاقات المستفادة من مثل قوله تعالى (اقطعوا) و (اجلدوا) واستدل بالإجماع المركب القاضي بعدم جواز ترك الحدود وإهمالها ومسئولية الأمة في تنفيذها على ثبوت الولاية للفقهاء وحصرها فيهم .

 

كما استعان ب (الضرورة ) و (الإجماع) و ( الأخبار المستفيضة) العامة لتكوين نظريته في (ولاية الفقهاء) .  

ونتيجة لضعف الأدلة النقلية وعجزها عن إثبات الولاية للفقيه بالنيابة العامة عن الإمام المهدي ، فقد حاول الشيخ حسن الفريد (توفي سنة 1417 ه ) ان يشيد نظرية (ولاية الفقيه) على أساس :(الحسبة) واعترف في ( رسالة في الخمس) بعدم استفادة نظرية الولاية من الكتاب والسنة ، بل من دليل الحسبة والضرورة .

واعتبر السيد البروجردي مقبولة عمر بن حنظلة · شاهدا على نظرية (النيابة العامة) بعد أن استدل عليها بالمنطق القياسي وقال:· إن الأئمة (ع) إما إنهم لم ينصبوا أحدا للأمور العامة وأهملوها ، وإما إنهم نصبوا الفقيه لها ، لكن الأول باطل فثبت الثاني ، وهذا قياس استثنائي .

 

وكذلك فعل الإمام الخميني الذي نظر عقليا لوجوب إقامة الدولة في عصر الغيبة .  وأكد في (الحكومة الإسلامية) : عدم وجود النص على شخص من ينوب عن الإمام المهدي حال غيبته.  

 

وقد رفض الإمام الخميني الأدلة · العقلية والنقلية التي قدمها ويقدمها علماء الكلام الأماميون السابقون الذين كانوا يشترطون العصمة والنص والسلالة العلوية الحسينية في الإمام ، و استخدم العقل في رفض نظرية الانتظار السلبية المخدرة التي تحرم إقامة الدولة في (عصر الغيبة) إلا للإمام المعصوم الغائب ، وتساءل:· هل تبقى أحكام الإسلام معطلة حتى قدوم الإمام المنتظر؟.. ألا يلزم من ذلك الهرج والمرج؟ وهل ينبغي ان يخسر الإسلام من بعد (الغيبة الصغرى) كل شيء؟..

 

وضعّف عقليا الأحاديث · المتواترة و التي كان يجمع عليها الأمامية في السابق ، والتي تقول:· ان كل راية ترفع قبل راية المهدي فهي راية ضلالة وصاحبها طاغوت يعبد من دون الله . وقد استخدم المقدمة الامامية الأولى في ( ضرورة وجود امام في الأرض ) لينطلق منها إلى إثبات (ضرورة الإمامة في هذا العصر) .

 

وعلى أي حال فقد كانت نظرية (ولاية الفقيه) التي تحصر الحق في ممارسة السلطة في (الفقهاء) هي الأخرى محل نقاش كبير بين العلماء . لأن تلك الروايات الخاصة والعامة التي اعتمدت عليها كانت هي الأخرى ، ولا تزال ، محل نقاش كبير في سندها ودلالتها ، مما يضعف الاستدلال على حصر حق الحكم في الفقهاء ، إذ إن مناط الفقه غير مناط الحكم والقدرة على إدارة البلاد ، نعم قد يستحسن أن يكون الحاكم فقيها ، ولكن لا علاقة للفقه بالحكومة ، إذ قد يستعين الحاكم بالفقهاء ويكوّن منهم مجلسا للشورى ، وربما يقال: إن الحاكم يجب أن يكون فقيها بما يحتاج إليه من أمور الإدارة والسياسة والاقتصاد ، ولا يجب أن يكون فقيها بمسائل الحلال والحرام الأخرى . وهناك أمور تتعلق بالقوة والأمانة ، كالأشراف على أموال اليتامى والمجانين ولا علاقة لها بالفقه والاجتهاد.

 

وقد رفضها بعض العلماء المحققين كالشيخ مرتضى الانصاري ( 1216 - 1281) الذي ناقش في (المكاسب) أدلة القائلين بالولاية العامة ، حيث استعرض الروايات العامة التي يتشبثون بها ، وأنكر دلالتها على الموضوع ، وحدد دلالتها في موضوع الفتيا والقضاء فقط ، وشكك في صحتها ودلالتها .

 

وقد رفض السيد أبو القاسم الخوئي في (التنقيح في شرح العروة الوثقى / كتاب الاجتهاد والتقليد) نظرية ولاية الفقيه المبتنية على نظرية (النيابة العامة) وقال:· إن ما استدل به على الولاية المطلقة في (عصر الغيبة) غير قابل للاعتماد عليه ، ومن هنا قلنا بعدم ثبوت الولاية له إلا في موردين هما الفتوى والقضاء.

 

وإضافة إلى ذلك يمكننا القول إن فهم معنى الولاية المطلقة للفقهاء ، من تلك الروايات الخاصة والعامة يتناقض مع نظرية (الإمامة الإلهية) التي تحصر الحق في الحكم في ( الأئمة المعصومين المعينيين من قبل الله) ، ولذلك لم يفهم أحد من العلماء الشيعة الامامية السابقين الذين رووا تلك الروايات معنى الولاية منها ، وآثروا الالتزام بنظرية الانتظار على استنباط معنى الولاية العامة منها.

 

 خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار : إن الفقه بمعنى الاجتهاد ، مفهوم حادث متأخر في الفكر الشيعي الامامي الذي كان يحرم الاجتهاد في القرون الأربعة الأولى ، ويعتبره من ملامح المذاهب السنية ، وهو ما يقول به الاخباريون (الاماميون الأوائل ) حتى اليوم.

 

كما يقول الإمام الخميني  كما إن إعطاء الفقيه العادل ، وهو بشر غير معصوم ومعرض للخطأ والانحراف ، صلاحيات الرسول الأعظم (ص) المطلقة وولايته العامة على النفوس والأموال ، والتطرف في ذلك إلى حد السماح للفقيه بتجميد القوانين الإسلامية الجزئية (الشريعة) - والآذري القمي وبعض أنصار ولاية الفقيه في إيران - يعتبر محاولة لإلغاء الفوارق الضرورية بين النبي المعصوم المرتبط بالسماء وبين الفقيه الإنسان العادي المعرض للجهل والهوى والانحراف ، وهذا ما يتناقض تماما مع الفكر الامامي القديم الذي رفض مساواة أولي الأمر (الحكام العاديين) في وجوب الطاعة لهم كوجوب الطاعة لله والرسول ، وذلك خوفا من أمرهم بمعصية والوقوع في التناقض بين طاعتهم وطاعة الله.. ومن هنا ابتدع الفكر الامامي واشترط العصمة كشرط في (الإمام) - مطلق الإمام - ثم قال بوجوب النص ، وانحصار النص في أهل البيت وفي سلالة علي والحسين إلى يوم القيامة .

 

 فإذا أعطينا الفقيه الصلاحيات المطلقة والواسعة التي كانت لرسول الله (ص) وأوجبنا على الناس طاعته ، وهو غير معصوم ، فماذا يبقى من الفرق بينه وبين الرسول؟.. ولماذا إذن أوجبنا العصمة والنص في الإمامة وخالفنا بقية المسلمين وشجبنا اختيار الصحابة لأبي بكر مع انه كان افقه من الفقهاء المعاصرين ؟

 

 مادام الفقيه إنسانا غير معصوم فانه معرض كغيره للهوى وحب الرئاسة والحسد والتجاوز والطغيان ، بل انه معرض أكثر من غيره للتحول إلى اخطر دكتاتور يجمع بيديه القوة والمال والدين ، وهو ما يدعونا إلى تحديد وتفكيك وتوزيع صلاحياته أكثر من غيره ، لا أن نجعله كالرسول أو · الأئمة المعصومين ، فانه عندئذ سيتحول إلى ظل الله في الأرض ، ويمارس هيمنة مطلقة على الأمة كما كان يفعل الباباوات في القرون الوسطى .

 

عندما قال الإمام وهذا ما حدث في الجمهورية الإسلامية الإيرانية الخميني في رسالته إلى السيد علي الخامنائي :· إن الحكومة تستطيع إن تلغي من طرف واحد الاتفاقيات الشرعية التي تعقدها مع الشعب إذا رأت إنها مخالفة لمصالح البلد أو الإسلام ، وتستطيع أن تقف أمام أي أمر عبادي أو غير عبادي إذا كان مضرا بمصالح الإسلام ، ما دام كذلك . إن الحكومة تستطيع أن تمنع وفي ظروف التناقض مع مصالح البلد الإسلامي إذا رأت ذلك أن تمنع من الحج الذي يعتبر من الفرائض المهمة الإلهية ، وان باستطاعة الحاكم أن يعطل المساجد عند الضرورة ، وان يخرب المسجد الذي يصبح كمسجد ضرار ولا يستطيع أن يعالجه بدون التخريب !

 

 وقد يجوز كل ذلك فعلا عند المصلحة والضرورة .. ولكن المشكلة هي من يحدد المصلحة والضرورة؟ إذ إن كل حاكم يرى إن المصلحة تقف إلى جانبه وان الصواب هو ما يراه ، فإذا أعطيناه القدرة على تخريب المساجد فانه قد يخرب ويهدم المساجد المعارضة له ويعتبرها كمسجد ضرار ، وتبلغ المشكلة قمة الخطورة عندما نعطي للحاكم القدرة على إلغاء أية اتفاقية · شرعية يعقدها مع الأمة بحجة انه رأى بعد ذلك انها مخالفة لمصلحة البلد أو الإسلام ، دون أن نعطي الأمة الحق في تحديد تلك المصلحة أو ذلك التناقض مع الإسلام .

 

 وبالرغم من أن الإمام الخميني كان قد التزم مع الشعب الإيراني بالدستور الذي أعده مجلس الخبراء في بداية تأسيس الجمهورية الإسلامية ، وحدد فيه صلاحيات الإمام ، إلا انه ألغى الدستور عمليا وتجاوز صلاحياته ليتدخل في أعمال مجلس الشورى ومجلس المحافظة على الدستور ورئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ، وذلك انطلاقا من إيمانه بقدرة الفقيه الحاكم على إلغاء أية اتفاقية شرعية يعقدها مع الشعب ، إذا رأى بعد ذلك إنها تتناقض مع مصلحة الأمة أو الإسلام ، وهو ما عبر عنه للسيد الخامنائي عند احتجاجه على بعض تلك التجاوزات .

 

 ويعود جذر المشكلة إلى إن الإمام الخميني لا يعتبر شرعية الفقيه في الحكم مستمدة من الأمة ، وإنما هو · منصوب ومجعول ومعين من قبل الإمام المهدي أو الأئمة السابقين ، ولذلك فانه ليس بحاجة إلى اخذ رضا الأمة في أية مسألة ، وله الحق أن يعمل بما يتوصل إليه في اجتهاده ، وعلى الأمة أن تطيعه بلا مناقشة أو تردد ، وهو ما يمنحه صلاحيات مطلقة أخرى ، ويجيز له و لأي فقيه أن يستولي على السلطة بالقوة أو الانقلاب العسكري أو يحتكرها بعد ذلك ويصادر الحريات والحقوق العامة ويلغي الأحزاب ويعطل مجلس الشورى ، أو يصدر قوانين جديدة تتعارض مع الدستور أو الشرع ، كما اصدر الإمام الخميني قانون (المحاكم الخاصة لرجال الدين) المعمول بها حتى الآن ، والمنافية للمساواة الإسلامية والقوانين الوضعية ، والتي تحكم بما تشاء على من تشاء كيفما تشاء .

 

ويستند الإمام الخميني في نظريته هذه في (الجعل والنصب والتعيين) على نظرية (النيابة العامة للفقهاء في عصر الغيبة عن الإمام المهدي) وهي نظرية مستنبطة حديثا في القرون الأخيرة ولم يكن لها وجود في القرون الإسلامية الأولى ، و لا يبقى لها أي أساس إذا لم نستطع إثبات ولادة ووجود الإمام المهدي (محمد بن الحسن العسكري) نفسه .

 

وعلى أي حال فان الإمام الخميني الذي يؤمن بنظرية الجعل والنصب للفقهاء من قبل الإمام المهدي ، يقع في مشكلة عويصة هي مشكلة التزاحم بين الفقهاء والصراع فيما بينهم على ممارسة السلطة والولاية ، ويحاول حلها في كتاب (البيع) بصورة أو بأخرى . ولكنه لا يخرج منها بحل مرضٍ خصوصا وانه لا يرى أي دور للأمة في تفضيل واحد من الفقهاء على الآخر ، أو حصر الحق بالولاية لمن تنتخبه الأمة ، كما يرى الشيخ المنتظري في كتاب ( دروس في ولاية الفقيه) .

 

وقد كان لتطور نظرية (ولاية الفقيه) على قاعدة نظرية (النيابة العامة عن الإمام المهدي ) المرتكزة على نظرية (الإمامة الإلهية ) أثر كبير على طبيعة النظرية ونموها في جانب واحد هو جانب السلطة ، دون جانب الأمة ، حيث أصبح للفقيه من الصلاحيات ما للإمام (المعصوم) وما للنبي الأعظم (ص) وأصبح الفقيه ( منصوبا) و (مجعولا ) و (معينا ) من قبل (الإمام المهدي) و (نائبا ) عنه ، كما كان (الإمام المعصوم) منصوبا ومجعولا من قبل الله تعالى ، وبالتالي فانه قد أصبح في وضع (مقدس) لا يحق للأمة أن تعارضه أو تنتقده أو تعصي أوامره أو تخلع طاعته ، أو تنقض حكمه .

 

ويذهب السيد كاظم اليزدي في (العروة الوثقى) ( المسألة 57 من كتاب الاجتهاد والتقليد) ، وجمع كبير من العلماء ، إلى عدم جواز قيام مجتهد بنقض حكم مجتهد آخر جامع للشرائط ، وذلك استنادا إلى مقبولة عمر بن حنظلة التي تعتبر الرد على الفقهاء استخفافا بحكم الله ، وردا على الأئمة من أهل البيت ، وتقول: ·إن الراد عليهم كالراد على الله ، وهو على حد الشرك بالله .

 

ومن هنا فقد اتخذت فتاوى العلماء وآراؤهم الاجتهادية الظنية صبغة دينية مقدسة ، ووجب على عامة الناس غير المجتهدين · تقليد الفقهاء والطاعة لهم سواء في التشريع أو التنفيذ أو القضاء ، وحرمت عليهم مخالفتهم .

 

وبما إن (الأئمة المعصومين ) - حسب نظرية الإمامة الإلهية - معينون من قبل الله تعالى ، وان لا دور للأمة في اختيارهم عبر الشورى ، ولا حق لها في مناقشة قراراتهم أو معارضتها ، وان الدور الوحيد المتصور للأمة هو الطاعة والتسليم فقط ، فقد ذهب أنصار مدرسة (ولاية الفقيه المنصوب والمجعول والنائب عن ( الإمام المهدي ) إلى ضرورة طاعة الأمة وتسليمها للفقيه ، ولم يجدوا بعد ذلك أي حق للامة في ممارسة الشورى أو النقد أو المعارضة أو القدرة على خلع الفقيه العادل ، أو تحديد صلاحياته أو مدة رئاسته .

 

وقد ذهب الإمام الخميني في رسالته الشهيرة إلى رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية السيد علي الخامنائي عام (1408ه / 1988م) إلى قدرة الفقيه الولي على فسخ الاتفاقيات الشرعية التي يعقدها مع الأمة ، من طرف واحد ، إذا رأى بعد ذلك ان الاتفاقية معارضة لمصلحة الإسلام أو مصلحة البلاد ، وأناط بالحاكم وليس بالأمة تحديد المصلحة العامة.

 

وذهب الشيخ حسين علي المنتظري في :( دراسات في ولاية الفقيه) إلى :· ان الإمام والحاكم الإسلامي قائد ومرجع للشؤون السياسية والدينية معا .. وان المسئول والمكلف في الحكومة الإسلامية هو الإمام والحاكم ، وان السلطات الثلاث بمراتبها أياديه واعضاده ، وان طبع الموضوع يقتضي ان يكون انتخاب أعضاء مجلس الشورى بيده وباختياره لينتخب من يساعده في العمل بتكاليفه ومع انه استثنى من باب الأولوية انتخاب الأمة لأعضاء مجلس الشورى ، لأنه ادعى لاحترام القرارات المتخذة والتسليم في قبالها ، إلا انه أكد قدرة الإمام العادل (الفقيه) على تعيين أعضاء مجلس الشورى بنفسه إذا رأى عدم تهيؤ الأمة لانتخاب الأعضاء ، أو لم يكن لها رشد ووعي سياسي لانتخاب الرجال الصالحين ، أو كانت في معرض التهديدات والتطميعات واشتراء الآراء .

 

ولكن المنتظري عاد فاستثنى من ذلك صورة اشتراط الأمة على الإمام حين انتخابه كون انتخاب فريق الشورى بيد الأمة لا بيده . وهذا بالضبط ما فعله الإمام الخميني حين اقر الدستور وأسس الجمهورية الإسلامية ، ولكنه عاد فتحرر من العمل به بناء على (ولاية الفقيه المطلقة ) .

 

وفي الحقيقة .. إن أساس المشكلة في هذه المسألة المهمة يعود إلى الدمج بين نظرية (النيابة العامة) المستنبطة من بعض الأدلة الروائية الضعيفة وبين نظرية (ولاية الفقيه) المعتمدة على العقل وعلى ضرورة تشكيل الحكومة في ( عصر الغيبة ) بعيدا عن شروط العصمة والنص الإلهي والسلالة العلوية الحسينية ، وان الخلط بين هاتين النظريتين ، أو تطوير نظرية (النيابة العامة ) إلى مستوى إقامة الدولة أدى إلى جعل الفقيه بمثابة الإمام المعصوم أو النبي الأعظم وإعطائه كامل الصلاحيات المطلقة ، وإلغاء الفوارق بين المعصوم وغير المعصوم ، بالرغم من قابلية الأخير للجهل والخطأ والانحراف ، وهو ما يتناقض مع أساس الفلسفة الأمامية القديمة حول اشتراط العصمة في الإمام .

 

وخلاصة القول ,بالرغم من إن الكثير من الفقهاء حديثا ,قد قالوا بنظرية ولاية الفقيه إلا إن اغلبهم حذروا من ديكتاتورية الفقيه المطلقة,ولم يعترفوا بسلطة أي فقيه على فقيه آخر ولا على مقلدي الفقهاء الآخرين كما أراد الخميني في نظريته , بل الحقيقة إن اغلبهم رفض هذه النظرية كما أرادها الحميني وفضلوا عليها نظرية ولاية الفقيه بالمفهوم الأولي التي جاءت به والتي تجيز لكل فقيه من الفقهاء إن يتصدوا للحكم بأنفسهم أي لا تكون محصورة بفقيه واحد ؟!!

 

 وبعد استعراض التطور الذي حصل على الفكر السياسي الشيعي وصولا إلى نظرية ولاية الفقيه المطلقة ,والتي مازال قبولها خارج إيران وحتى داخلها يشوبه الكثير من الشك ,بل يرى المتتبع أن بعض تطبيقات النظرية التي ظهرت أيام الخميني قد بدأت بالتراجع نتيجة عدم تقبلها حتى داخل البيت الذي نشأت فيه .

 

ولو تجاوزنا الأمور الفكرية والأسس الدينية التي جاءت بها هذه النظرية وتطرقنا إلى بعض المفاهيم والمصطلحات السياسية الحديثة التي تطرق اليها الخميني في أحاديثه مثل القومية والوطنية لوجدنا تناقضات كبيرة بين ما يدعيه وبين ممارساته التي تظهرها هذه الأحاديث ,ففي الوقت الذي يصف القومية والوطنية بانهما نزعة عنصرية حيث قال ما نصه:_ في خطاب له بتاريخ 9/9/1964 (إن فكرة الوطنية والقومية هي فكرة تطالب بإحياء الجذور والأسس للنزعة العنصرية التي تتعارض مع فكرة الدين الشاملة والعامة) ولكنه في حديث آخر بتاريخ 2 من ذي العقدة سنة 1400 في نداء له للحجاج قال ما نصه (من المسائل التي خطط لها المستعمرون وعمل على تنفيذها المأجورون لإثارة الخلافات بين المسلمين ,المسالة القومية التي جندت حكومة العراق نفسها منذ سنين لترويجها وقد انتهجت بعض الفئات هذا الخط القومي أيضا ,غافلة إن موضوع حب الوطن وأهل الوطن وصيانة حدوده وثغوره لا يقبل الشك أو التردد ,وهو غير مسالة إثارة النعرات القومية الهادفة إلى خلق العداوات والبغضاء بين الشعوب الإسلامية )

 

لا نريد الدخول في مناقشة الآراء السياسية التي نادى بها ولكننا ضربنا مثلا واحدا وهو كيف انه قد اعتبر في الحديث الأول الوطنية نزعة عنصرية وتتعارض مع فكرة الدين وذلك عام 1964 ولكن بعد استلامه السلطة كما هو واضح في الحديث الثاني, كيف برر الوطنية والدفاع عن الوطن عندما كان في حرب مع العراق ؟

 

وكيف لا فهو يعتبر الإسلام هو إيران والجمهورية الإسلامية فقط ,فقد ذكر في وصيته ما نصه ( ووصيتي إلى الحوزات العلمية المقدسة هو ما عرضته مرارا ,أي : انه في هذا الزمان الذي فيه أعداء الإسلام والجمهورية الإسلامية العزم على إسقاط الإسلام وهم يعتمدون كل طريق لتحقيق هذا الهدف )

فهل الإسلام هو الجمهورية الإسلامية وهل هو في إيران فقط ؟!!

 

ولسوف نكتفي بهذه النماذج ودون تعليق أو تحليل , لتطلب الموضوع دراسة جديدة وعليه نكتفي بهذه الأمثلة , فنحن نؤمن بان مجرد عرض الحقائق كما هي دون أخفاء أو تدليس ,هي مساهمة ولو بسيطة في تنوير البعض .

 

 





الثلاثاء٠٨ شعبـان ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٠ / تموز / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب ابو محمد العبيدي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة