شبكة ذي قار
عـاجـل










هكذا طوى الدكتور محسن خليل شراعه ومضى، هكذا يمضي الأعزة والصحاب يمضون بلا موعد، أو وداع، فيما تبقى الذكرى، كما الجرح المهيض، تئن من وجع الفراق ولوعة الغياب.

 

الصديق والرفيق محسن خليل، الحاضر في ذاكرة أيام الوطن البهيجة وليالي المحن الطويلة، شارك منذ أن كان شابا وفتيا، في بناء العراق وازدهاره، كان وجوده فكراً مبدعاً وجهداً خلاقاً في خلايا التجربة الوطنية وفي إغناء برامجها، وظل حتى النهاية جزءاً عزيزاً منها، وعلى مدى سنوات عمره، فإنه اختار موقعه منذ البداية أن يكون في قلب ميدان التعب المر، حاملاً هموم الطيبين، وأحلام الفقراء، مناضلاً في ميادين العمل التطوعي، وفي تعبئة المثقفين والتواصل مع الكادحين والبسطاء، لم يكفّ قلمُه أو يتوقف حتى اللحظة الأخيرة من حياته، وهو يواصل رسالته بثقةٍ ومحبةٍ والتزامٍ داعياً إلى أن تكون كلمة المقاومة هي العليا، لأنها الشرف الأرفعُ منزلةً والأعظمُ مقاماً في حياتنا وتاريخنا.

 

وتفصح البدايات، كما النهايات، عن رسالة الرفيق الذي ارتحل في الفجر.

 

ففي سنوات الثورة الأولى، كان أحد أركان مكتب الثقافة والإعلام وكان دوره مرآةً لمبادئه التي آمن بها وأخلص الكلمة من أجلها، مؤكدا الشمائل النضالية في بحوثه ومقالاته التي دأب عليها لسنوات مديدة في جريدة (الثورة العربية) وفي المنهج النقدي الوحدوي، الذي أخلص له وأوقف حياته عليه، مؤمنا بيقين ثابت، بأن الوحدة العربية تظلّ ضرورةً تاريخيةً للتقدم، وأنها المدخل الواقعي لتحقيق مشروع النهضة العربية، وبالرؤية المبدئية نفسها كان يحث على الثقافة العقلانية وعلى الأفكار المستنيرة وعلى جدوى الانفتاح والمشاركة في الحضارة الإنسانية، من منطق الاقتدار الذاتي للأمة.


ومن الثقافة والحضارة، ومن العلوم السياسية إلى الاقتصاد، عبوراً إلى الحياة الداخلية التي منحها جزءاً مهماً من مدوناته السياسية، وهو ينشئ سلسلة من البحوث يعرض فيها معنى الالتزام، وأخلاقيات الواجب، لينتهي إلى أن الثورة باعتبارها علم تغيير المجتمع، توجب أن يرتقي الوعي الثوري إلى مستوى المسؤولية الأخلاقية، في ممارسة النقد والنقد الذاتي، لإنضاج التجربة وتوسيع مديات تأثيرها، ولكي نحقق ذلك علينا أن نكون أوفياء للثورة ومبادئها في تقويم الأخطاء وتصحيحها، ومعالجة نواحي القصور والخلل أينما وجدت، سواء على الصعيد النظري أم التطبيقي.


وقد سعى بكل عزم وتفان إلى تنفيذ رؤيته البصيرة خلال السنوات الأولى للحرب العدوانية الإيرانية، فأقام في مركز البحوث والمعلومات (الذي قاده بكفاءة علمية) واحدةً من أهم الندوات المعرفية في تشريح العقل السياسي الإيراني، وتحليل الشخصية (الفارسية) في ضوء أدبيات الثورة الإيرانية وكتابات قادتها، وحاول من خلال هذه الندوة الكبرى استشراف الأبعاد المستقبلية لتجربة ولاية الفقيه وآثارها المحتملة على الوطن العربي والعالم الإسلامي.


وحاول تطبيق منهجه العلمي النقدي في العقل والحرية والمستقبل في تجربة مجلة (المنار) في أواسط الثمانينيات، وكان الدكتور قيس محمد نوري مشاركا وشاهدا حيث انشغل أبو بسام بقضية تحديث التراث العربي وتأصيل المعاصرة العالمية. إلى جوار متابعة الفكر الإيراني وتحليله وتوضيح قسماته الأيديولوجية .


وعلى الطريق نفسه تواصلت كتاباته في تعميق الوعي بقضايا الوطن الراهنة في دراسة معاني، الالتزام، الانتماء، الإسلام والعروبة، الوعي الوطني والحقيقة القومية.


ولعلّ تجربة العمل برفقة الرئيس صدام حسين سكرتيراً صحفياً، للشهيد الراحل كانت واحدةً من العلامات الفارقة في حياة الدكتور محسن خليل وهو يعايش حقيقة الرجل الذي ظل رمزاً ونبراساً في ذاكرة الرفيق أبي بسام ووجدانه وفكره، وهو الذي وصفه بأنه كان يحس به ابناً وفياً للعراق وأباً وأخاً لكل مواطن، بقدر ما كان قائداً ومعلماً.


وعندما ولج السلك الدبلوماسي سفيراً للعراق في اليمن السعيد وممثلاً لبلده في الجامعة العربية، استطاع الرفيق الراحل بمحاضراته القومية التي ألقاها في عشرات المدن والقرى في اليمن ومصر أن يفتح آفاقاً جديدةً ويحقق تواصلاً فكرياً وثقافياً وحدوياً، يتذكره القريب والبعيد، فقد آثر الرجلُ المقاومُ أن يمضي ب حرارة البداية نفسها في الميدان الجديد، وكان عمله صفحةً مبتكرةً في الدبلوماسية العربية، وهو يدعو ويؤكد مشروع نهضة الأمة العربية، وفي الدفاع عن الخيارات المغيبة في الوحدة والعلم والتقدم، وأن لا سبيل للتحرر من حالة الوهن الراهنة، إلا باستعادة جماهير الأمة لإرادتها في قيادة عملية التغيير مما هو قائم وهزيل إلى ما يتعين أن يكون. فالإرادة الشعبية المحررة، وحدها القادرة على مواجهة ذاتها، ومراجعة عثراتها، وهزائمها، ولن يكون ذلك ممكناً ما لم يمتلكُ العربُ ناصيةَ العلمِ، والمعرفةِ، والوصول إلى مرحلة التنمية المتكاملة، بإنجاز الاكتفاء الذاتي في ميادين الصناعة والزراعة والقطاعات الأخرى. فشرط الحرية هو امتلاك الهوية، وتحقيق الذات، وبهذه الإرادة المستقلة فقط تكون الأمة مؤهلة لأن تضع خطواتها الواثقة على طريق الغد.


وحين حلّت الفجيعةُ الكبرى في التاسع من نيسان 2003، تأججت روح الدكتور محسن خليل فنهض بواجبه الوطني كما يجب، ليضع المقدمة العراقية التأسيسية في منطق الثقافة المقاومة، من حيث المهام والأدوار والمقاصد. وكانت مجلة الموقف العربي القاهرية نافذته الأولى التي أطل من خلالها على بني وطنه وأمته، وكان الصديق المناضل عبد العظيم مناف العروبي الروح والفكر كما هو دائماً، قد كرّس مجلته الغراء لتكون منبراً ناطقاً بصوت المقاومة العراقية. فخصصت المجلة وعلى مدى السنوات السبع الفائتة، صفحة مستقلة لمقال الدكتور محسن الأسبوعي، يتواصل فيه الراحل العزيز مع قرائه في مصر العروبة وفي الوطن الكبير، معبراً بالوقائع والحقائق عن حقيقة الجهد المقاوم الذي ينهض به المرابطون العراقيون في مجابهة قوات الاحتلال الأمريكي.


وكان الدكتور محسن حريصاً على تأكيد الوجود الوطني العراقي في المحروسة مصر في الندوات والملتقيات والمناسبات القومية، وكان الشيء الذي يهمه هو إيصال صوت المقاومة العراقية، وتأكيد منهجها الوطني في الثبات على حقائق الوحدة الوطنية، التحرير وطرد الغزاة والدخلاء، عروبة العراق.


وكان لحضوره ودوره مع رفاقه العراقيين في المؤتمر الأول للشعب العراقي المقاوم ربيع 2005 بالقاهرة أهمية كبرى في بسط هوية وأهداف العمل العراقي المقاوم وتوضيحهما.


وأمام المحكمة التي أجراها اتحاد المحامين العرب في القاهرة عام 2006 لمحاكمة الرئيس الأميركي جورج بوش ولرئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون ولرئيس الوزراء البريطاني توني عن الجرائم الأميركية والبريطانية والإسرائيلية ضد الشعب العربي في فلسطين والعراق. كان لشهادة الدكتور محسن خليل أثراً كبيراً في تجريم الولايات المتحدة وفي فضح الاحتلال الوحشي، وقد عُدّتْ شهادتُه من بين الوثائق التاريخية المهمة التي اعتمدتها هيئة المحكمة في إدانة بوش وبلير.


وبقي الصديق محسن خليل في المنتهى كما كان في المبتدى مناضلاً من أجل المقاومة بوصفها حقيقة الوطن الكلية الآن وحتى التحرير، وظل طوال حياته متفائلاً بالمستقبل شديد الثقة بالنصر.


في مستشفى السلمانية بمملكة البحرين حيث كان يتلقى علاجه فيها عام 2009، بمؤازرة الكاتبة العربية سميرة رجب. كان العراق هو السؤال عنده وهو العلاج لم ينشغل بمرضه ولم يفصح عن الآلام المبرحة، كان العراق المرفأ الأول والهم الأبدي.


هكذا مضى الصديق والرفيق محسن خليل، في رحلة الحرية والمستقبل بعد أن أودع في قلوب أصدقائه ورفاقه المعنى والمبدأ والدلالة: اليقين المؤكد بالنصر المؤكد للمقاومة.. والالتزام بالحرية حتى الموت.


سلامٌ على الصديق العزيز والرفيق الوفي الذي ارتحل في الفجر.
سلامٌ عليه في الملكوت الأعلى وسلامٌ عليه يوم يبعث حياً.
والصبر الجميل لأسرته ومحبيه ورفاقه.
 

 





الثلاثاء٠٤ ذي القعدة ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ١٢ / تشرين الاول / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. عبد الستار الراوي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة