أثارت الكلمة التي القاها السيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان خلال مؤتمر الحزب الديمقراطي الكردستاني الكثير من الجدل بين الأوساط السياسية العراقية بمختلف توجهاتها حتى من قبل الحلفاء السياسيين للسيد البرزاني حينما طالب بكلمته بتقرير مصير الكرد عبر إستفتاء شعبي تمهيداً لإعلان دولة مستقلة لهم .

وقد تصاعدت بين الحين والأخر اصوات بعض القادة الكرد مطالبين بحق تقرير المصير لكرد العراق من خلال الإنفصال عن الدولة العراقية وإعلان دولة كردية مستقلة في شمال العراق رغم ان البعض منهم وحسب التصريحات الصحفية يعارضون هذا التوجه .

وتعتبر محافظة كركوك المسألة الخلافية الأكبر بين القوى الكردية الإنفصالية وبين القوى الوطنية العراقية الرافضة انسلاخ الكرد عن جسد العراق ، حيث تطالب القوى الإنفصالية بضم كركوك إلى مناطق إقليم كردستان كخطوة أولى وأساسية لتكون ضمن مناطق الدولة الكردية التي تطالب بها القوى الإنفصالية في شمال العراق ، وبما أن محافظة كركوك تعتبر من أغنى محافظات العراق بالطاقة البترولية لذا فأن أهميتها في منظور رؤية القوى الكردية الإنفصالية كبير جداً لإحياء دولة لها قدرة على الصمود والإستمرار وليس فقط لأن نسيجها الإجتماعي الذي يشكل الكرد نسبة كبيرة منه ولأنها محاذية لمناطق إقليم كردستان فأهمية كركوك أساسية لغرض إعلان الدولة الكردية لضمان القدرة الإقتصادية الهائلة من خلال طاقتها البترولية مما يضعها في موقع الأهمية على الخارطة الجغرافية في المنطقة ويستقطب لها الإستثمارات الأجنبية و يغنيها عن المساعدات والمعونات التي ستكون بحاجة إليها .

ويبدوا من التصريحات التي تصدر بين الحين والأخر عن القادة الكرد الداعين للإنفصال أنهم ينتهجون سياسة مدروسة لتحقيق مبتغاهم الأساس بجس نبض ردود افعال الشارع العراقي وساحته السياسية وردود الأفعال على الساحة الإقليمية والدولية حول تلك الطروحات وحجم التفاعل بين الحين والأخر معها سواء بالسلب أوالإيجاب حسب المتغيرات التي تطرأ على الساحة المحلية أو الإقليمية والدولية من حيث التفاعل معها أو الصد عنها ويتم تقييم كل ذلك من قبل تلك القوى الكردية ، وايضا هي تعتبر مناورة سياسية ينتهجها القادة الكرد لضمان مكاسب إستثنائية لهم وإمتيازات إرضائيه على ساحة الحراك السياسي القائم في العراق ، ففي ظل الصراع المحتدم بين الكتل العراقية تعد القائمة الكردستانية الأكثر وضوحاً وتماسكاً وأقوى موقفاً وإستقرار بين الأخرين ، وتندرج تلك التصريحات التي تصدر بين فترة واخرى ضمن سياسة الحشد الجماهيري للقضية من خلال الإعلام الموجه والتحفيز النفسي والمعنوي ، فبين الحين والآخر يتم التحشيد إعلامياً كلما سمحت الفرصة لتلك المطالبات وعادتا تكون عندما يتسم المشهد السياسي بالفوضى وتتسع رقعة الخلافات بين الكتل السياسية الأخرى فتكون الفرصة الأمثل لقادة الكرد لطرح قضية الإنفصال و تقرير المصير، والتحفيز النفسي والمعنوي ملازم تماماً للحشد الإعلامي لغرض تحفيز وتغذية النعرة القومية داخل المواطن الكردي بين فترة واخرى وتنشيطها نفسياً ، وبالمقابل هو هجوم نفسي حاد للمواطنين في باقي انحاء البلاد الذين يعانون من احباط نتيجة تخبط اداء الحكومة في بغداد وعجزها عن توفير مستلزمات وبيئة الحياة الطبيعية وهيمنة احزاب سياسية تتناحر فيما بينها على تحقيق المكاسب والامتيازات لها في دوائر ومؤسسات الدولة على حساب المواطن العراقي .

ففي يناير من العام 2009 وقبل إنتخابات مجالس المحافظات التقي السيد مسعود البرزاني بمجموعة من شيوخ العشائر العربية في محافظة نينوى في مقره بمنتجع صلاح الدين بأربيل وخلال اللقاء قال البرزاني ( ان هنالك اصوات تدعوا لأخلاء الموصل من الكرد ، في مسعى لخلق فتنة وبغضاء بين العرب والكرد، فهل يمكن ان نظمن لأجيالنا القادمة مستقبلاً مزدهراً عبر تبني ذلك النهج الشوفيني؟) وتابع البرزاني قوله ( علينا جميعاً ان نقف بالضد من اي اتجاه شوفيني عنصري سواء كان في الوسط الكردي او العربي في العراق ).

وفي تصريح سابق للبرزاني نقلته وكالة الصحافة الفرنسية بأنه لايدعوا إلى الإنفصال بقوله ( نحن لا ندعوا إلى انفصال أي جزء من العراق ، ونريد وحدة البلد وتعزيز الوحدة الوطنية لكن بأساليب ديمقراطية ).

وتعد القومية الكردية أحد أهم المكونات الأساسية للشعب العراقي كما وان التراث الكردي يعتبر احد اوجه الحضارة والتراث العراقي فيشكل الكرد جنباً إلى جنب مع اخوانهم العرب والتركمان واليزيديين والأشوريين والقوميات والاديان الاخرى العمق الحضاري والتأريخي لأصالة الشعب العراقي ، فما يميز العراق مكوناته التي يتشكل منها شعبه فلا نستطيع ان نتصور عراقاً بدون الكرد أو العرب أو التركمان أو السنة أو الشيعة أو المسيح أو اليزيديين أو الأشوريين أو الصابئة وغيرهم من مكونات الشعب العراقي فهذه هي الفسيفساء الجميلة التي يمتاز بها العراق .

وفي تصريح البرزاني الذي اوردته في بداية المقال وهو في العام 2010 وفي تصريحه لوكالة الصحافة الفرنسية في العام 2009 نجد تناقض واضح وصريح ، فمن جهة يطالب السيد البرزاني بالإنفصال والإستقلال بدولة كردية ، ومن جهة يرفض الإنفصال عن الدولة العراقية ويدعوا لوحدة العراق وتعزيز الوحدة الوطنية ؟!..

لذا فأن بقاء الكرد ضمن مكونات الشعب العراقي ودولة العراق هو من مصلحتهم اما الإنسلاخ عن جسد العراق والإستقلال في دولة صغيرة متداخلة جغرافيا مع محافظات العراق الأخرى ومنسجمة إجتماعياً نتيجة المصاهرة بين العرب والكرد وغيرهم من القوميات والأديان العراقية وتشكل جزء هام من الموروث الحضاري والتأريخي للعراق فأن هذا الأمر يضعف وبشكل كبير من تلك الدولة الإنفصالية المفترضة خاصة وأن البيئة المحيطة بها من الدول الكبرى ستعتبر تلك الدولة العدو الإستراتيجي لها.

ولاشك بأن طبيعة النظام السياسي الذي سيشكل تلك الدولة المفترضة سيتجه نحو المركزية الحزبية والدكتاتورية وتكون الفوضى والصراع السياسي طبيعة المناخ العام في مناطق الدولة الكردية المفترضة نتيجة الخلافات الحزبية التي ستنتج على المكاسب والإمتيازات السلطوية والتي قد تصل الى حد الصراع المسلح ، وهذا الأمر بلا شك يضعف من كيان أي دولة مهما كانت مدعومة ولها دعائم ومرتكزات القيام والإستمرار ، فكيف وإذا كنا نتحدث عن بضع محافظات في شمال العراق فأن عمر الدولة المفترضة لن يطول ومصيرها التفكك وتعود اضعف مما هي عليه اليوم بكثير، فاليوم كردستان تحظى بإقليم له سلطات وخصوصية كبيرة جداً عن باقي محافظات ومدن العراق، كما وان المناخ الإقليمي وحتى الدولي لن يسمح بهذا الإنفصال التام حيث انه يضع المنطقة بأكملها على فوهة بركان وهذا الأمر في غنى عنه دول المنطقة والعالم .

فبقاء كردستان جزء لا يتجزأ من جسد العراق هو مصلحة عراقية يجب على القوى الكردية التي تطالب بالإنفصال أن تؤمن بها وان تضعها محل الثقافة الإنفصالية كمصلحة أساسية وإستراتيجية لا جدال فيها ، فبقاء الكرد مكون عراقي يشترك مع العراق في الحضارة والمجتمع والثروة يعتبر مصلحة لهم قبل ان تكون لغيرهم.

وحتى البعد الدولي في قضية الإنفصال والتقسيم للعراق إستراتيجياً لا نجد مصلحة واضحة للدول العظمى في العالم من إضعاف وتقسيم العراق في مرحلة يدخل فيها العالم في التعددية القطبية ويعد العراق في الإستراتيجيات الغربية والأمريكية والأسيوية معادلة رئيسية ومفتاح أساسي في التحكم بمكامن القوة للشرق الأوسط في كافة القضايا والمجالات ، خاصة للدول العظمى التي تعمل على توطيد العلاقات مع العراق والبحث عن مشتركات إستراتيجية مع طبقاته الإجتماعية وقواه السياسية المؤهلة للقيادة والبناء السياسي والإجتماعي والإقتصادي المتكامل الأوجه إيذانا ببدأ مرحلة الإستقرار وبناء الدولة القوية التي تؤمن مصالحها ومصالح حلفاءها الإقليمين والدوليين ، فمصلحة الدول الكبيرة عالميا و المؤهلة للصعود الى عصر التعددية القطبية والمؤثرة في هندسة المناخ الدولي وصناعة القرارات السياسية تكمن في تأمين شريك قوي وحليف مؤثر في المنطقة ، والعراق يعد الدولة الوحيدة من بين دول المنطقة التي لايزال في تحولات جذرية ومتغيرات كبيرة جدا و له من الامكانيات والمؤهلات الإستراتيجية التي تجعلة مستقبلاً في مكانه الصحيح في ان يلعب دورا اقليميا ودوليا كبير وعظيم.