شبكة ذي قار
عـاجـل










مقدمة
بقي الشعب التونسي بعد تشكيل الحكومة المؤقتة يتابع أداءها طيلة حوالي شهر و توصل إلى قناعة أنها لم تكن في مستوى تطلعات الجماهير التي أنجزت الثورة . فقد تعمدت هذه الحكومة إلى المماطلة في حل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي رغم تجميد نشاطه و في عزل و محاسبة المسؤولين عن الفساد و الجرائم المرتكبة ضد الشعب و في إيقاف نشاط المسؤولين التجمّعيين الذين كانوا يرأسون مصالح ومؤسسات ، كما عقدت هذه الحكومة عدة لقاءات مشبوهة مع ممثلي حكومات تعادي المصالح الوطنية و تكفلت بتنظيم مؤتمر دولي في الشهر القادم تشارك فيه هذه الدول الأجنبية. إضافة إلى كل هذا أصرت هذه الحكومة على رفض مطلب تقدم به الاتحاد العام التونسي للشغل متمثل في تشكيل هيكل مراقبة شعبي سمّي " مجلس حماية الثورة ". أمام كل هذه التراجعات قرر الشعب سحب الثقة من هذه الحكومة و خرج من جديد للشارع في مسيرات عارمة شملت كافة المحافظات مطالبة بـإسقاط الحكومة المؤقتة وتشكيل مجلس تأسيسي.


و للتعبير عن تمسكها بهذه المطالب بادرت مختلف الأحزاب و المنظمات الوطنية إلى تشكيل "مجلس حماية الثورة "و فروعه في كل المحافظات و حتى في الأحياء الشعبية رغم رفض الحكومة. و من جانب آخر قام الشباب في العديد من المدن و خاصة في تونس العاصمة و صفاقس بتنظيم اعتصام منذ يوم 20/02/2011 استقطب آلاف المشاركين.


الأيام القادمة ستشهد تصعيدا في الاحتجاجات و قد عبرت كل الأطراف الممثلة للشعب أنها لن تتوقف عن التظاهر في الشارع إلا بعد تحقيق مطالبها.


ثورة تونس تعمق شعاراتها لتتخذ تدريجيا بعدا قوميا
استهل شعب تونس ثورة الأمة و حقق العديد من المكاسب كانت محل تقدير العديد من المحللين لكنها كانت كذلك محل مخاوف مئات الملايين من شعبنا العربي من المحيط إلى الخليج ، خوف و خشية من أن يتم اختطاف هذه الثورة و إجهاضها.


و قد كان أصحاب هذا الرأي يستندون إلى معطى يشكل أحد خصائص هذا التحرك الشعبي يتمثل في غياب رأس لهذه الثورة. و هذه الحقيقة دفعت العديد من المحللين إلى الاعتقاد بأن مثل هذه الثورة لا تختلف عن شيء عن الثورات الملونة التي اندلعت في أوروبا الشرقية و التي تحكمت الامبريالية الأمريكية في مصيرها.


وقبل أن نتوقف عند خصوصية الثورات العربية الحالية لا بد من الإشارة إلى أن الشعوب التي قامت في بلدانها ثورات ملوّنة لم تكن لها أي عداء للبرنامج الأمريكي في المنطقة ، بل إنها كانت مغلطة بشكل جعلها تنبهر بالنموذج الأمريكي و تعتقد أنه طريق الخلاص من الديكتاتورية التي كانت تعاني منها . لكن نفس هذه الشعوب سرعان ما عدلت برامجها حين اكتشفت عدوّها الحقيقي. و لعل شعب صربيا خير مثال على ذلك. فهذا الشعب الذي عبّر عن فرحته بالتغيير الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تهدف إلى تقسيم يوغوسلافيا السابقة، هو نفسه الذي خرج للشارع منذ أقل من شهر للتعبير عن رفضه للسياسة التي تنتهجها حكومته العميلة للأمريكان.


خرجت الجماهير العربية في تونس هذه الأيام إلى الشارع من جديد بعد أن سرّب العديد من المحللين أفكارا مفادها أن ثورة تونس قد خطفت و أن قوى الردة استطاعت أن تمسك بزمام الأمور. و نحن لا نلوم من ذهب إلى مثل هذا الاستنتاج لأن المرجعية التي يستند إليها تقول أن الشعب إذا سكن بعد ثورته من المستحيل أو من الصعب أن يعود إلى الثورة ثانية . و هو استنتاج تعوّدنا على تداوله بعد أن أثبتت صحته عديد من الثورات و الانتفاضات التي حصلت في التاريخ.


قامت العديد من الثورات و الانتفاضات في عدة أقطار عربية بشكل مفاجئ و بطريقة غير مألوفة و توصّلت إلى تحقيق العديد من المكاسب عبر مسار غير معهود مختلف عن القواعد التي عرفناها في التجارب السابقة و هو ما يجعلنا نتساءل عن مشروعية احتكامنا المطلق لهذه القواعد.


أتذكر جيدا مقالا كتبه الأستاذ محمد سيف الدولة مباشرة بعد الإطاحة برأس النظام في تونس بعنوان " البحث عن سر تونس" عبّر فيه عن تفرّد هذه الثورة و اختلافها عن النموذج الذي تعوّدنا به و دعا إلى الوقوف على خصوصياتها و دوافعها و مرجعياتها و فهم آلياتها ، و طالب بضرورة الإجابة عن 44 سؤال قام بطرحها لاستيعاب القوانين التي تحكمت فيها.


منذ التحاق العديد من الأقطار العربية بثورة تونس و مصر، بدأت تتضح بعض الحقائق منها :


- هذه الثورات هي مقدمة لثورة قومية تشارك فيها كل مكوّنات الأمة و قد اتخذت الطابع القومي بمجرد انتقال التجربة التونسية إلى مصر ثم إلى أقطار أخرى .
- هذه الثورات استمدت دوافعها من الحرمان الاجتماعي لتتحوّل بعد ذلك إلى البعد الديمقراطي و هي تتدرّج نحو البعد السياسي الوطني و القومي.
- الشعب العربي مرّ بتجارب و مواجهات لم تعرفها شعوب أخرى و هذه التجارب هي التي جعلت الأمة العربية تتفرد بثراء مخزونها الحضاري و الثقافي و التاريخي. فهذه الأمة تجمع في ذاكراتها كل أنواع التجارب التي خاضها شعبنا في أي قطر من الأقطار العربية.


اختزن هذا الشعب ثورة أطفال الحجارة في فلسطين بطابعها الشعبي و بروحها النضالية العالية، اختزن تجربة الثورة الفلسطينية و اللبنانية المسلحة في أول الثمانينات، اختزن تجربة المواجهة التاريخية التي خاضتها المقاومة العراقية و استوعب الدرس الكبير الذي أثبت من خلاله أبطال بلاد الرافدين بأن القوة العظمى الامريكية ليست سوى نمرا من ورق ،اختزن تجربة المقاومة اللبنانية التي سحقت قوة صهيونية كانت تدعي أنها لا تقهر،اختزن عصارة مقاومات الصمود و الصبر و التحدي من شعبنا الفلسطيني في غزة ، اختزن كل معاني الرجولة و التضحية و الثبات على المبادئ من الشهيد صدام حسين.


عاش شعبنا العربي كل هذه الأحداث بكل جوارحه و وجدانه و استوعب كل معانيها التي تتلخص في كونه شعب مؤهل ليس فقط لخوض المعارك بل كذلك للانتصار فيها.


- الشعب العربي استطاع بفضل خبرته و تجربته أن يستوعب أكثر من غيره حقيقة الأعداء . فقد قدر لهذه الأمة أن تعيش كل الخيبات المنجرة عن تجارب التعامل مع الأعداء. فعانت من ويلات التصالح مع الأعداء من خلال اتفاقية كامب دافيد و من خلال اتفاقيات أوسلو و لكنها خرجت من هذه التجارب بموقف راسخ من العدو الأمريكي الصهيوني و الأنظمة العربية العميلة.


- هذا الشعب الثائر الذي استرجع ثقته في نفسه و بعد أن اختبر امكانياته و تأكد من قدرته على تحقيق الانتصار على أعتى أجهزة القمع و إسقاط أكثر الأنظمة عمالة ، هل سيركن للسكينة بمجرد تحقيق بعض إصلاحات زائفة، قطعا لا. لن يفوّت شعب ثائر أهّلته المحن و زوّدته المواجهات بدروس ثمينة في مثل هذه الفرصة التي انفتح من خلالها باب تغيير واقع الأمة على مصراعيه.


- كل ثورة جديدة تندلع في أي قطر من الأقطار سرعان ما تلتحم بشبكة التفاعل مع الثورات أخرى. فثورة تونس ألهبت ثورات أخرى و لكنها سرعان ما تأثرت بالثورة في مصر خاصة حين نجحت في تحقيق مكاسب جديدة. فكلما تحقق إحدى الثورات العربية الحالية مكسبا ما أو انتصارا معيّنا سرعان ما تتبناه الثورات الأخرى، هذا التأثير المتبادل هو أحد عوامل إنضاج الثورة العربية و هو الكفيل برفع سقف مطالبها تدريجيا.


- كل القضايا الاستراتيجية حاضرة في ذاكرة هذه الأمة من المحيط إلى الخليج، لا يمكن أن تتجرد الأمة من ذاكرتها و مجزونها خاصة في المفاصل و المواجهات المصيرية الكبرى، لكن المسألة تبقى مرتبطة بالتوقيت. إن غياب المحاور الوطنية و القومية في مطالب و شعارات الجماهير الثائرة لا يعني غيابها من ذهنية المواطن العربي. هذه القضايا تنتظر التوقيت و الأحداث التي تقذف بها إلى المراتب الاولى في البرنامج السياسي. و يمكن ملاحظة التدرج الذي عرفته المطالب و الشعارات المرفوعة في الثورة في تونس. في البداية كانت المطالب متمحورة حول موضوع التشغيل ثم تطورت إلى المطالبة بإسقاط رموز الفساد و على رأسها عائلة الطرابلسي، بعد ذلك أصبح المطلب إسقاط الرئيس ثم إسقاط الحكومة ثم طالت المطالب المؤسسات البائدة ... لكن ما لاحظناه هذه الأيام بعد أن قرر الشعب العودة إلى الشارع إثر تأكده من النوايا الخادعة للحكومة ، تواصل ارتفاع سقف المطالب و بدأ الطابع الوطني و القومي يطعم شعارات الجماهير الثائرة. فقد طالب المئات من المتظاهرين يوم السبت 20/02/2011 أمام مقر السفارة الفرنسية بتونس العاصمة باستقالة السفير الفرنسي إثر التصريحات المهينة التي تلفظ بها و بعد أن اتضح ماضيه الأسود المرتبط بتقلّده مهام السفارة الفرنسية في العراق المحتل و قبلها في الكيان الصهيوني . إن قضية فلسطين و العراق حاضرة في حياة التونسي اليومية . ففي مدخل القصرين تلك المدينة المناضلة يستقبلك شعار مكتوب على الجدران " من قصرين سنحرر فلسطين".


لكن ترسيخ هذه المطالب القومية في البرنامج السياسي لهذه الثورات يبقي ذاتيا رهين قدرة القوى السياسية على تفعيل هذه المحاور، و موضوعيا رهين نجاح الصفحة الثالثة من المقاومة في العراق. إن انتصار الثورة في بلاد الرافدين هو انتصار للمشروع القومي العربي . فإذا كانت الثورة في تونس قد أمدّت الأقطار الثائرة بالبرنامج المرحلي فإن ثورة العراق ستمد الأمة ببرنامجها الاستراتيجي الكفيل بتحقيق تحررها و وحدتها و نهضتها و تحرير فلسطين من التهر إلى البحر.

 

 





الثلاثاء١٩ ربيع الاول ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٢ / شبــاط / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب ابن تونس نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة