شبكة ذي قار
عـاجـل










( قررتُ العودة الى المدرسة، لان الشيء الوحيد الذي يمكنني أن أعملهُ بجدارة هو أن أشرح للطلاب الاخطاء التي اقترفتها ). هكذا قال زعيم حزب الاحرار الكندي مايكل أغناتييف، الذي هُزم حزبه في الانتخابات البرلمانية وهو يقرر العودة الى التدريس.


انها اللحظة التي يتوقف فيها السياسي الملتزم في رحلتة للبحث عن حلول للوطن، كي يراجع ما قدم وما أخّر وما له وما عليه وهو في حالة الهزيمة والانكسار، لان الوطن والمواطن يبقيان حالة وقيمة عليا تشخص أمام بصره وبصيرته. ففي حالة الفوز والتقدم على الاخرين لنيل ثقة الشعب، لا تأخذه نشوة الانتصار للتكالب على المصالح والامتيازات وتهميش الاخرين، بل تأخذه حالة المسؤولية الى التفتيش عن أقصر الحلول بأقصر الازمان، كي يحقق البرنامج الذي نذر نفسه من أجل أن يكون وسيلة لتحقيقه، فغايته هو الشعب وتقدم الوطن ورفعته. وفي حالة الخسارة والتقهقر يعود أدراجه لينكب على دراسة أسباب النكوص في مشروعه وانفضاض الناس من حوله، ويعلن بلا خجل أو مواربة قصور مشروعه عن تلبية طموحات الناس، ولا يلوم أحدا في ذلك سوى نفسه، لان فهمه كان خاطئا لحركة المجتمع، وغير ملب لمكنونات نفوس المواطنين، بل ينهض كي يضع كل امكانياته في خدمة المشروع السياسي المنافس له، لانه أصبح خيار الناس بالانتخاب فبات خياره هو أيضا. فالساسة الحقيقيون هم الذين ينظرون لمشاريعهم على أنها ملك شعبي عام، وليست ملك أفراد أو زعامات حزبية واثنية وطائفية ومناطقية.


لكن الذي يجري في العراق هو أبعد بكثير عن هذا الفهم ومختلف عنه تمام الاختلاف. فلاشيء من ذلك في السياسة العراقية، بعد أن أمن الجميع بأن كل واحد منهم هو من يملك الحقيقة ولا أحد يدانيه في ذلك، حتى صارت خسارة الموقع الحكومي جريمة يقترفها الاخر بحقه، مهما كسب من أصوات أو مؤيدين في الوسط الشعبي، وأن هذا الفعل الجرمي قد يمتد حتى الى المصوتين لذلك الحزب المنافس. لذلك نجد أن كافة الاحزاب والتيارات والشخصيات السياسية المشاركة اليوم في السلطة، قد وضعت لها مواقع سلطوية بديلة تحسبا لحالة خسارة الموقع أو المنصب السياسي الحكومي، بعد أن أصبح هدف الجميع، أما الفوز بأي ثمن أو تحطيم كل شيء، حتى لو كان الذي سيتحطم هو الوطن، وحتى لو كان الذي سيدفع الثمن هو المواطن. انها أقصى حالات العقم الاخلاقي والفكري الذي يعانيه السياسي العراقي، ذلك الذي يضع أمام عينيه موقعا بديلا واحدا في حالة الهزيمة السياسية، الا وهو العودة الى حمل السلاح وتفعيل ميليشياته، وقتل الناس على الصوت الذي أعطوه للاخر، ووضع العصي في عجلة مستقبل الوطن كي يتوقف أو يعود الى عصر ما قبل التاريخ، كما هو حاصل اليوم من خلال هذا المشهد المقزز، حيث تتوالى التصريحات وحرب البيانات والرسائل في كل منعطف تمر به (العملية السياسية)، وتصبح قراءة حالة الانتقام واضحة للعيان في السطور وما بينها، فتغادر الوفود بصورة علنية مرة وبصورة سرية مرات عديدة، الى دول الجوار ودول الضمان كي يتم التأليب والكذب والتزوير والتلفيق، ثم تنفجر المفخخات في الشوارع والحارات، حتى يستطيع أي بعيد أو قريب أن يقرأ وبسهولة بصمات أية جهة وراء الجريمة، لان الجريمة سوف تكون نار صراع سياسي معلومة أطرافه وواضحة ساحته، في ظل هذا التوزيع الشيطاني لحدود سياسيي وأحزاب اللاوطن على الخريطة الجغرافية للوطن.


لقد حرصت النظريات الديمقراطية والدول التي اتبعت المنهج الديمقراطي في العالم، على أن تكون الخيارات السياسة محصورة بواقعين لا ثالث لهما هما الاغلبية والاقلية، الا النموذج الديمقراطي العراقي المستورد والمصنوع في العام 2003 فهو خلاف ذلك. انه الاغلبية للكل مهما تعددت الاحزاب والحركات السياسية، وان الوصول اليها سهل ويسير من خلال مفاهيم (الشراكة الوطنية) و(الكعكة السياسية) و(حكومة الوحدة الوطنية )، وان نصاب تحقيق الاغلبية لكل طرف يمكن أن يحصل من خلال صناديق الاقتراع، أو من خلال الاغلبية الطائفية أو الاثنية التي تمثلها أو تدعي تمثيلها، أو من خلال المحكمة الاتحادية، وبذلك يكون الكل أغلبية، والكل فائزا في الانتخابات، خاصة أن الافتاء في ذلك سهل الحصول عليه من خلال رجال دين السلطة أو دول الجوار. واذا كانت الســـــياسة تتحرى المصالح العامة لا غيرها، فان السياسة العراقية هي الوحيدة التي فرضت مصالح السياسيين على الوطن، وان يُجيّر كيانه ووجوده من أجل ألا يختلف السياسيون فيه، فذهبت ميزانيته هباء منثــورا في زحمة الوزارات العديدة التي لا تقدم له خدمة، بل هو الذي يخدمها بالرواتب والامتيازات والحقوق غير المستحقة، والحمايات التي تصل حتى الدرجة العاشرة من سلم القرابة، وتتوقف فيه مصالح الناس والمصالح العليا لحين حصول الاتفاق والتوافق في ما بينهم على الوزارات الامنية والسيادية فيه، كل طرف في المعادلة السياسية يبحث عن حصة له فيها، بعد أن غابت خارطة الوطن عن سقف تفكيرهم، وبات الجميع كلا يمسك بعمود خيمة خاصة به، مهددا باسقاط سقف الوطن على رؤوس الجميع في حالة تهديد مصالحه الفئوية والحزبية والطائفية والاقليمية والدولية.


لقد التوت القيم والمبادئ الانسانية العليا في اطار (العملية السياسية) القائمة في العراق، حتى بات السياسيون مقتنعين تماما بشرعية القتل اليومي في شوارع ومدن العراق، لان المناصب في عرفهم أغلى من كل دماء الابرياء، ولم يعد التدخل اليومي في شؤون الوطن من قبل القوى الدولية والاقليمية شيئا معيبا على السياسيين، بل هو واجب من قبل دول الجوار لدعم وكلائهم في السلطة كي يفوزوا بحصة الاسد من الكعكة. أما الاحتلال وقواته وجرائمه فهناك الكثير من المنافذ التي شرعنت وجوده وتجذره وازدهاره في الوطن، حتى بات متهما بالارهاب كل من يطلق وصف الاحتلال على الوجود الامريكي أو حتى يطالب برحيله، بعد أن أصبح السقف الحامي لكل التوجهات السياسية المشبوهة التي مارسها ويمارسها أعوان السلطة، وها هو الرئيس الامريكي أوباما في خطابه الاخير، يوغل في نفس الكذب والخداع الذي مارسه سلفه بوش في الدعاية الكاذبة للقتلة في العراق، فيتجرأ على وصف الذي يجري فيه بأنه (تباشير ديمقراطية متعددة الاعراق والطوائف) وأن (العراق يتهيأ للعب دور رئيسي في المنطقة)، في الوقت الذي تتصاعد فيه حدة مطالبات الطائفيين بانشاء الاقاليم، وضرورة الاستئثار بالثروات الوطنية لفئة دون أخرى، وتشتعل حرب الصلاحيات التشريعية والتنفيذية بين الحكومة والبرلمان، وتلوك السنة الساسة نفس عبارات التهديد والوعيد باتخاذ موقف حاسم من العملية السياسية، ان لم يتم تنفيذ بنود شهر عسل أربيل، ويتم تهريب القتلة والمجرمين من قبل الاقطاب الامنيين في أعلى المستويات، بينما يقبع الابرياء خلف القضبان منذ سنين عدة من أجل الابتزاز السياسي والمالي. فعن أي تباشير ديمقراطية يتحدث رئيس اعظم قوة؟ وكيف يراهن على دور يمكن أن يلعبه كيان هزيل لازال في علم السياسة بعيد جدا عن مفهوم الدولة؟


لقد شجعت الولايات المتحدة الامريكية كل القوى السياسية الطائفية والقومية في العراق، على أن تبقي على مليشياتها وأذرعها العسكرية لخلق حالة من توازن الرعب بين كل الاطراف، وتبقي على حالة الردع بين الجميع، لانها الوسيلة الوحيدة التي تقتل بها الجميع ان جنحوا بالولاء لغيرها، فكان أن أسست مواقع سلطة بديلة استغلتها الاحزاب في عملية الاحتراب على السلطة، وكسب المصالح والامتيازات الضيقة، وبات لا خيار أمام العراقيـــين الا بالتخلص من العملية السياسية، لانها هي التي أسست للطائفية والقتل والتشرذم وضياع الهوية الوطنية، ولا يمكن بعد الان المراهنة على مداواة الناس بالتي كانت هي الداء.

 

 





الثلاثاء٢٨ جمادي الاخر ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٣١ / أيـــار / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. مثنى عبد الله نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة