شبكة ذي قار
عـاجـل










إلى أمي مليكة حمادي
وإلى ذكرى دربونة زنْكوّْ .. لوحة التنوير الأولى


**

 

إمش مع الذي يبكيك .. وإتخذه صديقا ( من وصايا الامهات )



**


اول الكلام

(1)


الطفولة وحدها أنشأت الحرية . وبعقلها الفطري استحدثت مكاناً لا متناهياً وأزمنة بلا بداية ، وبلا حدود .
وبفضل أشواقها المعرفية تخطت الرتابة ، وتمردت على التكرار، لتؤلف تجلياتها المبدعة فصلاً خامساً للطبيعة هو (الخلود) ، عبر هوّس اللعب وشجاعة الأسئلة، وجنون الإنشراح.
وطبقاً لهذا المنطق فأن تأويلات الطفولة قد تضغط المسافة بين (نعم) و(لا). فتضفي على الايجاب والسلب صفة المماثلة، لنفي المفارقةً ، خيالا حرا طليقا، يجعل من الانهار الجارية جبالا شاهقة راسية في أفق الكون ، فيما يضع النجوم في راحة اليد ، وتنبسط السموات لتفترش الارض ، والحرية هي مركز العالم ، ليس في شمال أو جنوب الكوكب .


(2)


وعندما تتأمل الطفولة ظواهر الحياة من حولها ، وتصاب بالدهشة. فأنها أصدق الكائنات إخلاصاً في البحث عن الحقيقة. قد تصغي إلى المشهورات وبديهيات الآباء والأمهات ، وقد ينغمر عقلها في سعة التبرير اليومي المريح ، لكنها في صفحة البرهان الأعلى تغادر أو تتخلى عن هذه البديهيات وتنفر من الاجوبة المعدة سلفا ، لتبدأ مغامرة التأملات إلى ما وراء المقررات الجاهزة .


إذْ يرتقي وعيّها إلى جنون الأسئلة توقا إلى (التعليل) ، بعد أن ضاقت منظومة الحواس بتسويات المماثلة والتبرير .
فتحاول أن تخرج من أعمارها عبر مغامرة البحث ، وجحيم الأستقصاء.؟!


(3)


عاد الصبّي من نهر الموت يسأل أمه عن الرحيل الأبدي ، وعن السر الدفين في مياه خضر إلياس التي إبتلعت على الفور (الفتى الغريب) ، فأنزلته إلى قاع الشط ليرقد هناك إلى الابد.
صراع مقيم بين السببية الإنسانية والعلّية الكونية بين الفعل الحرّ ونازلة الموت ؟‍!.
نسبية المعرفة وحتمية المصير. وحقيقة الانتهاء : مفارقة وجودية بالغة الإيلام في قانون الطبيعة الباردة ، تنتج تجربة (القتل) الوحشية .
تستحيل واقعة خضر إلياس في وجدان الصبّي إلى فجيعة تشق جلدة الأرض، وتسقط هيبة الكون فتوقظ جذر الـ (ماذا) ؟‍!
إزاء تبادلية الحياة والموت ، يهوى العقل في قبضة القلق المرّ . ليس ثمة من خلاص .
إذ لا ديمومة قائمة أو حياة أبدية ، بل صيرورة بلا انتهاء‍!


(4)


الطبيعة في وعيّ الصبيّ ، تعني اللعب الحرّ في الكون الفسيح. تبدأ خارطة الأرض بـ (دربونة زنكو) ، وأطراف الفحامة وما وراءها من فضاءات طليقة : الجيّايلّة، الرحمانية، المشاهدة ، الشيخ علي ، الشيخ معروف، الفلاحات، الشيخ صندل علاوي الحنطة، سوق السلاسل، جامع حنان، هناك ينتهي كوكب الطفولة، ويلملم العالم حدوده عند بوابة جسر الشهداء، قبل ان يأتينا نبأ ( الضفة الأخرى) من النهر .


لقد سمعنا كلاماًعجبا، يدور على أَلْسنّة فتيان الدربونة، بأن عالماً مجهولاً يقع وراء الجسر، في ضفة النهر الأخرى، أكبر سعة، وأعظم عدداً ، وأبهى جمالاً، من عالمنا الكرخي ، هكذا كان شأن (الصوب الكبير) قبل أن يكتشف الصبيّ : (الرصافة) ويحيط علماً بأسرار (الباب الشرجي) و (حدائق غازي) ، و(بارك السعدون) فأدرك بأن الطبيعة لا حدود لها في المسافة والزمن .



(5)

 

المكان والزمان يتحدان ، يصيران حركة ، وجوداً متعّيناً ، كل جزئية منه تنتمي إلينا، وتنضم إلى ذاكرتنا : الدربونة البهية ، و(الطرف) المفعم بالبهجة ، فضاءات الفحامة ، ودنيا الكرخ ، ليس ثمة من شذرة سائبة ، أو لحظة غائبة ، أو ذكرى عائمة ، فلكل واحدة منها كياناً ، رسماً ، دلالة و رمزاً ، جذراً عميقاً يمتد إلى الأفئدة والعقول.


(6)


تكثف مسامرات الليل تفاصيل الطفولة كما لو أن كل خليّة منها ، تعادل دورة حياة كاملة ، فتصنع عوالمنا الجميلة الباذخة : نخلة حفصة ، ، ذاكرة بريسم ، سبتي البحار العتيد ومغامراته في الموانئ وأعالي البحار، قمر الكرخ ، جرّة سكنة، حمار إبراهيم الجرمط ، طيور أحمد البطوشة ، الأبواب العتيقة الطاعنة ، عبير الدروب ، أصابع العروس ، حامض حلو ، الشرفات المشرقة ، حديقة علي العكلة ، أيام الملآ، مغامرة الجول، الشط ، حكايات جدتي فاطمة .
ولوج قويّ للأنا في موجودات زنكو تتحد من حولها ومعها الأشياء والأنفاس ، يوّلدان شعوراً حميماً بالألفة والقرابة الإنسانية .


(7)


النقطة: قمر الكرخ مركز كون الصبيّ تنشغل بالحركة ، تمتد خطاً ، والخط يغدو سطحاً ، والذرة الحية تمتزج مع محيطها في الاتجاهات كافة .
حركة الذرات تشكل أجساماً ، تستحيل كوْناً ، عاصمته الطفولة. والدربونة رأس الأمكنة ، ومنها تنبثق الحرية حاملة حقائق الأوطان ، جدلية مثيرة؛ ترفض الاختزالات العبثية، وتضيق بالأقيّسة المنطقية الجافة .


الحقيقة كانت تتبدى في معان بهيجة؛ نضارة الدربونة ونصاعة صباح زنكو، وتبادلية الأنا والـ (نحن)، وتَمَثُّلْ العلاقة الخالقة بين الكائنات، بنيّة حميمة بالغة الرقيّ، في تشييد عمارة الكون الإنساني :


زنَكوّْ - الفحامة .
الفحامة – الكرخ .
الكرخ – الوطن .
الوطن– الإنسان .


تتداعى الفردية وتنحلّ في لوحة قيمّ الدربونة ، فالواحد الفرد لا يكون إنساناً أو كائناً سوياً ما لم يكون كلياً ، الحاضر في وجدان مجتمع (زنكو) ، بوصفه تعبيراً عن صوت الإجماع العام الذى لا يضلّ ولا يُضلّل أحداً، وبـ(الإيثار) تنهض الحياة ويرتقي الإنسان.


(8)


إستعادة الزمن الجميل ..
ليس ردة عن الحاضر، أو رجوعا إلى الوراء ، وليس نقيضاً لمنطق الغد ، ولا هو دعوة لأحياء الزمن الفائت، للإنكفاء في قوقعة الماضي ، وإلا فأننا نلحق ضرراً بليغاً بالعقل والحكمة والمستقبل .


إن قمر الكرخ بوصفه سيرة ذاتية للمكان، من وجهة نظر كاتب هذه السطور يسعى إلى إعلاء القيم الجمالية ، والثراء الإنساني، وإلى قراءة كتاب الطبيعة الأولى، في مرح الخيول، وحكمة فاطمة، وتأملات ماهية الحمادي، وعظات الشيخ مشمش، وعبثيات رشودي، ومسرات الليالي، وبراءة الطفولة، وأرزاء الرحيل الابدي، ووصايا الشهداء، ومرثيات الطيور، توكيدا للوظيفة النقدية للفلسفة التي تعد الانشغال بمهموم الإنسان وقضية الاوطان من مهامها الأولى .


وهي ذات الغاية التي أنشأ من أجلها كاتب هذه السطور أعماله الفكرية الأولى :
العقل والحرية
ثورة العقل
فلسفة العقل
أصابع العروس
فردوس الكرخ
قطر الندى
وأسئلة الغد


بوصفها جدلاً نازلاً إلى خلايا الواقع، لتحرير العقل من الأجوبة المتداولة، واليقينيات الثابتة.
وقمر الكرخ في البدء والمنتهى ليس أكثر من تجربة إنسانية ، يأمل الكاتب أن تجد لها، مكاناً إلى جوار الكتابات الصادقة التي تثابر من أجل إنشاء نصّ الإنسان.
والختام سلام الى كل المحبين .

 

 





الاثنين٠٤ ذو الحجة ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٣١ / تشرين الاول / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الدكتور عبد الستار الراوي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة