شبكة ذي قار
عـاجـل










قمر الكرخ

سيرة دربونة بغدادية

 ( العـيد )
إلى أمي مليكة حمادي وإلى دربونة زنْگوّْْ لوحة التنوير الاولى


 


العـيد


(1)


تخف زنكوّْ نحو إشاعة مسراتها ، فتضوع رائحة (الكليجة) الزكية نفاذة في أرجائها ، إيماءة الترقب لاطلالة – الهلال – في سماوات الفحامة .  تنشرح الصدور ببشارة البهجة الآتية من منارة الشيخ صندل . ينشغل الصبية بهموم الغد السعيد ، بإنتعال حذاء (الصندل) الجديد و(دشداشة) البوبلين ، وحلاقة (على المودة) بين يديّْ(المزّين)  العم حسين العيشة في السوق الصغير ، والغسلة التاريخية في حمّام (شامي) , فيما تنهض الأمهات بالحملة الكبرى الساعية إلى تجديد مشهد الحياة من حجرات الدار والحوش والأروقة مروراً بالأبواب والنوافذ والشرفات. تتواصل الحملة حتى آخرة الليل في تنظيف وغسل حوض الدربونة .  هكذا تضع الأمهات لمساتهن الناعمة لتبدو (زنْگوّْْ) في الصباح التالي ، نضرة متألقة .
في تلك الليلة ، يتقلب الصبيّ في فراشه بين "الإغفاءة اللذيذة والأحلام الصغيرة وهو يضم إلى صدره حذاء العيد!


(2)


يستبق الصبية الفجر .
فنوقظ الشمس .
أو نشرق معاً .
ألق وضئ يشع بين رحبات الدار وبيوتات الدربونة . الوجوه مستبشرة، الأيدي مبسوطة بالحلوى والسلام و (العيدية) . نرفل فرحين بدشداشة البوبلين (المقلمة)،. يخفق (الدرهم) في جيوبنا ، مفتاح السرّ إلى دنيا المتعة.


(3)


تكبيرات العيد تنثال أنوارا تسري في الروح وفي جنبات الفحامة
الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر
لا إله إلا الله
الله أكبر..  لله أكبر
ولله الحمد
بإنقضاء صلاة العيد في جامع الشيخ صندل ،  تبدأ رحلة السلام المقيم ، الأمهات والآباء معا ويمشي إثرهم الاولاد ، يمضي الصف الطويل من بيوتات المحلة وأطرافها ، موكبا مهيباً صوب أرض الموت ، (الشيخ معروف  والشيخ جنيد)  يطوفون بخشوع بين الأضرخة والمراقد، ثم تتجه زنْگوّْْ إلى (التل الأحمر) هنا وفي هذه البقعة  وعلى هضبتها ومنحدراتها .. يرقد الاحبة  الذين إستبقوا الزمن إلى عالم السلام الابدي؛ ( الشيخ أحمد التونسي.. حمزة علي العكلة،  بريسم.. هوية الحالوب،  وأختي الصغرى.. )  تمتلئ العيون بالدموع .. تلوذ أمي  جوار قبر أختي (ممتازة) ، تفتح كفيها هامسة بالدعاء ، وتمرر يديها بحنو على (الشاهدة) ، .. وبصوت مستكين تردد كلمة (الجنة .. الجنة( ،
يتسلق الصبية هضبة التل ، ومن ورائنا  الفحامة ، إلى الحجرة العالية يتوسطها ضريح الشيخ الجليل (أحمد أبو رنَه) وتحت علمه الاخضر ، نقرأ الفاتحة .. يستذكر أباؤنا سيرة القطب الصوفي ، الذي جاء من أقصى بلاد المغرب ماشيا على قدميه .. لزيارة أئمة العراق الشريف ..  كان من فرسان الله ، قارع الإحتلال البريطاني ، مجاهدا وفدائيا ،  وتطوع  للعمل في  تشييد جسر الشهداء ، و حمل الرمل على ظهره ليحمي بغداد من غضبة مياه الفيضان ..


وعند قبر حمزة المنغمر بالآس والرياحين والشموع ، يتجدد الحزن على فتى زنكو.. أكاد أسمع أنين صديقة ونحيبها  وهي ترثي أخاها حمزة، و تلقي سؤالها الملتاع ؛
(وين ها النيه) ؟؟
حمزة زينة شباب الفحامة .. سقط ليلة زفافه قتيلا ..
وكتب على شاهدة قبره
ياقارئا كتابي ..إبك على شبابي
بالامس كنت حيا .. واليوم في التراب
بعد إلقاء السلام على الاحبة  الغائبين.. وتلاوة سورة (ياسين) وتوزيع الصدقات .. نعود إلى بيوتنا .. لتناول الـ(ريوك) الملكي الذي تنبسط على مائدته في اليوم الاول للعديد من الاطباق الـ( گيمر والعسل) و(البيض) المقلي بـ(الدهن الحر) و( مثرودة الباجلة بالدهن)، وفي الضحى تشرع زنْگوّْْ الابواب لإستقبال الضيوف من الجيران والاصدقاء ، يتبادلون التهاني والامنيات..


 
(4)


فرحة العيد في كتاب الطفولة تعني الظفر بالأمنيات الصغيرة ، دشداشةً مقلمة وحذاءً جديداً ، وعيدية توفر للصبي حرية الخروج المغامر صوب جهات الكرخ الفسيحة،  لإشباع الرغبات المؤجلة . والسعي لإجتياز حدود العالم اليومي إلى (الجادة) وإلى ما وراء الفحامة ، للفوز بمتعة العروض المدهشة التي كانت تقام  جوار مقبرة الشيخ معروف الكرخي مابين (الجوبة) و(وكفة الغنم) ، هناك فقط نرى ونلمس العيد بمرئياته وشواهده  .. هناك  تنتظم حلقات (رقص الجوبي) والمبارزة بالسيوف (الساس) ، و(مزيقة)  فرقة جوهر الشعّار .. ولا معنى للعيد ما لم نحظ بدورات متتالية في (ديلاب الهوا) ومرح المراجيح . وقضم (لفة العنبة والصمون)   وفي هذا المهرجان الباذخ يحين الوقت لتحقيق (الأمنيات الكبيرة) فنمتطي صهوة الخيول الضامرة ، الهزيلة ، نرود بها الأرض (المتربة) وقد تعدو بنا نحو أسوار مستشفى العزل (الكرامة) . . جذلين .. سعداء ،..


تلتقي الحواس الخمس تتكثف في فتنة البصر ، تلتصق الروح بالعين، لنلج العالم السحري عَبّرَ فتحةٍ ضيِّقة، أطلَّ الصبيُ على خِبرةٍ جديدة، يوم إحتضن (صندوق الدنيا)،  فأمتلأ بـ(حّميَّة)  الفرسان، وأقترب من أحزان العاشقين،  .  عبر صور الشريط الورقي تنمو المعرفَة بـ (العالم) أولها  الدهشةِ، الأنس، ظل المجهولات  وبقيت حكايات صندوق الولايات تدور مابين العقل و القلب  .. ، قبل أن يقدم الصبي  على (تجربةِ)  الفيلمِ الأوَّل في سينما (قدري) ..


ولا نعود إلى البيت أو نأوى إلى مخدعنا إلا بإنقضاء النهار ، أو حين تجفّ من جيوبنا النقود .


(5)


تأججت أشواق العبور إلى كوكب الرصافة البعيد ، مذ ألقى فتيان الدربونة  في أفئدة الصبية (جمرة الفضول) ، وحملوا إلينا خبريات الدنيا الاخرى ، (صبحى ، نزار ، عزاوي ، جبار الحفصة) جاسوا ديار (باب الشرجي)  ونعموا بجماليات حدائق غازي ، وبارك السعدون ، وشاهدوا أفلام (الملك كاله) و(فلاش گوردن)  وأطالوا الكلام في سرد  المدهشات من الحكايا عن صوب الرصافة  (الجبير) الذي يبقى ساهرا  لاينام .. وعن ملهيات الأمكنة والحدائق القصية وعجائب أحوالها .


عبر الصبيّ برفقة صبحي عبد الجبار جسر الشهداء ، وحين هبطا كوكب الرصافة  . ضاقت  المدركات الحسية  عن إستيعاب المرئيات المكتظة  بكل شيئ بهيج ،  سعف النخيل  النضر يطوق  أبواب الدكاكين، وواجهات السينمات مزدانة بالمصابيح  الملونة وجوه مستبشرة ، فتية يتراقصون على أنغام (الدنبك)  وهفيف (الدف الزنجاري)  .. أصوات تجأر  بالمعروضات .. مرئيات يتداخل فيها الظل باللون،   والصورة  تشتبك بالصوت،  صخب الأرصفة  الغارقة بالزحام ،  فيما تمتد فرحة العيد  على طول مديات شارع الرشيد ، من الارض إلى أفق السماء؛ وحين توغلنا في طرقات (السعدون) و (البتاوين) أصيب الصبي  بالذهول وهو  يرى القصور المنيفة  والأسوار العالية ، والحدائق الغناء. والصمت المهيب :  هنا أدرك الصبي المسافة الفارقة في المكان ، بين فحامة الكرخ وأحياء الباب الشرقي .
قد نجد تماثلاً نسبياً في بعض الجزئيات الصغيرة ، لكن سرعان ما تتسع الفروق في الكليات والأصول  مما يستحيل على عقل الصبيّ إجراء مقارنة بين (صوب عكيل) و (الصوب الكبير) من حيث الانتقال المفاجئ بين المعاني والمشاهد . فالقياسات المتباينة تقيم فصلاً وتمييزاً بين تقاليد بيئة محافظة شبه بدوية مقابل عالم حرّ مفتوح ، ويبتدئ هذا التقابل في تفاصيل صغيرة أيضاً – الملابس (الدشداشة) إزاء (الشورت) والقمصان الملونة ..


وهكذا تتوالى الفروق وتتبدى المقارنات بين :
-      الجقجة قدر – النستلة .
-      الصندل – حذاء الجم جم .
-      على العودة – لكِ ستّكْ .
-      البروس – تسريحة البكلة الامريكية .
-      صندوق الدنيا – دور سينما بلا حصر .


(6)


عندما نزلنا الباب الشرقي أول مرة ،  ظن الصبيّ بأنه آت إلى كوكب آخر ـ فالرصافة. مبهرة ، ملّونة ، سريعة الإيقاع .
الضجيج يخنق الامكنة . المركبات تتوالى ، والحافلات تتدفق ، الأغاني كما الفوضى مختلطة ، صراخ مؤذ . التدافع بالمناكب لاقتناص متعة ما ، تفاصيل متداخلة :
حشد من العروض والاهتمامات ،
-      شربت (عصير) بألوان الطيف الشمسي .
-      باعة جائلون (حب . باسورك ، سميط – بادم – حامض حلو) .
-      أطباق (الداطلي)
-      عربات تشبه الدكاكين الصغيرة  محملة بـ(ألف حاجة وحاجة) .


(7)


.. الأرصفة تضيق بالمشاة ، يتزاحم الناس. غادين وآتين : مواكب من البشر متأنقة تحتشد بحماسة عند شبابيك تذاكر السينما ، يتوالون كتلاً متراصة ، مهتاجة تبحث عن شئ ما ..
أغان متفجرة بأصوات مبحوحة ، تتردد أصداؤها في الشوارع والمقاهي والمطاعم .. أقرب إلى الصيّاح بلا لون ، عسيرة المذاق ، يرددها فتية مشاغبون يقودهم طبال بعين واحدة .
.. على ناصية سينما (روكسي) إحتفالية شبيهة بالسيرك شباب مهرجون ، يضعون ((كلاوات) ورقية مزركشة يتقافزون كالأشباح ، يصفقون بحرارة ويصفرون لأحدهم وهو يقوم بحركات (بهلوانية) تحف به جوقة من نافخي الأبواق . الرقص عند حافات الشوارع ، ينزلون إلى الطريق العام ، يهزون الأكتاف والرقاب بطريقة فنية متقنة تثير فضول الناس .. وتتسع حلقة (الفرجة) .. فيما يزداد العرض غرابة في إتيان حركات منفلتة  تقترب من العبث الطائش .


.. وهذه زاوية من زوايا كثيرة رصدها الصبي في أولى تجارب العبور إلى كوكب الرصافة ، .. فيما كان للعيد الكرخي في الاربعينيات لون آخر ، كان وديعاً ، لّيناً ، فطريّاً تلقائياً وجميلاً . وهو صورة مفارقة أخرى ، غير ليبرالية بارك السعدون ، وانفتاح البتاوين ،.


(8)


العيد في مرابع الكرخ ، متعة باذخة المعاني ، تفيض مسراتها بقلب الصبي ، وتشبع رغباته الذاتية ، عبر أنس الصحبة ودفء الصداقة ،  وبهجة الـ (نحن) . وبراءة الاشياء ..
-      جوبي (الوكفة) .
-      الأهازيج الجماعية .
-      الخيل والأباعر .
-      لعبة الساس .
-      المراجيح البدائية .
-      الربابة .
- حكايات عنترة العبسي  وأبي زيد الهلالي وعبد الله الفاضل الجبوري ..


هكذا يجري التمايز بين عالمين تضمهما عاصمة واحدة ، يفصل بين (الصوبين) نهر واحد ، أو يربط بين ضفتيهما الجسر العتيق . ..


(9)


الـ (نحن) ألقّ (اللّمة) والألفة بين الأقران والخلان ، في مقابل فردية (السعدون) وما جاورها ، والـ (دبكة) إزاء رقصتيّْ (السُمبا) و (الرُومبا .(
.. هنا الكرخ : ربابة عذبة الأنغام ، عتابة مفعمة بالشجن العميق، هوسات   الجموع .. وهناك في مربعات (الصوب الكبير) مهرجان الصخب العجيب!


(10)


بين حقول الورد وتحت أفياء الشجر العتيق ، والأرائك الخضراء ، تنبسط حدائق )بارك السعدون) النضرة الغنّاء . وكأنها الجنة ، وارفة الظلال، تمتد  فيها  حقول الورد وأحواض الزهور  من كل لون بهيج ، يؤمها أهل بغداد من كل الجهات والأطراف . عندما ورد الصبي حدائق السعدون عقدت الدهشة لسانه وأتسعت مديات الحاسة البصرية ذهولاً ، وانتقلت من جماليات الورد وفتنة العشب وعبق الآس والريحان ، إلى حسان غيد  يقدن دراجات هوائية يختلن زهواً وخيلاء ، لا يأبهن بأحد ولا يكثرثن  لنظرات الفضوليين من حولهن . .. وثمة نساء حاسرات الرأس ، بلا (فوّط) أو (جراغد)  أو (هباري) أو عباءات. كاشفات الصدر والسيقان ، تنصهر على خدودهن وشفاههن حمرة متوهجة بلون حب الرمان .


إنهن (مودليات) ، سافرات ، .. وتحت ظل الأشجار الباسقة ، وعلى الأرائك الخضر ، يتجاور الذكر والأنثى ، تتعانق الأيدي بشوق وتتحدث بكل حرية  العيون .


(11)


.. في الزمن الأول الذى شهد أول زيارة للباب الشرقي ، تناولت وصبحي ولأول مرة ، شطائر لحم تدعى (السندويج) ، مما لم أسمع بنبأها يوماً إلا من فتية زنكو ، ولم أتذوق طعمها قبل المجئ إلى الرصافة  . .. وسيتحول (السندويج) بعد حين إلى ما يدعى (الهامبرغر) ،


(12)


.. أزالت كشوفات كوكب ( الرصافة ) ، الغموض عن مديات الطبيعية وسعة  الكوْن الفسيح ، وإن وراء الجسر العتيق  حقائق أخرى، ووجودا مزدهرا بالسحر والفتنة ، وأن من لم يعبر إلى ضفة العالم الأخرى ، ويطوف بأرجاء السعدون والبتاوين والقصر الأبيض ، فأنه لم يعش إلا بنصف ذاكرة ولم يّر الحقائق إلا بعين واحدة .
.. وقد أثار الصبي حين عاد من رحلة الباب الشرقي ، أخيلة أترابه ، فقد ظل لليال بستعيد مرئيات الصوب الكبير ، من زحام شارع الرشيد ، وغرائب حديقة غازي ، بارك السعدون . بعد أنْ طاف بأرجائها ووقف على سرّ ذلك الكوكب المجهول .


(13)


أدرك الصبي  بعد حين بأن مآثر الكرخ  في المحبة والنخوة والشيمة والسخاء ، موجودة  بذات المعاني في محلات الرصافة العريقة ، كهوة شكر ، باب الشيخ ، الصدرية  الطاطران ، الهيتاويين ، بني سعيد ، القشل،  الفضل ، وغيرها .. وهي هوية بغداد وسجايا أهلها وبنيها. وهي شمائل العراقيين  كافة من جنوب إلى شمال ومن الغرب إلى الشرق

 

 





الاحد٠٨ محــرم ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٤ / كانون الاول / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الدكتور عبد الستار الراوي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة