شبكة ذي قار
عـاجـل










 

أوراق إيرانية

رفسنجاني : ثعلب إيران الماكر

(1)

 

 

تعلم أن يكون محافظا مع المحافظين ويساري الهوى مع اليساريين ، وإصلاحيا لايبارى مع الاصلاحيين ، وتمكن أن يجمع التيارين معا في آن واحد، وتعلم أيضا بأن السياسة فن وجد للمخادعة وللعب على الحبال ، ولكي يكون اللاعب حاذقا في لعبته عليه أن يتقن لعبة تضليل الخصم المترصد ومخاتلة الاعداء .. وعلمته تجارة الفستق عبر القارات ؛ بأن السياسة سوق للتجارة السوداء تقضي الالمام الدقيق بمراكز القوة ونقاط الضعف لدى كل تاجر فيها أوزبون يتردد عليها ، ورفسنجاني حامل الالقاب المبجلة؛ هو التلميذ النجيب للإمام المؤتمن على أسرار الثورة ، وهو رائد البناء والتعمير ، صانع الملوك ، هو الذي رشح السيد خامنئي ليكون ولياً مرشدا ، وهو نفسه من همس في أذن الخميني ليجعل من آية الله منتظري نائبا للولي الفقيه ، وكان وراء وصول الإصلاحي محمد خاتمي إلى منصبه الرئاسي في العام 1997، إضافة إلى المناصب الأخرى الحساسة التي ينسب إليه الضلوع بالدور المركزي في تعيين المسؤولين عنها، كمنصب رئيس فيلق القدس ومنصب رئيس أركان الحرب ومنصب رئيس جهاز الاستخبارات الإيرانية، إطلاعات، ومناصب أخرى.


 

مع خميني ومنتظري

 

وهو لاغيره من سعى للإلتفاف على السيد خامنئي والتآمر عليه ، كما كان سببا في إزاحة منتظري والتخلص منه، وهو المسؤول عن إدارة حرب الثماني سنوات ، وهو (قاتل) الاسرى العراقيين ، وهو المطلوب على لائحة الشرطة الدولية (الانتربول) صدرت بحقه و7 آخرين من مسؤولي النظام الايراني مذكرة اعتقال لتورطه في عملية تفجير بوينس آيرس العاصمة الارجنتينية عام 1994والتي اسفرت عن مقتل 85 شخصاً.
 

مرتدياً زي عناصر الحرس الثوري

 

ورفسنجاني هو القائل (بأننا نقف على مسافة واحدة من بغداد وواشنطن في الحرب الامريكية على العراق ، لكننا لاننسى مصالحنا العليا ، فإيران سوف تقف مع الطرف الفائز والاقوى ، لحماية أمننا القومي) .. وهو نفسه من صرح متباهيا (الغزو الامريكي على العراق جلب مصالح كبيرة لنظامنا (وكالة أنباء النظام الرسمية 31 أيار 2006)

 

وهو رجل المهمات المستحيلة ، ومن مهاراته العجيبة الجمع بين المتناقضات وتوأمة الاضداد ، فيأتي بالشتاء في عز الصيف ، وبوسعه أيضا إختزال الفصول الاربعة بفصل واحد .. شبهه الإيرانيون بـ(عبدالله بن سلول) لتقلبه وإنتهازيته ونفاقه ، وهو في ذاكرة اليسار ومجاهدي خلق (رأس الافعى)، وأطلق عليه السياسيون ؛ لقب (الثعلب الماكر) الذي يتقن إغتنام الفرص وإقتناص (الطرائد) ؛ فلا يقدم على أمر قبل دراسة جدواه والتأكد من منافعه مسبقا ، وبهذه الاوزان البراجماتية انضم رفسنجاني إلى حلقة تلاميذ الخميني في بداية وصوله إلى قم، وتقرب من معلمه بحدس ابن التاجر الشاطر، ومكّنته ظروفه المالية من استضافة الخميني في منزله؛ ليضمن الشهادة الدينية. وكان على رأس هرعوا لإستقبال الخميني في مطار مهرأباد عند عودته من باريس ، فكان أول من صعد إلى الطائرة وأول يد صافحها الامام العائد من المنفى.. كانت يد علي أكبر هاشمي، كافأه الخميني على ماضيه بتعيينه في العام الأول لوصوله إلى الحكم بمنصب رئيس مجلس الشورى وذلك في العام 1980، فأظهر أحقاده الدفينة في التخلص من خصومه من قيادات اليسار والليبراليين في إيران، فهو المسؤول التنفيذي المباشر عن حملات التصفية الجسدية الشهيرة في بداية العهد الثوري، إنتدبه الخميني دون غيره من رجالات الثورة ، للاتصال بالامريكان ، لعلاقاته التجارية الواسعة برجال الأعمال في الولايات المتحدة أيام الشاه، فكان النافذة الخمينية إلى إدارة الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، واستطاع الحصول على السلاح الأمريكي في الحرب العراقية الإيرانية" 1980 ـ 1988". 

 

في زيارة لجبهات القتال مع العراق

 

وحين كشفت خيوط الاتصالات السرية بين رفسنجاني وكبار ضباط الـ(CIA) في الفضيحة الشهيرة باسم" إيران غيت"، تمت ترقيته في الحكومة الالهية ضاربين عرض الحائط بشعارات الخميني وكلامه عن" الشيطان الأكبر" ومواجهاته البلاغية معه.

 

يفاخر به أنصاره ورواد مدرسته الرفسنجانية ويعدونه ركن الثورة المكين ورجل إيران المحنك ، لشدة مكره ودهائه، وسرعته الفائقة في تغيير الاتجاهات والإنتقال بين المواقف ؛ فرغم كونه أحد صائغي النداءات الحركية والشعارات التعبوية نحو ؛ شعار "الثورة الإسلامية الدائمة وضرورة تصديرها" إلى شعار "مواجهة الشيطان الأكبر بالجهاد الأكبر"، إلا أنه كان مهندس فضيحة "الاسلحة" الاسرائيلية ومهنس العلاقة السرية مع ممثلي الشيطان الاكبر .

 

وهو نفسه الذي وقف مع الإصلاحيين في مواجهة المحافظين بعد أن كان صاحب اليد الطولى في حملات تصفية الإصلاحيين واليساريين والليبراليين، فيما تفسر شخصيته دوائر المعارضة الإيرانية على اعتباره أحد أكثر الشخصيات دهاءً في نظام جمهورية الفقيه. استغل دهاءه المختبئ خلف ابتسامة بريئة في توطيد مكانته وزيادة ثروته ، برغم تأكيده الدائم على أنه اليوم أكثر فقرا مما كان عليه قبل وصول الخميني.

ومنذ الأيام الأولى لاستلام الخميني السلطة في بلاده، أبدى رفسنجاني تطرفا في آرائه مناقضا بذلك حقيقته، فأسس "حزب الجمهورية الإسلامية" المنادي بإقامة الدولة الإسلامية الكبرى في مواجهة علمانية "الحكومة الثورية المؤقتة" التي حكمت إيران عقب الثورة لأيام معدودات .

 

فور رحيل الخميني، تولى رئاسة الدولة الإيرانية وعلى دورتين 1989 وحتى العام 1997، إلا أن ملفات الفساد فتحت النار عليه، حيث ازدادت ثروته أضعاف المرات، حتى وصلت إلى مبالغ خيالية، وأصبحت حديث الناس في الشارع الإيراني، أخفق في العام 2005 في الوصول مجددا إلى السلطة وخسر أمام أحمدي نجاد خسارة كبيرة في الانتخابات، تحت ضغط ملفات الفساد تلك التي أصبحت على كل لسان، إلا أنه لم يفقد مكانته في السلطة الإيرانية كرجل ثانٍ على الدوام في هرمية سلطة الملالي.

 

متصفحاً جريدة في حديقة قصره بطهران


وتعتبر تهم الفساد المالي والنفوذ العائلي أحد أبرز المعضلات التي تواجه رفسنجاني وتهدد ورثته في حال سقوط النظام في إيران، حيث تركِّز دوائر المعارضة على ملاحقة شركاته المسجلة بأسماء أبنائه في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وتايلاند والسودان وقطر. ويزعم أن سبب فشله في الانتخابات أمام أحمدي نجاد هو التزوير وليس كراهية الناس له.. وحين نعرف السبب يبطُل العجب. !!

 

خسارة هاشمي رفسنجاني، في 8 مارس 2011 وتخليه عن منصب رئيس مجلس الخبراء، إختيارا أو إكراها، محطة فارقة في حياة رفسنجاني السياسية وقد تكون المعركة الاخيرة التي هزم فيها الثعلب العجوز.

 

وهذه النتيجة قد تكون بداية العديد من الاسئلة المعلقة ، وان خروجه المأساوي من رئاسة مجلس الخبراء لن يكون خاتمة المشاهد لرجل كان دوره في تأسيس ولاية الفقيه يفوق حجمه وتاريخه ، مثلما أنشأ تيارا داخل النظام تحول بمرور الايام من حزب (كوادر البناء) إلى (الرفسنجانية) مدرسة سياسية تسعى إلى قلب الواقع القائم وتغيير الدستور، وتشذيب مطلقات حاكمية الفقيه .

من هو رفسنجاني؟

هو الشيخ علي اكبر هاشمي رفسنجاني ؛ أسمه الحقيقي هو ؛ علي أكبر بهرماني، نسبة إلى قريته (بهرمان) وتعني (الياقوت الاحمر) ينحدر من أسرة متوسطة الحال، في قرية «نوق» ببلدة «بهرمان» التابعة لمدينة رفسنجان، التي تشتهر بمحصول الفستق، الذي يعد أجود أنواع الفستق الايراني.


 

مع عائلته

 

وقد ولد عام 1933 وسماه أبوه أكبر واشتهر في ما بعد بـ(علي أكبر)، أكمل رفسنجاني المدرسة الابتدائية ومقدمات العلوم الدينية في رفسنجان وكرمان، ثم شد الرحال عام 1948 الى قم ليواصل دراسته في معاهدها الدينية، فالتحق بمدرسة«الفيضية»، ومن ثم «الحقاني»، حيث كان الخميني من كبار مدرسيها.
 

طالباً

 

ومنذ أيام صباه ، كان الرأس الاول بين أقرانه ، قادرا على فض المنازعات وإجراء التسويات بينهم ، ولع بالسياسة وخاض غمارها ، ولم يك بوسع الفتى الذي عاش في أجواء الإسلام السياسي ، إلا أن يبحث عن مكان له في الصفوف الامامية ، وهو لاينسى أنه كان في عينيَ أمه (ملكا) وهو اللقب الذي أضفته على إبنها طوال حياتها ، وعندما سئلت بعد الثورة عن طبيعة عمل رفسنجاني في طهران، أجابت الام بعفوية وتلقائية : "أكبر شاه شد" أي أنه اصبح ملكا.. وما من شك فان رفسنجاني الذي ألف في بدايات حياته السياسية كتاب " أمير كبير أحد رواد الاصلاح "، الذي كان رئيس وزراء ناصر الدين شاه القاجاري في القرن التاسع عشر، ويعتبره رفسنجاني والكثير من الايرانيين باني ايران الحديثة، أصبح هو يحمل هذا اللقب بعد انتهاء الحرب العراقية الايرانية، في مرحلة إعادة الاعمار والبناء ،

 

كان من أقرب المقربين إلى الإمام الخميني ؛ ساعده الاول ومستشاره الامين ، المتقدم على غيره من أركان الثورة ، يحظى بثقة المرشد ويحوز رضاه، فكان مستودع أسراره ، وهو الخليل والجليس الانيس الذي يرتاح إليه الخميني ويتبسط معه في الحديث.. ويأخذ برأيه ، وهو الكائن الوحيد الذي كان يعرف كيف يضاحك الفقيه المتجهم ويجعله سعيدا.. وكان الاوحد من بين أعضاء مجلس قيادة الثورة الذي يملك حق الدخول إلى الولي الفقيه حتى أثناء خلواته، الابواب مشرعة أمامه يلجها دون إذن مسبق أو موعد معلوم ، فكان يأتي متى شاء و في أي وقت يريد ،.

 

مع خميني

 

وتبعا لهذه الخصائص والمزايا أصبح رفسنجاني ظل الإمام ، صاحب الكلمة المسموعة التي لاترد، ويؤثر رأيه على آراء الآخرين ، الاثير، وقد أسمع الخميني الجميع بأن رفسنجاني موضع ثقته التامة .. بإعتباره أحد أعمدة الثورة المركزية ؛ (الثورة حيّة ما دام رفسنجاني حيّاً). ( والثورة بخير ما دام رفسنجاني بخير). عبارتان صدرتا عن الخميني يوم تعرّض رفسنجاني لمحاولة اغتيال في عام ١٩٨٠. وبقي رفسنجاني يحتل قلب الرجل العجوز إلى آخر يوم في حياته ، ومن هنا كان رفسنجاني يرى بأن من حقه وحده أن يتحدث باسم أستاذه وقائده ، فهو من لازمه ومكث إلى جواره حتى ساعة رحيله .. وهو الذي سمع ورأى . لذلك كان على رفسنجاني أن يرتدي عباءة الامام في التخطيط والتقرير ، حفاظا على الثورة ، وإلتزاما بوصية قائدها .. فهو الركن المكين من اركان هذه الثورة وله فيها ما يساوي "حصة الاسد" وهو امر نادرا ما يجادل عليه احد او يختلف عليه اثنان في ايران , وعلى حد تعبير الكاتب محمد صادق الحسيني (هو صاحب رأي ومدرسة يشار اليها بالبنان, لها ما لها وعليها ما عليها) .. فهو يتميز بصفات شخصية ومهارات سياسية لا ينكرها عليه أحد ، يكفى دليلا على ذلك أنه ؛ كان اللاعب السياسى" الابرز في حياة الخميني ، فكان يجد لنفسه دائما مكانا بارزا أو دورا مؤثرا وفعالا فى كل أزمة من الأزمات التى مر ويمر بها المجتمع الإيراني، وكذلك النظام منذ قيام الثورة وحتى اللحظة التي خسر فيها معركته الاخيرة أمام المرشد الاعلى .

 

في أعقاب المواجهات الحامية الوطيس التي شهدتها الساحة الداخلية الإيرانية في صيف 2009 على خلفية تزوير الإنتخابات الرئاسية، وبعد مرور عام من الصمت فاجأ رفسنجاني الجميع في اكتوبر 2010 عندما كشف عن رغبته المكبوتة في الإستقالة والتخلي عن جميع مسؤولياته ومناصبه السياسية ، وان هذه الرغبة وجدت لديه منذ أن خسر إنتخابات الرئاسة عام 2005 ، مشيراً إلى أن الحائل الوحيد أمامه هو خشيته من أن تفسر خطوته هذه على أنها خصومة مع المرشد أو خلافاً مع النظام. زاعما أن رغبته في الاستقالة سببها تقدمه في العمر، مشيراً إلى أنه (تعب ويريد الاستراحة والسفر الى عدد من دول العالم للاستجمام والسياحة. .. ففي العالم أماكن جميلة جداً، تاريخية ودينية وسياحية، يرغب في زيارتها ولم يتسنّ له ذلك أثناء توليه السلطة).

 

وإذا كانت تصريحات الشيخ جاءت خلال دوامة الخلافات وحرب الشائعات إثر سقوطه المدوي أمام منافسه محمود نجاد عام 2005، مما أضطر الشيخ إلى الإدلاء بتصريحاته هذه في مقابلة أجرتها معه مجلة «إدارة الاتصالات» الشهرية (21-6-2010) .. الا إنه فاجأ الجميع هذه المرة ؛ عندما أقدم في الثامن من آذار- مارس 2011 على تقديم إستقالته من مجلس خبراء القيادة .. ليسجل ولاول مرة خروجا تاريخيا من بيت الثورة ، في واقعة فريدة من نوعها ستنضمّ إلى التواريخ المفصليّة في مسيرة الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ويُرجّح، إذا صدقت توقّعات البعض، أن يتحوّل هذا اليوم إلى نقطة تأريخ لما قبله وما بعده. ما حصل، ببساطة، هو الإعلان الرسمي لطلاق علي أكبر هاشمي رفسنجاني، مع منظومة المرشد آية الله علي خامنئي. صديقا العمر والنضال افترقا أخيراً.. سحب كلّ منهما يده من يد الآخر. يدان رأى الخميني أنهما ما دامتا متّحدتين فلن يُخشى أبداً على مستقبل الثورة.

 

واستخدم رفسنجاني عبارات صادمة وهو يعلن استقالته من رئاسة مجلس الخبراء مرفقة بعدم نيّته الترشح. قالها بوضوح: «حان الوقت لكتابة مذكّراتي»، وذلك بعدما جدّد تأكيد التزامه بولاية الفقيه، موضحاً أنه ملتزم الثورة «ما دام فيّ عرق ينبض». وإن «القائد هو بحسب موقعه والد للجميع، أما البعض فيحبّون أن يضعوه في تيّار معيّن». وأضاف إن «القائد ملك للجميع، وإذا كان هناك أحد يمكنه أن يوحّد الصفوف فهو القائد، ونحن بإمكاننا أن نساعده لكنه هو الذي يجب أن يفعل»، مشدّداً على أنّ «القائد عمود الخيمة. إذا أصيبت أي ناحية من الخيمة يمكن ترقيعها، لكن إذا سقط العمود تنهار الخيمة ».

 

وتعهّد رفسنجاني عدم تولّي أي منصب رسمي، ترشحاً كما انتخاباً، وشدّد على أنه لا يريد فتنة داخل مجلس الخبراء، وهو لذلك لم يترشّح لرئاسته، لكنه نبه محذرا ( .. النظام الإسلامي يجب ألّا يستخدم العنف ضد مواطنيه، بل علينا أن نحافظ على الأصول الحقيقية للإسلام كي نحافظ على ثقة الناس ودعمهم للثورة.. وان إصلاح المجتمع غير ممكن عبر القوة والتهديد. يجب أن يكون هناك ترويج للقيم لأن الإسلام دين التربية وليس دين العقوبات فقط.. وإن إحدى مشاكلنا هي أن الأشخاص وأركان الحكم يستغلّون موضوع القيادة. يقومون بأعمال على حساب القيادة ويدفّعونها الثمن، وإذا حصل خلاف أو تقصير، فمن أجل تعويض قصورهم، يصرفون من رصيد القائد .( ومع إنهاء رفسنجاني كلمته، انتخب مجلس الخبراء آية الله مهدوي كني رئيساً له بغالبية ٦٤ صوتاً لمدة سنتين، هي الفترة الباقية من عمر المجلس (ولايته 6 سنوات).

 


 

هل إستقالة الشيخ كان مبعثها الزهد في السلطان بمثل هذا العزوف المفاجئ عن الدنيا؟ " كما صورها محبوه ومريدو مدرسته البراغماتية التاريخية الذين وصفوا خطوته بمنزلة الزهد بالحكم وبالسلطة "! أم أن إعتزاله الحياة السياسية ، وتنازله عن مقعد رئاسة مجلس خبراء القيادة لصالح محمد رضا مهدوي كني, هو أنه أدرك وهو السياسي المخضرم العتيد بأنه أصبح كما قطعة من الاثريات التي ولى زمانها ، لم يعد أحد يهتم بها أو يلتفت إلى وجودها ؟! ، وأن الرفسنجانية لم تعد صالحة لادارة البلاد على منهج "البراغماتي السياسي" الذي طبع الحياة السياسية الايرانية على مدى نحو عقدين من الزمان في وقت يتغير فيه الزمان بسرعة الريح لصالح خصومه السياسيين "!

 

"ايا تكن المآخذ التي سجلت على رفسنجاني في الآونة الاخيرة من قبل عتاة ناقديه الا ان انسحابه الهادئ هذه المرة ومن دون ضجيج سجل بمثابة نقطة له وليست عليه ",هي النتيجة الأولى لصراع تدور رحاه خلف الكواليس منذ سنين.

 

وعلى خلاف كثير من السياسيين، وبالطبع على خلاف معظم رجال الدين، فإن رفسنجاني سياسي من الطراز الأول. فقد رفض ترك ساحة الحرب السياسية في البلاد التي يكون الصمت فيها هو رد الفعل الطبيعي في مواجهة الهزيمة. وهو يعلم كذلك كيف يبدل الأدوار جيدا. ففي إحدى صور حملته الانتخابية عام 2000 ظهر حاسر الرأس من دون عمامته. فربما كان يعتقد أن الزي الديني قد يضره.

 

البدايات الاولى :

عند العودة إلى البدايات الاولى نجد أن رفسنجاني تمكن في اللحظة الاخيرة من إقناع الخميني – أن يتجرع السم – بإيقاف إطلاق النار، والقبول بقرار مجلس الأمن رقم 598 . منذ ذلك الوقت كان على إيران بقيادة رفسنجاني أن تواجه ما دمرته الحرب وأن تعمل على إعادة إعمار ما خلفته معارك الثماني سنوات، وهو ما قام على تنفيذه رفسنجاني الذى لعب دورا هاما فى هذا الصدد بعد نجاحه فى الانتخابات الرئاسية التى تمت فى 24/7/1985 . آنذاك كان عليه - بعد فوزه الساحق 95% أن يواجه ثلاثة أمور أساسية لم يكن قد تم حسمها مطلقا هى :

 

1- أن الخمينى كان قد وافق على وقف إطلاق النار مع العراق ، ولكن المفاوضات كانت لا تزال قائمة.

2-أن الخمينى كان قد وافق على تعديل الدستور ، ولكن لم يكن هذا التعديل قد تم .

3- أن الخمينى كان قد أقصى منتظرى، ولكنه كان حتى ذلك الوقت بمثابة قنبلة قابلة للانفجار في أي وقت .

 

استطاع رفسنجاني بخبرته وحنكته السياسية أن يعبر بإيران - بالتنسيق مع المرشد الجديد على خامنئي - من الأزمات الثلاث ، ثم رفع شعارا جديدا هو إعادة البناء والإعمار ولكن هذا البناء والإعمار تطلب تجاوز أشياء كثيرة كان من أهمها الحريات . وخلال الثماني سنوات التى تولى فيها رفسنجاني رئاسة الدولة استطاع أن ينجح نسبيا فى إعادة بناء إيران من جديد . وفي عهده أخذت إيران فى التحول من إيران الثورة إلى إيران الدولة ، أو من الجمهورية الإسلامية الأولى إلى الجمهورية الإسلامية الثانية متعمدا القيام بخطوات اتسمت بالجرأة و السبق، وبعد فوزه برئاسة الجمهورية فى عام 1989 قام بالآتي:

 

1- تشكيل حكومته الأولى التى ضمت 22 وزيرا منهم 12 وزيرا يغلب عليهم الطابع التكنوقراطي مع استبعاد الوزراء المسيسين بزعامة حسين موسوى آخر رئيس وزراء قبل تعديل الدستور فى 1989 رئيس الوزراء وكذلك على اكبر محتشمى وزير الداخلية.

 

2- دمج الحرس الثورى فى الجيش من خلال عمليات تدريجية.

3- السعى إلى استبعاد تيار المتشددين من انتخابات مجلس الخبراء حيث رفضت هيئة الأمناء فى انتخابات المجلس 1990 عددا من رجال الدين البارزين من المرشحين لعضوية المجلس مثل مهدى كروبى الذى كان يشغل منصب رئيس مجلس الشورى فى ذلك الوقت ، والشيخ صادق خلخالى أشهر قضاة محكمة الثورة، على أكبر محتشمى و محمد موسوى خوئينها .

 

4- عمل على تحقيق الفوز لتياره الجديد- كوادر البناء والتعمير- فى الانتخابات البرلمانية التى جرت فى عام 1992 حيث كان المتشددون يسيطرون على ثلثي مقاعد المجلس، وكانت تلك السيطرة تمثل إحدى الأسباب التى عرقلت خطوات رفسنجاني على طريق تنفيذ برنامجه الإصلاحي.

 

5- خارجيا نجح رفسنجانى فى القيام بعدة خطوات هامة كان من أهمها تعليق فكرة تصدير الثورة الإيرانية ، مما حدا بالبعض إلى اتهامه بأنه يريد أن يدفن الثورة ، وهو ما أفضى إلى التركيز على إعادة بناء وصياغة دور إقليمى ودولى مناسب لإيران .

 

6- كانت زيارته إلى موسكو بعد أقل من شهر من وفاة الخمينى محاولة الانفتاح على أكثر من جهة بالرغم مما قيل آنذاك من أن وصية الإمام الخمينى تضمنت هجوما عنيفا على موسكو . هذا بالإضافة إلى إعلانه أن الثورة ؛ليست للتصدير".

 

7- الدعوة الصريحة فى عام 1989 لواشنطن الى فتح حوار مباشر مع طهران

8- دعوة ولايتى - وزير الخارجية السابق - الإدارة الأمريكية إلى الإفراج عن الأرصدة الإيرانية المجمدة ورفع الحظر الاقتصادى المفروض على الصادرات الإيرانية.

 

9- وفى سياق عملية البناء الداخلى للاقتصاد الإيرانى سعى رفسنجانى لإقامة شكل من أشكال التعاون مع العالم الخارجى خاصة أوروبا و اليابان و الصين و الهند ، انطلاقا من قناعة لديه بأن هذه الدول لن تساعد ثورة إسلامية بل يمكن لها أن تتعاون مع دولة وهو ما كانت تحتاجه إيران فى تلك المرحلة وأخيرا قيام رفسنجانى بمجهود كبير خلال تولى رئاسة الجمهورية بمحاولة إقناع رجال الأعمال الإيرانيين وأصحاب الخبرة الذين خرجوا من إيران فى المرحلة الأولى للثورة بالعودة إلى البلاد واستثمار أموالهم فيها مما سيساعد الاقتصاد الإيرانى على النهوض بشكل أو بآخر.

 

10- وبإشرافه ومتابعته أعد مجمع تشخيص مصلحة النظام وضع الخطة العشرينية لتنمية إيران يتم بمقتضاها انضمام إيران إلى مصاف الدول المتقدمة بحلول عام 2025، وهى الخطة الإستراتيجية الطموحة التى قام رفسنجاني بنفسه عام 2003 بتشكيل فرق العمل ومجموعات بحثية مختلفة فى كافة المجالات - الصناعة و الدفاع والأمن القومى والقضايا الاجتماعية المختلفة - من أجل وضع سيناريوهات مختلفة لكيفية تنمية إيران والوصول بها الى المستقبل الموعود . 

 

كل هذا يدل على أن رفسنجانى كان الرجل المؤهل الذي جاء فى الوقت المناسب للعمل على الخروج بإيران- وقبلها الخروج بالنظام- من أزمات طاحنة كانت كفيلة بالإطاحة بإنجازات الثورة لولا وجوده فى ذلك الوقت.

 

أما على صعيد البنية الداخلية فقد عمل على نقل إيران من القرارات الإستثنائية العجولة إلى سيادة القانون ومن الثورة ومحطاتها المضطربة إلى تأسيس تقاليد الدولة .. ومن تصدير الثورة والإنشغال الايديولوجي الخارجي إلى إعادة تعميير البلاد والشروع في بناء قاعدة الصناعة الوطنية .. على قاعدة الإكتفاء الذاتي إلى جوار تنشيط القطاعات الاقتصادية والمالية وتحريك آليات سوق العمل والإنفتاح على العالم.. ما سبق يوضح لنا أن رفسنجانى كان قد استطاع الخروج بإيران من مجموعة أزمات كادت أن تعصف بالثورة و النظام بعد وفاة الخمينى، يساعده فى ذلك وجود دائم فى دائرة صنع القرار قبل انتصار الثورة وبعد قيام الجمهورية.

 

 





الخميس١٢ محــرم ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٨ / كانون الاول / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب عبد الستار الراوي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة