شبكة ذي قار
عـاجـل










قـَمَـرُ الكـَـرْخ

( سيرة دربونة بغدادية )

إلى أمي مليكة حمادي وإلى ذكرى دربونة زنْگوّْ .. لوحة التنوير الأولى
( الحلقة الثامنة )


كيمياء السعادة


(1)


الوجود في كيمياء الطفولة السعيدة ؛ يتشكل من الطين الحري (الصلصال) ومن بلورات الماء. خفقات النور .. ومن العناصر الثلاثة أنشأ الصبية على شاطئ القمرية بستان الورد ودار المقامة .. واستعنا على حرارة الصيف القائض بنسمات غربية ناعمة كحرير الـ(الهبريات).. فيما تنبث موسيقى إبراهيم الاعمى في أرجاء الكون .. البلام البغدادية العتيدة تتهادى مابين الضفتين بدلال كما العروس الغنوج ، .. وعلى الشاطئ زوارق صغيرة زاهية التشكيل .. وقد ترسو أو تقلع الـ(گفف) .. تتوالى (الدوبات) منفردة، و (متقاطرةً).. وسفن تأتي وتروح رافعة الاشرعة والاعلام .. يتوقف البعض منها لتلقى مراسيها في (المسناية ) عند شريعة النواب. وهناك على جناح مقهى (البيروتي)، تخفُّ الأصوات، إلا من صياد يقفز فجأة. فرِحا، وهو يلتقط سمكة علقت في الشص أو إنزلقت في فخ (الشِـــباك)!


زمنٌ آخرُ ينهضُ على شواطئ الكرخ ضوءاً ولوناً وحركة، عبر فضاءات رحبة على طول الشريط الساحلي من خضر الياس، ومن شاطئ القمرية حتى الجسر العتيق (الشهداء).
يصنع الصبية عند النهر حياة زاهرة بالأنس ، نلقى أنفسنا في (الشــــطْ)، ونعوم في مياه العصر الدافئة ما بين (الگيش الحلاوي) و(الغريج) .. فيما يشق المشاغبون الثلاثة زهير الحفصة وصبري ومحمد الابنوسي روجات النهر العالية ، ملوحين بأيديهم الصغيرة وقد قاب الثلاثة قوسين أو أدنى من ضفة النهر الاخرى.. فيما كنا ابراهيم ونعيم وربيع وأنا نهاب الروجات العمياء ، ونخشى أن تبتلعنا (السويرة) ، فنخوض في (الگيش الحلاوي) عند الجرف .. وقد ننحدر إلى المياه العميقة بحضور السباحين من فتيان الفحامة ، فنشد على الظهر كرب النخل ونطوف .. وعندما تغلبنا على الخوف تعلمنا السباحة على يد فتيان الدربونة هادي وجبار ومجيد ..
نتبارى، نتقافز، نلعب بالرمل ونرشق المياه بالحصى.. تصحبنا أسرابُ النوارس، .. وحين تمخر الزوارق البخارية النهر .. تصطخب الموجات فتنهال على الشاطئ كما الشلال العاصف ، ثمة تنحسر وتتلاشى ..
وتعرض كل منا إلى تجربة الغرق .. لكننا لم نكن بشئ تلهينا السباحة ، فننسى الاكل ، ولا نأبه بجوع ولا نكترث لقلق الاهل وفزع الأمهات .. نلوّن الحياة من حولنا، مرحاً وضجيجاً، .. وما أن تنصهر الشمس، وتنطفئ جمراتها في المياه.. حتى تفتر الحركة، وينطفئ الصخب، وتحين العودة إلى البيوت، فنخف نهرول صوب الفحامة .



(2)


الشط في الاربعينيات والخمسينيات من القرن الفائت ، كان في أيام الصيف مهرجان عامر بالمدهشات من الوقائع ، وكان الانس بالماء معلقة من معلقات الخلود ، اكتشف الصبية هناك معنى الفرح الأول . تتدفق المرئيات مابين الماء والسماء ، مابين النهر والارض ، تلك اللوحات التشكيلية التي تبدعها الطبيعة ، في إنكسارات الضوء، ومرايا الماء ، وما تؤلفه الروجات المتوهجة باللؤلؤ ، والذهب المسبوك ، والسحب الغافية فوق جسر الشهداء .. وطيور الماء الناصعة البيضاء تتوالى خيوط ؛ الفيروز ، الحنّاء ، النارنج ، الليمون ، وحبيبات الرمان ، النهر في فقه الصبا هو الفرض الأول ، باب الحرية ، بدء التكوين ، وسرّ الخلق ، وهو قانون الحركة في : رفرفة الطير ، حفيف الأشجار ، صوت الريح ، إنسيابية النهر ، هدير الروجات وهو مطر الضوء .


هكذا يفلسف عقل الطفولة ماهية الشط ، خليّة الوجود الأولى ، التي يصدر عنها كل شئ ، وتتحرك من حولها الكائنات .
فتنجذب إلى سحرها العقول والأفئدة ، ببهاء وإفتتان ، فنعدو وراء ظلالنا .. نستلقي ما بين همسات ( الجرف ) الناعمة ، وصخب ( الروجات ) الهادرة ،..ثم نأوى إلى نعيم (الگيش الحلاوي ) . ونحن نهتف :
هذا الگيش حلاوي


وبعد أن ينال من أجسادنا التعب نقضم خدّ التفاحة ، أو ( نكردش ) – شيف – ( الرقي )
ومن حولنا يردد الفتيان أغنية نهر دجلة الخالد :


على شواطى دجلة مُرَْ..
يا منيتي وكت الفجر .. وكت الفجر
شوفو الطبيعه تزهي بديعه بديعه
ليلة ربيعه يضوي البدر .. يضوي البدر
دجلة نهرنه يروي نخلنه
محلى فجرنه لمن يطل .. لمن يطل
يا دجلة الغالي بسحره زهالي

وحبي صفالي وكت العصر .. وكت العصر
ليلة كمرية عالماي ضويه
وكعدة هنيه حتى الفجر
على شواطي دجلة مر
يا منيتي وكت الفجر .. وكت الفجر



صنع صبيّة زنگوّْ ، من صلصال ( حبيب العجمي ) ، أَنصاباً وتماثيل .. وقلاعاً ، وقصورا .. وكواعب أترابا .. وعروساً نافرة النهدين ، واسعة العينينْ . وبساتين يغمرها القداح وورد الليلْ .. تمرح فيها خيل الفحامة .. وشق الصبية في ( الجرف ) أنهاراً تجري لبناً ، عسلاً ، خمرا ....


هي ذي الحرية ، جوهر الطبيعة والطفولة معاً ، توقظ جماليات الكون ، فتنبثق من الحاسة النفسية الفائقة إلى آخر الأزمنة .
و قد بقي الشطّ لدى الصبيّ متعة أثيرة وفرض واجب ، لم يتخلّ عن ميقاته المعلوم عقب الخروج من دوام ( الملاّ ) , فيقبض ذيل دشداشته بأسنانه ، ويعدو مهرولاً ، يتسلق (الدهدوانة ) ، لينزل النهر .. يستبق الوقت ، قبل صلاة المغرب ، .. فيلقي نفسه في المياه الدافئة رفقة أترابه في (زنگو) .. وهو يستذكر تلك الاهزوجة التي كانت تجري على ألسنتنا في الغدو والرواح :


غزاله غزلوكي.. بالمي دعبلوكي
كعدة ع الشط .. كاعدة تمشط
اجاها نومي.. گاللها كومي
هذا حصاني.. اشده واركب
ع السكركب .. سكركب المدينه
ليش تبجي عليه .. ايجي ع حصاني


(3)


يرفرف القلب إثر طائرة الورق الملونة ، (المنجمة) .. محلقا إثرها في الفضاءات الوسيعة ، والمنافسة بين الصبية على أشدها ، تُرى أيّ واحدة من هذا الحشد من الطائرات بوسعها أن تكون الاعلى في السماء ، وتقطع دون سواها المسافات الطويلة.. وحين ترتفع كلها في قلب القبة الفيروزية . يستعد الصبية لخوض معركة التقاطع ((الگصاص) .. عبر الخيوط المنغمرة بعجينة الزجاج .. كان كل واحد منا يُستخدم فى هذه المعركة كل صنوف الحيّل وأساليب التضليل ، نحو : " الرصد ، المناورة ، ، المباغتة ، إلى أن تحين لحظة الانقضاض " .


" وحين تقترب الطائرات من بعضها يجري كل صبيّ منا ، حساب (زاوية التقاطع) والبحث عن النقطة الواهنة لدى طائرة الخصم .. تتوالى الجولات والصولات وتتحول الفضاءات الفسيحة إلى ميدان منازلة فترتفع عقيرتنا بالصراخ مرة وبالصفير مرة أخرى .


.. ثمة من يعمد عند إشتداد حمى (الگصاص) إلى الفرار ، فيحاول الإنسحاب بهدوء ، خشية أن تتصدى لها إحدى الطائرات المغيرة ، فيرخي الخيط ويجعلها تهوي إلى مسافات خفيضة لينجو من الفخ المنصوب . فيما كان عبد الله زيدان قد عزم كعادته أن يخوض المعركة حتى النهاية ، فهو شديد الثقة بنفسه ماهراً في مناوراته، ويعرف كيف يوقع الطائرات المغيرة ويصطادها واحدة تلو الأخرى .
فيلجأ إلى تضليل الآخرين فيوهمهم بالانسحاب بعيداً عن دائرة الاشتباك وكأن الأمر لا يعنيه ، وعندما يطمئن الآخرون بأن الأجواء باتت آمنة ، وبأن الفضاء مفتوح أمامهم .. فيما يعد عبد الله عدته مترقباً ، راصداً . فينقض على الطائرات كالسهم النافذ ، وبسرعة مذهلة يسدد أهدافه بدقة متناهية فيجعلها تهوي متداعية واحدة إثر أخرى.


.. الطيارات نوعان ، نوع سادة بفلسين ، وأخرى ملونة بأربعة فلوس وتسمى ماركة (أسطة بدر).. حملت جيلنا كله من حوض الدربونة وارتقت به إلى السموات العالية ، ونحن نمضي إثر النجوم إرتقاء إلى الحرية . حين تتحول الطائرة إلى ما يشبه طير الحرّ وهي تشق الأجواء . سابحة في الأفق اللامتناهي ..



(4)


إبتكر الصبية لعبة شاعت في الفحامة ، فقد حول يحي عبد الجبار حوض مصباح سيارة اللوري إلى عربة تتسع لمن هو في مثل أعمارنا إذا لملم نفسه وجلس القرفصاء داخلها ، وعند الدفع تنساب على الأرض بيّسر ونعومة .
إلا إن التجارب اللاحقة أفضت إلى إهمال هذه اللعبة لضيق حجمها ، ولصعوبة ضبط الموازنة جراء إنقلابها المتكرر .
لم يتوقف عقل يحي اليقظ عن إجراء تجاربه في الميكانيكا ، كان يحاول الوصول إلى لعب جديدة ، من شأنها إضفاء لون جديد من المتعة على حياتنا، فابتدع هذا الميكانيكي الصغير لعبة (الطرزينة) وهي عبارة عن سعفة نخيل (مقوسة) تم تجريدها من (الخوص) ، وثبت على ظهرها عشرات من أغطية المشروبات الغازية (السيفون) ، لتحدث عند الدفع إهتزازات شبه منتظمة بتأثير طرفها الدقيق المتصل بالأرض .. وكلما زاد معدل السرعة تضاعفت الاهتزازات لتصدر أزيزاً متوالياً . شبيهاً بـ (الطرزينة) بفعل إهنزاز أغطية السيفون ، عند إحتكاك طرف السعفة بالأرض .


(5)


وقد ولعنا لفترة طويلة من صبانا بلعبة المياه الغازية (النامليت ، والسيفون) .
.. لم تزد يوميتي (مصروفي اليومي) في ذلك الوقت عن عانة واحدة ، (أربعة فلوس) ، كانت تؤمن لصبيّ مثلي طائرة ملونة ماركة (أسطة بدر) ، أو احتساء قنينة (سيفون) بفلسين فقط ، وبالفلسين الآخرين إبتياع (بيض اللقلق) أو حلوى (شباك الكاظم) .. فيما بقيت لعبة السيفون هي الأثيرة لدي واستحوذ الاهتمام بها على الصبية أيضاً ، ونحن نتبارى فيما بيننا ، أينا يتغلب على صاحبه من خلال (خضّ) الزجاجة خضاً متتالياً ليدع المياه الغازية تأخذ أقصى مداها بفعل قوة الغاز المندفعة ، فتنسكب المياه على الأرض في جريان متدفق ، حتى يتوقف ويستقر ، والغلبة في العادة لمن تجاوز الخط الذي انتهي إليه الأول . .


(6)


ما بين دار إبراهيم الجرمط وبيت زيدان تلعب الصبايا (طمة خريزة) وهناك في رأس المدور ، المازة ، غنية ، فكتوريا ، نهودة ، يتشاغلن بلعبة (الصقلة) .

.. فيما تتبارى سنية ، ضوية ، مديحة ، في قفزات عجولة فوق مربعات (التوكي) .
.. على الجانب الآخر زهير ، صبري ، محمد الكسار، وأنا نتبادل أدوار الختيلة .. وإلى جوارنا فوضى يحدثها رشودي ، وهو يواصل صراخه في وجه رحيم ومزهر معانداً بأنه الفائز في (الجعاب) ، فقد إنتصب (الكعب) ووقف (أللّجْ) !

 

 





الاثنين١٦ محــرم ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق ١٢ / كانون الاول / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الدكتور عبد الستار الراوي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة