شبكة ذي قار
عـاجـل










قـَمَـرُ الكـَـرْخ
( سيرة دربونة بغدادية )
إلى أمي مليكة حمادي
وإلى ذكرى دربونة زنْگوّْ .. لوحة التنوير الأولى
( الحلقة التاسعة )


أيام الملاّ
( الجزء الاول )


**


(1)


بين الخامسة والسادسة أنشد الصبيُ الأبجدية بإيقاع مقارب للحداء . وتعلم مهارات الاتصال الأولية (الحروف والأرقام ) ؛ فأنشأ بعض الكلمات القصار . ورسم صورة الخط المستقيم وأظهر الاحترام للـ (خلفة) والتبجيل للملآ . و عند إنقضاء صرفة العصر هزج مع رفقته؛

ياملتنا صرفينا .. راح الوكت علينا
شموسنا غابت .. ورواحنا ذابت


**


الانتقال من التلقين والتعييّن ، من الطريقة الإملائية المباشرة التي تقوم على مبدأ (أرى) ، (أسمع) بوصفهما مدركات حسية إلى خطوة منهجية تالية ، محاولة لتعقل مفاهيم ما وراء النبأ يتجاوز تفسيرها : المتعيّن ، الملاحظة ، التجربة ، الظاهرة المباشرة .


(2)


جزء عمّ ، لوحة معرفية لما فوق الدربونة ، وعبث الأزقة ، والانشغالات الصغيرة ، أطل الصبيٌ على الجزء الغائب من (الحكمة المتعالية) . باستظهار (عمّ) والأجزاء اللاحقة والإصغاء اليومي لمواعظ (الملآ) ، بدا الكون لأول مرة كما لو كان سطحاً مستوياً مؤلفاً من خطين متنافرين ، كل واحد منهما يسير بأتجاه نقيض للآخر : صراع الاضداد يتوالى مابين ؛
الجنة – النار
المؤمن – الكافر
الوعد – الوعيد
الخير – الشر


(لابد أن نتمسك بالخير للفوز بالجنة والفردوس الأعلى ، ونعزف عن الشر بالأدعية والصلوات ) نطق الشيوخ الثلاثة (حماد ، حميد ، عباس) بلسان واحد :
- الحق هو الحقيقة الأولى .
- الدين المعاملة .
- الإيثار جوهرة الإيمان .
- لا تؤذ أحداً .
- المحبة من نصيب النفوس الكبيرة .


(3)


إزاء قيود وصرامة النظام التي كرسّها الملآ حماد في متابعة الحفظ ومراقبة السلوك والدوام لعموم الدارسين ، فإن تجربة الصبيّ اللاحقة لدى (ملآ حميد) تكاد تكون أخفّ وطأة وحرة نسبياً ، رغم وجود الخصائص التربوية المشتركة التي عني بها الشيخان ، فكلاهما أوْلى إهتماماً خاصاً للنواحي الروحية والاجتماعية، وسعيّا دائماً إلى إيقاظ الحسّ الداخلي ، والحث على اللياقة الأخلاقية ، الطاعة ، الصدق . ولم يهمل أيّ من الشيخين التأكيد اليومي على نظافة الأبدان ، والالتزام بمواقيت الصلاة .


(4)


ما إن نلج باب الملآ . حتى يأخذنا الحالُ وَجْداً وحنينا ، إذْ يورق في قلب المحراب ..
صوت جلال الدين الآتي بالشجنِ الأبهى، (والفجر وليالٍ عشر ..) فيصير مجاز المسجد دنيا أخرى .. أو كوْناً ممدوداً للآ أين .. فتذوب المرئيات بددا ، يأخذنا الحال صوب مقام القُرْبْ
إقتادني أبي ذات صباح إلى (ملآ) حماد في أواسط الاربعينيات ، بعد أن أقنعته أمي بأن إنضمامي إلى الملآ وتعلم القرآن وحفظه أجدى من إضاعة الوقت في الطرقات ، وأعظم أجراً وثواباً من المدرسة.
وهكذا ، فبدلاً من أن أصعد (الدهدوانة) إلى مدرسة الزوراء مع أترابي، ولجت باب الملآ لأمضي في رحابها ثلاث سنوات قاربت فيها حفظ واستظهار النص القرآني إلا قليلا .. وتعلمت فيها مبادئ القراءة والكتابة ، ولعلها كانت بادئة الميل إلى الدرس ، والولع بالكتب والأوراق والأقلام .


(5)



أسابق شمس الصباح ، سعيدا جذلا .. وقد حملت بـ(العليجة)، قرآنا وخبزا وتمرا .. تطوى خطواتي الأرض ، كما لو كنت ذاهباً لرحلة استجمام ، أشق طريقي نحو الملآ عبر الحصانة ، وعند المرور ببيت (الدشغلي) تفزعني توابيت الخشب المسندة على جدران الدار، وكأنها ترتقب الموتى ، فأغضّ النظر ، وأحاول تجاهلها ، ولكن المرور بها في الرواح والمجئ ، لأربع مرات في اليوم الواحد جعلني أعتاد عليها أو أتناساها ، ..


وقد نتوقف عند (جمبر) حمزة الأحمر لشراء بعض الحلوى الرخيصة .. ثم نواصل الطريق صبحى ويحي وأنا، فنجتاز گهاوي عكيل ، ومقهى ياسين، ومقهى إرحيم ، بعدها ننفذ إلى الزقاق المفضي إلى الملآ .


أتخذ مكاني بين أقراني متربعاً على (بارية القصب) الصفراء ، تصطخب بعد حين اجواء الطرمة بـ (الهمهمة) و(الثرثرة) و(الاستذكار) يحركون جذوعهم ورؤسهم يميناً وشمالاً بإيقاع واحد ، يستظهرون السور ويحفظون الآيات بطريقة شبه آلية .


فجأة يتبدد ضجيج الأصوات تصير همساً خفياً وتتوقف الحركة .. ثمة يسود صمت مطبق
كأن الطير يقف فوق رؤوس الصبية لقد حضر ملآ حماد!


يمسك بيده عصا وأي عصا ، والملا حازم وشديد لا تأخذه رأفة بمشاغب ولا يرق قلبه لكسول، يتابع كل صغيرة وكبيرة ، شاردة أم واردة ، لا يتهاون ولا يتردد في إنزال العقاب ، فصلابة شخصيته وجديته المتناهية في الضبط والربط ، كل ذلك جعله مهاباً في عيون الدارسين ، فلا يجرؤ أحد في حضوره ، أو أثناء وجوده على القيام بأدنى مخالفة ، والويل كل الويل لمن يتسبب في إغضابه وإلا فعقابه مرّ وغليظ .


وقد نال الصبي ما ناله جراء تهاونه في استذكار سورة واستظهار أخرى ، فحرمني في المرة الأولى من (صرفة) الظهيرة ، وفرض علي (الحجز) في حجرة (الأجزاء القديمة) . وإذا رق قلبه في الواقعة الأولى ، وخصني بشيء من طعامه ، فإن سورة غضبه في المرة الثانية انتهت بي إلى العقاب الاليم بـ (الفلقة) . وما أدراك ما عذاب الفلقة كأنها لسعات نار موقدة . عندما اقتادني الخلفة (ماجد) إلى الملأ حماد بسبب إهمالي في استظهار إحدى سوّر جزء (والذاريات) .


.. عبس الملأ فور سماعه قول الخلفة ، صرخ في وجهي (إنت جاي تلعب لو تتعلم؟) أفزعني الصراخ وشلت أطرافي ، لم أستطع أن أحرك لساني ، وكأني ألقمت حجرا .. لم ينتظر الملا طويلا ، فصاح بصوت غضب ، احضروا الفلقة .


إستحال الفزع هلعا ، والصمت الموجع صار عذابا ، وأنا أتلقى الأمر صاغراً وحسيرا. لكني أدركت بأني مذنب ، أمضيت الأيام لاهياً في اللعب والسباحة ، دون اهتمام للواجب المطلوب .. بل وحاولت التمرد على الخلفة نفسه ، لأفلت من قيود التحضير اليومي .!!


أحْضِرتْ الفلقة على عجل. فرفعت الأقلام وجفت الصحف ، وجاء ميقات الحساب . وانتظم الصبية والأولاد في دائرة (الفرجة) لمتابعة مشهد العقاب العظيم، وتدافع الزبانية الشداد ممن امتهنوا تنفيذ العقوبة ، الذين اختيروا بعناية فائقة لمثل هذه الساعة ، أفردت حبال الفلقة وأدخلت قدمي فيها ، وأنا مستلقٍ على قفاي . . مامن عضلة في جسدي إلا وكانت ترتجف والوجع بدأ يتسلل إلى أوصالي قبيل بدء التنفيذ ، شعرت أن مرارة شديدة تملأ فمي ، بعد أن جفَّ لساني .


نزل الملأ من المنصة يحمل الخيزرانة ، الذائعة الصيت بـ(الحجية) تم ربط قدمي من الرسغين ربطاً محكماً بحبال الفلقة وبدت كما لو أنها حزمة متماسكة . رفعت قدماي إلى الأعلى، الواقفون عيون مرتقبة بين الإشفاق ومتعة الفرجة .


هوّتْ خيزرانة الملا كما النار تلسع باطن القدمين ، أعقبها وجع ممض ، ثم خدر بعد الضربات المبرحة الخمس ، ولم أعد أشعر بشيء ، وكأن قدميً انفصلتا عن جسدي .
عند هذا الحد كفت يدّ الملا عن الضرب ، وقبل أن يعود إلى ارتقاء المنصة ، وجه كلامه إلى الزبانية : إرفعوه عن الأرض, وألقوا به على البارية .


أحسست لحظتها بوخز نظرات الرفقة والأتراب ، كانت أشد إيلاماً على نفسي من أوجاع الفلقة.. لم أعد أطق البقاء ، تحاملت على نفسي ، وغافلت (الملأ) والخلفة ، وتسللت هاربا، وكأني أحاول الفرار من نفسي اللّوامة . وعدت إلى الدار مهموماً ، أنا أتلوى من الالم ، رويت لأمي ما نالني من عذاب الفلقة . كادت أن تبكي وهي تحتضن قدمي المتورمتين .. وهي تعيد حديثها الأثير :


" .. من غيرك يا ولدي سيقرأ القرآن على أرواحنا وعند قبورنا عندما يحين الأجل ويطوى الكتاب ؟!
أبوك وأنا ندخرك لآخرة أعمارنا ، فلتكن صالحاً ، باراً بنا .. فإذا لم تعد إلى الملأ وتتم ختمة القرآن ، فإنك تتخلى عنا ، وتخرج عن طوعنا .
".. قم الآن ، واغسل وجهك ، وسأصحبك للملا غداً ، وسألتمس أن يعفو عنك .."
لا تنسّ فإن (عصا) الملآ هي من شجر الجنة !!.


.. أحّيا صوت أمي الحزين عافيتي النفسية ، فقد نفذ حديثها إلى قلبي ، وأعاد السلام إليه .


مثلت في اليوم التالي بين يدي ملأ حماد ، وبدا هذه المرة حانياً عطوفاً ومعاتباً .. وهو يستثير حميتي على تجديد العزم ، لحفظ واستظهار الاجزاء لأظفر بـ (الختمة) .
وآمنت بيقين بأن العقاب الذي أنزل بي ، كان عادلاً ، جزاءً لتقصيري واهمالي ، يتعينّ عليَّ أن أتقبله راضيا. وفي كل الأحوال فإن ما حدث لم يمس أو يشوّه الصورة الوضاءة للشيخ الجليل ، فبقدر ما كان حازماً وصارماً في السلوك والدروس ، فإنه كان أيضا مشرقاً بهيّ الوجه ، وقد اكتشفت ذلك عندما صفح عني ، وكان سبباً كافياً لأن يشعر الصبي بأبوته الحانية ، منذ تلك اللحظة التي رّق فيها قلبه وأطعمني من زاده ، في وقت كان يفترض فيه أن أحرم من وجبة الغذاء جراء إهمالي والآن وبعد انقضاء كل هذه السنين ، اعترف وإلى أخر يوم في حياتي بفضل ملا حماد الراوي والامتنان لأستاذيته القديرة والذي ظل لأمد طويل المعلم الأول في الكرخ ، تخرجت على يديه عشرات الأجيال .


من الصعب مكافأة مآثره التربوية والتعليمية ، فقد منحني وغيري من الدراسين الكثير من الرعاية والاهتمام ، فكان يحرص على امتحان كل واحد منا للتحقق من حفظ واستيعاب النص القرآني جزءاً إثر جزء .


وخصص صرفة العصر الثانية لتعليم جموع الدارسين الخط والكتابة ، وباشر بنفسه متابعة هذه العملية من الألف إلى الياء ، وقد ظفرت ومئات من الدارسين على يديه بهذا النوع من المعرفة ، وزاد على هذا البرنامج ، بحصة (الحساب) ورسم الأرقام وانتهى بنا إلى العمليات الأربع .


.. وعلمنا بنفسه الخط العربي بمستوياته المتداولة ، وكان شديد الاهتمام بنظافة الدفاتر وحسن الخط ، وكتابة الواجبات البيتية وكان حريصاً أن يتولى شخصياً التدقيق والفحص والتصحيح .


ولكم تمنيت أن استظهر القرآن بكل أجزائه ، وسعيت إلى (الختمة) التي كانت تعني بلغة عصرنا الحالي (شهادة تخرج) يرتقي من يظفر بها إلى درجة علمية جديدة ، قد تؤهله ليظفر بلقب (خلفة) المساعد الأيمن للملا .


أذكر أن صبياً من زملائنا من محلة (الفلاحات) اسمه عبد الله ، أتم حفظ القرآن ، فأقيمت له مراسيم (الختمة) ، وكانت احتفالية كبيرة ، كما لو كانت حفلة زفاف .
وفي العادة يجري الإعداد لمثل هذه المناسبة بوقت مبكر ، بين الملا وأهل الصبي المحتفى به


وغالباً ما يكون موعدها يوم الخميس ، فيأتي الصبي مرتدياً دشداشة جديدة بيضاء اللون يضع على رأسه (غترة) و(عقالاً) مقصباً بعضود ذهبية .
يباشر الموكب حركته من باب (مسجد كيتخدا) بخطوات وئيدة بمصاحبة (الدمام) ونغمات (المزيقة) ، يحف الدارسون بالمحتفى به ، ويتقدم الصفوف إلى جواره الملا وأولو أمر الصبي (الوالد وعدد من أفراد عائلته) . يملؤهم الزهو والفخر .


وعلى امتداد الطريق يبادر الناس بتقديم التهاني والتبريكات ويحيطون الصبي بعبارات الثناء .
ويرّدد الموكب طبقاً لنغمات الطبول والمزامير نشيد الختمة :
الحمد لله الذي تحمدا
حمداً كثيراً تحمدا
كلم موسى واصطفى محمداً
وأنزل القرآن نوراً وهدى


يمر الموكب بالدروب ، ويشق زحمة أسواق (علاوى الحلة) و(الشيخ صندل) و(العجيمي) ..
وتزغرد الأمهات ، وتجلجل (الهلاهل) في الأنحاء ، فيما يتواصل الإنشاد .
يتوالى (طش) الملبس ، ونثر (الشكرات) فوق رأس الصبي الذي يبدو سعيداً كما لو كان (عريساً) .
عندما استعيد الآن ذكرى (الملا) في مسجد إسماعيل كيتخدا جوار سوق حمادة ، تمرّ بذاكرتي العديد من الصور والأصداء ؛
حجرة جانبية لصق الطارمة خصصت لحفظ الأجزاء القديمة والمتهرئة تعبق أجواؤها برائحة المسك والزعفران تنبعث من أكوام من المصاحف الصفر التي أصابها البلى .
ثمة بئر عميقة لا قرار لغورها تحت السدرة الباسقة .


قال الفتية القدامى : استخدمت البئر في الزمن البعيد لإخافة الكسالى والمتمردين ، من قبل أحد خلفاء الملا الذي كان يتهدد الدارسين في غيبة الملا حماد ، وقد تمادى في قساوته إلى الحد الذي جعل عدداً من الدارسين يلوذون بالفرار ، ولم يعودوا ثانية .


الفلقة التي أصابني شيء من عذابها ، لم يك الصبية الآخرون في منجاة منها ، فلم يسلم من إيلامها أحد منها إلا نادراً ، فقد مدً الغالبية منهم الأرجل واحكم وثاق الأقدام ، فاصطليت ناراً بتلك العصا الخيزران (الحجية) الناعمة الملساء ، كما لو كانت حية تتواصل لسعاتها بيد الملا فتشوي باطن القدمين ، لا يوقفها صراخ ولا يخفف آلامها اللاهبة بكاء أو توسلات .
وعند الانتهاء من احتفالية العقاب ، يتدحرج المعاقبون ، على بطونهم ، لا يقوى أحد منهم على الوقوف ، فيشق عليهم المشيِِّ إلا بعد حين .
يبقى مسجد كيتخدا في الذاكرة رمزاً ندياً مفعماً بالوداعة والسلام .


ثمة أسراب من الفخاتي ، تنزل قبيل العصر باحة المسجد ، تتهادى فوق الطابوق الفرشي الأصفر، وتحط جوار البئر وعند حباب الماء ، تثب ما بين الحرم والسدرّة والشرفات، تبعث بهديلها الشجيّ إلى كل الازمنة .. ويتلفت الفؤاد مابين المحراب وباب ( القرآن) ويرنو إلى مابقي من ذكرى تلك الايام ، فتستعيد الذاكرة البصرية ؛ النخلة السامقة ، والحصران الذهبية ، ومنصة الملا الحائلة اللون ، ووجوه الصحبة ، وأكاد إلى الآن أشم رائحة المسك المنبثة من حجرة (الاجزاء المهترئة) .. وبرغم تقادم العقود وتراكم السنين، يظل الملا حماد الراوي صورة وضيئة عالقة في قلب الصبي ..
 

 

 





الاربعاء١٧ صفر ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق ١١ / كانون الثاني / ٢٠١٢م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. عبد الستار الراوي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة