شبكة ذي قار
عـاجـل










قمر الكرخ

سيرة دربونة بغدادية

إلى أمي مليكة حمادي وإلى دربونة زنْگوّْ لوحة التنوير الاولى

الحلقة العاشرة

مغامـرات الطفولة

 

-1-

غابات الخوف

 

توغل عقل الطفولة في محيطات المجهولات المشتبهة ، لجرد الوقائع الموضوعية وعزلها عن الأخيّلة والتوهمات .

المخلوقات الخرافية التي استولدها الخيال الشعبي الطليق (الرفش،  الجنّي ، الخناس ، فريج الأقرع ، الغيلان ، الاشباح ، الخ)  ليست وحدها الشر المستطير المهدد للوداعة الإنسانية ، فثمة كائنات أخرى تحتشد بها أخيّلة الطفولة ، تأتي أفعالا  خارقة  تتجاوز فيها الطبيعة وقوانينها المطردة .، مما ضاعف فضولنا الطفولي، ونحن نقترب بخوف وحذر من الأزقة المظلمة والخرائب والبيوت المهجورة ، محاولة اكتشاف الضفة الغائبة من حولنا..

 

(2)

 

لم يكفّ عقل الطفولة عن مغامراته ، فيصعد بالريبة المضطربة إلى أفق الأسئلة :

لم يخرج من هذي البئر ملك صالح ؟!

ولماذا (الروح ) تخرج في ظلمات  الليل ؟!

من رأى تلك الكائنات ؟!

ولماذا لا يراها الآخرون أيضاً ؟!

.. وتستمر السجالات  الطفولية .

 

الصعود إلى الليل ،  التخلي عن اللهو و اللعب ،  والخروج من وقائع النهار ومن الانشغالات اليومية،  مرويات جدتي ، فالمساء الشتائي  يبسط مائدة عامرة بالمسامرات ، تحلق فيها الطفولة بشغف لذيذ إثر  وأخيلة الطفولة  تتآلفان سويا ، يبتكران  طقسا رماديا في السرد والإصغاء  في البحث عن الضفة الغائبة للعالم  ،  الليل  الشتائي كان نقطة الشغف الآسرة في الإنتقال المغامر من دنيا الموجودات  المرئية إلى الميتافيزياء السحرية ،  ونحن نجوس  غابة المردة  والابالسة  والشياطين ،  وما تدخره الظلمات من  كائنات غامضة وما كانت تدلي به (خوفة ونوفة)  عن الارواح الهائمة والبيوت المسكونة  بالاشباح ..

 

(3)

 

الخرافة  مرحلة تحياها  الطفولة  وتعمد لاشعوريا إلى تشكيل وصياغة صورها أو إعادة إنتاجها طبقا للمدخلات من الدعاوى والحكايات،  لذلك يعد  هذا الضرب من  ميثولوجيا الخرائب والأمكنة المهجورة ،  جزءا  من ثقافة الطفولة  في البيئة الشعبية التي تغرق دروبها في الظلمة بعد مغيب الشمس ،  ويبقى (الفانوس) وأدخنة نار المنقلة هي كل تجود به  ،  في دنيا الاربعينيات  ، عدا ما يبتدعه المخيال الشعبي من مخلوقات خرافية؛ هائلة الحجم،  شديدة البأس ، فالطنطل مأواه  في (طمة) حمام شامي يتراءى للصبية مديد القامة والأطراف عملاقاً.، والبعبع لفظ يخوفون به الصبيان. حيث يقال للصبي: " هسه ياكلك البعبع " ؟!، صرفاً عما يريد من شىء، ونخويفاً له وتحذيراً..

 

والسعلوة  أنثى الماء الدميمة  التي إنتزعت الفتى منعم النمنم من قاربه ، واتخذته  زوجا لها ، وبقي في أحضانها تسع سنين ، ، وحين تمكن يوما من مغافلة السعلوة  والافلات من قصر الماء ،  عاد النمنم إلى أهله هرما عتيا وقد اشتعل رأسه شيبا  كانت تلك رواية  حمزية  تنسب لواحد من جدودها الاقدمين .. وغيرها من موحشات القصص المثيرة  عن سيدة الليالي ،  ويليها  "الرفش، ، وفريج الاكرع" ، وثمة رصيد متراكم كان يدخره بريسم  عن البقاع الموحشة،  وما تتدفق به من  كائنات ماورائية ،  مفارقة للظواهر المادية  وما فوق الحواس الخمس ؛ سلسلة من  روايات الرعب ، المعدة بشروط الحبكة الدرامية وبعناصر الجذب والإبهار  ، فألفنا كائنات مزودة بقدرات فائقة، تأتى أفعالاً عجائبية. بوسعها  أن تقلب الظواهر على رأسها ، وتعيد تصميم  نظام الاشياء ، ولعل تعلقنا الطفولي بهذه الكيمياء  السحرية، أوجد حياة موازية  للواقع اليومي ، فلم يكن التلقي لهذه (الحكايات) والتي تدور معظمها حول (الجن والأرواح والأشباح)، هو تحقيق الدهشة وحدها، أو الإكتفاء بمتعه الإصغاء لما هو مثير ولامعقول، أو إستشعار مغامرة الخوف (اللذيذ). لكن الامر الاشد وقعا وإثارة   هو ولوج الضفة الأخرى من العقل. أى  الفضول المعرفي في  الإستقصاء، والتحقق، ووضع كل المنقولات والمسموعات ، بين كفتي (التصور والتصديق) حسب تعبير الفارابي،  وقد أفضت هذه الثنائية المؤرقة  إلى  إلقاء الأسئلة الحائرة على أولي الامر ، ومطالبتهم  بالرد الشافي عليها، قيما لم تتعد  الاجوبة ، إعتبارات الإيمان الشخصي ، والبديهيات الاجتماعية المتداولة ، وقد يكون ذلك كله شكل دافعا لدى الصبي للبحث فيما  وراء اليقينيات المنزلية ،  تنتهي به إلى أحد سبيلين إما (عقلنة) العالم، أو الوقوع تحت سحر الأساطير ..

 

(4)

 

حاول الصبيُ اختبار نصوص (منقلة ) الشتاء ، فكان يرنو إلى (البئر)  مترقبا،  إطلالة (الملك الصالح ) ؟! . وطال زمن الإنتظار ،  لكن الكائن النوراني لم يأت  ..  ليال متتالية  لا تحصى لا يُعرف لها عدداً.. والصبي يلازم الشباك  الحجرة ويسدد النظر صوب فوهة (البئر)  لكن البصر يرتد حسيرا .. ترى أي الوسائل بمقدورها أن تحول المجهولات إلى معلومات للتحقق من وجود (ملك الصالح) ؟!

 

قالت فطومة الظاهر ؛ انه يقيم في قعر البئر،  قائما يصلي  في الجوف الغائر..  لكنه يقظ القلب ، لا يهجع  ولاينام ، ولاتبتل ثيابه ، ويظهر في آخرة الليل ، يبارك الدار ، ويطوف بأرجاء  الفحامة ..  كان الملك الصالح ،  القابع في بئر البيت ، واحدا من بديهيات الايمان  لدى أمهاتنا ، ..  وسمعت حمدة المحنة  تقص  بإسلوب روائي مثير ، حكاية الملك الصالح ، وهي تتحدث عن مآثره المباركة ، وتصف بإعجاب هيئته المهيبة ،  وتنشغل  في سرد أدق التفاصيل، فالملك  محاط بهالة ناعمة  تضئ المكان كله،  يرتدي ثياب ناصعة، ذات أكمام وسيعة ، تتدلى على صدره  لحية طويلة بيضاء، وعلى محياه إبتسامة  لاتغيب ، ووجه  مشرق .. وعطر يعبق برائحة الجنة ينبث في المكان كله  .

 

بهذا المنطق المتعالي ،  أضفَت المخيلةُ البغدادية صفة القداسة على (بئر البيت)، وبالمنطق المتعالي نفسه ، كان الإعتقاد بأن الخير كله  في عتبة الدار ، لوجود (مَلَك صالح) يرقد في قاع البئر. وقد نسجت العديد من المشاهد (الحسية) عن ظهور الملك، وعن تجواله في أرجاء البيت..  ميقاته الفجر ،  يتوضأ بماء الورد، ويقيم الفرض الاول.. ثم يعود من حيث أتى. وهو مشرق المحيا ، وضّاء الجبين  ، وهو عنده أهل الدار مبعث الأمن والسلام.

 

(5)

 

دشن صبية زنْگوّْ خطوة  جريئة  في النزول إلى الواقع حين  إقتحم  الصبيُ الابنوسي  محمد الكسار ؛ أرض الموت ،  إذْ ولج  في الليل الداجي ؛ مقبرة  الشيخ معروف الكرخي ،  باحثا عن (الغريرية) ، متنقلا بفانوس صغير بين الاضرحة  والمراقد ،  وفي الاغوار  وشقوق الاسوار ، وحاول عبثا ، لكنه  لم يرها ولم يعثر على أي أثر لها ..  وانتقل الصبي المقدام  في الليلة ذاتها  إلى مقبرة التل الاحمر  وارتقى الهضبة ، ونزل  منها ، ومضى  بكل ثبات بين القبور المتراصة ، وفي الظلمات الموحشة وهو يبحث عن (القارضة الدميمة) بين الحفر والترائب ،  لكنه عاد باليقين المؤكد ليخبرنا بأن  الغريرية  كانت  جرذانا هائلة الحجم  .. قطعانا فزعة  تتراكض في أرض الموت   .

 

(5)

 

وضع صبري علي العـگلة  المقولات الشائعة عن (الخناگ) في مربع الشك ، فاجتزنا برفقته غابة  الخوف .. وواصلنا الطريق إلى ما وراء (الجعيفر) لإجتياز الفاصلة العميقة  بين الواقع المتعين ومرويات الامهات  .  العواقب اللاحقة على ارتياد الأمكنة القصية (الجعيفر - المنطگة ) كانت تجربة عميقة الدلالة والمعطيات ، فقد أسقط الصبية بقيادة الفتى صبري جزءاً من الدعاوى الشائعة .  ففي  أواخر الأربعينيات ؛ أقدمنا على مغامرة  استقصاء حقيقة (الخناق) ، فانتظمنا كما القافلة (انعيم ، ربيع ، يحي ، زهير ، محمد ، عبد الله ، وأنا ) فيما يتقدم صفوفنا صبري ، وهو يضع خطوته الراسخة في الطليعة دائماً .

 

اجتزنا (الفحامة) الشيخ علي ، المشاهدة، الرحمانية ، الجعيفر،  مررنا بغابات النخيل والشجر الظليل ، اندفعنا وراء صبري بين البساتين ، نشم عبق الرياحين ، ونلتقط الثمرات،  انحدرنا إلى ضفاف دجلة جذلين . وطفقنا نرمي (الحصا) إلى مديات الماء ، ثمة نلج غابات الجعيفر ، نتراكض فنسابق الطير ، ونعدو إثر العصافير ونضمّ براحة اليد فراشات البساتين ، ونعبث بشقوق الطوفات ، فتنفجر في وجوهنا (كورة الزنابير) ، فنلّوذ بالفرار ، ننحدر مرة أخرى إلى النهر ، نمدّ أعناقنا بلهفة آسرة جهة (الجسر الحديدي) ، لعلنا نحظى برؤية القطار الذي سمعنا به ، ولم يره أحد منا بعد . ألقى صبري موعظة الشجاعة ؟!

 

"..لابد ان نواصل البحث عن الخناق الملعون ، فقد كدنا نقترب من - المنطگة - فمن كان خائفاً ، ضعيف القلب ، فليعد من حيث أتى ، قبل أن نقتحم مأوى الخناق . ومن أراد أن يمضي معي حتى النهاية فليرفع يده "

 

اختلطت في صدر الصبي الرغبة بالرهبة ، وما بين روح المغامرة والتوق إلى المجهول، والمخاطر المحتملة . اخترنا الوقوف إلى جوار صبري .. والتئم الجميع من حوله ، .. ومضينا .

 

على حافة البساتين ، توارى العشب ، وتناءت الأشجار نضرب أقدامنا في (الجول) ، الذي بدا موحشاً ، تذكرنا قصص الليل ، فاشتدت بنا العزلة ، وليس إلا صدى خطواتنا المضطربة، وقلوبنا ، لم نعد متباعدين ، فقد اقتربنا من بعضنا، كتفاً بكتف، ويداً بيد ، ننقل أقدامنا بحذر وقلق . تسمرنا فجأة قبالة دار مهجورة خربة تقدم صبري وتبعه محمد الكسار ، انتزعا بقوة الباب الصدئة ، ألقيا بها أرضاً ، وغابا زمناً، فازددنا توتراً وأصبنا بالذعر بعد أن ظن البعض بأنهما سقطا في فخ الخناق كدنا نفرّ ونعود من حيث أتينا، لولا أن أتانا صوت صبري الذي لا تخطئه أذن أيًّ منا ، ينادي :

 

تعالوا .. تعالوا .. انظروا هذا هو المكان الذي قالت الناس بأنه مأوى الخناقين

وولجنا الدار المهجورة :

 

تابع صبري القول وهو يؤمئ بيده :

" لا يوجد أحد ، إلا الجرذان المذعورة لا أنس في الدار الخربة ولا جان " .

هيا نمضي نحو الجسر .

حملتنا الأشواق وحمّى النصر .

 

واجتزنا قوس الجسر الحديدي ، ونفذنا حتى جئنا جامع (براثا) آوتنا السدرة الكبرى وضحكنا صفقنا ، مرحاً ، فرحاً فقد اجتزنا خط الخوف ، لكن الوقت في (عز الظهر). واقترب الصبية من أسوار براثا ، وازددنا في تلك الرحلة علماً ، بالجول ، وبالجسر ، وبـ (المنطقة) الواسعة الأرجاء ، وبدار والموت . هي ذي أيضاً مقبرة أخرى ، لم نعرفها من قبل .

تطوى تربتها مئات الموتى ، وتمشينا تحت ظلال الدفلى ، بين الأضرحة ، وقرأنا فاتحة القرآن ، واجتزنا الأسوار ، وعند صلاة العصر عدنا .

 

(6)

 

أشاعت منقولات الليل بأن  الخرائب مأوى الجن تختبئ تحت ركامها ، وتنسل في العشيات المظلمة أشباح هائمة وأرواح ضاجة وقيل أن (الطمّة) هي المكان الأثير التي تنبث فيها تلك المخلوقات، فأتيناها ليلاً ، وتجولنا حول تلال (الأسباخ) .. وأفران النار .

 

لم ير أحدٌ منا إلا العتمة والصمت .

وطفقنا في ليل اليوم الآتي ، نبحث في الأرض المسكونة ، وفي الطرقات المنسية ، وعن الأمكنة المنزرعة في الظلمات واقتربنا من المنازل البائدة ، ووقفنا وسط الخرائب ، ونحن متأهبون كل منا يضع طرف دشداشته بين أسنانه ، متحفزون للفرار، إلا الصبي ذي الوجه النحاسي الصلب  صبري ، الذي أبى أن يشاركه أحد متعة الأقدام ، فاقتحم لوحده مهاوي الفزع المقيم ، وهو يصيح بأعلى صوته :

 

" هيا ، اخرجوا من جحوركم إن كنتم حقاً موجودون ، هأنذا اتحداكم .

فاخذنا نردد وبصوت واحد :

" ياربعي لا تخافون .. تره الكاع  مسكونة "

 

بعد أن كاد الرعب يأكل أكبادنا !

 

عبد الستار الراوي – البحرين .

 zangaw41@yahoo.com

 

 





السبت٢٧ صفر ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢١ / كانون الثاني / ٢٠١٢م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. عبد الستار الراوي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة