شبكة ذي قار
عـاجـل










الأسلام هو منظومة قيمية ونظام حياتي متكامل يهدف الى تحقيق العدالة الاجتماعية، وفك الاشتباك الحاصل بين الحق والباطل، والعدالة والظلم، والفردية والجمعية، التي أحدثها الانسان كي يستحوذ على ما ليس له من حقوق. أي أنها مبادئ ترفعت عن الواقع وجاءت علاجا لعلله. الأسلاميون جزء من الواقع بكل علله وأمراضه وهم معنيون كغيرهم بتلقي العلاج الذي جاء به دين الأسلام. الأسلام ليس هو تيار الأسلام السياسي المعرّف بأحزابه وتنظيماته العلنية والسرية، الراديكالية والاعتدالية. فحركة الاخوان المسلمين، وحزب النور السلفي، وحزب الدعوة، وحزب الله وحزب العدالة والتنمية وغيرهم، ليسوا فروعا لإصول الدين الاسلامي الحنيف. لكن الاشتباك السياسي الحاصل في الساحة العربية للامساك بزمام السلطة منذ أحداث تونس وحتى اليوم، هو الذي أدى الى هذا الخلط الغريب والساذج بين المفهومين، فأرتفعت رايات تنادي بالاسلام هو الحل في توجه سياسي بحت يهدف الى دغدغة مشاعر الناس العقائدية، من خلال الربط بين العقيدة الدينية والحركة السياسية، وأعطاء أنطباع بأن الاسلام كدين الذي به الحل لمشاكل الامة، لن تسود قيمه في الارض الا بدكتاتورية أحزاب الاسلام السياسي، وبالتالي فأن عدم تسلط هذه الاحزاب في دفة الحكم، يعني أستمرار حالة الانسداد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي التي تعيشها الامة الى ما لانهاية، وهذا هراء لايستند الى أي واقع منطقي علمي، لأن تجربة أحزاب الاسلام السياسي في العراق مثلا، لازالت تنضح منذ تسع سنوات بالكوارث الحياتية التي لم يعرف التاريخ لها مثيلا، بل هي عززت كل الموبقات التي نهى عنها الدين الاسلامي وجعلتها واقعا يوميا، مثل سرقة المال العام وقتل الابرياء وأغتصاب النساء والرجال وغيرها.


أما من يجادل من أحزاب الاسلام السياسي في التجربة التركية ويعتبرها تراثا شاخصا على مقدرتهم، فهي ليست كذلك لأن هذه التجربة جاءت في سياق تكاملي لا أنفصال فيه أطلاقا. أي أن ماحققه حزب العدالة التركي في المشهد السياسي والاقتصادي التنموي لم يأت من فراغ، بل كانت أنجازاته مستندة على أسس ليس هو بانيها، فهو أستفاد من العلمانية التي حققت أنسجاما مجتمعيا وسيادة قانونية هي من الضروريات الراسخة لتحقيق النهوض الاقتصادي، لذلك لازال أردوغان يؤمن بعلمانية الدولة التي بها حقق الكثير لتركيا ولم يقُل مطلقا أنه هو الاسلام، بينما أختلف معه التيار السياسي الاسلامي في مصر وبقية الدول العربية في هذا التوجه لانهم يصرون على أعتبار أنفسهم هم الاسلام، وأن اللحظة الآنية هي حتميتهم التاريخية مستندين على حدثين مهمين لم يكونوا صُنّاعا له هما: التغيرات السياسية التي حصلت في تونس ومصر وليبيا أولا، والنتائج الانتخابية التي أفرزها الصندوق لصالحهم ثانيا.


أن الاحداث التي حصلت في بلدان التغيير العربي لازالت طرية جدا في الذاكرة، وهي تؤكد بما لايقبل الشك بأن التيارات الاسلامية لم تكن مطلقا عنصرا فاعلا في النزول الشعبي الى الشوارع، وأن من فعل ذلك وتصدى لقوى السلطة كانوا من الشباب الذين لاعلاقة لهم بالتيار الاسلامي، لكن تحول هذا التيار الى عنصر رئيسي في الحقل السياسي، وبروزهم بشكل واضح ومسيطر على الشارع، كان في مرحلة تالية للحراك وليس في أثناء لحظة الشروع، واسباب ذلك هو انهم كانوا التيار السياسي الوحيد الذي بقي محافظا على وحدة موقفه المناهض للانظمة أثناء مرحلة الحراك الشعبي في الشارع، بينما تشتت التيارات السياسية الأخرى في طول الوطن العربي وعرضه، بين من دافع عن الأنظمة وأنحاز اليها بحجة المؤامرة الخارجية وضرورة الوقوف معها من أجل الوطن، وبين من عقدت الصدمة لسانه فصمت لعدم مقدرته على أتخاذ موقف بسبب سطحية التفكير الاستشرافي. كما كان أنهيار مؤسسات الدولة خاصة الخدمية منها، عاملا فاعلا في نزول التيار الاسلامي لسد الفراغ الخدمي والاغاثي معتمدا على خبرتة الطويلة في هذا المجال، وسيولة مالية خاصة به وأخرى وردت اليه من دول خليجية أثناء الاحداث.


أما النتائج الانتخابية التي أفرزت تقدما واضحا لهم في تلك الاقطار فلا يمكن الاعتداد بها، وجعلها في مستوى الحقائق التي لاتقبل التأويل العلمي والتفسير العقلاني، لأن العملية الانتخابية منظومة متكاملة، وأي خلل في أحدى العوامل المكونة لها يؤثر بشكل كامل على النتائج المتحققة منها. فهل شيوع الفوضى والفراغ السياسي والاستخدام الاحادي لوسائل الدعاية أبتداء من المسجد وحتى القنوات الفضائية، التي تمجّد أتجاها سياسيا واحدا وتُرغّب وتُرهّب في سبيل التصويت له، هي ظروف سياسية ملائمة لتحقيق عدالة التصويت وصواب النتائج؟ وهل هذه النتائج هي حقا مقياس واضح لاتجاهات الرأي العام في تلك الاقطار؟ يقينا لايمكن لأحد الجزم بذلك في هذا الوقت بالذات، لأن الدول ذات البنى الاجتماعية المعقدة ومنها أقطارنا العربية، لايكون فيها الحصاد السياسي شفافا خاصة في المراحل الاولية لحالات التغيير، وأن الوصول الى النتائج النهائية يتطلب وقتا كافيا قد يطول، لأن الناخب الشرقي في الحالات الاولى من التغيير وبسبب عدم أمتلاكه الوعي الديمقراطي، يكون مسكونا بمكافأة الآخرين من ناحية عاطفته الشخصية وغرائزه الدينية أو القبلية، ولايفكر في أستخدام هذا الحق لمصلحه مستقبلية وطنية. لكن ذلك لايعني بأي حال من الاحوال بأن التيار الاسلامي ليس جزءا من الحركة السياسية العربية، وأنه محظور عليه الوصول الى السلطة. فالسلطة ليست مُلكا لتيار معين أو أتجاه فكري محدد، بل هي مشروع معروض أمام كل من يستطيع أن يحقق الاهداف العليا للمصلحة القومية والوطنية، وأن يحوز على ثقة المواطن.


أن الاسلام دين يعج بالمعاني والقيم العليا القادرة على أنتاج طاقات أجتماعية وفكرية هائلة، تفتح خيارات متنوعة لإيديولوجيا سياسية قادرة على فكاك مجتماعتنا من حالة الانسداد التاريخي الذي تعانيه، لكن الاحزاب الاسلامية ليست قادرة على تجسيد ذلك، لانها لازالت تعاني من حالة التيه بين الدين والسياسة، لذلك لازال تراثها في التصدي وقيادة عمليات التغيير في مستوى متدن بالقياس الى الاحزاب القومية واليسارية في وطننا العربي، لطبيعة تركيبتها وبنائها العقائدي الذي يفضل مساومة الحاكم في سبيل مصالحها على حساب المصلحة العليا، لانها ليست أحزابا ثورية تؤمن بالتغيير. ومع ذلك فقد شاءت الصدف التاريخية أن تضعها في مقصورة القيادة للمرحلة الراهنة. فالعامل الدولي الممثل بمراكز القرار الامريكي والبريطاني والالماني، قبل بالاسلاميين في مراكز القرار السياسي داخل مؤسسات الحكم وليس خارجها، لإعتقادهم بأن وجود هذه القوى خارج المؤسسات يقربهم من التوسل بطرق غير ديمقراطية للوصول الى السلطة. علما بان مركز بحوث (شركة رنت) الامريكي نشر في العام 2007 بحثا بعنوان (بناء المجتمعات الاسلامية المعتدلة) فصّل فيه سياسة أمريكا تجاه العالم الاسلامي، وأكد على أن الاسلاميين سيفهمون اللعبة حينما يدخلون السلطة، وهذا الطريق هو الذي سينفّس الافكار الراديكالية عنهم. وبالفعل فأن التحركات السياسية الاخيرة لهم تشير الى أنهم فهموا اللعبة جيدا، من خلال مشاركة تيارات سياسية ليبرالية معهم في السلطة كي يكسبوا الرضا الدولي، وتأكيدهم على سريان الاتفاقات الدولية التي تحققت مع النظم السابقة، مثل أتفاقية كامب ديفيد في مصر، بل وقبولهم بالتنسيق المباشر والعمل تحت أمرة الاجهزة الاستخبارية الغربية التي كانوا يتهمونها بأعتقال كوادرهم وتسليمهم الى السلطات السابقة. علما بأن العالم الغربي لم يكن مخيّرا في التعامل معهم، بل لأن الاعتبارات الجيوسياسية هي العامل المتحكم في عملية القبول هذه، كما أن السياسة الغربية الجديدة حاولت القفز على الطريقة السابقة في أقتصار التعامل مع الدول العربية على الانظمة الحاكمة والعائلات والاشخاص، فالامساك بخيوط اللعبة يتطلب القبول بالجميع ومد يد التعاون والتنسيق مع كل من يتعامل بالشأن السياسي، كي تكون حركة المجتمع السياسية غير صادمة لهم في حال حدوث اية تطورات سياسية.


أن المجتمع العربي يتلهف اليوم لتجربة سياسية جديدة، تفتح أفاق التطور أمامه كي يشعر بأنسانيته وكرامته، لكنه يقينا غير مستعد أطلاقا أن تكون تجربة الاسلاميين في الحكم، كتجربة رفاقهم الذين يحكمون في العراق اليوم، لأن المجتمعات لايمكن أن تبقى حقل تجارب حتى نقول ليأتي الاسلاميون ونرى تجربتهم.


صحيفة القدس العربي اللندنية

 

 





الثلاثاء٣٠ صفر ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٤ / كانون الثاني / ٢٠١٢م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د . مثنى عبد الله نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة