شبكة ذي قار
عـاجـل










الديمقراطية والمجتمع القبلي

فؤاد الحاج

 

 

أشاهد دائماً تقريباً معظم ما يصلني من فيديوهات وأرميها في سلة المهملات وأحتفظ ببعضها لمشاهدتها بتأن وهي قليلة جداً والبعض منها أعيد إرساله إلى عدد من الأصدقاء الذين يقرأون ويعرفون القراءة ما بين السطور.

الثورة بحاجة إلى ثورة ثقافية ووعي، إننا بحاجة إلى شخصية وطنية وتربية وطنية كي نبني الإنسان الواعي، فعندما أزاحت الحركات الانقلابية في الأقطار العربية بدءاً من العراق وصولاً إلى السودان مروراً بسورية واليمن تَعاطَفت الشعوب مع تلك الحركات ثم انقسمت بين مؤيد ورافض لها. فالمتحمسين الذين أيدوا تلك الحركات العسكرية كانوا يأملون إِقامة حياة سياسية ومناخ ديمقراطي حر دون أن يعرفوا معنى كلمة الديمقراطية، على الرغم من تسليمهم بما قيل لهم من مجموعات الانقلابين بأن الديمقراطية تعني أن يصبح في ظلها الشعب مصدر السلطات، وأن إدارة البلاد يشترك فيها كل أبناء الوطن من خلال وضع دستور شامل تتحقق فيه المساواة بين جميع المواطنين من خلال ممثليهم في المجالس البرلمانية وقبول التعددية الحزبية التي يحض عليها الدستور.

من هنا ابدأ، إن الديمقراطية لا تحتج إلى شروحات وتفاصيل لأنها وقبل كل شيء تحتاج إلى وعي. والوعي يبدأ ليس بتشكيل منظمات يسمونها "مجتمع مدني" ففي مجتمعات قبلية لا يمكن تشكيل هكذا تجمعات لأن مادتها غير متوفرة في مجتمع كمجتمعات أمة النكبات لأن هذه الأمة تعودت على استجداء الحرية من ملوك ورؤساء مستبدين يتحكمون برقاب البلاد والعباد، لأن النظام المستبد لا ينتج إلا مدرسة على صورته، وأن "الذي نشأ على الخنوع والاستعباد لا يمكن أن ينتج حرية واستقلالاً" كما يقول طه حسين عن الديمقراطية، وللتوضيح أقول بأن الذين أوجدوا تنظيمات "المجتمع المدني" إنما المطلوب منهم هو تفتيت أبناء الوطن وتقزيم دور الأحزاب الجماهيرية، وهذه المجتمعات المدنية ليست بجديدة أو طارئة على المجتمعات الإنسانية فهي موجودة منذ زمن بعيد في التاريخ منذ زمن الفيلسوف أرسطو الذي كان أول من تحدث عنها. وكذلك "حرية الصحافة والتعبير عن الرأي"، فأن الصحف ووسائل الإعلام في البلدان العربية هي صوت سيدها الذي يمولها لأن هذه الوسائل الإعلامية لا تنشر ما يغضب سيدها، فهل هذه تسمى ديمقراطية!

لذلك لم تنجح الديمقراطية عند أمة النكبات لأنهم مجتمع قبلي وفقه ديني يؤمن بالخرافات والأساطير. وكما يبدو مما تقدم أن الشعوب العربية تعشق الاستبداد وتحب الحكم المركزي المطلق، حكم الرجل القوي الذي أسماه الشاعر العراقي المرحوم عبد الرزاق عبد الواحد "المستبد العادل"، وقال عنه الإمام محمد عبده: "لا يصلح الشرق إلا مستبد عادل".

ومع ذلك نجد أن المفكر الجزائري أحد أعلام الفكر في القرن العشرين مالك بن نبي يقول: "إن العقل العربي انتقل من فكرة تقديس الأصنام إلى فكرة تقديس الأشخاص"، وهذا هو حال تاريخ أمة النكبات التي باتت تقدّس الشخص في كافة المجالات السياسية والأدبية والثقافية والدينية والفنية إلى أن أصبح البعض يقدس نفسه إلى حد النرجسية والغرور المطلق.

إلى أن وصلنا في عصر الثورة الإلكترونية والانترنيت إلى أن تأخذ الأفكار المختلفة صفة كونية بمعنى عالمية، فهل الديمقراطية هي وصفة علاجية يأخذها المواطن في أي قطر من أقطار الأمة لتصبح سارية المفعول خلال 24 ساعة؟ وهل توجد ديمقراطية في أمريكا وفي أستراليا ودول أوروبا دون استثناء؟

إن الديمقراطية تحتاج إلى قيادة وطنية واعية صالحة لتزرع الوعي بين المواطنين وليس إلى أشخاص يتبنون أفكار تفرض عليهم من الخارج، ولنأخذ الماركسية على سبيل المثال، وهل نجحت الماركسية في العالم؟

فعندما طرح كارل ماركس شعار "يا عمال العالم اتحدوا" فقد كان يقصد أنه على العامل أن يثور مطالبا بحقه والمساواة بالأجر. في وقت كان العامل في أوروبا في ذلك الوقت تهضم حقوقه وتستباح حريته خاصة في ألمانيا. بينما العامل في البلدان العربية وإن كانت الماركسية انتشرت في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي بينما فكرياً وعقلياً لم يقتنع العامل في البلدان العربية بأفكار الماركسية فعلياً، لأنه كان ولم يزل يؤمن بقرارة نفسه وبالوراثة من خلال التربية التي نشأ عليها في المجتمع أن العمل رزق من الله وأن ما يحصل عليه من أجر مادي مقابل عمله وإن كان يعاني من رب العمل وجبروته وظلمه له. لذلك انتسب الكثير من العمال العرب آنذاك إلى صفوف النقابات العمالية والمهنية التي كان يعتقد العامل أنها تحصل له حقوقه، كما آمن العديد منهم بأفكار الماركسية وفكرة "يا عمال العالم اتحدوا" دون أن يعرفوا الفرق بين المجتمعات الأوروبية التي كان يخاطبها ماركس وبين المجتمعات العربية التي بالأساس هي مجتمعات فردية يتحكم فيها رئيس القبيلة والعشيرة، لأن المجتمعات العربية كانت تعيش على الزراعة وتربية الماشية، بمعنى أنها لم تكن مجتمعات صناعية كما كانت ألمانية وروسيا آنذاك التي كان يتحكم فيها صاحب المصنع وكان يعتبر أن العمال هم عبيد وخدم له وللسيد الأبيض.

لذلك كي تتحقق الديمقراطية يجب أن تخلق لها الظروف المناسبة من وعي كافي للشعوب من خلال العلم وتأمين العمل والاستشفاء المجاني وبعد ذلك وبالتدريج يتم تطبيق الديمقراطية. وهنا يمكنني التأكيد أن الديمقراطية والاشتراكية أو العدالة الاجتماعية في البلدان العربية يجب أن تكون خاصة نابعة من صميم الواقع العربي وليست مستوردة أو مفروضة من المستعمرين البريطانيين والفرنسيين والأميركيين الذين استباحوا الأرض العربية وسيطروا على مقدراتها وخيراتها الطبيعية واستعمروا شعوبها ولم يزالوا إلى يومنا هذا، وكذلك من روسيا التي غزت البلدان العربية بالأفكار الماركسية واللينينية والتروتسكية والماوية التي شقت صف الأمة باسم حقوق العمال والفقراء.

أخيراً وليس آخراً كلمة يجب أن يعرفها المثقفين العرب أن الديمقراطية والعلمانية والليبرالية واليسارية إنما هي مصطلحات للفهم وليست للتقديس. وأن المصيبة الكبرى التي تعاني منها أمة النكبات من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي إنما تكمن في سيطرة أصحاب العمامات بألوانها المختلفة الذين يزرعون التخلف من خلال نشر الأساطير واختلاق مفاهيم تذل الإنسان وتكفر من لا يؤمن بأفكارهم ومعتقداتهم بحيث أنهم يعتبرون أنفسهم أن معتقداتهم هي الصحيحة! وليس من سبيل لتحقيق ذلك سوى بالوعي والحوار بين المثقفين الوطنيين الواعين لأن الحوار بين الأفكار إنما هو مجال للوصول إلى التوافق وليس إلى الاتفاق لأن فكرة ما قد تنفع مرحلياً في زمن ما ولا تصلح لزمن آخر.

ابن خلدون يقول: "أن القبلية قضت على العرب وعلى الإسلام". ويقول الدكتور علي الوردي: "أن العسكر الذين حكموا في البلدان العربية من جمال عبد الناصر وعبد الكريم قاسم استبدلوا أهل الخبرة بأهل الثقة" وهذا يعني أن أي حاكم أو وزير لا يأتي بأهل الخبرة وتوظيفهم في أي دائرة من دوائر الدولة في أي قطر عربي إلا من جماعته أي من قبيلته ومن المقربين منه وهذه هي العصبية التي تتحكم بمقدرات البلاد والعباد.

أخيراً في الدول الغربية بشكل عام كانت روابط الصلة بينهم هي روابط الدم وقد غادروها على مراحل منذ الثورة الفرنسية التي استمرت من 1789 حتى 1799 واستبدلوها بالإنسانية التي استمرت مؤقتاً حتى قيام الجمهوريات، وهم يتشدقون بالحرية ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب بينما هم في الواقع يقتلون الإنسانية ويدمرون الإنسان والصراع بينهم لم يزل بنسب مختلفة بين بلد وآخر لأنهم يخدمون أفكار محافل الشر الدولية التي أوصلتهم إلى سدة الحكم، وما نشهده في أمريكا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والسويد والدنمارك وإيطاليا دليل واضح على ذلك، وكذلك ما حصل في فلسطين منذ 1936 وفي العراق منذ 2003 وفي ليبيا منذ 2011 وفي سورية منذ 2012 حتى اليوم دليل آخر على أن البلدان الأوروبية لم تزل تمر بمرحلة الصراعات ولكن ليس على أسس صلة الدم بل على أسس المصالح الشخصية تحقيقاً لنبوءات دينية على أسس عنصرية.

فهل تستفيق أمة النكبات على مصالح بلادها وتعي دورها في تغيير الأنظمة السائدة التي تتحكم بالبلاد والعباد خدمة لمصالح أفراد تلك الأنظمة التي تخدم مصالح القوى الخارجية؟

6/5/2024

 






الاحد ٢٦ شــوال ١٤٤٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٥ / أيــار / ٢٠٢٤ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب فؤاد الحاج نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة