شبكة ذي قار
عـاجـل










قـَمَـرُ الكـَـرْخ
( سيرة دربونة بغدادية )
إلى أمي مليكة حمادي
وإلى ذكرى دربونة زنْگوّْ .. لوحة التنوير الأولى
 


مرافئ الروح
(1)


أنّا تولّى وجهك شطر جهات الكرخ الأربع فثمة قباب خضر، ومآذن سامقات ، وأضرحة مهيبة ، وليً يرقد هنا ، وقطب هناك ، وبينهما العلماء وعشاق الحكمة ، والشهداء.. هكذا وجد الصبيّ نفسه وسط عالم مكتظ بالرسوم والأسرار ، ينبث فيه المهاجرون إلى الحقيقة في المكان كله : ففي شمال المحلة ؛ حبيب العجمي ، العيدروسي ، الشيخ صندل ، وسلطان العاشقين (البسطامي) ،وخضر إلياس ؛ فيض المحبة ، حارس النهر والأطفال .


فيما تنتصب في الجنوب مقامات وشواهد النبي يشوع ، الشيخ معروف الكرخي ، الجنيد البغدادي ، سهل التستري ، داود الطائي ، والسرّي السقطي .وقمر الصوفية أبوسعيد الخرّاز ومن الجهة الغربية يجئ صوت شهيد الكون الاممي أبي منصور الحلاّج .. وعلى ذروة الهضبة تنتصب قبة الشيخ أبو رنة أحمد التونسي ، وإلى جواره صديقه الحميم العم حسين العيشة .
وعلى ناصية الفحامة الشرقية زاوية أبي السعد، ومابين طرفي (جْميلة) و(الورًة) دار (الملاّ جواد) أعلام خضر ، وادعية مرقومة على جبهة ابواب الدار .. ابخرة الصندل ، ماء الورد ، الشمع الموقد ، والضوء المتثائب، تغتسل الجدران بالحناء ، ومرايا تجتذب الشمس وضوء القلب . صلوات قائمة في محراب الدربونة ، قرآن الفجر يتلوه (حجي مشمش) ينبث في (زنكو) ، شجياً ...


(2)


في ليالي الشتاء المطيرة ؛ تئن أبواب الحجرات الثلاث من هبوب الرياح العاتيات ، ومن رشقات الحالوب المتساقط من السماء، وتبتل أروقة الدار بالماء الدافق ويفيض فناء الحوش . . تستفيق أفئدة الصبية في حضرة (منقلة النار) إحتفاء بالمطر والحكايا ، متدثرون بـ(شف) من الصوف الثقيل ، نصيخ السمع ونشخص البصر، وبالروح والجوارح تتنزل علينا كما الندى كلمات فاطمة وهي تقص علينا نبأ الفتى الذي هام في البراري باحثا عن ناقة شرود، فلم يعد إلى دياره إلا بعد إنقضاء أربعين سنة ، وحكاية الرعاة الثلاثة الذين قارعوا الذئاب، وفجأة ونحن غارقون في لذات السرد الآسر ، تتوقف جدتي عن الحديث ، وهي تعدنا بأن تواصل الكلام في الليلة التالية .. كانت تحرص في نصوصها على خاتمة القول بأن المعركة الحقيقية للإنسان أن يعامل البشر بالحسنى ، وأن لايلحق أذى بإنسان أو حيوان ، وهي شغوفة بالنصوص المتعالية ؛ ترويها فصلاً إثر فصل ، فيحار العقل بين الأخيلة الطليقة الناعمة وصلابة الواقعْ ، ومن المعتقدات الراسخة لدى جدتي أنها تؤمن بأن أرواح الصالحين لا تتلاشى أو تغيب ، وان أولياء الله هم أوتاد الارض .. يقظون على الدوام ، كما الطيرُ الحرّ لا يأتيهم نوم أبداً أو يدرك أحدهم وقت ، حاضرون في كل مكان ، ومقيمون في كل الأزمنة . وكراماتهم سائرة كالامثال .. وعند اشتداد الخطوب ، وتفاقم المحن ، بخفون سراعاً كخفقة الضوء ، يطوّون الأرض ، حتى ظنّ الصبي أن الأولياء مبثوثون في حنايا الدار ، قائمون في (زنكو) ، يترقبون إيماءة الحضور ليأتوا بالمدد ..


وظلت فاطمة طوال حياتها وحتى رحيلها تؤمن : بأن نفس الوّلي لا تموت ، كالجوهر الخالد لا تجري عليه سنن العدم والفناء" . وان السماء استودعتهم لحراسة الاطفال والانهار والاوطان ..


فيما كانت المفارقات الناتئة مابين سلطة الوقائع ودهشة الرؤى؛ تؤجج في عقل الصبيّ صراع الأضداد : (الديمومة والصيرورة) ، فتصطدم الأخيلة بالوقائع ، وتستمر حمىّ المنازلة بين التصورات والتصديقات . فيتلظى عقل الطفولة بنار الأسئلة إزاء نصوص فاطمة واعتقاداتها الجازمة .


كانت الدنيا لدى جدتي في بدئها وختامها محض ومضة عابرة ، وكان الموت السعيد هو كل ماتمنته هذه القديسة أن تلتحق بالغابرين وهي قائمة تصلي أو في هدأة النوم العميق .. وكانت تتحدث بعين اليقين عن بهجة العالم القائم وراء الدنيا، وأنها ستجد في إستقبالها أمها وأباها والمحبين من ذوي الرحمة والحب النبيل ،الذين إستبقوها إلى المنازل البعيدة، فيما بقي الفراق الابدي ، ذكرى أليمة تلهب قلبها الكبير باللوعة والاسى.


(3)


إثر نقر الدفوف تصطخب قلوبنا غبطة وانتشاءً . تجذبنا الخفقات الآسرة ، فيهّب الصبية هرولة إلى دار (أبي السعد) .. عبقات المسك والعنبر تضوّع باحة (الحوش) المكتظ بالناس والضجيج والدراويش.


طقوس (مبهمة) شبيهة بالأسرار همهمة كما الأنين تسري في الرؤوس المتمايلة ، تنسل النغمة من أول السلم الموسيقي همسة منخفضة، تتدرج في إرتقاء ملتاع شجي ، وحين تقارب الذروة تنتفض الاجساد ، وتعلو الاصوات عويلا .. وقد شف الرؤوس بارق الغيبة الساحرة ، فيهيم المريدون (الدراويش) وجداً ، يتقلبون في أحوالهم توْقاً إلى ما وراء الحاضر ، وفوق الوجود .


ضروب من غرائب العادات وعجائب السلوك ، تبتدئ بحراب من حديد ، يغرسها المريدون في البطون والرقاب والوجوه ، نزوع فظ وأداء غليظ يثير فزع الصبّية والأولاد.. ولكنه سرعان ما يخف ويتلاشى ، بفعل الفضول البشري الذي يحاول أن يعلم ، ليكتشف.. فيعرف !!


وفي صفحة الاحوال التالية ، تتألق لحظة الوهج الوجداني عندما يتنامى الطقس الدرامي ويصل إلى ذروته في الانتشاء بمصاحبة حماسة المنشدين وعصف الدفوف ، فجأة تنسل السيوف من أغمادها ، وترفع في الفضاء الرماح الطويلة .. وعندما قرأ الصبي التصوف على يد أستاذه العلامة الدكتور كامل مصطفى الشيبي .. أدرك المسافة الهائلة مابين المشاهد الإستعراضية التي رآها وألفها في صباه وما عليه حال الذين كرسوا حياتهم دون ضجيج.. في البحث عن الحقيقة من أجل إزدهار الحياة وسعادة الإنسان ..

 

 





الثلاثاء٠٧ ربيع الاول ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق ٣١ / كانون الثاني / ٢٠١٢م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب عبد الستار الراوي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة