شبكة ذي قار
عـاجـل










المقدمة :

السياسي ينبغي أن يكون كالمعماري، قبل شروعه في البناء ينبغي أن يكون بين يديه رسم هندسي محكم للمبنى، حتى يكون هذا المبنى آمناً ولا يسقط على رؤوس ساكنيه، وأن يكون مريحاً ويوفر لساكنيه الراحة والخدمات والأمن والأمان، حتى يأخذ بالحسبان نور الشمس والرياح في برد الشتاء وقيض الصيف، فضلاً عن أن يكون المبنى مقبولاً من الجميع .

 

وهندسة المعمار هذه، وهي من أولويات أو بديهيات العمل، يقابله لدى السياسي كمرشد (دستور) ينبغي هو الآخر أن يكون متيناً ورصيناً ومقبولاً من الجميع، كما ينبغي أن يكون خالياً من الثغرات، نظيفاً جامعاً شاملاً ضامناً لحقوق الناس ولحاجاتهم المادية والروحية .. يحمي المواطنين ويحفظ حقوقهم بدون تمييز في المعتقد والعقيدة واللون والجنس والدين والمذهب..إلخ

 

أما إذا كان المرتسم المعماري هشاً وفيه عيوب وأركانه غير قياسية وركائزه مرسومة بطريقة غير نظامية، فأن مآل هذا المبنى هو الانهيار على رؤوس ساكنيه .. والحال كذلك في شأن السياسي الذي يشرع قانوناً يرتكز على دستور ملغوم بكل ما يثير الريبة والشكوك لدى الشعب صاحب المصلحة والكلمة الأولى والأخيرة، وليس الحاكم ولا الحزب الحاكم أو الائتلاف الحاكم أو أي نظام سياسي على رأس السلطة .. طالما أن الدستور هو خارطة الطريق للشعب، فإذا كانت غير صحيحة وغامضة تاه الشعب في غياهب الفوضى وظل الطريق تماماً، كما هو حال الشعب العراق في ظل الأوضاع التي يعيشها في الظرف الراهن.

 

 فمن غير المنطق أن تشرع قوانين تستند إلى نصوص في دستور لا يرضى عليه الشعب، وعليه احتجاجات واعتراضات، والنص بضرورة تعديله وإعادة النظر فيه وبمواده العاملة .. إلا أن السلطة السياسية لم تفعل شيئاً حيال ما يريده الشعب بل أمعنت في تشريعات قوانين ذات صبغة سياسية تحت غطاء قانوني فاضح .. هذه التشريعات لا تتوانى عن تدمير الحريات والحقوق كمشروع قانون ( تجريم البعث ).!!

 

إن أي نظام جنائي في أي نظام قانوني يقوم على مقاصد وأهداف يسعى إليها، تتمثل في تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي والأمني، من أجل تحقيق العدالة وضمان حقوق المواطنين وحقوق المجتمع وحريته .. والتجريم، كما تحدده الدول في نظامها القانوني يعمل في مجال تجريم (الأفعال) أو العقاب عليها .. ومن ذلك يتضح أن الأفعال هي التي تقع في دائرة ( التجريم ) وليس ( الأفكار والمعتقدات )، وهذا ما يؤكده القانون الجنائي الإسلامي والوضعي.

 

فحين ترفع السلطات المختصة بالقانون وليس بالسياسة ( الشرعية ) على الأفعال وتجرمها، فإنها تضع التجريم على أساس ( الأفعال )، ولكن حين ترفع السلطات السياسية، ( الشرعية ) على الأفكار والوجود المادي لشريحة عريضة وواسعة ومؤثرة في الشعب والمجتمع، فإنها في هذا الباب تدخل دائرة الجريمة السياسية، التي تصطدم مباشرة بحقوق الأفراد والمواطنين في معتقداتهم، فضلاً عن الحقوق والديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية .. وهو بهذا التفسير يشكل التجريم تهديداً خطيراً مباشراً لحقوق المواطنين وحرياتهم .

 

فماذا يعني تشريع سياسة التجريم .؟!

إن فكرة التجريم، هي فكرة مختلف حول معاييرها القانونية، فكيف إذا كانت هذه المعايير سياسية غرضية تسلطية ؟، وحدها الأفعال تدخل دائرة القانون الجنائي، وحدها المعنية في هذه الدائرة، كجرائم القتل والنهب والتزوير المخلة بالشرف، إلى ما هنالك، أما العمل السياسي ومقاومة الأجنبي الغازي فهو لا يدخل دائرة القانون الجنائي أبداً، لأن فعل المقاومة على وجه الخصوص مكفول دولياً .. فالمقاومة الوطنية معترف بها في كل أنحاء العالم، وليس بوسع أحد أن يضعها في دائرة التجريم .. كما أنه ليس بوسع أحد أن يضع ( الأفكار ) في هذه الدائرة ولا حتى ( العقيدة ) .

 

حتى أن تجريم ( الفعل ) له ضوابط وشروط لا تصنعها السياسة، وفعل السياسة في هذا المجرى مكشوف تماماً، إنما يضعها القانون .. أما عقائد الناس وأفكارهم ومعتقداتهم فهي من باب المحرمات وضعها في دائرة التجريم، لأن في هذا العمل خروج على القاعدة العامة، وهي تعزيز الاستقرار وبناء الإنسان في وحدة المجتمع، الذي يطمح إلى الحرية والديمقراطية والحياة الحرة الكريمة مثل جميع الخلق .. والسلطة السياسية مقيدة في مسألة التجريم ما لم تحدد ( الأفعال ) بمعايير قانونية ابتداءً وليس بمعايير سياسية تكون هي قاعدة تشريع القانون .. وكل ذلك يرتبط بـ ( الدستور )، إذ من غير الدستور يصعب الحديث عن تشريع قانوني، وإذا كان الدستور معاباً ومعترض عليه ومرفوضة بنوده، فأن الحديث عن تشريعات من قبيل ( تجريم البعث ) وغيرها من التشريعات تمسي هراء، لأن الشعب، كل الشعب ولا أستثني أحداً، يطمح إلى أن يكون الدستور مصدراً للعدل وعادلاً في حل المشكلات الاجتماعيةـ وإن الغرض السياسي المحشور في تشريع قانوني لا يكفي لوحده في الدفع على أساس تمرير القانون حسب هوى السلطة السياسية المغرضة .. إذ تترتب على هذه القاعدة نتيجة، وهي أن سلطة الشعب هي التي تحدد ( فعل ) التجريم وتحدد عقوبته، وليس وضع ( الأفكار والمعتقدات ) في دائرة التجريم .

 

ثم أن التجريم وتحديده مسبقاً لفعل لمْ يُرتكبْ بَعدْ، تحديداً بقطاع واسع من الشعب يعد تهويشاً وتخبطاً، لأن قاعدة العمل القانوني، أنفة الذكر، تقوم على وقوع الفعل لكي يأتي بعده التجريم، وليس الإشهار بـ(تجريم البعث) .. فكيف يمكن أن يكون البعث مجرماً وهو الحركة الثورية التاريخية في العراق والأمة العربية ؟ وما هو الفعل الإجرامي الذي يرتكبه البعث والبعثيين؟

 

 فتجريم البعث يصطدم بالحقوق وبالحريات، فتشريع هذا القانون الجائر يجعل بكل بساطة أن تقول السلطات لأي مواطن يعارض سياساتها ويرفض أو ينتقد سلوكياتها، أن أفكارك بعثية إذن أنت مجرم، وخاصة حين يتكلم بالوطنية والعدل الاجتماعي وحرية الإنسان ويرفض الظلم والفساد ويطالب بالحقوق، فهل يُجَرَمْ من يبدي رأيه في ذلك من المواطنين والبعثيين؟! وإذا ما فكر المواطن أو البعثي، وكليهما حالة واحدة، فهل أن هذا التفكير يدخل في باب ( التجريم ) ليتم تسخير النصوص السياسية لتقتص بصورة متعسفة وغير إنسانية من مواطن يفكر بطريقة وطنية ؟!

 

إذن .. التجريم بشكل عام يعتبر أحد أركان النظام القانوني، كما هو معروف، يحدد ( الفعل ) الإجرامي بوسائل قانونية وليس سياسية كما تشتهي السلطات الدموية الحاكمة، بقصد تصفية خصومها بأدواتها القمعية التي تضفي عليها الصفة القانونية البائسة، في الوقت الذي تدعي فيه هذه السلطات بأنها تعمل على إرساء العدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين والديمقراطية والحرية .. إن ازدواجية المعايير لا تنفع، كما أن استخدام أداة السياسة ومعاييرها في تحديد مفاهيم ( التجريم )، هو عمل من شأنه أن يصطدم بالحريات وبالحقوق العامة للمواطنين.!!

 

فلا بناء يسبق مرتسمات هندسية مطلوبة .. ولا تشريعات قانونية تسبق كتابة دستور جديد ينسجم مع ما يريده الشعب بدون ثغرات وبدون نواقص، يجمع الشعب ولا يفرقه أو يمزقه أو يقسمه، ويحفظ حريات المواطنين وحقوقهم .

 

الاحتلال الأمريكي أكمل بناء الدستور مخالفاً للمواصفات التي يريدها الشعب، كما المعماري الذي أكمل بناء لا يقوم على مواصفات المرتسم الهندسي .. والمخاطر هي سقوط المعمار في حالة البناء، وانفجار الشعب في حالة فرض مشروعات قوانين ناقصة وجائرة ومخالفة لأحكام المنطق ولإحكام التشريع الوضعي والسماوي.. فالذي يشرع قوانين غير منطقية تحكمه دوافع سياسية لا تهمه النتائج الكارثية على الشعب، والمعمار الفاشل الذي يقبض رشاً لا تهمه نتائج سقوط المبنى على رؤوس ساكنيه .. فعلى الجميع الإنتباه. !!

 

ولكن .. الشعب يرصد بكل دقة ويحث الشرفاء من أعضاء البرلمان على رفض مشروع قانون ( تجريم البعث )، لأن البعث حركة ثورية تاريخية لا تُجَرَمْ .. كما يرصد إذا ما صمت البعض أو امتنع عن التصويت وهو يمسك العصا من منتصفها أو يعمل على تمرير هذا المشروع الخطير في نتائجه على الشعب والأمة، ليسجل مواقف الشرفاء الوطنيين ومواقف العملاء المتخاذلين، لأن الوطنية لا تقاس بالمال ولا بالمنصب ولا بالجاه إنما تقاس بحالة الاصطفاف إلى جانب الشعب، كل الشعب، مع الوطن الذي هو أكبر من الجميع .!! 

 

 

 





الثلاثاء ٣٠ شعبــان ١٤٣٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٩ / تمــوز / ٢٠١٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. أبا الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة