شبكة ذي قار
عـاجـل










ليس صعبا فك رموز وطلاسم السياسة الأمريكية، خاصة الخارجية منها، ويرتكز التمهيد لرسم خارطتها الاستراتيجية على الوعي الكامل بتعقيدات وتداخلات نظامها الاداري والسياسي المتشعب، فبالرغم من سيطرة حزبين سياسيين فقط على المشهد السياسي الأمريكي على مدى قرون، تبقى السياسات الخارجية والاقتصادية والعسكرية المبنية على نظرية المصالح تتحكم بما هو أبعد من الاستراتيجيات الحزبية الضيقة، ولعل للدور الذي تلعبه المؤسسات الثلاثة المهمة التي تشكل المثلث الهرمي لهيكلية نظام الحكم في أمريكا والتي تتمثل بالاستخبارات الأمريكية والبنتاغون ووزارة الخارجية التأثير الأبرز على منعطفات الاستراتيجية الأمريكية منذ الحرب العالمية الأولى ومن ثم الثانية، فمنذ تلك المراحلة، تحول الإهتمام السياسي الأمريكي من البعد الداخلي إلى الخارجي بعد نجاحها في فرض نفسها كقوة عسكرية لايستهان بها بالرغم من وجود قوى أخرى تهيمن على مرافق صنع القرارات الأممية، وبالتأكيد كانت الثورة الصناعية الحدث الأبرز في رسم خارطة التغييرات الجيوسياسية للعالم فيما بعد، فكان سباقا أمميا للسيطرة على منابع النفط الذي ساهم في ديمومة هذه الثورة، وأمكن من خلالها السيطرة على السوق العالمية، وهنا دخل الاقتصاد السياسي كعامل أساسي في قوانين لعبة الأمم، والذي تطور فيما بعد الى ما يعرف اليوم بمفهوم العولمة..


ما تقدم كان توطئة لابد منها للإشارة إلى بنيان السياسة الأمريكية الذي يعتبره كثير من المحللين بأنه صلب وغير قابل للتغيير وأن أهداف أمريكا ثابتة لا تتأثر بالمتغيرات السياسية في الدول التي تستهدفها المخططات الاستراتيجية بعيدة المدى، وهو خطأ شائع بعيد عن واقع الخلافات والتقاطعات بين مؤسسات الحكم في أمريكا والتي أشرنا لها سابقا، والأصح القول بأن نتائج المنافسة القوية بين تلك المؤسسات هي من ترسم السياسة الخارجية عبر مراحل الانتخابات ونتائجها التي تترنح بين الديمقراطيين والجمهوريين عبر تأريخ أمريكا الحديث، لذلك يحصل كثيرا أن تسيطر المؤسسة العسكرية على صناعة القرار حينما يستلم الحزب الجمهوري مقاليد الحكم، ويطغى صوت الرصاص على اللغة الدبلوماسية في معالجة أهداف أمريكا الاستراتيجية من أجل فرض هيمنتها على كل ما يساهم في ديمومة اقتصادها الذي يتزعزع بين الحين والآخر، بينما من الناحية الأخرى، تشهد القرارات الأمريكية نوع من النعومة في معالجة الأزمات حينما يستلم الديمقراطيين الحكم، مع بقاء الأعين ثابتة على الأهداف، لكن بتغيير الطريقة والأسلوب، وهنا نجد للمؤسسة الدبلوماسية القول الفصل في تنفيذ المخططات، وربما تضع لمساتها كتغييرات جذرية في مسائل كانت تعتبر في وقت سابق خطوط حمراء، وتنتهج سياسة الانفتاح على كل الحلول بشرط توافقها مع مصالحها.


المؤسسة الثالثة المهمة هي وكالة الاستخبارات الأمريكية، وتلك تلعب في كثير من الأحيان دور رمانة الميزان في سياسات أمريكا الخارجية، وربما يمكن وصفها بمؤسسة ترقيع خيبات وفشل سياسات أمريكا في العالم، بالاضافة طبعا إلى عملها المعتاد والمعروف في العمليات الاستخبارية حول العالم والتي برزت بقوة في الحرب الباردة مع غريمتها الاستخبارات الروسية، وهذه المؤسسة تضع بصماتها في القرارات الهامة للسياسة الخارجية لكلا العهدين الديمقراطي والجمهوري على عكس البنتاغون والخارجية الأمريكية، فلابد أن تعتمد كل القرارات على ما متوفر من معلومات استخبارية عن الدول المستهدفة، وربما تشير فضيحة التجسس الأخيرة لأمريكا على دول العالم دليلا واضحا على مدى هيمنة هذه المؤسسة داخل الادارة الأمريكية.


ولابد هنا أن لا نغفل ذكر بعض المؤسسات الساندة الأخرى ودورها الفعال في تهيئة الظروف المناسبة وخلق الأجواء التي تتناغم مع متطلبات تنفيذ المخططات الاستراتيجية، ومن أبرز هذه المؤسسات على الإطلاق هو الإعلام بكل أنواعه المقروء والمسموع والمرئي، والذي يمهد الأرض أمام الادارة الأمريكية لتمرير كل ما يصب في صالحها، كذلك هناك مؤسسات علاقات خارجية، وهي عبارة عن مجموعات ضغط تعرض خدماتها على الحكومات التي تحتاج إلى تلميع صورتها امام مصادر صنع القرار الأمريكي، وتدر هذه العمليات أموالا طائلة من أجل تقريب وجهات النظر، أو الحصول على دعم الولايات المتحدة في قضايا محددة، وهذا بالضبط ما حصل مع نوري المالكي في زيارته الأخيرة لأمريكا، فالحكومة العراقية تدفع سنويا مليار دولار تقريباً لمجموعة بودستا التي يرأسها جون بوديستا الذي كان يشغل منصب مساعد رئيس موظفي البيت الأبيض في عهد الرئيس بيل كلينتون 1997-1998، وهو من الحزب الديمقراطي، وهذا ما يوضح سبب اختيار هذه المؤسسة لاستمالة شيوخ الحزب الديمقراطي الحاكم.


في زيارة المالكي الأخيرة قدمت مجموعة بودستا المشورة بشأن تمرير رسالته إلى المشرعين في مجلس الشيوخ من خلال نشر مقالة على شكل وجهة نظر للمالكي حول العراق في صحيفة نيويورك تايمز، وقامت بدراسة ردود الأفعال عليها ومن ثم صياغة خطاب المالكي أمام الشيوخ بما يتناسب وردود الأفعال تلك، لضمان موافقتهم على ما جاء لأمريكا من أجله، وهو صفقة الأسلحة والطائرات والدعم ضد الارهاب، لكن حقيقة ما حدث هو أن التناقضات السياسية بين الإدارة الأمريكية بشقيها الديمقراطي والجمهوري وبين المالكي وحكومته أفشلت محاولات مجموعة بودستا، فضلا عن إصرار أوباما بعدم خوض أي حرب أخرى حتى ولو كانت عن بعد، وهو ما أعتبره انتصارا لسياسته بعد سحب القوات الأمريكية من العراق، مع ذلك، يبحث المسئولين الأمريكان عن مخرج للأزمة العراقية بعيدا عن التدخل ومنح العراق طائرات ربما سيستخدمها المالكي لتكريس هيمنته على العملية السياسية.


عاد المالكي من أمريكا خالي الوفاض بعد فشل مجموعة الضغط من تحويل انتباه الشيوخ من الفشل السياسي للمالكي إلى القلق من تنامي القاعدة في العراق، وهو ما يشير في الواقع إلى عكس ما يعتقده بعض المحللين من إن هناك تطابق في الأهداف والمنافع للسياسية الأمريكية في العراق مع سياسة المالكي اليوم بغض النظر عن الاخفاقات الخطيرة، فعلى ما يبدو إن الثلاث إدارات المهمة التي تقود السياسة الخارجية الأمريكية قد ضاقت ذرعا من خطئها في العراق والذي يرسخه فشل المالكي المستمر، كما إن لمشاكل أمريكا الداخلية ما يكفي من الصداع ليجعل من تغيير المالكي أسرع وأسهل الحلول، لكن وبالرغم من ذلك، لن يكون الخلاص من المالكي بعيدا عن العملية السياسية وأدواتها الديمقراطية، كما إن للاستراتيجية الأمريكية الحالية تجاه إيران الداعمة للمالكي سببا آخر لتوخي الحذر من العبث برجالات إيران في العراق حاليا على الأقل، لكن الأيام القادمة ستكون مخاضا عسيرا ورهنا بتوافقات وإملاءات تحتمها ما تؤول له نتائج السياسة الأمريكية في سوريا وإيران، وكذلك الرسائل التي سيحملها قادة الكتل العراقية التي ستعود تباعا من امريكا لتهدئة الوضع مرحليا في العراق، من أجل الحفاظ على صورة العملية السياسية قدر الإمكان، ومن جانب آخر، سيبقى المشهد الدرامي حاضراً في العراق طالما هناك صراع سلطوي طائفي فرضته نتائج الاحتلال .

 

 





الاثنين ١ محرم ١٤٣٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٤ / تشرين الثاني / ٢٠١٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الوليد خالد نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة