شبكة ذي قار
عـاجـل










منذ فترة وأنا أتابع تعليقات وكتابات ومنشورات عدد كبير من العراقيين وبمختلف الثقافات والتوجهات على مواقع التواصل الاجتماعي التي وفرت بالإضافة إلى أخبار العراق ووجهات النظر المختلفة والرؤى المتقاطعة حول الشأن العراقي، فإنها أصبحت مصادر احصائية مهمة للمتابع والمهتم في تطور المجتمع العراقي بعد الاحتلال، ومن بين الأمور التي شدتني وأجبرتني على الغوص فيها لما لها من تأثير سلبي كبير على المجتمع في ظل ضياع للقيم والمثل العليا أفرزتها طبيعة المرحلة وغياب رمز الدولة الوطنية هو ما يسميه مستشارو علم النفس بمصطلح "جلد الذات".


لنقف قليلا على أسباب وأعراض "جلد الذات" قبل الدخول في تفاصيل هذا المرض – إن صح التعبير- وتأثيره على نمو وتطور مجتمعاتنا سلبياً، والذي وجدت حوله الكثير من التقارير الطبية والمقالات التي تعالج في معظمها أسباب وطرق علاجه والوقاية منه، لكن ما نحتاج إليه هنا هو نبذة بسيطة كمدخل لموضوعنا من الناحية الطبية، ومن ثم بحث مدى تناغمه مع ما نود طرحه.


يقول الاستشاري النفسي الدكتور مروان المطوع بأن مصطلح جلد الذات ليس له وجود في علم النفس، وانما هو مصطلح «اجتماعي درامي» من الدرجة الأولى، اما بالنسبة لعلم النفس فيسمي هذا المصطلح – في احد جوانبه - «بالمازوخية» وهو الشخص الذي يستمتع او يتلذذ بتعذيب او جلد ذاته، ويستدرج الاخرين لكي يوجهوا له اهانات متنوعة فتراه «يستفز» من حوله ويلح عليهم بالكلام بطريقة تؤدي الى فقد الجانب الاخر اعصابه فيهينه فيستمتع «المازوخي» بتلك الاهانة ليس هذا فقط بل ويستمتع وهو يرى نظرة الحزن والألم في عيون الآخرين جراء تصرفهم السلبي معه ما يعطي الشعور بالراحة والاحساس بالعزاء!.


هذه المقدمة البسيطة عن المرض الذي شدني للكتابة فيه باعتباره شائعا في وقتنا الحاضر، هو في الحقيقة بعيد كل البعد عن مصطلح "المازوخية"، ونحن في غنى عن ذكر أعراضه التي ستبعدنا عن أصل الموضوع الذي سنركز فيه على مفهوم أو مصطلح جلد الذات أو لنقل "التظلم" في شكله المستشري في مجتمعاتنا، والذي يرى أخصائيون بأن 80% من الشعب العربي مصاب به! وبغض النظر عن مدى حقيقة هذه الرؤية الاخصائية، إلا إن واقع مجتمعنا الحالي يشير إلى نسبة عالية من الاصابة بهذا المرض دون الخوض في التقديرات النسبية التي تحتاج الى دراسات وبحوث واحصاءات لتحديدها.


ويقول أخصائيون إن جلد الذات النفسي يشمل في معظم حالاته الأشخاص الذين يرمون باللائمة على أنفسهم بسبب أخطاء أرتكبوها فأثرت على حياتهم سلباً، فبدأوا بمارسة جلد الذات ظناً منهم بأن ذلك سيمنحهم الراحة النفسية، وهم بالفعل يحسون براحة البال، لكن بطريقة التحايل على أنفسهم، وفي بعض الأحيان إحتقارها وإهانتها، وهناك درجات متعددة لجلد الذات تختلف حسب طبيعة كل انسان وشخصيته وعمله ودرجة تعليمه.


نأتي هنا إلى النوع الشائع الذي وددت الإشارة إليه والذي بدأ انتشاره في الآونة الأخير عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وكما قلنا في ظل أخفاقات سياسية واقتصادية ومجتمعية، والأخطر منها دينية أو إسلامية! فبات من السهل على جالدي الذات كيل الشتائم وأسوء النعوت على الآخرين بسبب الظروف القاهرة التي يمرون بها، فنجد بعضهم يغالي بلعن العرب وتأريخهم والسخرية من حضارتهم والذهاب بعيدا في مقارنات غير منطقية مع ما وصل إليه الغرب اليوم، والبعض الآخر ينقاد بشكل أعمى لكل المخططات التي تتخذ من الإسلام عنواناً للإساءة والتشويه والشيطنة، ومع إن هؤلاء الممارسين لجلد الذات هم من المسلمين، إلا أنهم يحملون الإسلام تبعات أخطاء البشر والخطط الجهنمية لتشويه سمعة الإسلام، وبدلاً من الدفاع عن الإسلام ضد تلك المخططات نجدهم يقارنون البلاد الإسلامية بالتطور الغربي، حتى إنهم يمدحون أخلاق المجتمع الغربي وينتقدون سوء أخلاق المسلمين دون طرح الظروف والملابسات التي أوصلت الأمور إلى هذا الحال، وفيما إذا كان الإسلام هنا هو الضحية أم الجلاد؟


بطبيعة الحال أغلب هذه الآراء تصدر عن أشخاص متوسطي الثقافة، فبالتأكيد سيفكر المثقف المتابع لما يجري بعين التأني قبل أن يطلق أحكاما مجحفة بحق ما يؤمن به من دين، ولو ظاهرياً على الأقل، لكن الخطورة تكمن في وجود شريحة من المثقفين الذين يشاركون الآخرين في حفلة جلد الذات في إسلامهم ودينهم وعروبتهم ثم عراقيتهم، ولا شيء يقف أمام احساسهم بالحاجة لجلد الذات، فهو مرض كما أشار الأخصائيون، ومن الطبيعي أن يحتاج إلى العلاج، وهذا يقودنا لطرح السؤال التالي; كيف سيؤثر هذا المرض في الأجيال القادمة التي تتعطش للتعلم واكتساب المعرفة عن دينهم وانتماءاتهم القومية في ظل وجود من يحاول إراحة ضميره – حسبما يعتقد- على حساب الدين والعروبة؟


يتساءل أحد الكتاب المؤيدين لجلد الذات دون الاعتراف به، بأنه لا يعرف من ترجَم مصطلح (جلد الذات)؟ ويقول بأنه أصبح درعاً يحتجب وراءه كل من يريد أن يمنع "النقد"! ويُلحقوه بتعبير محلي يصف الواقعيين (بالمتخاذلين)، فإذا قال كاتب ما لا نستطيع أن نقاطع أمريكا أو أن نحاربها هبوا في وجهه بكلمة المتخاذلين، ويبقى مصطلح جلد الذات أسوأ المصطلحات التي نستخدمها دون تبصر، والذي جاءنا بصحبة مجموعة من المصطلحات الأخرى التي توسَّع الكتاب و(الدعاة!) في استخدامها حتى فقدت قيمتها ودلالاتها، في بعض الحالات انقلبت على أعقابها، صارت تدل على عكس ما سُكت من أجله.


لقد ذكر الكاتب هنا مفردة أخرى مرادفة لجلد الذات وهي "النقد"، لكن في الواقع أراد بها الالتفاف على جلد الذات كما بينه في صعوبة مقاطعة أمريكا، وهو توضيح لا يقبل الشك بضعف الأمة العربية والإسلامية بالمقارنة مع أمريكا، والنقد يتطلب عكس ما طرحه الكاتب، بل يستوجب عدم الانجرار وراء إهانة الذات أو المجموعة أو الشعب أو الدين، وينبغي أن يطرح مع موجبات معالجة الخلل وتقديم النصائح دون تطرف بالأحكام، وهذا بعيد كل البعد عن مفهوم جلد الذات الذي ذكرناه.


نعود إلى البعض الكثير من العراقيين الذين يستمتعون بجلد ذاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي وبالأخص الفيسبوك، فقد وصل بعضهم مراحل متقدمة من هذا الداء فبدأوا بلعن اليوم الذي جاؤوا فيه إلى هذه الحياة، ربما يعطي البعض الحق لهؤلاء بهذا الشعور بسبب مأساة الشعب العراقي وظروفه الخاصة، لكن ما نحتاجه هنا ليس تشخيص الخلل فحسب، بل وطرح الحلول لمعالجة هذا الخلل الخطير الذي في النهاية سيمتد شره إلى باقي الأجيال في ظل انتشار الفيسبوك والمواقع الأخرى على نطاق واسع بين المراهقين والشباب الذين يحتاجون في هذه المرحلة للتشجيع ورفع معنوياتهم وأرساء الأسس الصحيحة لبناء شخصيتهم الوطنية والقومية والإسلامية، ليكونوا عونا لوطنهم وليس فرعوناً عليه.


من الطبيعي أن لا يشعر جالد الذات بمرضه، فهو كأي مرض نفسي لا يرى فيه المريض نفسه مريضاً، لذلك تصعب معالجته إذا لم يعترف بمرضه، بل إنه يعتبر عملية الإهانة والتحقير التي يوجهها للدين أو للأخرين الذين يحملهم مسؤولية ما جرى له هي حقائق لا تقبل الشك، لأنه أقنع نفسه بها أولاً، ثم ساهم آخرون بترسيخ تلك الأفكار، وتم تداولها بشكل واسع لتشكل حقيقة غير واقعية لمن يملك استعدادا لتصديقها، وسنعطي مثلا عن العراق، فبعد احتلال العراق مباشرة لم تكن هذه الحالة منتشرة على نطاق واسع، لكن بعدما أمعن المحتلون وأعوانهم بالقتل والاعتقال والتشريد والتهجير أصبح من السهل تقمص شخصية جالد الذات، وبدلا من أن توجه سهامها إلى المحتلين وحكومتهم التي نصبوها في العراق، وجهوها إلى المقربين منهم، رموا كل لومهم على الحكومة الوطنية التي كانت هي الضحية قبل أن يكون الشعب، فبغض النظر عن اللغط الحاصل حول أخطاء الحكومة في العهد الوطني، إلا أن المنطق والقانون والعرف والشرع يقول بأن المعتدين هم فقط من يتحملون أخطاء افعالهم، وإن من يحتل البلاد يتحمل كل تبعات هذا الاحتلال.


من الطبيعي أن لا يتمتع جالد الذات بالمصداقية، ومهما حاول الآخرون أقناعه بخطأ تقديره وحكمه إلا إنه يصر عليه، مع علمه بالحقيقة الكاملة، لكن وللسخرية يدافع عن الحقيقة الكاذبة على حساب من أتخذه سبيلا لجلد الذات، ومن الواضح هنا أننا نضع الدولة العراقية والشعب العراقي في بوتقة واحدة، بمعنى عندما نتكلم عن الحكومة العراقية قبل الاحتلال فإننا سنشمل الشعب أيضاً، فبهذا سيكون لجلد الذات معناه الحقيقي، فالحكومة العراقية لم تعمل لوحدها، ولم تحارب بمفردها، ولم تصيب أو تخطأ بمفردها، بل وكما معروف كان هناك شعب يمشي خلفها ويحقق لها ما تصبو إليه، لذلك يصب جالد الذات جام غضبه على الحكومة الوطنية دون أن يذكر دوره فيها أو في عهدها، وهو بهذا يجلد نفسه قبل أن يجلد ذات الحكومة الوطنية، ولأسباب يعلمها هو فقط.


وهنا نأتي إلى طرق العلاج التي وجدتها من خلال قراءة بعض مقالات للاخصائيين في الامراض النفسية، والتي نتمنى أن يتبعها حتى الأصحاء منا، فهي لتصحيح الذات قبل أن تكون علاجا لجلد الذات، وأول طرق العلاج هو التفكير والتصرف بواقعية إيجابية بحيث نتعامل مع الواقع كما هو وليس كما ينبغي ان يكون، وينبغي على الانسان ان يحسن من خبرته من خلال تجاربه السلبية والايجابية ليحقق التطور لذاته ودون مبالغات، بدلا من جلد ذاته وتحقير الاخرين بنرجسية، فالمطلوب ان نثق في ذواتنا بلا جنون ولا نرجسية ولا جلد الذات المبالغ فيه.

 

ونختم هنا بالقول، إذا كان لابد من جلد الذات، فلنجلد ذواتنا من اجل تصحيحها وتهذيبها وتشذيبها وتأديبها، فهذا نوع من انواع التفكير العقلي النقدي البناء لسلوكياتنا اليومية، على ان نأخذ في اعتبارنا اننا كما نجلد ذواتنا لابد من ان نمدحها ونثني عليها ونكافئها باعتدال في حال احسنت التصرف، ولنتقي الله في انفسنا ووطننا وقادتنا وديننا سلباً وايجاباً.
 

 

 





الاحد ٧ محرم ١٤٣٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٠ / تشرين الثاني / ٢٠١٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الوليد خالد نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة