شبكة ذي قار
عـاجـل










عندما بدأت حركة الإصلاح الديني بقيادة جمال الدين الأفغاني ( 1838-1897 ) ، وتلميذه الشيخ محمد عبده ( 1849-1905 ) ، كان الهدف أن الإسلام جدير باستيعاب التقدم العلمي الأوروبي. وأن المسلمين لهم القدرة على بناء حضارة عصرية كما فعلوا في الماضي بعد تفاعلهم مع علوم اليونان والفرس والهنود. ومن هذا المنطلق كان رد الأفغاني على المؤرخ الفرنسي أرنست رينان ( 1864-1922 ) ، حول ميزة العرب المسلمين عن المسلمين غير العرب في قوة ثم ضعف الدولة الإسلامية.


أن جذور هذه "الصحوة" تعود إلى أيام شيخ الأزهر حسن العطار ( 1776-1835 ) عند تدريسه اللغة العربية للعلماء الفرنسيين المصاحبين لحملة نابليون بونابرت ( 1769-1821 ) على مصر عام 1798. حيث وجد البون الشاسع في المفاهيم العلمية والأفكار العقلية. خصوصاً وأن كثرة تنقلاته بين البلدان العربية جعلته يدرك تماماً مدى التأخر الذي يعيشه العرب عن الأوروبيين. فأطلق عبارته الشهيرة" "أن بلادنا لابد أن تتغير وأن يتجدد بها من العلوم والمعارف ما ليس بها".


هذا النداء لم يكن بعيداً عن دور محمد علي ( 1805-1848 ) في تشيد وبناء دولة مصر الحديثة. وإرساله البعثات العلمية إلى أوروبا. ولقد رشح الشيخ العطار تلميذه رفاعه الطهطاوي ( 1801-1873 ) كإمام لبعثة مصر الأولى إلى فرنسا بين ( 1826-1831 ) . إلا أن الأخير لم يقتصر على الواجبات الدينية، بل تعلم الفرنسية بدقة ودرس التاريخ وأطلع على بقية العلوم والأفكار الحديثة. ( ربما تكون هنالك توصية أو توجيه من العطار إلى تلميذه ) . وما أن أنتهت البعثة حتى تم تعينه مترجماً، ولقد نقل لنا العديد من الكُتب وألف أُخرى بينها: "المرشد الأمين للبنات والبنين". ورغم المراكز التي شغلها في الترجمة والتعليم والصحافة، إلا أن نظرته إلى السلطة السياسية بقت ضمن نظرة التفكير الإسلامي التقليدي.


كانت مرحلة الطهطاوي تمثل واقعاً مستقلاً بكيانه السياسي والاجتماعي أمام أوروبا. بيد أن مرحلة الأفغاني وعبده كانت مغايرة. حيث بدأت أوروبا بالتكشير عن أنيابها وأطماعها الاستعمارية. فقد احتلت فرنسا أراضي تونس عام 1881. وكذلك احتلال بريطانيا لمصر عام 1882. مما جعل الأفغاني يُركز أكثر على خطورة الاستعمار الأوروبي من جهة. وفهم الإسلام الصحيح وضرورة الوحدة الإسلامية من جهة أخرى.


أن النشاط السياسي والفعّال عند الأفغاني، وبالأخص أثناء إقامته في مصر ما بين ( 1871-1879 ) . نجمت عنها تصادمه مع الخديوي توفيق ( 1892-1922 ) الذي أمر بنفيه إلى الهند تحت ضغط القنصل العام البريطاني. ولكن تعاليمه الثورية وأفكاره الإصلاحية والتجديدية؛ تجلت في ثورة أحمد عُرابي ( 1841-1911 ) في عام 1882 ضد الخديوي توفيق الذي أباح الإحتلال البريطاني لمصر. إلا أن إنكسار الثورة ونفي الشيخ عبده إلى لبنان، قد أثرت أيما تأثير على الجانب السياسي في عملية الإصلاح الديني. حتى أن عبده أسقطها نهائياً من تعاليمه الإصلاحية كشرط من شروط عودته إلى مصر عام 1888.


ورغم أن تلميذ عبده الشيخ رشيد رضا ( 1865-1935 ) قد خالف أستاذه ونادى بقيام دولة عربية لا ترتبط بالأتراك وفضل آل سعود على الهاشميين. إلا أن الموقف السياسي برمته قد أهتزت أركانه بعد الحرب العالمية الأولى ( 1914-1918 ) ، وسيطرت الاستعمار البريطاني والفرنسي على معظم البلدان العربية.


حركة الإخوان المسلمين


لقد ظهرت حركة الإخوان المسلمين في الإسماعيلية على يد مؤسسها حسن البنا ( 1906-1949 ) في العام 1928. حيث نادى بأن الرأسمالية والشيوعية لا تخدم المسلمين وأن الإسلام هو الحل. وسار على نهج رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده في أهمية تعليم المرأة كيما تأخذ دورها في بناء المجتمع. وهكذا شكل جمعية الأخوات المسلمات. وبما أن طبيعة العمل السياسي توجب المواجهات والصدامات، لذا فأن عناصر من الإخوان قامت باغتيال رئيس الوزراء مصطفى النحاس عام 1949. مما أدى إلى اغتيال حسن البنا على يد رجال الشرطة السرية للملك فاروق ( 1936-1952 ) .


ثم جاءت الضربة الثانية للإخوان عندما فشلت محاولة أغتيال الرئيس جمال عبد الناصر ( 1956-1970 ) في حادث المنشية عام 1954. حيث هاجمت السلطة مقار وأوكار الحركة. وبعد إدانة ثانية للإخوان بمحاولة إسقاط نظام الحكم، تم تنفيذ الإعدام بثلة من القادة وعلى رأسهم المفكر الإسلامي سيد قطب في عام 1966.


أن نظرية دولة الإسلام وإقامة الشريعة الحقة التي تأثر بها سيد قطب بصورة أو أخرى عبر كتابات المفكر الباكستاني السيد أبو الأعلى المودودي ( 1903-1970 ) ، والتي توجب التصادم مع أنظمة الحكم العلمانية. حيث أن الأخير أتخذ من هجرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ومحاربته لقريش؛ مبدأً ومنهجاً يدعو به علانية إلى الجهاد ضد الأنظمة الكافرة ومنها العالم الغربي. ورغم أن حكم الإعدام قد صدر بحق المودودي، إلا أن ضغط بعض الدول العربية وبالأخص الخليجية على حكومة أيوب خان ( 1958-1969 ) ، خفف الحكم إلى السجن.


أن الضربات أو الخسارات التي لحقت بحركة الإخوان أجبرتهم على العمل السري ردحاً من الزمن. وبما أن فكر ومبدأ الحركة قد تشعب وتغلغل في عدة بلدان عربية وإسلامية وتحت مسميات أُخرى، فأن نشاط وحيوية الإخوان لم ينقطع. بل خرجت منه بعض الحركات المتشددة والمتطرفة مثل "الجهاد الإسلامي" التي نفذت عملية اغتيال الرئيس أنور السادات عام 1981؛ على يد مجموعة الملازم الأول خالد الإسلامبولي ( 1958-1982 ) ، الذي قال في التحقيق: أن السادات لم يقم حُكم الشريعة الإسلامية، وتصالح مع اليهود.


رغم أن حركة الأخوان بمصر كانت محظورة سياسياً لعقود طويلة، لكن إلتحاقها بقطار ثورة الشعب المصري في 25-1-2011، قد مكنها فيما بعد أن تتصدر قمارة القيادة بعد فوزها بالإنتخابات التشريعية في يناير/كانون الثاني 2012، ثم الرئاسية في يونيو/حزيران 2012. وبغض النظر عن الأسباب العلنية أو الخفية التي ساعدت حركة الأخوان لتحكم مصر، فلم تمضي سوى سنة واحدة على سلطتها حتى تم عزلها وحظرها ثانية، لتعود مرة أخرى إلى دهاليز السرية والعلاقات المتوارية. فالنظرية التي جبلت عليها حركة الأخوان قد أصطدمت بالواقع الرافض لأسلمة أو أخونة مؤسسات الدولة وفق النهج والفكر الأخواني. وبدلآ من أن يبدأ قادة الأخوان المخضرمين بتصحيح المسار، فقد أتجهوا نحو تصعيد المجابهة والمصادمة مع سلطات الدولة. مما يؤكد إستمرار نظرية سيد قطب فكراً وعملاً. وكما أنتهى الأخير إلى حبل المشنقة، فإن قادة الأخوان قد شنقوا مستقبل حركتهم جراء الحاضر الذي فرضوا فيه ماضيهم وحدهم.


جمهورية الخميني الإسلامية


رغم أن رَوح الله مصطفى الخميني ( 1320-1409 ه/1902-1989 م ) لم يخطط سراً لقيام ثورة شعبية، ولم يؤسس أو يقود حزباً تنظيمياً يستولي به على السلطة. بل كانت تصريحاته بأننا: "نريد مَلكية دستورية". إلا أن هذا لا يمنع من القول بأنه كان معارضاً بارزاً لسياسة الشاه محمد رضا بهلوي ( 1941-1980 ) . وأنه تحمل سنوات المنفى على أن لا يرضخ لإرادة الشاه التسلطية. ومن هنا نستطيع القول أن وصول الخميني إلى السلطة أشبه، من حيث المبدأ، بوصول البلاشفة في روسيا ضد الحُكم القيصري. حيث أن الانفجار الشعبي أنطلق أولاً ثم لحقت به المعارضة ثانياً. لقد أرتكب الشاه خطأهُ الفادح وذلك بالسماح لأجهزته القمعية بقتل المحتجين علانية أمام الملأ. فهاجت الجموع مزمجرة وأعلن الشعب ثورته. وكان الخميني من أكثر الرموز الإيرانية مؤهلاً لقيادة حشود الجماهير الثائرة.


ومن بين الأفكار والتنظيرات الجديدة التي أتى بها الخميني هي "ولاية الفقيه" التي تجيز له ولخلفائه بالحكم المتوالي حتى ظهور الإمام المهدي الذي اختفى منذ 1180 سنة ولن يظهر إلا قُبيل اليوم الآخر. لكن الحوزة العلمية في النجف قد رفضت هذه النظرية لأنها تتعارض مع الشرع العربي الشيعي. ويرى الخميني أيضاً بأن عمل رجل الدين لا ينبغي أن يكون محصوراً على ممارسة الطقوس والعبادات وإلقاء المواعظ والخطب. وإنما عليه المشاركة الفعلية والعملية في معترك الحياة السياسية، وأن يعتلي المناصب الحكومية في دولة النظام الإسلامي.


غير أن الخميني في عملية "تصدير الثورة" ركز على الوجود الشيعي في البلدان العربية. مما أحدث شرخاً في الأنسجة الإجتماعية والصلات الوطنية بين السُّنة والشيعة داخل البلد الواحد. لأن الخلاف هنا ليس محصوراً بالعقيدة ومبادئها، بقدر ما يتعلق الأمر بالمنهج السياسي والواقع الحياتي المراد تغيره. هذا الخلل قد طال حتى الدستور الإيراني الذي ينص على أن رئيس الدولة يجب أن يكون شيعياً–أثنا عشرياً. وهذا يعني أن الشيعي الزيدي أو الإسماعيلي وكذلك عموم أهل السُّنة لا يحق لهم التطلع لهذا المنصب ومهما كانت وطنيتهم صادقة وخالصة.


على أي حال، كان الخميني يطلق على أمريكا أسم "الشيطان الأكبر" وعلى دول العالم الغربي عبارة "دول الاستكبار العالمي". إلا أن مواجهاته وحروبه كانت ضد العرب المسلمين دون الغربيين. ومنها حرب السنوات الثمانية ( 1980-1988 ) ضد العراق. وأحداث الحجيج الإيراني في السعودية لعامي 1986 و1987. وإستمرار أحتلال الجزر الإماراتية "طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى". والتوتر مع دول عربية مهمة كمصر وغيرها، قد ألقت بظلالها على نظام الخميني نفسه. أما مسألة دعم الخميني لمنظمة التحرير الفلسطينية. فأن قضية فلسطين كانت شماعة للآخرين. فقد علق عليها الخميني عمامته كما علق عليها العسكر العرب بيرياتهم عبر انقلاباتهم المتعددة. واليوم نرى كيف أن حكام طهران قد دعموا لفترة معينة حركة حماس الإسلامية، بينما الميليشيات الصفوية القادمة من إيران كانت تقتل وتُهجر الفلسطينيين في العراق.


عموماً ما أن مات الخميني حتى ماتت معه فكرة "الشيطان الأكبر" و "دول الاستكبار العالمي" وبعض المفاهيم التي تتعلق بمناسك الحج. بل أن التعاون الذي كان سرياً بين أمريكا وإيران في أحتلال أفغانستان والعراق، قد كشفه بعض أركان النظام، هاشمي رفسنجاني ومحمد أبطحي مثالاً.


تنظيم القاعدة


عندما غزا الاتحاد السوفييتي أراضي أفغانستان في عام 1979، بدأ يواجه مقاومة متصاعدة من الحركات الإسلامية ومن المتطوعين الإسلاميين العرب. فقد كان المجاهدون يتلقون دعماً واسعاً حيث السلاح الأمريكي والمال السعودي والمعلومات الاستخبارية الباكستانية. وخلال عشرة سنوات من القتال، لاسيما في النصف الثاني منها، حيث برز أسم أسامة بن لادن ( 1957-2011 ) كقائد عربي جهادي. ولقد أنشأ المعسكرات التدريبية وشارك في عدة معارك أهمها "معركة باكتيا". وبعد أندحار القوات السوفييتية رجع بن لادن إلى وطنه السعودية دونما أن يتدخل في الإقتتال الدائر بين مجاهدي الأمس وأعداء اليوم، رغم أنه توسط فيما بينهم.


وفي حرب الخليج الثانية عام 1991، رفض بن لادن موقف بلاده الرسمي بفتح الحدود وأستقبال القوات الأمريكية لضرب العراق. فقد ذهب إلى باكستان ثم إلى أفغانستان وبعد عدة شهور طار إلى السودان حيث المد الإسلامي. وهناك أبدى أستعداده في مساعدة الحكومة، فأقام مشاريع إنمائية. وعندما أتحد تنظيمه مع منظمة الجهاد التي يتزعمها أيمن الظاهري ( 1951- ) ، تم تشكيل "تنظيم القاعدة". وأصبح هذا التنظيم ذا طابع جهادي إسلامي عالمي. حيث شبكاتهم وخلاياهم والمتعاطفون معهم موجودون في عدة بلدان عربية وإسلامية وغربية.


وخلال العقد التاسع من القرن العشرين، نفذ تنظيم القاعدة سلسلة من العمليات حيث ضرب المركز التجاري العالمي في نيويورك عام 1993، والقواعد الأمريكية في الرياض عام 1995، ثم الظهران عام 1996. وكذلك السياحة في مصر، أبرزها عملية الأقصر عام 1997. وتفجير السفارتين الأمريكيتين في تنزانيا وكينيا عام 1998. وتحت الضغط الأمريكي، خرج أسامة بن لادن من السودان إلى أفغانستان عام 1996، حيث أن حركة طالبان قد أكتسحت معظم البلاد وفرضت نظاماً إسلامياً صارماً.


يبدو أن التحالف بين تنظيم القاعدة وحركة طالبان لم يكن على أُسس المصالح والمنفعة المشتركة كما هو معروف تقليدياً. إذ بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، عندما هاجمت القاعدة الولايات المتحدة الأمريكية في عقر دارها، وضرب أهدافاً في نيويورك وواشنطن بالطائرات المدنية المخطوفة، طالبت الإدارة الأمريكية من حكومة طالبان تسليم قادة تنظيم القاعدة وعلى رأسهم أسامة بن لادن بغية محاكمتهم. إلا أن علماء طالبان قالوا: لا نُسَلم مُسلماً، ولكن إن أراد بن لادن تسليم نفسه فليفعل. ثم قالت حكومة طالبان: أن أسامة بن لادن لا أثر له. غير أن هذا الإلتزام الإسلامي قد كلفها حُكمها عندما أجتاحت القوات الأمريكية أراضي أفغانستان في تشرين الأول/أكتوبر عام 2001.


السيستاني والاحتلال الأمريكي


بعد دخول القوات الأمريكية الغازية إلى بغداد في 9-4-2003، كان موقف المرجع الأعلى للشيعة في العراق علي السيستاني ( 1930- ) ينحصر في تقديم الجهاد السلمي وتأخير الجهاد المسلح. ويرى أن وجود الجنود الأمريكيين "إذا كان هناك حاجة إليهم فليكن عملهم بإشراف الأمم المتحدة لا قوات إحتلال". ورغم كل الجرائم التي أرتكبتها قوات الإحتلال الأمريكي، سواء في "سجن أبو غريب" مطلع 2004، أو أستخدام القنابل المحرمة دولياً ( الفسفور الأبيض في معركة الفلوجة الثانية تشرين الأول/نوفمبر 2004 ) أو غيرها الكثير من الجرائم البشعة واللاإنسانية، فإن السيستاني لم يغير موقفه حيال التمسك بالجهاد السلمي فقط.


وحتى عندما أثبتت المقاومة العراقية الباسلة قدرتها على مدى خمس سنوات من المجابهات اليومية الضارية ضد قوات الإحتلال الأمريكي، والتي تجلت بهزيمة المحتل عبر وضع جدول زمني رسمي للخروج من العراق. تجد في 24-5-2008 أن مصادر المرجعية في النجف قد نفت الأنباء التي تناقلتها وكالات الأخبار عن صدور فتوى من السيستاني تخص الجهاد المسلح لإخراج القوات الأجنبية من العراق.


لقد أشار وزير الدفاع الأمريكي الأسبق دونالد رامسفيلد ( 2001-2006 ) في مذكراته "المجهول والمعلوم"، أنه ألتقى بالسيستاني، وأن الإدارة الأمريكية دفعت للمرجع 200 مليون دولار على سبيل الهدية في إسقاط العراق، ولإصداره فتوى تُحرم قتل الأمريكيين. وأكد أن له علاقة قديمة بالسيستاني تعود لعام 1987، وأنه في خِضَمَ إعداد قوات الإحتلال لشن الهجوم على العراق كان لا بدّ من مشورة السيستاني حتى نخرج بنتائج لا تسبب خسائر فادحة في صفوف قوات الإحتلال. وفعلاً تَمَ الإتصال به عن طريق وكيله في الكويت جواد المهري. ولكن تراجع رامسفيلد عن أقواله، وتم حذف النصوص المتعلقة بالسيستاني.


إلا أن هذا لا يلغي الأستدال العقلي والإستنتاج المنطقي لواقع الحال عن لينة السيستاني تجاه المحتل الأمريكي، وأبعاد ذلك في إستلام السلطة لكتلة شيعية طائفية مصنوعة في إيران. وما زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد إلى بغداد في 3-3-2008، تحت الحماية الأمريكية، إلا لتثبيت تلك الكتلة على مقاليد الدولة. وهذا ما جرى منذ ذلك الحين، وما زال السيستاني صامتاً ساكتاً حيال ما جرى ويجري في العراق من قتل طائفي وإنفلات أمني وتأخر في كافة المجالات والميادين، وفقدان الأمن والأمان، والفساد المالي والإداري الذي وصل بالعراق نحو الحضيض عالمياً.


ويشير الحاكم الأمريكي لدى العراق بول بريمر ( 2003-2004 ) في كتابه "عام قضيته في العراق" عن علاقته بالسيستاني ودوره الرئيسي في تمرير الإحتلال، حيث يقول: "بعد التحرير مباشرةً، أبلَغَنا السيستاني بواسطة قنوات خاصة أنه لن يقابل أحداً من التحالف. ولذلك لم أطلب بعقد إجتماع شخصي معه". وقال لي هيوم المختص بالشأن العربي، إن "السيستاني لا يمكن أن يقبل بأن يظهر علانية بأنه يتعاون مع قوة إحتلال، لكنه سيعمل معنا، فنحن نشترك معه في الأهداف ذاتها". وكان هيوم محقاً في تحليله، فقد أرسل لي السيستاني ذات يوم يقول: إن عدم لقائه بنا ليس ناتجاً عن عداء للتحالف، وإنما لأنه يعتقد أنه بذلك الموقف يمكن أن يكون أكثر فائدة لتحقيق أهدافنا المشتركة، وبأنه سيفقد بعض مصداقيته لدى أنصاره لو تعاون بشكل علني مع مسؤولي التحالف، كما فعل بعض العلمانيين من الشيعة والسُّنة. وأكد بريمر، في مذكراته، أن وسائل الإعلام العربية والأجنبية التي تحدثت عن الصلات المقطوعة بيننا وبين السيستاني، فإنني كنت على إتصال مستمر معه حول القضايا الحيوية، من خلال الوسطاء.


ولكن إذا عطل السيستاني المقاومة المسلحة، وحرم حتى الجهاد الدفاعي ضد جرائم الغزاة الوحشية، وحقن دماء جنود الإحتلال، فإن بعض المراجع العربية العراقية قد أفتت بمقاومة الإحتلال، محمود الصرخي ( 1964- ) نموذجاً. ففي معركة الفلوجة الأولى حزيران/يونيو 2004، أصدر الصرخي بياناً رقم 13 معنوناً: "فلوجة الخير والمقاومة". وفي بيانه رقم 20 ينص فيه على ما يلي:


"لا تجعلوهم يستخفون بكم فتتبعوهم كما أستخف فرعون بقومه فأتبعوه. أقرؤوا التاريخ والأحداث وحاكوها وأحكوها وحاكموها، وأسألوا وكرروا السؤال كيف أن ( الإحتلال = التحرير ) ؟ وكيف أن ( فضائح وجرائم أبي غريب وكل السجون العراقية = الحرية والديموقراطية ) ؟ وكيف أن ( تحذيرات وزير حرب الكفر والإحتلال وباقي المسؤولين بخصوص تشكيل الحكومة والملف الأمني في العراق = أن أميركا لا تتدخل ) ؟ حاسبوا، أوقفوا، أنتقدوا كل مَنْ يقول أن الإحتلال لا يتدخل".


أستنتاج


أن ما نستنتجه من الدور الذي أنطلقت من أجله حركة الإصلاح والتجديد الديني عند الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده وسواهم، إلى ما تقوم به الأحزاب والحركات الإسلامية، من حركة الأخوان المسلمين، وتنظيم القاعدة، والأفكار عند الخميني والسيستاني، فأن تنطير الفكر الديني لم يخدم الواقع حياتياً وإجتماعياً بالمعنى الصحيح والواجب له. لأن التنظيمات الإسلامية ذات أهداف سياسية متغلفة بالدين، وشتان بين تطبيق التعاليم الدينية الخالصة، وتطبيق الفكر الديني السياسي. فالأول متروك إلى حرية الفرد بالإلتزام أو التسيب. أما الثاني، فنهج يخص جماعة معينة تريد فرضه على الواقع.


بلا أدنى شك، أن الواقع العربي اليوم يعيش مرحلة الإسلام السياسي. وبما أن لكل عصر سياسي سمة يتميز بها، حيث كانت الحركات القومية العربية في القرن العشرين متميزة بالثورية والمد الجماهيري الصاخب؛ والذي تتوج في الوحدة العربية بين مصر وسوريا والعراق. فأن ميزة الأسلمة السياسية هي إستغلال الدين في محاكاة شعور المسلمين بغية الوصول إلى السلطة. وما أن وصلت بعض الأحزاب الدينية إلى السلطة حتى أظهرت في ممارساتها سلوكاً منافياً للدين وللأخلاق وللإنسانية. ومن المؤكد أن الأحزاب الدينية في العراق قد أعطت أسوأ وأردأ صورة على الإطلاق. فقد تحالفت مع المحتل الأمريكي الصليبي لإستلام السلطة من ناحية. وتطبيق منهجاً طائفياً يعمل على التمزيق الإجتماعي من ناحية أخرى. ناهيك بالكلام عن الجرائم والفساد وتبدبد ثروات البلاد وسرقات قوت الشعب، إبتدأً من حزب الدعوة الإسلامي، والمجلس الأعلى الإسلامي، والحزب الإسلامي العراقي. وكذلك بالنسبة إلى الميليشيات الطائفية وجرائمها البشعة في القتل والتهجير المناطقي على يد منظمة بدر، وجيش المهدي، وعصائب أهل الحق، حزب الله العراقي.


هذا وأن التناقضات بين الأحزاب والحركات الإسلامية تعكس مدى ضبابية أفكارها ومواقفها. فالأحزاب الدينية التي أشرنا لها في العراق، قد تحالفت مع المحتل الأمريكي الغازي ضد أبناء دينها وشعبها. ناهيك بالكلام عن تناقض السيستاني بحق تعاليم الدين الحقة التي تنص على رد الصائل والجهاد ضد المحتل الغازي. وإذا كانت حركة طالبان وتنظيم القاعدة يقفان ضد العدوان الأمريكي في البلدان الإسلامية، فإن عموم الأخوان المسلمين في العالم العربي على توافق مع السياسة الأمريكية.


أن التناقضات تظهر حتى في أتباع النهج الواحد، كما في حزب الله في لبنان، والمجلس الأعلى وحزب الدعوة في العراق. فرغم أن جميع تلك الأحزاب الطائفية مرتبطة بالنهج الصفوي الإيراني، تجد أن الأول يضادد الموقف الأمريكي، بينما الآخران متحالفان مع الإحتلال الإمريكي. ويتجلى التناقض أكثر مع سياسة إيران نفسها، في عهد الخميني الذي تدعي فيه معاداتها إلى "الشيطان الأكبر" أمريكا، ثم يتم التعاون مع هذا الشيطان ضد البلدان العربية والإسلامية في عهد خامنئي.


بالاختصار أنه عصر الصدمة لكل مسلم عاقل. أنه عصر "كل الذين يطلبون الرزق من دكانة الإسلام"، كما قال نزار القباني ( 1923-1998 ) في قصيدة "الاستجواب". ومن هنا نستطيع القول أن مستقبل الإسلام السياسي لا أزدهار فيه ولا رفاه ينتظره. وإلا لأصبحت إيران هي النموذج المثالي في العالم الإسلامي سياسياً وأقتصادياً وإجتماعياً وعلمياً. فبعد أكثر من ثلاثة عقود تجد أن الواقع الإيراني: 10% مدمن على المخدرات، 40% نسبة الفقر، 50% نسبة العطالة خارج المُدن الكبرى، التضخم في تصاعد مستمر، الإضطهاد والأستبداد السياسي يعم جميع القوميات غير الفارسية. فإيران تغلي وتمور تحت نظام الملالي الإسلامي.


كما وأن غرس بذرة الطائفية أو التحالفات الأجنبية أو الهجمات التكفيرية لا مستقبل لها مهما طالت مرحلتها أو قصرت. وشواهد التاريخ كثيرة على ذلك، منها: خوارج الأزارقة، وقرامطة الكوفة، وصفوية عباس الأول، وجمهورية الخميني الإسلامية.


مركز المزماة للدراسات والبحوث

 

 





الجمعة ١٤ ربيع الثاني ١٤٣٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٤ / شبــاط / ٢٠١٤ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. عماد الدين الجبوري نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة