شبكة ذي قار
عـاجـل










ثمة اكثر من سبب يدعو إلي الاعتقاد بان السياسة الأمريكية فاشلة، وفشلها يظهر في شكل أزمة وضعت هي نفسها فيها بفعل اخفاقات في الرؤية الحقيقية للواقع الإقليمي والدولي، وكذلك بسبب  اعتقاداتها بسلسلة من المفاهيم النظرية ذات الطابع الإستراتيجي.

 

وعلى الرغم من أن الاستراتيجية في ولآية "بوش الأبن" لم تنشر، إنما جاءت في صيغة وثيقة استراتيجية للأمن القومي الأمريكي، أعلن عنها في ايلول- سبتمبر 2002 ثم تم تحديثها في آذار- مارس 2006 ، تحت الرمزين  ( 2002-Nss ) و  ( 2006-Nss ) ، فأن فهم المنطق الإستراتيجي في استراتيجية الشؤون الخارجية يكمن في إستقرائها من خلال كلمات أو أفعال، وتقع في مقدمتها مفردة الإستباق في استخدام القوة.

 

فقد اجمع الكثير على ان هذا المنطق يدفع الإدارة الأمريكية نحو سياسات ليست في مصلحة المجتمع الامريكي الذي يعاني من التضليل وكذب الإدارة الأمريكية المتعاقبة على البيت الأبيض، الامر الذي يؤكد ان هذه السياسة باتت متأزمة وازمتها الراهنة تمتد الى منحيين :

 

احدهما يؤشر ظهور ملامح في هذه المرحلة وصفت بعودة الحرب الباردة، التي كانت تخيم على سياسة المعسكرين الأمريكي والسوفياتي، ولكن مثل  هذه الملامح لا تتطابق، لا في التشكيل ولا في القدرات ولا في الظروف .

 

والمنحي الاخر : يظهر رغبة الادارة الامريكية في ان تكون اممية شمولية تحتوي العالم كله في صيغة اوامر وقرارات يصدرها الكونغرس الامريكي لتطبقها شعوب العالم .. ولكن الرغبات تختلف عن القدرات للوصول إلى الأهداف الأممية، الأمر الذي يؤكد تراجعاً امريكياً أمام  تراكم للأخطاء والفشل في تقييم المواقف .

 

والملاحظ في هذا الشأن :

 

أولاً- من الصعب الإعتقاد بأن أمريكا قادرة على احتواء العالم ووضعه تحت سقف الكونغرس الأمريكي لتصريف سياساتها المختلفة والمتنوعة.

 

ثانياً- كما أنه من الصعب الإعتقاد بأن روسيا قادرة على احتواء العالم بأي وسيلة كانت ووضعه تحت خيمة الكرملين لتطبقها شعوب العالم تحت أي مسوغ .

 

ثالثاً- ومن الصعب الاعتقاد بأن حرباً باردة مستنسخة ستعود على المسرح السياسي الدولي كما لو أن الاتحاد السوفياتي لم يسقط .

 

رابعاً- إن طابع الصراع الدولي الراهن ليس آيديولوجياً ولا مغلفاً بالآيديولوجية كما كان عليه الصراع بين الشيوعية والرأسمالية، بين الإشتراكية والسوق الحرة وتسيد الفرد في قيادة الإقتصاد.  طابع الصراع بين أمريكا وروسيا هو سياسي- اقتصادي له ابعاد استراتيجية .. ومن هذا يتبين أن أمريكا لم تتخلَ عن نهجها الرأسمالي المأزوم ولا عن نهجها الإمبريالي الذي يعاني من الإنكسار والتراجع .. فيما تخلت روسيا عن نهجها الأيديولوجي في تعاملاتها مع الشعوب وحركات التحرر الوطني حتى مع الأحزاب الشيوعية التي كانت تدين لموسكو بالولاء، ولم تعد في نهجها السياسي سوى رأسمالية - قومية، من نوع لا يكترث بنتائج الأفعال المستقبلية للعلاقات ( لقد خسرت موسكو علاقاتها مع اقطار الوطن العربي بسبب وقوفها مع نظام دمشق الذي يحارب شعبه من جهة، وبسبب وقوفها مع إيران عدو الأقطار العربية، هذه الأقطار التي تعداد نفوسها يربو على أكثر من ( 400 ) مليون نسمة.. ) .!!

 

دعونا نفسر الملاحظات الثلاث في ضوء المعطيات الراهنة :

1-  على الرغم من كل السيناريوهات ذات التوجه الإستراتيجي الأمريكي، سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي، فأن أمريكا عاجزة عن تحقيق هدف احتواء العالم حتى في اطار ما أسمته بالعولمة السياسية والاقتصادية والثقافية، لأن الأمر مرهون بثقافة الشعوب وحضاراتها الضاربة في عمق التاريخ .. فهل يستطيع المجتمع الأمريكي مثلاً أن يتخلى عن ( ثقافاته وحضارات مجتمعه المختلفة والمتنوعة ) التي لا تتعدى قروناً ثلاثة.؟!

 

2-  وعلى الرغم من كل السياسات الإستراتيجية والتحالفات الروسية المحورية، سواء كانت على المستوى الإقليمي أو الدولي، فأن روسيا عاجزة هي الآخرى عن تحقيق هدف احتواء العالم عن طريق سياسة المحاور الإستراتيجية، لأن الأمر مرهون بمصالح الشعوب وحقوقها وسيادتها واستقلالها، وأمنها واستقرارها.. وهل يستطيع المجتمع الروسي أن يتخلى عن أمنه واستقراره إلى ما لانهاية من الصراعات بسبب سياسة المحاور؟!

 

3-  ظروف الحرب الباردة في ظل صراع المعسكرين الأمريكي والسوفياتي السابق، هي غير الظروف الراهنة التي تحكمها متغيرات من نوع آخر، على المستوى الدولي وعلى المستوى الإقليمي.

 

4- ثم أن توازنات القوى الدولية والإقليمية هي الآخرى قد تغيرت، فيما انهارت توازنات قوى اقليمية تعد اكثر خطورة على مجمل السياسات الدولية والإقليمية في آن واحد، لأن السياسات تحكمها معاييرالقوة ويحكمها واقع علاقات قائمة على المصالح الثنائية والمتعددة الأطراف، فضلاً عن أمور تتعلق بالأمن والإستقرار الدوليين.

 

5-  ثم هل هنالك ما يشير إلى اختلال في ميزان تعادل القوى بين أمريكا وروسيا؟

 

 لقد فقدت روسيا الكثير من عناصر القوة في معناها الواسع، ولم يتبق لديها غير معادل الردع النووي الشامل المؤكد، فيما فقدت أمريكا الكثير من امكاناتها وقدراتها التي تمثل عناصر القوة بمعناها الواسع أيضاً، ولم يتبق لديها سوى معادل الردع النووي الشامل المؤكد .. فهما متعادلان في الردع الشامل المؤكد، ولا يستطيعان اعلان حرب بينهما ، وخارج معادلة الردع المتبادل هنالك منافسات وضغوط وحروب ربما بالأنابة تأخذ شكل التنافس السياسي وإن اخذ منحى الفعل العسكري المسيطر عليه.

 

وفهل هناك ازمة في السياسة الامريكية ام ان السياسة الامريكية تعيش في ازمة ؟، ويبدو الامر وكانه يدور في حلقة مفرغة يصعب تتبع بدايتها ونهايتها ولكن الأمر يتطلب التوقف قليلا لمعرفة عناصر تأزمها او مكوناتها والمقتربات التي تجعل منها منبعا للتأزم والتصادم مع المحيط الخارجي وكأن كفة الحرب هي القاعدة التي تستند اليها ازمة السياسة الامريكية في تعاطيها السياسي ـ الاستراتيجي على المسرح السياسي الدولي.

 

ولكي لا نستبق وضع الأولويات في معنى تحليل الأزمة والبحث عن مسبباتها القائمة. يتوجب الوقوف علي عناصر الفشل الامريكي في سلسلة السياسات الامريكية علي امتداد العقود الماضية وحتي العقد الراهن، ويكمن احد أهم عناصر الفشل في الإخفاق في تقييم واقع القوى الإقليمية والعناصر الحقيقية المحركة للصراع من جهة، وعدم القدرة على ( اعادة بناء نظم مستقرة بديلة وموالية لها ) اثر الحروب الإقليمية التي تشعلها تحت مزاعم ان تلك النظم ديكتاتورية وتنعدم فيها الديمقراطية وحقوق الإنسان.

 

 ان مسألة مكافحة الارهاب باعتبارها احد اهم عناصر الاستراتيجية الكونية الامريكية ليست محددة وعناصرها يصعب وضعها في زاوية الحروب النظامية، ومفهوم الارهاب لم يحدد بعد، كما يصعب وضع سقف زمني لتجفيف، كما يقال ( منابع الارهاب ) ، والسبب في الاستحالة هو ان معالجة هذه المسألة يتوجب الرجوع الي مسبباتها وليس الي نتائجها ـ فمسببات الارهاب الدولي معروفة للجميع وتتلخص في الاحتلال الاستعماري ـ الاستيطاني، والتجاوز على حقوق الشعوب في اختيار أنظمتها السياسية والاجتماعية بحرية، واستمرار النهب الاستعماري لثرواتها، الذي ينجم عنه الجوع والمرض والتخلف واليأس ، كل هذا الارث الاستعماري يخلق استجابة مضادة تأتي في صيغة دفاع عن الوجود الانساني والهوية الوطنية والقومية، كما تأتي في صيغة مقاومة  تسميها أمريكا بـ ( الارهاب ) !!

 

وعلى الرغم من ان الاستعمار لم يعد له وجود عسكري مباشر الا ان مثل هذا الاستعمار نجده على ارض فلسطين العربية يتمثل باحتلال اسرائيلي جاثم بكل ثقله السياسي والعسكري على شعب فلسطين منذ عام 1948 رغم قرارات المنظمة الدولية، التي تؤكد حق الفلسطينيين في تقرير المصير، وترفض محو الهوية القومية للشعب الفلسطيني، وتغيير الحقائق التاريخية التي هي حق من حقوق السيادة الفلسطينية على ارض فلسطين.. فان الاستعمار الاستيطاني الصهيوني ما يزال يتحدي قرارات المجتمع الدولي والشرعية الدولية، ويرفض الاذعان لمبادئ ميثاق الامم المتحدة والقانون الدولي.. ومع ذلك يحظي الكيان الصهيوني بدعم الولايات المتحدة!!

 

ان اشاعة خيار القوة في السياسة الامريكية بطريقة هستيرية متعجرفة قد تجاوزت الارث العالمي من الاتفاقيات التي توصل اليها المجتمع الدولي لتنظيم علاقاته في مختلف الصعد، وممارسة الضغط بفرض خيارات العولمة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها على النمط الامريكي دون الاخذ بنظر الاعتبار المشاعر الوطنية والقومية والدينية لشعوب وحضارات العالم المختلفة التي تعتز بها وتتمسك بجذورها ومرتكزات وجودها ومستقبلها، الامر الذي اشاع ردود افعال شملت عددا من الاهداف الامريكية والصهيونية وبطريقة تمثل تحولاً نوعياً في الفعل ورد الفعل، فيما باتت المعايير المزدوجة حيال قضايا العالم المختلفة تتناقض مع العدالة والديمقراطية، اسلوب تتبعه الادارات الامريكية، والذي اسقطها في تناقض فاضح،  شكل ازمة في السياسة الامريكية عند تعاملها مع مختلف الملفات الساخنه والقضايا المهمة في مختلف مناطـــق العالم .

 

فكلما قامت امريكا بشن حروبها الاقليمية، كلما فقدت الكثير من أمنها، واستقرارها في الداخل واحكمت علي نفسها طوقا من قيود الامن وعلى مجتمعها احكاماً تنسف اسس الحرية والديمقراطية التي تتبجح بها، وتزرع الشكوك في التعامل الاجتماعي مع مختلف اقليات الشعوب في القارة الامريكية، فيما تشيع عوامل الفوضى في مجتمعات العالم .. وهذه تعد ازمة مركبة تعيشها  السياسة الخارجية والداخلية الامريكية.

 

ويمكن تلمس الازمة في السياسة الامريكية من خلال جملة من التناقضات، فقد كانت أمريكا تزعم  انعدام الديمقراطية وحقوق الانسان في ظل الحكم الوطني قبل احتلالها للعراق، ولكنها كانت في الوقت ذاته تقصف بطائراتها منازل المواطنين العراقيين ( سنة وشيعة، مسلمين ومسيحيين، عرب واكراد وتركمان واخرين ) ، ومزارعهم ومنشآتهم المدنية وترمي طائراتها العسكرية المشاعل الحرارية لتحرق حقول القمح والشعير وهو غذاء الشعب العراقي، كما نشرت ( جرذان المزارع، وبيوض الآفات الزراعية، منها بيوض ذباب المواشي والجراد، والعناكب الحمراء التي تقتل وتدمر غابات النخيل ) .. فهل ان ذلك من دواعي الديمقراطية أو مناصرة الشعوب وحمايتها؟

 

تلك هي المفارقات الغريبة التي تمثل قمة التناقضات التي يكشف الفعل العسكري الامريكي عنها، الامر الذي يؤكد ان لا تطابق بين مزاعم أمريكا وأقوالها وتصرفاتها في الساحة الدولية، مما جعل قوى العالم المختلفة تدرك خطورة هذا السلوك وتحاول تجنبه او الاقتراب منه ومقاومته كل بطريقته الخاصة.

 

ان شن الحروب واحتلال أمريكا لدول أعضاء في المنظمة الدولية يخالف القوانين الامريكية والدستور الامريكي. كما يخالف القوانين الدولية، ويعد خرقا للحقوق السيادية التي تقرها مبادئ ميثاق الامم المتحدة.. ومثل هذا السلوك الامريكي الاجرامي قد ارتكب ضد ليبيا والسودان وافغانستان والعراق وعدد من الدول الاخري، تحت دعوى الديمقراطية وحقوق الإنسان .. فلماذا تسكت الآن عن خروقات حقوق الإنسان في العراق وسوريا وإيران على وجه التحديد .. والذي يفضح اهداف الحرب الامريكية الشعواء على العراق واحتلاله هو خزين النفط الاستراتيجي الهائل فيه، كما ان من اهداف التحرك الامريكي ضد السودان هو النفط،  وأن احتلال ليبيا هو النفط ايضاً ، فيما يأتي احتلال العراق وتدميره من أجل النفط وحماية ما يسمى بالأمن الإسرائيلي .

 

ان المشكلات الدولية وملفاتها الساخنة لا تحل الا من قبل اصحابها على اساس الحوار الثنائي المتبادل، ومن العسير التفكير بان السياسة الامريكية وطريقتها في حل هذه المشكلات سوف يؤدي الي نتائج مرضية للطرفين او الاطراف المتنازعة، انما المؤكد ابقاء المشكلات ( معلقة ) ومشروطة بمحددات امريكية ترتبط بمسارها الاستراتيجي في هذه المنطقة او تلك، وهذه سمة اساسية للسياسة التفاوضية الامريكية حيال الكثير من الملفات الساخنة التي لا تترك للاطراف المتصارعة أو المتفاوضة فرصة حلها ثنائيا دون اقحام سياساتها فيها بطريقة لا تراعي الاستقرار والامن الاقليميين.. وكلها مزاعم هدفها العبور نحو اهداف استراتيجية متوسطة وبعيدة المدي تحرم خصومها من فرص التطور والتقدم والتوحد .

 

والآن .. وبعد انكسار امريكا في العراق وهزيمتها السياسية والعسكرية أمام قوى المقاومة الوطنية العراقية الباسلة، على مدار أحد عشر عاماً .. ماذا حل بالإستراتيجية الأمريكية، وخاصة في ظل ولاية "أوباما" ؟ وهل ارتضت الإلتفات إلى الداخل كما يقال واختيار العزلة السياسية، لأن أوضاعها الداخلية غير محتمله تقتضي الإنكفاء .. أم أنها تراجعت من اجل بلورة سياستها الإستراتيجية في ضوء المتغيرات الإقليمية والدولية وموازين القوى .. أم اختيارها الإبتعاد عن تنميط سياساتها هذه والظهور بقناع دبلوماسي ناعم يخفي الخوذة العسكرية ذات المسحة المخابراتية .. هذا الموضوع سنتناوله في الحلقة القادمة .







الاثنين ٢١ جمادي الثانية ١٤٣٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢١ / نيســان / ٢٠١٤ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. أبا الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة