شبكة ذي قار
عـاجـل










من حقائق التاريخ السياسي الحديث ، أن أمريكا تعتبر إيران رصيداً لها في صراعاتها الكونية .. خاصة في زمن الحرب الباردة بين المعسكرين، الشرقي بزعامة الأتحاد السوفياتي والغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وكان وضع إيران المهم في الخانة الجيو- إستراتيجية المحسوبة على المعسكر الغربي ، قد أغدق عليها السلاح والعتاد والرعاية الأستخبارية فضلاً عن خصوصية الرادارات المتطورة التي وضعتها أمريكا على تخوم بحر قزوين لتحصي انفاس الأتحاد السوفياتي، ما إذا كان يجري تجارب ذرية أو يحرك قواعد الصواريخ البلستية العابرة للقارات، من منطقة الغابات إلى أخرى، وهي منصات متحركة تحمل كل منها عدداً من الرؤوس النووية، إضافة إلى عسكرة الفضاء وفعالياته الأستخبارية والتجريبية التي ترصدها أمريكا من الرادارات المنصوبة على الأراضي الإيرانية، اظافة إلى المهمات الموكولة لنظام الشاه في المنطقة .. هذه الأهمية الجيو- ستراتيجية استمرت في ذهنية صانع القرار الأمريكي حتى بعد سقوط مصدق وسقوط الشاه وظهور خميني وخامنئي والذي يليه، على الرغم من الضجيج الأعلامي الذي يعكس صراعاً استغفل أعرق مؤسسة استخبارات في العالم وهي الـ ( KGB ) .

وحقائق التاريخ القديم والمعاصر التي تشير إلى تجاذبات تتخللها منافسات بين أمريكا كدولة ناهضة وبريطانيا كدولة آفله.. وهذا ماتفصح عنه معاهدات العامين 1917 و 1918 ، وقبلها الأتفاقيات التي عقدت بين موسكو وطهران ما بين عام 1723- 1735 والتي كانت تشكل هي الاخرى جذبا لبلاد فارس في خضم صراعات القوى .. ولسنا بصدد التعرض لهذا التاريخ بقدر الأشارة إليه لكونه يشكل قاعدة الأستنتاج لتفسير ما هو كائن من سياسات في ضوء حقائق ما يجري على المسرح السياسي الأقليمي والدولي.

كيف تنظر امريكا الى روسيا ؟ هل تغض النظر إليها وتتركها على حالها تبني قوتها وتحيط نفسها بسياجات من التحالفات والتكتلات حتى تصل إلى النقطة التي تمكنها من أن تتربع مكانة الأتحاد السوفياتي بمفهوم المعسكرين المتصارعين تحت ظل الحرب الباردة؟ وهل تسهل لها حركتها الاقليمية والدولية ؟ أم انها تضع ما تستطيع من افعال سياسية واستراتيجية واقتصادية ومالية واستخبارية في خدمة الجهود الكفيلة بتقييدها وعدم جعل حركتها سهلة عن طريق القيود واوراق الضغط ؟

ثم ، ازاء إحصاء حركة كل منهما للآخر .. كيف يمكن رصد حركة بناء القوة وتقييدها ومنع تمدد نفوذها من أجل الأخلال بميزان تعادل القوى في مناطق الأحتقان والتوتر، والمناطق التي تحضى بأهمية متزايد لأعتبارات خطوط النفط والغاز والمياه وتسويقها ؟

دعونا نتلمس واقع الحركة الخاصة ببناء القوة من أجل التأثير لأرساء بناء القوى في منطقة الشرق الأوسط والقوقاز وجنوب شرق آسيا :

- حصلت مصر على طائرات ( F-16 ) الأمريكية ... يقابلها ،

- حصول ( اسرائيل ) على طائرات ( F-35 ) الأمريكية المتطورة ... يقابلها ،

- حصول مصر على طائرات ( رافال ) الفرنسية المتطورة ... يقابلها ،

- حصول مصر على منظومة الدفاع الجوي الروسية الحديثة .

- ايران بصدد الحصول على محركات دفع عالية السرعة للصواريخ بعيدة المدى ( 12- محرك – حمولة 80 طن ) ، لتقوم بتطوير نموذج روسي ( R1-252 ) وذلك في اطار التعاون الثنائي السري بين كوريا الشمالية وإيران .. وقد تطلق إيران على الصواريخ الجديدة ( شهاب- 4 ) من اجل استمرار حالة الإخلال المتعمد بالتوازن الأقليمي في المنطقة .

- قدمت موسكو مؤخراً لمصر هدية هي عبارة عن لنش صواريخ طراز ( 32-B- مولينيا ) متطور ، ومزود بالكثير من منظومات التسليح .. على اساس علاقات التعاون والشراكة الأستراتيجية بين البلدين ، وذلك خلال افتتاح فرع قناة السويس .. الأمر الذي يعني ، ان روسيا تسعى الى ايجاد موضع قدم في مصر .. والأخيرة تكون مضطرة الى ارسال طاقم تدريب الى موسكو، وموسكو ترسل خبراء الى مصر ، ومن ثم تتشكل قاعدة لعلاقات عسكرية واستخبارية، وبالتالي عودة الروس الى مصر .. والخشية هنا ليس في هذا، إنما في أن يدخل الإيرانيون ورائهم على اساس المساندة والأنفتاح.!!

ماذا يهدف كل ذلك ؟ يهدف إلى ، أن القوى العظمى تعمل على منحيين : الأول : هو ترميم بناء القوة من أجل بناء قوى يمكن أن تضعها في اعتبارات تحركها السياسي وان تجعل منها موضع قدم عسكرية ذات طابع استراتيجي. والثاني : أن تفوت الفرصة على الخصم بمنع بنائها وحرمان استثمارها استراتيجياً في المستقبل، وربما هنالك منحى ،

ثالثاً : وهو تكريس توازن القوى الأستراتيجي من أجل تدعيم الأمن والأستقرار.. ولكن الدولة الأقليمية المعنية بواقع الحركة يتوجب عليها استثمار هذا التنافس واعتماد سياسة تنويع مصادر التسلح، والتلويح بعدم الأنضواء تحت خيمة التحالفات، ورفض المحاور وممكنات الجذب أو التجاذبات .. هذا على صعيد الدولة المصرية وخياراتها باعتبارها مركز الثقل الأستراتيجي في المنطقة ومحط تجاذب العواصم ( واشنطن وموسكو و طهران وانقرة وتل أبيب ) على وجه التحديد، وخاصة دعوة القاهرة المهمة والجدية إلى أهمية صيانة الأمن القومي العربي ومسؤوليتها في بناء القوة العربية الدفاعية .

ثم ماذا لدى موسكو، وكيف تفكر، وماذا تريد ان تعمل؟ :

هذا الأمر لا يدخل في حقل النيات والتكهنات إنما يقع في مجال ما تخطط له موسكو وما تسعى الى تنفيذه على ارض الواقع :

- تسعى روسيا الى التملص من معاهدة (  ( Salt- 2 وتوسيع ترسانتها الصاروخية العابرة للقارات .. والهدف هو محاولة العودة الى الحرب الباردة .. ومقابل هذا المسعى ، تعمل أمريكا على تأسيس قاعدة عسكرية من الاسلحة الثقيلة في دول حلف شمال الاطلسي ( الناتو ) القريبة من المجال الحيوي الروسي .

- كما تعمل امريكا على امكانات استخدام صواريخ نووية متطورة ونشرها في اوربا .. وهو الأمر الذي يقابل تملص موسكو من التزاماتها حيال معاهدة الحد من الاسلحة الذرية .

- أمريكا أشغلت روسيا في مستنقع أوكرانيا ، وأغرقتها في سوريا ، وتحاول أن تخلق واقعاً إستراتيجياً جديداً بمشروعها الشرق الاوسط الكبير، وتعمل على عدم تطور العلاقات بين موسكو وطهران إستراتيجياً .. بمعنى العمل على إرخاء القبضة الروسية لصالح واشنطن.. وبالتالي الأعتماد على إيران بصفة نائب لأدارة نظام إقليمي في المنطقة .. وهذا ما يريده النظام الإيراني الفارسي.!!

- امريكا تعمل على زيادة الضغوط الخارجية على موسكو لكي تدفعها الى ايجاد البدائل بظهور ضغوط داخلية .. بمعنى ان الضغوط الخارجية قد تدفع الى انبثاق ضغوط داخلية ترغم موسكو على إعادة حساباتها بايجاد البدائل.

- ولكن هل ينجح اعتقاد موسكو بان بناء شبكة علاقات قوية مع ايران سيخدم سياساتها في الميزان الجيو- ستراتيجي الروسي لحفظ التوازن في منطقة أسيا الوسطى بموازات الأنفتاح التركي على دول المنطقة بدعم غربي امريكي؟! كلا ، لن ينجح ، وذلك لعدد كبير من الأعتبارات بعضها يكمن في طبيعة الواقع هناك، والبعض الآخر يكمن في طبيعة السلوك الفارسي المخاتل الذي لا أحد يثق به ، طالما هو يعمل ويتعاون مع أمريكا ستراتيجياً في منطقة الشرق الاوسط وفي منطقة وسط آسيا في أن واحد، فيما يعمل مع روسيا تكتيكياً .!!

- وهل ان اعتقاد موسكو وطهران صحيح بأن ( إسقاط نظام دمشق الدموي مقدمة تستهدف موسكو وطهران؟!

- وهل تشكل أيران احد اعمدة منظومة الأمن في بحر قزوين بحيث تخشاه موسكو ؟!

- وهل ان تمدد إيران الخارجي يجعل موسكو تقف بقوة مع طهران وهي تعبث بالمنطقة وتمزق مجتمعاتها وتنشر مليشياتها المسلحة لهذا الغرض، وخاصة مع مقولة تسوق كذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، وهي غياب مشروع عربي دفاعي يمنع ايران من التمدد ..؟ وهل ان التمدد والتوسع في سلوك بعض الدول مشروع ويمكن قبوله ، أم أن منطق شريعة الغاب يصعب قبوله في ظل القانون الدولي ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة؟! ، حيث يقول ( محمد علي جعفري ) قائد الحرس الأيراني ( إن للحرس الثوري دوراً يمهد المجالات للحوزات العلمية والمؤسسات الدينية للقيام بالمهام الثقافية العقائدية التي تقع على عاتق الثورة الأسلامية في المنطقة ) ..!!

- ترى موسكو ان علاقاتها مع ايران تخدم سياساتها جيو- ستراتيجياً وتحفظ التوازن في منطقة آسيا الوسطى بما يتوازى مع سياسة العمق الأستراتيجي التركي الموجهة حيال دول المنطقة بدعم من ( الناتو ) وبتوجيه أمريكي .!!

- فعلاقة موسكو بطهران على الساحة السورية هي نقطة تقاطع في المصالح بين الدولتين .. الأولى : حيث قاعدتها العسكرية البحرية في ( طرطوس ) وهي إطلالة على المياه الدافئة ( البحر الأبيض المتوسط ) ، ووجود الأسطول البحري الروسي في هذه المياه .. والثانية : حيث نظام الأسد الآيديولوجي وتكريس هدف الوصول إلى حافات البحر الأبيض المتوسط ايضا .. ومن هذه الزاوية جاء العمل السياسي والدبلوماسي والاستخباري والاعلامي الروسي- الايراني المشترك حيال دعم نظام دمشق سياسياً وعسكرياً ومالياً واستخبارياً ولوجستياً.!!

- ارضية العمل الروسي الإيراني المشترك على الأرض السورية، استندت إلى مقولة، هي الأخرى مشتركة مفادها ( إن ما حصل في تونس وليبيا ومصر وما يحصل في اليمن وسوريا الآن ، يستهدف المصالح العليا لكل من روسيا وإيران .. وإن السعي لأسقاط نظام دمشق يعتبر مقدمة لأستهداف روسيا وإيران ) .!!

- ترى موسكو أيضاً .. ان التمدد الإيراني في ساحات عربية متعددة ، يمثل ثقلاً جيو- ستراتيجياً تحققه إيران، الأمر الذي يُمَكِنُ موسكو من الأعتقاد بامكانية إيران وقدراتها في أن تتسيد على المنطقة .. وعليه فهي ، تبعاً لهذا المنطق غير الصحيح، تبقي على دعمها لطهران ولحليفها نظام الأسد .. إيران تتمدد وتتوسع ، ونظام الأسد يقتل ويشرد شعبه بالجملة .!!

- لقد حصدت موسكو من طهران فوائد كبيرة جراء العقوبات من جهة والتقرب إليها وتلبية احتياجاتها في بناء القوة الفارسية العدوانية وخاصة النووية.. ولم تعر موسكو أي اعتبار لحقوق الدول وشعوبها وهي تساند نظاماً عدوانياً ظلامياً متخلفاً يسعى إلى الهيمنة والتوسع.

- ولكن الحقيقة الجيو- ستراتيجية تؤكد من الصعب على موسكو قبول إيران نووية على مقربة من مجالها الحيوي .. خاصة وان العلاقات بين العاصمتين لم ترق الى مستوى التعاون الأستراتيجي .. وهو الأمر الذي جعل موسكو تتحفض في تلبية طموحات ايران الأقليمية في العمق الآسيوي على وجه الخصوص، لأنها تضر بمصالحها الحيوية.!!

- ولما كانت الصين تعارض انضمام ايران الى منظمة ( شنغهاي ) للتعاون، وكذلك كازاخستان .. وان روسيا تحبذ إرساء التوازن الأستراتيجي للقوى الاقليمية مع الاعتبارات الدولية، فأن موسكو تعارض انضمام ايران الى هذه المنظمة .. لماذا ؟ لأن إيران عنصر ليس موضع ثقة في إقامة التوازنات الأقليمية، إنما على العكس فهي تسعى إلى تهديم هذه التوازنات بدعوات المساهمة في قياداتها.!!

- أما بعد الأتفاق النووي، ورفع العقوبات ، وتدفق الشركات الغربية على إيران .. هذا الواقع الجديد ذي السمة التجارية والأقتصادية في ظل توقعات إنهيار أو تراجع أسعار النفط نتيجة زيادة العرض على الطلب في السوق العالمية ، سيجعل موسكو تفكر في إعادة حساباتها، خاصة وان مصالح روسيا ونفوذها القديم في المنطقة بات على حافة الانهيار بفعل الدعم الروسي للتوسع الإيراني .. فموسكو بهذا ستضعف علاقاتها مع طهران، وتخسر علاقاتها مع الدول العربية ، ما لم تستدرك وتضع الحقائق في نصابها الصحيح ولا تعتمد على منطق القوة وسياسة ملء الفراغات في تقييم العلاقات مع دول المنطقة العربية .. وما يحكم توازنات منطقة آسيا الوسطى لا يتطابق مع ما يحكم توازنات منطقة الشرق الأوسط.!!

إن التقاء المصالح او تقاطعها بين موسكو وطهران، والتي لم تكن علاقات استراتيجية ولا آيديولوجية إنما مصلحية ( براغماتية ) ، أنتج سياسات مرتبكة وغير مضمونة لصاحب القرار الروسي، ولكنها سياسات مفيدة لصاحب القرار الايراني .. لماذا ؟ لأنها تدعم نزعة التوسع الآيديولوجي- المسلح الايرانية الفارسية على حساب دول المنطقة وشعبها العربي ، وعلى حساب أمن المنطقة واستقرارها .!!





الثلاثاء ٣ ذو القعــدة ١٤٣٦ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٨ / أب / ٢٠١٥ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. أبا الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة