شبكة ذي قار
عـاجـل










المقدمة :

تتغير موازين القوى بفعل تغيرات في القوة وتغيرات في حساباتها .. فبعض القوى تعمل على تغيير الموازين ، ولكن في خارج قواعد التغيير التي تشترط إيجاد قاعدة ( اقتصادية ) عريضة تكاملية تمكن من خلق قوة ( عسكرية ) يقودها عقل سياسي قيادي قادر على التحكم بمفاتيح القرارات على وفق شرعية دستورية .. والمهم في هذه القاعدة أن القوة والتلويح باستخدامها بدون قاعدة اقتصادية يعد ضربًا من الانتحار السياسي .. وهذا هو الفرق بين منهج روسيا ومنهج الصين على سبيل المثال ، من أجل بلورة قطبيتهما لأغراض التعددية القطبية .. فيما رسمت أمريكا قاعدتها على أساس ( وهم العولمة ) التي بلغت نهاية تفكك مفاهيمها وفشلها على أرض الواقع !! .

- صياغة إشكالية العولمة :

- سمات العصر الراهن في ظل تراجع القطبية الأُحادية :

1- صياغة إشكالية العولمة :

إن صياغة إشكالية العولمة من الوجهة الفلسفية تستوجب التوقف فيما إذا كانت العولمة شيئًا يقوم بذاته ولم يظهر إلا في العصر الحالي ، أم هي صفة تحمل على التاريخ بكل أحقابه ؟ ، والإجابة على هذين التساؤلين هي ، أن العولمة لم تقم بذاتها إنما هي شيء لم يتحقق بعد .. وتحققها في صيغة خيالية راحت أساليب إقحامها على الواقع تأخذ مسارات غير واقعية ، ووهم العولمة بات عند البعض أمرًا حاصلاً بصورة فعلية ، فأعلن هذا البعض تسليمه بذلك واستسلامه لهذا الحاصل دون برهان .

لقد صاغ الغرب فلسفة العولمة في إشكالية تأخذ شكلين من الصياغة ، هما شكل العلاقة بين ( الجزئي ) و( الكلي ) ، وشكل العلاقة بين ( الأنا ) و( الآخر ) .. وكلاهما مبنيان على منطق التقابل والتنافي المستند إلى إعتبار العلاقة بين الحضارة العربية والحضارة الغربية أو أي حضارة أساسية أخرى بين ( جزئي ) و( كلي ) أو بين أنا وآخر ، الذي لا يمكن تصوره من دون الجدل المبني على الجزئيات ، الذي يفيد بأن كل جزئي يمكن أن يصير كليًا بنفي ما عداه من الجزئيات ، وبذلك يصير الكلي كل الوجود ، أي بمعنى كل ما عداه يمسي عدمًا .!!

فهل أن علاقة الحضارات مع بعضها علاقة بين ( جزئي ) و( كلي ) فتكون هذه إنسانية تامة وتلك ناقصة بحيث تنتهي العلاقة إلى نفي الآخر ؟! .

تلك هي الإشكالية في بعدها الفلسفي للعلاقة بين الحضارة الغربية والحضارات الأصلية الأخرى ، كالحضارة العربية الإسلامية والحضارات الأصلية الأخرى الخمس ، أو بالأحرى هذا هو تصور العولمة الأمريكية للعلاقة بين الحضارات التي تعمل بإتجاه نفي الآخر بصورة تدريجية !! .

فلو صحت نظرية التطور - ونحن هنا بصدد تقويض المفاهيم التي يبني عليها الغرب فلسفته كقاعدة فكرية لسياساته المغالطة للواقع - فإن مبدأ الصراع من أجل الحياة والبقاء للأصلح لكانت النتيجة الحتمية لظهور النوع الأرقى إنقراض النوع الأدنى .. والمغالطة في هذه النظرية هي أن بقاء الأدنى شرط في بقاء الأرقى ، وإن الأرقى يصبح شرطًا لبقاء الأدنى ، ولكن حين تكون العلاقة بين ( جزئي ) و( كلي ) فأن النظرية هذه تبدو مغالطة فاضحة تسعى إلى تغطية الخواء الروحي للحضارة الغربية والأمريكية .

ويمكن إعادة صياغة التناقض الحاصل .. هل أن علاقة الحضارة الغربية بالحضارة العربية مثلاً علاقة بين ( كلي ) و( جزئي ) أو بين ( الأنا ) و( الآخر ) ؟ ، والإجابة ليست كذلك .. فإذا اعتبرنا أن ما يختلف به الأنا عن الآخر هو الجوهر صار ما يشتركان فيه عرضيًا وأصبحت الصفات الأنسانية المشتركة دون الصفات الثقافية المختلفة .. وتلك مغالطة فكرية أخرى عمل الغرب وأمريكا على تسويغ مبرراتها الفلسفية للقبول والاستسلام لمنهج التصفية الروحية للحضارات الأصيلة ومنها الحضارة العربية الإسلامية .

كما أن العلاقة بين الحضارات ليست علاقة بين الأنا والآخر .. إذ لو كانت كل حضارة في جوهرها نقيض غيرها من الحضارات لما اشتركت الحضارات إلا في ما ليس من جوهرها .. فالأصل الميتافيزيقي في العولمة هو التحديد الوجودي المستند إلى النفي بين الجزئيات في زعمها الكلي المتناقض ، فإذا كانت كل هوية هي ما ليس غيرها فهي لم تكن بذاتها إلا العدم ، الذي لا يصبح شيئًا إلا بنفي غيره .. والصحيح أن ما تتميز به أو ما تشترك فيه هو ( الجوهر ) المتمثل في المثال الإنساني .

فالعالم تتلمس فيه الحضارات الأصيلة محيطها الخارجي ، الذي يعج بالتحديات وبقوى التنافس ، التي تعمل على تطويقها بسلسلة من المفاهيم والأحكام والأفعال التي تؤثر تدريجيًا في مجالاتها الحيوية ومنظومة قيمها تمهيدًا لتدميرها وتحويلها إلى أممية ( كوسموبوليتية ) ، تستطيع من خلالها هذه القوى والإمبريالية الأمريكية إخفاء ( عوزها ) الحضاري خلف مسميات استراتيجية كونية من شأنها أن تنتج في النهاية التصفية الروحية التي يراد منها الانتحار الروحي بهوية الشعوب وسلخها عن ثقافاتها وحضاراتها ، فهي بهذا المنهج تفصل بين الوجود المادي للإنسان ووجوده الروحي ، فيما تعمل العولمة في أحد وجهيها على نفي الوجه الآخر في مستوى المجتمع الدولي ومحاولة إدماج الشعوب روحيًا في الحيز الخيالي لفلسفة العولمة المنحرفة باللاهوت اليهودي من فيلون ( Philo )* إلى هيغل ( Hegel ) ، وذروة هذه الفلسفة تقسيم البشر إلى أسياد وعبيد إلى ما لا نهاية ، الأمر الذي يقتضي بنية مافيوية قادرة على تحقيق مهام السلطة المركزية الدولية بأدوات مختلفة إقتصادية وعسكرية وإعلامية .. إلخ ، تؤكد واقع الانقسام بين الشمال القوي الغني والجنوب الضعيف الفقير ، الذي عليه أن يقبل نقل النفايات الذرية والتكنولوجيا المتخلفة ومخلفاتها والأسلحة بأجيالها القديمة الصدئة ، وأن يقبل صاغرًا على إمداد الغرب بالطاقة وبالمواد الخام الأولية دون إعتراض وتحويل هذا الجنوب وكأنه مجال لتربية المواشي !! .

2- سمات العصر الراهن في ظل تراجع القطبية الأُحادية :

الأُحادية القطبية تصارع تكامل الأقطاب الأخرى وتعرقل نهوضها ، وتصر على الأُحادية .. والمعنى في ذلك ، أن القطبية الأُحادية تسبح ضد التيار بدفع صهيوني عالمي يستهدف إلغاء الروابط السيادية والقومية ، فيما تعمل العولمة الأمريكية على محو الهوية القومية أينما وجدت ومحو السمة الوطنية أينما كانت وتعويم الاقتصاد والثقافة والحضارة بعولمتها وتفكيك مضامين خصوصياتها ، وربط اقتصادات العالم بالمركز الرأسمالي العالمي تحت قيادة قطبية أُحادية تعتبر العقل المدبر الذي يحرك الأطراف بعد سيطرته على قلب العالم !! .

ومن سمات العصر الراهن :

أولاً- عدم الاستقرار العالمي الذي يعد السمة الطاغية ، ليس في منطقة ( الشرق الأوسط ) ، الذي تريد القطبية الأُحادية الامبريالية المتصهينة تفكيكه وتذويب مقوماته بهدف السيطرة عليه بعد محو هويته الوطنية والقومية في صراعات دموية استمر التمهيد لها منذ عام 1979 وحتى الوقت الحاضر ، وإنما في أوربا والعمق الآسيوي وأمريكا اللآتينية وأفريقيا .

ثانيًا- الصراع ( الناعم ) ذي الوجه الاستخباراتي المدعوم بشبكة من التحالفات السرية والمافيات بمختلف صنوفها وفي مقدمتها ( مافيات الإرهاب ) ، والتي أستغرق تشكيلها عقود من سنين !! .

ثالثًا- خلط الأوراق في دائرة الإعلام المبرمج ، الذي يضخ الأفكار والسيناريوات بدوافع التمهيد لحركة الفعل نحو التنفيذ وجس ردود الأفعال التي من شأنها أن تصنع المؤسسات لائحة بالاحتمالات والتوقعات المثيرة للجدل .

رابعًا- خلق أو تفجير أحداث متزامنة ، للتغطية على أحداث أخرى أكثر قيمة أو أهمية في السياق الأستراتيجي العام بما يخدم أو يمهد أو يشوش على الأفكار ومرتسمات السياسة .

خامسًا- إختلاط طبيعة الحروب الاستخباراتية ( الناعمة والخشنة ) والميليشياوية مع الحروب الاقتصادية والنفسية والإعلامية ، التي تستدعي التدخل الخارجي المباشر أو بالوكالة .

سادسًا- إنضاج عناصر الصراع في مناطق الاحتقان والإيحاء بعدم التدخل والاكتفاء بتصريف السلاح حسب موازين القوى على الأرض .

سابعًا- بروز ( صراع ) شرس بين قطبين أو أكثر حول مسألة ( محورية ) ، من شأن هذا الصراع الإيحاء بأن الأمر هو عودة إلى ( الحرب الباردة ) على المسرح السياسي الدولي .. ولكن ، مثل هذا الصراع ، الذي يستبعد أحد طرفيه ، وذلك لعدم ( التكافؤ ) ، ليس في القوة العسكرية غير التقليدية إنما في الإمكانات والقدرات الاقتصادية الضامنة لاستمرار الصراع لكي يتحول إلى منافسة ( متكافئة ) .. وهذا لا تريده أمريكا ، لأنها تؤكد على قطبية أُحادية ، فيما يؤكد الطرف الروسي على الثنائية القطبية ، أما العالم ومؤشراته فلا يرغب في الأُحادية ولا في الثنائية ويؤكد على التعددية الضامنة لحقوق الشعوب وللأمن والاستقرار في العالم !! .

ثامنًا- الأُحادية القطبية ممثلة بالوحش الامبريالي الأمريكي ، وهي تنفذ إستراتيجيتها في قلب العالم ( الشرق الأوسط ) بطريقة الإخلال بالتوازنات الإقليمية وتوافقات التدخل ومناهج تدمير النظم السياسية والتغيير الديمغرافي في أكثر من ساحة ، تعمل هذه القطبية على مقاومة ظهور محور متعدد الأقطاب .. فهي إذن ، تعمل على جبهتين في آن واحد ، الأولى : تنفيذ استراتيجيتها متوسطة المدى ، والثانية : تنفيذ استراتيجيتها بعيدة المدى التي تعتمد عرقلة ومنع وإجهاض نهوض أي قطبية حتى لو كانت صديقة كالقطبية الأوربية مثلاً .. ولكن القطبية الأُحادية المتآكلة ( أمريكا ) لا تستطيع أن تستغني عن ( الشراكة ) الاستراتيجية الأوربية التي تعمل روسيا على تقويضها !! .

تاسعًا- الأُحادية القطبية الأمريكية المتآكلة تريد وبحاجة إلى تعزيز النظام في العلاقات الدولية ، ولكنها في الوقت ذاته تعمل على إضعاف المنظمة الدولية ماديًا وسياسيًا وهيكليًا ، وتدعوا إلى تقليص نفقاتها وتهدد بإنقاص مساهماتها المالية في معظم مؤسساتها التابعة .. في الوقت نفسه تدعو إلى ( تحالف دولي ) لمواجهة خطر التمدد والتهديد الإيراني للمنطقة ولمصالح دولها والأمن والأستقرار العالمي .. وهنا يتلمس المراقب تخبط في منحى السياسة الخارجية الأمريكية .

عاشرًا- ما تريده القوى التي تعمل على بلورة نظام التعددية القطبية نحو نظام عادل من خلال إعادة تشكيل هياكل النظام بما يتلائم وطبيعة التعددية القطبية من جهة ، و( تفعيل آليات المصالح الاستراتيجية ) للدول العظمى والكبرى وباقي دول العالم من جهة ثانية .. وإزالة كل المعوقات الكائنة في النظام الدولي الثنائي البائد والأُحادي المتآكل والتي تجعل دول العالم خاضعة لاستقطابات الترغيب والترهيب والابتزاز الأمريكي !! .

أحد عشر- الأمر الذي يتطلب إيجاد معايير ( Criteria s ) قد تكون كونية أو قاريّة جامعة تعتمدها الدول غير الكبرى والعظمى .. لتحديد موقعها حيال الأقطاب التي تدخل في تشكيل التعددية التي لا تتعدى أربعة أو خمسة دول ، ليس على أساس مقاييس النصر والهزيمة في صراعات القوة ، كما هو حال القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية مثلاً ، التي احتكرت حق النقض ( الفيتو ) ، إنما التصنيف كنتاج واقعي للقوى الكونية بعيدًا عن الأستقطاب الثنائي والأُحادي ووسائل الترغيب والترهيب والابتزاز والعمل في خارج الأطر القانونية والمبادئ الأممية ومواثيق النظام الدولي المتفق عليها .

إثنا عشر- قد تلعب في عملية الاستقطاب على مستوى التعددية القطبية عوامل كثيرة منها : أيديولوجية وسياسية واقتصادية وثقافية وحضارية ، لها أهميتها في توسيع قاعدة الاستقطاب - بعيدًا عن التناحرات والصراعات والتدخلات بمختلف أغطيتها - على أساس المعاييرالعامة ( Gen- Criteria s ) المتفق عليها دوليًا والتي تعتمدها وسائل الإعلام المتوازنة التي لا تثير جدلاً عقيمًا يغذي النزعات المتطرفة والصراعات بين الأمم والجماعات والأفراد أو توسع فجوات العلاقات الكائنة بين الشعوب على أسس تخلو من المشتركات والحاجة إلى الأمن والاستقرار في العالم .. فالعامل الاقتصادي له مساره في إطار القطبية التعددية يرفض التعاطي مع نهج ( الكارتلات ) وشروط التعاملات البنكية المجحفة كشروط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ، ومراقبة أحجام التبادلات التجارية والاستثمارية الانفرادية والمتبادلة في إطار بيانات الاقتصاد ، التي تقدم مؤشرات عن المسار الأقتصادي لتلك البلدان .. فاقتصادات العالم ليست كلها على مستوى واحد ، كما أنها ذات تخطيط قد يتماشى مع البيئة المحلية ذات الاقتصاد ( الرأسمالي ) أو الاقتصاد ( الاشتراكي ) أو الاقتصاد ( المختلط – التجريبي ) .. فيما قد تختلف البنية التحتية لاقتصادات تلك الدول تبعًا لتطورها ونموها .. وهو الأمر الذي ( يسهل ) عملية استقطابها ، وفيما إذا كان اقتصاد الدولة المعنية يتلائم مع الاستقطاب من عدمه لكي تتمكن من العمل في مناخ الدول الكبرى والعظمى التي تتولى تشكيل التعددية القطبية .

ثلاثة عشر- العامل الاقتصادي مهمٌ جدًا ولكنه ليس كافيًا لكي تحتل الدولة المعنية موقعها في فلك الاستقطاب أو أنها قد تشكل ( تكاملاً ) اقتصاديًا يرتكز عليه القطب القارّي في التعددية القطبية .. فمؤسسات القطبية الثنائية ( الاقتصادية والمالية والاستثمارية ) ليس بمقدورها العمل بآلياتها في ظل القطبية المتعددة ، وهي نتاج الحرب العالمية الثانية ، الأمر الذي يشترط إعادة هندسة هياكلها وأهدافها ووسائلها كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية بحيث تكون قادرة على إستيعاب ( الحالة التمثيلية ) للتعددية القطبية .

- سمات العصر الراهن في ظل تراجع القطبية الأُحادية – بقية - :

- صراع القوتين العظميين حول معاهدة الصواريخ النووية :

يتبع ...

* فيلون Philo لآهوتي يهودي يوناني جمع بين الفلسفة واللاهوت في التأويل - .





الثلاثاء ١ ربيع الثاني ١٤٣٩ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٩ / كانون الاول / ٢٠١٧ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الرفيق الدكتور أبو الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة