شبكة ذي قار
عـاجـل










محاضرة ألقيت في ندوة الفكر القومي التي نظمها مركز ذرا للدراسات والأبحاث يوم 2 تموز / جويليه 2017 بإحدى قاعات جامعة السوربون بباريس دراسة في ست حلقات

القسم الأول
تحديات الواقع العربي


بعد حصار وغزو واحتلال العراق 2003 وما أفرزته سنوات أحداث الربيع العربي وظهور ما يسمى "تنظيم الدولة الإسلامية"، وبعدها وبفعل درامي مفاجئ ومشبوه تم إعلان ما يسمى " الدولة الإسلامية في العراق والشام" التي عرفت وشاعت اختصارا بــ " داعش" وما يعقبها اليوم من تداعيات لازالت مستمرة من خلال الحرب القائمة على أراضي سوريا والعراق وليبيا واليمن وما يصاحبها من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية في اغلب بلدان الوطن العربي مشرقا ومغربا، لذلك فان الفكر القومي العربي يقف أمام تحديات جديدة وهو مدعو أيضا لمراجعة شاملة لمواجهة الاستجابات الحضارية المطلوبة ؛ خصوصا وان الواقع العربي يعكس حالة من التردي والتصدع ، وهو في أقصى تراجعاته التاريخية.

وإذا ما استمر الحال على هذا المنوال فان المستقبل القريب والبعيد يهدد أن يكون العرب خارج صناعة التاريخ، فهم اليوم في دور سلبي لا قرار له، وباتوا متأثرين لا مؤثرين، ومتفرجين غير مشاركين، ومقتادين غير قائدين، ومنفذين غير مخططين، وهم الأضعف اليوم بين أمم الأرض وشعوبها.

وبتراجع دور النخب العربية على جميع المستويات وفشلها في إدارة مجتمعاتها نحو النهوض والتنمية والارتقاء الحضاري فان مراجعة الفكر القومي العربي باتت مهمة كل من يعنيهم الأمر به، قادة فكر، وسياسيين، وفاعلين اجتماعيين، ونخب علمية وتكنولوجية وأكاديميين باحثين في حقول علم الاجتماع والسياسة والثقافة وعلوم الحضارة والتاريخ.

ورغم ان كثيرا من النخب الفكرية والسياسية العربية استسلمت لواقع من وهم ظنت به أنها من خلال حقب قصيرة نسبيا من عقود استلامها السلطة أنجزت في القرن الماضي مهمات معينة، منها الحفاظ على الاستقلال الوطني ومنجزات محدودة من التحرير الاقتصادي للخروج من التبعية ، ومحاولات بناء الدولة القطرية، إلا أن الواقع المعاش وحتى الأمس القريب يشير إلى أنها فشلت حتى في تحقيق أهدافها المعلنة الكبرى في انجاز الكثير من قضايا التحرر الوطني والقومي، وتحقيق مضمون شعاراتها في الحرية والوحدة وبناء الدولة القومية الكبرى، كما فشلت أيضا في ضمان احترام حقوق المواطنة لرعاياها، سواء كانوا من العرب أو من بقية الأقوام والاثنيات الأخرى المتساكنة مع العرب في اكثر من بلد آو إقليم عربي.

وعلى الصعيد النظري فان عددا من تيارات الفكر القومي العربي التحرري عبرت عن مواقف تقدمية من قضايا الحياة، خاصة في موقفها النقدي من التيارات الرجعية والمحافظة والمتزمتة، وعبرت من خلال حصيلة كتابات العديد من المفكرين العرب عن موقف نقدي من التيارات السلفية.

ورغم علمانية البعض منها فإنها لم تتوان عن محاولات تحرير الدين من الخرافة واللفظية والشكلية والاستسلام للواقع، ولكنها في ذات الوقت ووفق تصورات تكتيكية أخرى سايرت بعض التيارات المحافظة في مجتمعاتها، منها الدينية أو العشائرية والقبلية والجهورية للحفاظ على توازنات الحفاظ على السلطة فحاربت بعضا من تيارات التقدم واليسار، سواء في صفوفها أو من خصومها فكرست وضعا قمعيا لا مبرر له، سوى الوهم بنظرية المؤامرة والخوف من إسقاط السلطة فأطلقت العنان لقوى وأجهزة المخابرات التي أصبحت اليد العليا في السلطة والمجتمع، وحتى على تنظيمات الحزب الحاكم نفسه.

لقد طرحت منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي بعض التيارات الفكرية القومية كحزب البعث وحركة القوميين العرب والقوى الناصرية وقوى وحركات واتجاهات قومية رؤيتها حول علمنة الحياة الاجتماعية فتعامل مفكروها مع الدين كحالة استنهاض لأمة العرب، فجرى تمييز نظري بين " دين الرسالة" الذي بات يعكس موقفا جديدا من الحياة وبين " دين المؤسسة" الذي سار وفق أنماط تقليدية لم تملك روحا انبعاثية ونهضوية بمضمون ثوري وتحرري.

وعلى مدى العقود الثلاث الأخيرة ، وإزاء تنامي نشاط قوى رجعية عربية، منها اتخذت من الدين وتياراته الاسلاموية السياسية مسارا في نشاطاتها فتعيد طرح سؤال جوهري وأزلي: (هل هناك واقع أمة أم حقيقة أمة عربية مأزومة) ويطرح البعض البديل الطوباوي بالحديث عن " امة إسلامية تتجاوز احتواءً مقصوداً لوجود الأمة العربية؟؟" .

وقد استغلت مثل هذه القوى الرجعية نتائج الهزائم والنكبات العربية المتتالية في فلسطين 1948 والعدوان الثلاثي على مصر 1956 وقضية الانفصال بين سوريا ومصر 1961 وتحويل حرب تحرير الأراضي العربية المحتلة في سيناء والجولان وغيرها إلى حرب تحريك قاد ردتها الرئيس المصري أنور السادات 1973 وحيث استغلت القضايا التي تعرض لها العراق منذ 1990 ، وما بعدها لخلق وإشاعة حالة من التشكيك بجدوى الفكر القومي، وتحميل الأنظمة والأحزاب والقوى القومية الحاكمة خلال تلك الفترات المسؤولية في التراجع العربي العام، فطرحت قوى الإسلام السياسي شعارها " الإسلام هو الحل".

إن الرد على مثل هذا الجدل سيتجاوز أطروحاته وعمومياته أعلاه من خلال العمل على تشخيص أولي ينطلق أساسا من تشخيص علمي لعناصر الضعف التي تكمن في واقع الأمة العربية ، بكافة شعوبها، على المستويات القطرية والقومية، وهي: التجزئة ، التخلف، التبعية، تسلط الأنظمة المستبدة والعميلة، تنامي الفكر الرجعي السائد، وأخيرا التأثر بالعولمة وشيوع الفكر الليبرالي الهجين الفوضوي والاستخدام الأسوأ للديمقراطية في تطبيقاتها المشوهة في عديد من البلدان العربية.

ولعل أخطر العناصر تاريخيا، ومنذ بداية القرن العشرين وخلاله في الوطن العربي، تكمن في استهداف الفكر القومي ومنعه على مراحل من بناء وتحقيق وبناء الدولة الوطنية والقومية، والتي انتهت بتكريس حالة متقدمة من المشروع الصهيوني وهو " تجزئة التجزئة ، وتقسيم المقسم"، بدءاً من اقتطاع لواء الاسكندرون والأحواز وضمهما إلى دول الجوار الإقليمي تركيا وإيران قبل قرابة قرن، ثم استمرار حالات الانتداب والوصاية الاستعمارية البريطانية والفرنسية والايطالية على عدد آخر من بلدان الوطن العربي، مشرقا ومغربا، متحولا ذلك الانتداب إلى فرض وظهور دول النفط الخليجية وكيانات لا ترتقي إلى حالة دول، كالمحميات النفطية في الخليج العربي ، هذا يجري بالتزامن مع مراحل تنفيذ المشروع الصهيوني بتقسيم فلسطين وسلخها تماما عن الجسد العربي، والسعي إلى إقامة دولة الكيان الصهيوني على أراضيها منذ 1948 في سابقة دولية لم تتعرض لها حالة لوطن مستلب، تم ذلك بتوافق إرادات دولية معروفة، انطلاقا من وعد بلفور ومعاهدات سايكس بيكو وغيرها من المخططات المعلنة منها، وغير المعلنة.

وهكذا كان هدف تقسيم اليمن، والسعي لاحقا إلى تقسيم العراق والسودان ومصر وليبيا ودول المغرب العربي، وهو المشروع القديم المتجدد الذي لازال قائما وموضوعا على طاولات مخططات الدول الكبرى المستعدة لتحقيق المشروع الصهيوني على مراحل، وأخرها تمكين العصابات الإرهابية المتبقية من فلول تنظيم القاعدة من إقامة دولة كارتونية مفضوحة أطلق عليها " الدولة الإسلامية في العراق والشام " داعش" والتي امتدت سلطتها على مسار مواقع النفط والغاز وطرق تصديره وتأمين وصوله إلى الموانئ المقصودة.

وكما أن سقوط تلك الدولة الكارتونية داعش كان مكلفا جدا، حيث جرى وفق خطة نفذت بوضوح حيث تدمير وخراب شامل ومنظم طال لأهم المدن العراقية والسورية التي ارتسمت عليها خارطة داعش لتدمر مدن بكاملها مثل الفلوجة والرمادي وصلاح الدين والموصل وبيجي والشرقاط وأطراف من ديالى ودير الزور والقائم والرقة وطالت الحرب الأهلية في الشام مدنا وحواضر سورية في الرقة وحماه وحلب وأطراف وأحزمة عواصم عربية كبرى مثل بغداد و دمشق .

والعنصر الثاني هو سيادة التخلف والفقر، في عديد البلدان، فقد تدهورت أوضاع أغلب البلدان العربية الاجتماعية والاقتصادية، حتى بات ينطلق عليها القول "أنها تحولت من بلدان نامية إلى بلدان ينمو فيها التخلف".

ويبدو ذلك واضحا من تراجع كبير لمؤشرات ومعدلات التنمية الحقيقية، رغم انتشار مؤسسات التربية والتعليم والثقافة والخدمات الصحية وانتشار وسائل الإعلام ، خاصة في دول الريع النفطي، إلا ان الفجوة العلمية التكنولوجية أفرزت مظاهر تخلف مضاعفة أخرى، سنتطرق لها في سياقاتها العامة والخاصة.

كانت لعوامل التبعية الاقتصادية نتائج ثانوية انعكست على تفاوت النمو بين البلدان العربية وتشجيع النموذج الارتدادي في الفكر لدى قطاعات شعبية هامة، أهمها مشاغل الشباب الذي يشكل 60 % من نسبة السكان في الوطن العربي، دفعته ظروف البطالة والتعمية الفكرية والفراغ السياسي إلى تبني أفكار الرجعية السلفية بكل مظاهرها، وهي تمثل الارتداد عن روح العصر ومنطق الحداثة، بحيث دفع الانغماس لقطاعات كبيرة من هؤلاء الشباب، وبتمويل سخي، وتنشيط وترويج إعلامي من دول النفط الخليجي إلى التورط والانخراط بكل أشكال الإرهاب، بدء من حمل السلاح والتوجه للحرب في أفغانستان، وبعدها النشاط ضمن تنظيمات القاعدة ، وما انشطر منها، وعودتهم لتبني مثل ذلك الإرهاب وتطبيقاته ضد أبناء جلدتهم وشعوبهم، كما حدث في سنوات العشرية الدموية السوداء في الجزائر(1990 ـ 2000) وبعدها أوضاع العراق وسوريا واليمن وليبيا منذ 2003.

ان الحكومات العربية الفاسدة التابعة للغرب وبتأثيرات منه عملت على استبعاد النخب القومية وذوي التوجهات الوطنية من الوصول إلى التواجد في النخب السياسية صاحبة القرار في إدارة الحكومات والجامعات والصحافة وقطاع الأعمال وغيرها، مما سبب إرباكا واضحا في التوجهات السياسية والفكرية لهذه النخب ولتلك الدول نفسها، انعكس على قضية غياب الوعي والهوية والتوجه لاحقا في الانغماس في اللهو الفارغ وضياع الانتماء الوطني والقومي، وفقدان التمسك بالهوية.

كما حاول الغرب والصهيونية زرع بذور عدم الثقة في قدرة العرب على استيعاب العلوم والتكنولوجيا، وضعف العرب في قدرات البناء والتنمية وإعادة الأعمار، وأنيط الدور الرائد في التخطيط والتنفيذ لكبرى المشاريع للشركات الاستشارية الغربية والمقاولين التابعين لها والمهندسين الغربيين، حتى استصغر العرب أنفسهم، ووصلوا إلى طلب الحماية الأمنية لدولهم ومدنهم ومؤسساتهم، وعجزهم حتى من مواجهة عصابات الإرهاب السائبة والمنفلتة، وتعرض بلدانهم إلى الاجتياحات الإقليمية المسلحة ومظاهر العصيان، وصولا إلى ظهور دول منحرفة وشاذة مثلتها "داعش" التي سادت على مدى ثلاث سنوات وهي تسيطر على أراضي واسعة من العراق وسوريا ومثيلات داعش مجسدة بصور أخرى مثل ظهور سلطة الدولة المليشياوية داخل الدولة، كما جسدها وضع حزب الله اللبناني على ارض لبنان، ودولة الحوثيين في اليمن، والتغول الكردي الانفصالي في شمال العراق وسوريا على حساب تراجع وانعدام سيادة الدولة العربية القائمة هنا وهناك.

ظل تكريس حالة التخلف والتجزئة هو هدف مزدوج للنظم العربية التقليدية، وهو ما ينسجم مع تطلعات نهب النظام الرأسمالي العالمي الجديد، فهذه الدول انكفأت إلى الماضي ومنعت التطور الحقيقي لشعوبها؛ رغم أنها تمظهرت بتوريد الحداثة من مبان وأنماط استهلاك متردية ومنفلتة، وإعلام مرتبط بمنظومات العولمة الثقافية ، فمنعت من ظهور نخب سياسية واجتماعية قطرية منها أو قومية، خصوصا أن حركة رأس المال والشركات الاحتكارية وظهور حيتان الفساد المالي والإداري عملت على منع من ظهور الطبقات الاجتماعية الوسطى بتشتيت النخب العربية إلى مجموعات تعتاش على ريع السلطة وأعطياتها وإكرامياتها، سواء بتمرير صفقات الفساد أو عبر تعاطي الرشاوي المقننة.

إن الغالبية من فئات الطبقات الوسطى يدفعها تردي الأوضاع إلى المزيد من الانسحاق ضمن طبقات الفقراء والمهمشين أو إلى الهجرة والنزوح عن أوطانها ومدنها.
كما تدفع البطالة والحاجة إلى العمل إلى توظيف الدين ورجالاته وأحزابه ومؤسساته الطفيلية على الهامش الاجتماعي التي تدفع نحو تبني أنماط من النماذج المشوهة فعززت من انتشار دائرة الاضطراب الاجتماعي والتصادم وحصار الفكر القومي المتنور فساد القلق ليدفع إلى حالة عدم الاستقرار وانتشار الصدامات المذهبية والطائفية والاثنية، وصولا إلى حالات تخليق فرص الحروب الطائفية والأهلية الخطيرة، كانت مسارحها لبنان والعراق واليمن والسودان وكلها تندرج تحت باب توجهات المخططات الامبريالية القديمة الجديدة لتفتيت العرب وتلاقي الترحاب والتعاون والتنفيذ من قبل حكومة إيران وتطلعات قيادتها الطائفية وما توحي به أحلام تصدير الثورة الخمينية والاضطراب في بلدان الوطن العربي.

وإذا كانت رياح العولمة لدى البعض أنها قد تكون سببا وفرصة في إنعاش أحوال العرب؛ إلا أنها تبدو في جوهرها ونتائجها القريبة والبعيدة عملت على آليات ونظم أخرى، خاصة على استهداف الفكر القومي، بمحاولات دمج المجتمعات العربية في النظام العالمي الجديد بتعويمها على شعارات ليبرالية ظاهرية تدعو لفظيا إلى حقوق الإنسان والديمقراطية وتحرير المرأة وظهور منظمات المجتمع المدني، في حين ركز الإعلام المعولم على استهداف منظم ومقصود للمؤسسات القومية واستهداف الفكر القومي ومنظماته وأحزابه السياسية، ولمنع التقارب العربي وتفكيك ما تبقى من حركات كانت مهتمة في النشاط إلى حد ما في حراك حركة التحرر الوطني والقومي العربية التي انبثقت في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومنها كانت الداعية لاستكمال بناء الدول القطرية العربية ودفعها إلى التكامل والاتحاد ضمن المجموعات أو التكتلات العربية التي انبثقت في مشرق ومغرب الوطن العربي دون ان تصل إلى حالة الوحدة والتكامل الاقتصادي المنشود والمطلوب.

لقد تم إشغال الوطن العربي دوما بأخطار واستهدافات مرتبطة بسياسات الدول الكبرى والإقليمية وتدخلها في الشأن العربي وهي تدخلات الكيان الصهيوني، ايران، تركيا، أثيوبيا، السنغال وخلفهم دول مثل الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا وبريطانيا والاتحاد الأوربي.

ــ يتبع الحلقات الثانية والثالثة والرابعة والخامسة
ــ للدراسة والبحث مصادر ومراجع والحالات وهوامش





الجمعة ١٦ جمادي الاولى ١٤٣٩ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٢ / شبــاط / ٢٠١٨ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب ا.د. عبد الكاظم العبودي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة