شبكة ذي قار
عـاجـل










محاضرة ألقيت في ندوة الفكر القومي التي نظمها مركز ذرا للدراسات والأبحاث يوم 2 تموز / جويليه 2017 بإحدى قاعات جامعة السوربون بباريس


خطاب الصحوات والإصلاح والتغيير إلى أين ؟

ظهرت الصحوات الإسلامية وتكرر الكذب والوهم بها في العقود الأربعة خصوصا، ولا تخلو مواعيد الإعلان عنها عن أهداف مبيتة لها وضمن الاستهداف المنظم للفكر القومي وخاصة في الوطن العربي.

لقد أنتج العقل الماضوي ظاهرة ما يسمى " الصحوة الإسلامية" التي أخذت لبوس الدين والإيمان والتقوى تمظهرا وورعا لممارسة السياسة وفق منطق وأخلاق ميكافيلية وذرائعية لتحقيق أغراض مبطنة أخرى تختفي وراء جبة الإسلام وعمامته ولحيته وأشكال أخرى من طقوس مضافة بشكل مفتعل لتضيف نكهة معينة.

ولعل تبني الحركات الاسلاموية وأحزابها وواجهاتها بما يسمى " الخيار الديمقراطي"، كان من مفارقات البدع الحديثة المبتكرة للدين الذي تخلى ظاهريا عن مبدأ البيعة والشورى وتقليد الإمارة على شؤون المسلمين في الدولة وحتى ما دونها من بنيات تنظيمية بمستوى أحزابهم وحتى فلول جماعاتهم الإرهابية منها وتحالفاتهم الاسلاموية المبتكرة.

يبدو وكأن هذه الجماعات تخلت وأدارت الظهر لمبدأ الشورى وحكم الجماعة. يلاحظ ذلك من خلال الحملات الانتخابية التي قامت بها هذه الجماعات فأكدت قدراتها على التعبئة انطلاقا من المساجد ودور العبادة واستغلت الفتاوى والمرجعيات وبدعم سخي، مالي وإعلامي، يوظفه لها المال السياسي القادم من مختلف مصادره الأجنبية، والموظف بشكل جيد لإنجاح حملات الانتخابات والفوز بها بكل الوسائل البراغماتية والنفعية والمضللة أيضا باسم الدين.

وتبقى شعارات الفضيلة والدعوة إلى الإصلاح والصحوة والاستبصار والتعبئة الجماهيرية تطلق في كل مكان باسم مؤسسات تدعي أنها تواجه :

( الظلم والفساد وقمع الأنظمة السياسية القائمة والدعوة إلى تغييرها... الخ. )، وهي في الحقيقة مؤسسات حملت كل المظاهر والأمراض التي تدعي أعلاه مواجهتها للوصول إلى السلطة، كغاية ووسيلة للحكم لا غير.

ومع ظهور الدولة العربية المعاصرة ، ترسخ معها عبر العهود خطاب تبريري يخدم توجهات السلطة الحاكمة لا غير، غالبا ما اتسم بتراجع العقلانية والمنطق المقبول وحتى الإقناع للرعية والمواطنين في هذا البلد أو ذاك.

يفترض ان من مهمات الدولة العربية المعاصرة التي ظهرت سلطاتها منذ استقلال العراق في عشرينيات القرن الماضي وما بعده من استقلال أقطار عربية ان تقوم هذه الدول الفتية وسلطاتها بالعمل على تحرير الإنسان من تركة قرون التخلف العثماني، وسيادة الروح العشائرية والقبلية، والانخراط في مواطنية هذه الدولة العربية أو تلك من خلال إقامة نظام مدني يتمثل بدولة القانون والمؤسسات والحقوق واعتماد انتماء الفرد إلى دولته من خلال المواطنة التي تكفلها القوانين والتشريعات الدستورية وقيم العدل والمساواة.

لقد تم تجاهل خصائص الدولة المعاصرة في العالم، وهي نتاج تطور ثقافي واجتماعي يجب ان تقوم على مبدأ أساسي بالفصل ما بين الديني والسياسي.

وقد واجه تشكيل الدولة العربية من ظهورها والى اليوم عجزها ان تكون دولة دستورية فعلا، تحكمها مبادئ تجسد الحالة الوضعية للقانون والواقعية السياسية والاجتماعية، فقد ظلت أسيرة التأرجح بين الديني والسياسي ، ولم تتمكن من التخلص من تكرار عبارة : " الدين الإسلامي مصدر القوانين والتشريعات"، وهي عبارة مطاطة نسبية تلاعب بها المشرعون وكتاب الدساتير، بسبب عدم الإدراك التام وانعدام الوعي للمعنى الحديث لوظيفة الدولة.

وفي الواقع ، يبدو للعامة من الناس أن لا خلاف أو تعارض أو تقاطع بين الدولة والدين، سواء كانت الأغلبية المطلقة للسكان إسلامية أو بنسب معينة.

المشكلة هنا تتمثل عميقا بين طبيعة العقل والسلطة الحاكمة، حيث يميل العقل لتوظيف أدواته الدينية أو الوضعية لتكوين الطابع العام للسلطة، استبدادية كانت أم ديمقراطية.

كما أن التخلف السائد في الحياة العربية يتسع منذ أن سادت روح الاتكال والقدرية وقبول الأمر الواقع ، ورفض صيرورات التقدم وارتفاع معدلات الجهل والأمية؛ مما يدفع الكثيرين إلى وضع الإيمان طريقا وخلاصا نحو الظفر بالجنة في السماء ولو على حساب تدمير الحياة على الأرض.

ان طرح مفهومي " الأمة الإسلامية" بدلا من الإقرار بوجود " الأمة العربية" هو جوهر التناقض في لب الخطاب الاسلاموي الذي يسعى إلى لي الحقائق عن طبيعة تكوين الأمم وظهور القوميات الكبيرة منها والصغيرة وتواجدها في أوطان محددة لها في أقطار معينة وانتشارها في بقعة محددة في هذا العالم .

فمفهوم " الأمة الإسلامية" يعني في الخطاب الاسلاموي هو " الدين المشترك" ، وفي مضمون أصحاب هذا الخطاب وحسب المبدأ والآية الكريمة : ( إن أكرمكم عند الله اتقاكم)، وهذا مبدأ الهي حكيم، ويستحقه أصحابه من المتقين والمؤمنين ؛ لكن معايير قياس التقى على الأرض لا يجب أن يقوم بها بشر بدل الخالق.

وانطلاقا من فهمهم إن الأمة الإسلامية هي جامع مطلق وحصري لكل أصحاب الدين المشترك على بقعة / بقاع هذه الأرض الواسعة فان المفهوم يأخذ جانبا طوباويا من الصعب حصره وإدارته في نظام أو دولة أو سلطة وحتى في إمارة معينة لهؤلاء المؤمنين بشخص الحاكم/ الخليفة.

ولهذا فإن دعاة الأمة الإسلامية يسعون لتشتيت الروابط العرقية والاثنية والانتماء القومي، مما يؤدي نتيجة منطقية إلى تدمير المشاعر المشتركة التي تربط جماعات بشرية مشتركة تم تحديدها علميا بتعاريف مثبتة في العلوم الاجتماعية وعبر نظريات رصينة حول نشأة الدول القومية بوضوح، تحكمها تواجد وتوافر عدة عوامل وروابط منها: اللغة والوطن والثقافة والانتماء الحضاري والتاريخ المشترك، ويضاف إليها عوامل أخرى كالدين بدرجة ما ، وكذلك المصالح الاقتصادية، حسب التعريف الماركسي الأخير الذي اعتره عامل ومحرك أساسي في التكوينات والتشكيلات القومية المعاصرة .

إن عوامل التلاقح بين الدين والقومية في عملية تفاعلية طويلة تحكمها وجود الدولة لعصور وأزمان لتسهيل عملية الاندماج والتطور المشترك دون تغلب عامل على آخر؛ فقدسية الدين تبقى، تحكمها نظرة الفرد وسط جماعة تشاركه المعتقد بالتوجه معاً إلى السماء لإظهار الطاعة طمعا برضا الله واكتساب عفوه ورضاه وثواب الآخرة.

أما الانتماء القومي فتحكمه نظرية واقعية مُعاشة على الأرض، تكسب الفرد قناعة بالانتماء إلى منظومة بشرية تربطها عوامل الارتباط القومي لتشكيل عائلة وقبيلة ومجتمع متعدد القبائل وصولا إلى حالة ظهور مجموعة متجانسة ثقافيا لتشكيل قومية أو امة معينة، وليس بالضرورة تجمعها روابط عرقية مجسدة في نقاء العرق والدم المشترك، إن العوامل الثقافية والعيش المشترك دفعت مجتمعات معينة إلى الظهور وكأنها قومية؛ كما هو الحال في فهم العروبة عند كثير من أبناء الأعراق الأخرى المتعايشين لقرون مع العرب فتشاركوا في ثقافتهم وانتموا إلى حضارتهم العربية الإسلامية المشتركة.

وما في تباين وإدراك هذين المفهومين تحدث المواجهة بين ما هو قومي وديني، وفي غياب قيام الدولة القومية القوية، غالبا ما كان مصدر تلك المواجهة هي تلك الحركات والنماذج والفرق والنحل المتطرفة في الدين وحتى في حالات القومية والاثنية التي تحاول تسييس الإسلام وتبني إستراتيجيتها على نبذ الفكري القومي وشيطنته واتهامه بالعنصرية؛ في حين كانت العلمانية ملاذ بعض القوميين لنصح الناس ودعوتهم لاجتناب التطرف وحتى التعصب القومي والتمييز الدقيق والعلمي بين الدين والسياسة، من خلال تذكير شعوبهم بان لهم حقوق في ممارسة الطقوس والقيام بالواجبات الدينية والدنيوية كحقوق مشروعة للفرد تكفلها لهم المجتمعات الواعية والدولة .

وفي خضم الجدال المحتدم اليوم بسبب تركة ممارسات الأنظمة المحسوبة على الفكر القومي من خصومها سياسيا وما يتعرض له القوميون من ممارسات الأنظمة والحكومات والجماعات الإسلامية والثيوقراطية فلا بد على الجميع العودة إلى المنطلقات الأساسية في فهم وظيفة وقيام الدولة المعاصرة ، لا على أساس الطراز الديني، ولا العرقي باعتبارها دولة تسلط قوم على أقوام أخرى؛ بل انطلاقا من أساس الرابطة الوطنية التي تجمع أفراد مجتمع ما وخضوعهم طوعيا وبأيمان مشترك تحت سلطة ما، وفق عقد اجتماعي مقبول .

وانطلاقا من تجارب دولية وأوربية معاصرة تتجلى في ظهور الدول القومية في عدة دول كألمانيا وروسيا وفرنسا وبولندا وغيرها، فان الدولة القومية وفق أنماط التسيير الديمقراطي لا تلغي خصوصيات الشعوب والجماعات الدينية آو والاثنية داخلها لأنها تتوجه إلى انجاز وظائف متعددة في مجتمعاتها وتترك للشعب أفرادا وجماعات الانتظام والنشاط في أحزاب وحركتها يحكمها دستور وقوانين لتنظيم العلاقة التنافسية للوصول إلى السلطة .

إن العبادات في الدولة الحديثة وممارساتها حق مكفول وطنيا ودوليا وفي كل الأحوال يجري التعامل معها كمسألة إنسانية بحتة مرتبطة بالفرد المنتمي إلى مجتمع وجماعة بشرية تشكل رعايا أو ساكنة تلك الدولة.

كما أن الدولة الوطنية أو القومية المعاصرة لا تتقاطع في مهامها تجاه حقوق مواطني مجتمعاتها وعليها أن لا تغرق بأية حالة دينية ، أي إنها نرعى حرية الأديان في مجتمعاتها من دون تدخل أو وصاية أو استغلال أو توجيه مؤسساتي أو سياسي وعليها الحذر من التدخل التخصصي الفئوي وتحترم بصرامة تامة مبدأين هما:عزل الدين عن السياسة والابتعاد عن التعصب الديني أو الطائفي أو المذهبي.

ــ يتبع الحلقة الرابعة والخامسة.
ــ للدراسة والبحث مصادر ومراجع والحالات وهوامش.





السبت ٢٤ جمادي الاولى ١٤٣٩ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٠ / شبــاط / ٢٠١٨ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب ا.د. عبد الكاظم العبودي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة