شبكة ذي قار
عـاجـل










محاضرة ألقيت في ندوة الفكر القومي التي نظمها مركز ذرا للدراسات والأبحاث يوم 2 تموز / جويليه 2017 بإحدى قاعات جامعة السوربون بباريس

القسم الخامس
قضايا الانتقال والتغيير الديمقراطي وحراك الشباب

ما عدا بعض التيارات الليبرالية العربية، وهي قليلة جدا، تلك التي بشرت منذ العقود الثلاث الأولى من القرن الماضي بإمكانية التغيير والانتقال الديمقراطي في بلدانها، في حين رأى الكثيرون من مناضلي القوى القومية في عدم إمكانية تحقيق مثل هذا الانتقال وإجراء التغيير الديمقراطي المنشود من خلال التناوب السلمي على السلطة، واعتبروا ذلك بمثابة حالة طوباوية بعيدة المنال، نظرا لتعقيد البنيات الاجتماعية العربية، كمجتمعات عشائرية، ومنها محافظة موروثة، وخاصة بما ارتبط منها في انتشار ملكيات الإقطاع العقاري الكبيرة للأرض والملكيات الكبرى للوحدات الصناعية والهيمنة العائلية على الإدارة والجيش ودواليب الحكم من قبل الأسر المالكة وحلفائها في السلطة.

ومع زيادة تمسك قوات الانتداب للدول الاستعمارية بدعم أنصارها في كثير من البلدان العربية، ومع سيادة الأمية وانتشارها على نطاق واسع، فان ممارسة الديمقراطية وانتخاب السلطات التشريعية واستقلالية القضاء وتشكيل الحكومة وفق حق الأغلبية النيابية كانت نادرة ؛ لذا تراجعت آمال القوى والتيارات المعارضة لأنظمة الحكم القائمة آنذاك وعجزها من الوصول إلى حالة الفوز والحكم في بلدانها من خلال البرلمان والمنافسة الديمقراطية فاتجهت الأفكار نحو طرح مشاريع العنف الثوري وتنظيم الانقلابات العسكرية، وهكذا اعتقدت وعاشت جميع التيارات القومية والاشتراكية والماركسية والشيوعية في إمكانية استخدام العنف وسيلة للتغيير وأداة ممكنة لتحقيق الوصول إلى الحكم. كما لحق ذلك أيضا أنصار الفكرة الجهادية الإسلامية وحركة الإخوان منذ خمسينيات القرن الماضي.

وما عدا حالة الجزائر حيث وصلت جبهة التحرير الوطني الجزائرية إلى الحكم بعد قيادتها للثورة المسلحة (1954 ـ 1962) واستلامها السلطة بعد خروج المحتل الفرنسي بعد أن حكم البلاد 132 عاما، واعتبرت الجبهة التي تحولت بعد نيل الاستقلال الوطني إلى حزب سياسي حاكم يعتبر إن الشرعية الثورية هي مصدر السلطات ويعطي الحق لنفسه في التفرد بالسلطة رغم أنها تبنت شكليا اختيار بعض صيغ الانتخابات لإيصال أنصارها وممثليها إلى البرلمان والحكومة والنقابات والمنظمات الشعبية وتمسكت بقيادة الجيش الذي فرض رجاله على رئاسة الحزب والدولة في عهدي الرئيسين هواري بومدين والشاذلي بن جديد معيدة نفس النمط الذي سارت عليها الأحزاب الشمولية الحاكمة في الدول الاشتراكية أي الجمع بين رئاسة الدولة وقيادة الحزب والجيش .

وفي مصر وبعد نجاح الانقلاب العسكري في 23 يوليو/ تموز 1953 بقيادة جمال عبد الناصر ومعه مجموعة من الضباط الأحرار الذين فرضوا أنماط من التنظيمات السياسية الحاكمة وبعدها فرض أنماط حكم الحزب والتنظيم الواحد كالاتحاد الاشتراكي وحتى الطلب من بقية القوى والأحزاب السياسية حل نفسها والاندماج في هذا التنظيم الموحد، الذي ظلت قيادته بيد العسكر برئاسة الرؤساء جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك وأخرهم عبد الفتاح السيسي.

وليس ببعيد عن ما جرى في مصر تكرر ما حدث في العراق بعد انقلاب 14 تموز 1958 حيث تكررت نفس تلك التجربة في العلاقة بين العصب والمجموعات العسكرية التي تبنت استلام السلطة عن طريق الانقلاب العسكري، والتمسك بها من خلال تفرد القيادة وحصرها في مجموعة سياسية معينة أو ارتباطها بحزب سياسي كالبعث في سوريا والعراق والقوميين العرب خلال فترة الرئيسين عبد السلام محمد عارف وأخيه عبد الرحمن محمد غارف مما سمح بشكل نسبي إلى وصول بعض الأجنحة المدنية في هذه التيارات القومية إلى قيادة التنظيمات والأحزاب وهي بدورها تمسكت بقيادة الجيش لنفسها لتسيير عجلة الحزب والحكومة والمجتمع.

لقد مر زمن طويل دفعت به الشعوب العربية ثمنا باهضا نتيجة الحماقات السياسية التي ارتكبت بتسمية الخطاب السياسي القومي للانقلابات العسكرية ومباركتها بتسمية الثورات المرتبطة بتواريخ أيام الانقلاب، وهي في الحقيقة واحدة من وسائل التضليل السياسي حينما يقدم ضابط مغامر على تحريك وحدته العسكرية ليحتل مبنى الإذاعة ومحطة الإرسال والتوجه نحو القصر الجمهوري أو الملكي ويصدر بيانا مفبركا باسم الشعب ثم سرعان ما يشكل مجلسا لقيادة الثورة ومجالس عسكرية وحتى تنظيمات مليشياوية أخرى تحكم وتعدم وحتى تصفي الخصوم باسم الشعب ويصادر الجهاز القضائي والتشريعي بمحاكم عسكرية ومجالس عرفية وخاصة منها أخذت مسميات محاكم الثورة، ويختزل الحكم بمجموعة موظفين تحت إمرة العسكر توضع لنفسها دستورا للبلاد ومجلس وطني شكلي أو برلمان ويجري تشكيل مجلس وزراء ينفذ ولا يحكم وينقاد تماما تحت سلطة المنصب الأول والأوحد في البلاد.

وهكذا انقطعت الصلة بين استراتيجيات تلك الانقلابات ونخبها العسكرية والسياسية وبين هدف تحقيق الديمقراطية، كنظام حكم، تراجع بل تلاشى بشكل وصل في مراحله اللاحقة إلى محاولات الحكام والرؤساء توريث أبنائهم للحكم في أكثر البلدان العربية، وهو ما قاد الأوضاع إلى التعفن السياسي واليأس من الإصلاح ، وعاد طرح الديمقراطية لا مطلبا ليبراليا بل شعبيا أخذ شكل متصاعد مما مهد الطريق إلى الاستنجاد بالقوى الأجنبية، وحتى الاستعمارية وبعدها تحريك أحداث الربيع العربي التي تصدرتها المطالب الديمقراطية والعودة إلى الانتخابات وحكم البرلمان... الخ..

إن القوى السياسية الحاكمة في الوطن العربي في العقود الأربعة الأخيرة من خلال تمسكها بسلطة الحزب الواحد ألغت حتى الخيار الديمقراطي في داخل أحزابها، فعقدت المؤتمرات الحزبية الشكلية، لتزكية وبقاء بطانة الحكم وللمصادقة فقط على بقاء سلطة الأمين العام للحزب ورئاسته للدولة والمجتمع وبشكل مطلق.

وفي الوقت الذي مورس العنف بكل أشكاله ضد الخصوم تم استبعاد الخيار الديمقراطي والتغيير حتى من داخل منظومة الحزب الحاكم نفسه وأجهزته التي تذاوبت وانحلت فأصبحت جزء من سلطة القمع للدولة، كما تراجعت لدى المعارضات السياسية إمكانية التغيير الديمقراطي السلمي، فذهبت هي الأخرى إلى تبني العنف السياسي، مطالبة بشعارات إسقاط النظام وإلغاء سلطات الحزب الواحد، وهكذا علقت في الأذهان لدى العامة: إن الثورة تستدعي العنف بالضرورة، وصار هدف تحقيق الديمقراطية بعيد المنال بالوسائل السلمية والتنافس من خلال الاحتكام إلى صندوق الانتخاب.

ترسخت الفكرة لدى أجيال من العرب إن إستراتيجية الانتقال الديمقراطي باتت في قطيعة مع إستراتيجية الثورة أو حتمية التغيير وحتى الإصلاح الممكن؛ فحتى تلك القوى التي وصلت إلى السلطة بعد غزو العراق وأحداث الربيع العربي في تونس ومصر واليمن وبلدان أخرى تبنت هي الاخرى خيار العنف والتزوير واستخدام المال والإعلام السياسي لإقصاء خصومها من أمكانية التناوب على الحكم، وان من كان يطرح التغيير من خلال تثوير المؤسسات بات في قطيعة مع شعارات الأمس القريب ونسف منهجه، وألغى كل مضامين التغيير الاجتماعي والسياسي، نظرا لتشابك علاقات القوى الصاعدة مع القوى الإقليمية والخارجية وتجنيدها علاقات السلطة التي صارت بيدها مع القوى والمراتب الاجتماعية التي نسفت الخيار الديمقراطي ومنعت الانتقال الديمقراطي لغيرها من المنافسين لها.

وفي الوطن العربي لازالت تسود ثقافة التمسك بالسلطة، وبأي ثمن، وباتت قوى المعارضة بالأمس سلطة تمارس نفس القمع الذي عانت منه قبل ذلك وعارضته؛ بل أبدت في أكثر من حالة، وضعا شرسا ودمويا ضد جماهيرها.

ورغم تكرار عدد من دورات الانتخابات في عدد من البلدان العربية فلا تزال ثقافة الممارسة الديمقراطية عند السلطات ومعارضاتها متراجعة على حد سواء، ولا تعكس وعي القبول في التناوب السلمي على السلطة، ومباركة الفائز، والتعاون معه في بناء ثقافة سياسية رصينة ترسي تقاليد سياسية تخفف من حدة الصراعات السياسية الموروثة عن عقود الماضي، التي لازالت تطبع العملية السياسية ولعبتها الانتخابية بالحدة والشراسة وتحولها إلى حلبة لصراع سياسي، غالبا ما يخرج عن أطره السلمية المطلوبة ديمقراطيا.

لم تبذل القوى السياسية في الوطن العربي جهدا في إعادة تشكيل الوعي لدى الأجيال الصاعدة و،عدادها للممارسة الديمقراطية من خلال منح الثقافة السياسية صفة السياسة نفسها والابتعاد عن إذكاء الصراع في مناحي تأليب نوازع الذات الدنيا وشحذ التوترات الجهوية والطائفية السياسية والاجتماعية، ومنع خلق المنافسة المدنية النظيفة، ومغادرة ذاكرة وقضايا الثأر السياسي، وكبح جماح غريزة التفرد والاحتكار في السياسة وكل ما يتعدى ويتجاوز حقوق المواطنة والمساواة لكل الفئات الاجتماعية المشاركة في العملية السياسية وخارجها في المعارضة .

إن واحدة من أهم شروط التغيير والانتقال الديمقراطي في المجتمعات التي تعاني من التمزق والصراعات الناجمة عن عهود الكبت السابقة هو صعوبة الاستعداد والتكيف لفهم القبول النسبي بالآخر ومنحه الفرصة دون الاستئثار المطلق بحق الأغلبية الفائزة اليوم، فهناك فرص التراضي والتوافق والتعاقد والتنازلات المتبادلة بعيدا عن الصفقات التآمرية التي تكرس التسلط والاحتكار المطلق للسلطة على حساب الإصلاح والتغيير والحرص على المشاركة الواسعة لكل قطاعات المجتمع ومنها منظمات المجتمع المدني التي تم تهميشها تماما.

وكما أن النضج لأي عملية سياسية لا يتم من خلال النجاح في دورة أو دورتين بممارستها بل في مدى عمق التفاعلية في سلوك الأجيال وتراتبية الأولويات في تنفيذ البرنامج الانتخابي ليكون وطنيا يحقق لكل عناصر المواطنة المشاركة فيها والمساواة في الواجبات والحقوق أيضا.

إن مستقبل نجاح قضايا الانتقال الديمقراطي في بلداننا العربية مرتبط أساسا بشريحة تعليم وتربية وتوجيه الشباب العربي والأجيال الصاعدة بعد أن فشلت الأجيال السابقة من تحقيق الحلم الديمقراطي؛ فوفقا لتقارير التنمية البشرية الصادرة عن الأمم المتحدة عام 2011 ، فان متوسط أعمار السكان في البلدان العربية الخمسة التي انتفضت بدرجات متفاوتة، منها تونس، مصر، البحرين، سورية، المغرب، والتي شهدت حراكا ثوريا يراوح بين 20.1 و 30 عاما وكلها أعمار تحت المتوسط العالمي البالغ 29.2 عاما.

هؤلاء الشباب وغيرهم من بلدان عربية أخرى،كاليمن وليبيا، وبالإضافة إلى اقرأنهم في العراق خاصة الذين تراكمت عليهم سنوات الحصار والغزو المتتالية منذ 1990 لم يجدوا ومنذ 2003 سوى مظاهر الدم والقتل والتفجيرات والحرب الأهلية والصراع والتعبئة الطائفية والبطالة التامة وانعدام أي متنفس حقيقي وطبيعي للتعبير عن حرياتهم ومكنون حالتهم النفسية وتفريغ مكبوتاتهم سوى ما هو معروض أمامهم من مظاهرا لعنف الموجه والمتصاعد؛ ولهذا فان عملية زجهم في عملية سياسية تكفل انتقالا ديمقراطيا لبلدانهم ليست بالمهمة اليسيرة.

وفي نظرة يسودها الكثير من الشك يبدو لأفراد الجيل المخضرم السابق لهذه العينة من الشباب العربي إنهم في نظر الكبار أنهم مجرد شباب يافع بعيد عن السياسة يعانون من قضية الانتماء والهوية الوطنية أو القومية، وهم بعيدون عن المشاركة السياسية في بلدانهم ،وهذا خطأ وفهم جسيم بعيد عن الواقع.

فهذا الجيل رغم بعض الفراغ الثقافي أو نقص التعبئة الفكرية القومية فهو شباب واعي كل الوعي، مدرك لما يجري من حوله من أحداث؛ لذا نجده متفاعلا ومساهما بفعالية كبيرة عبر وسائط التواصل الاجتماعي وفي حراك الشارع العربي، وهو أسرع من استجابات الأجيال السابقة في القدرة والتعبئة بحكم مستويات تعلمه ، وإمكانيات استخدامه لتقنيات التواصل الاجتماعي، وحيازته على هواتف محمولة ويحسن استخدام بريده الالكتروني وبعضهم له مدوناته ولديه القدرة على القيادة والتعبئة والتواصل قطريا وقوميا وهو من أكثر الأجيال فهما لواقعه من تلك الأجيال التي سبقته، فهو يختزل مفردات الخطاب السياسي القديم ، متجاوزا صيغ وأساليب بياناته الطويلة وفذلكاته البلاغية وتكراراته المملة، باستخدامه لغة الترميز المكثفة والجمل القصيرة، واستعماله ببراعة النقد الجاد وحتى استخدام السخرية المرة موظفا النكتة والصورة والتعليق والخبر والدعابة والكاريكاتير والأغنية السياسية كوسائل شعبية للتعبير عن الرأي، وهو سريع الاستجابة إلى التعبئة المطلوبة إذا ما اقتنع بالفكرة ووضوحها، كما له حرية وإمكانية الانتقال بتوظيف الفيسبوك وتويتر ويوتيوب والمدونات والرسائل النصية وكل ما يتطلبه الحراك المطلوب منه.

لقد ذهب والى الأبد وقت طباعة وتوزيع البيان الورقي والجريدة الحزبية وتوزيعها وحتى الارتهان لأخبار الإذاعات وعواجلها، فبات بالإمكان استخدام الهاتف المحمول بذكاء ليقوم بدور الصحفي والمراسل من عين المكان وبسرعة الضوء، وان يقوم الشاب بتغطية أي حدث وعلى المباشر، متجاوزا كل فضاءات الكون الكبير لنقل المعلومة أو تفاصيل الحدث وتوجيه الخبر أو المعلومة، حتى باتت فضائيات كبرى تجري متلهفة لأخذ أخبارها من هاتف جوال أو محمول ينقل صورة لتظاهرة أو مؤتمر أو حدث سياسي أو اجتماعي هام ، ومن أية نقطة من هذا العالم.

ولهذا لا بد من العناية بتشذيب الخطاب القومي العربي وإعداده بلغة تتوافق مع إمكانيات نشره وفهمه وتحميله لمفردات الواقع ولا بد من إثرائه وزجه بذكاء واستيعاب في حملات التضامن الوطني والقومي كقضية فلسطين وتعبئته بما يجري في بلدان عربية من أحداث صعبة كالعراق سوريا واليمن وليبيا وفلسطين ولبنان.

وهو شباب به من التحدي والحراك الكثير من الطاقات والإرادات، مستعد كل الاستعداد في المشاركة والمتابعة في الأحداث السياسية الوطنية والقومية، شرط منحه الفرصة دون وصاية وتركه يختار قياداته الميدانية التي تفهمه وتشكيل نخبه الوطنية والقومية وتشجيعه الانتماء إلى كل الأحزاب الجديدة ومتابعة التيارات الفكرية وزجه في أنشطة منظمات المجتمع المدني دون خوف عليه؛ لان من طبيعة الشباب الابتكار وعدم الركون إلى الركود والسير في ذات الطرق والمسارات والدروب السابقة التي مشى فيها أسلافه.

إن واحدة من دروس حراك الربيع العربي هي أن مجموعات واسعة من هؤلاء الشباب خرجت عن نمط الحراك القطري والقومي العربي السابق بوجود الكاريزما التقليدية أو حضور الرمز الحزبي أو القائد السياسي الشخصي الذي يوجه الناس في المظاهرات أو يصدر لهم البيانات؛ فالثورات الشبابية تتعلم من تجاربها مستقبلا وستتحرك وتعبأ صفوفها ولن تركن للقمع والإذلال وأنها تعرف كيف ترتب مقاومتها وإعادة تنظيم صفوفها،ولن تتوقف باعتقال أو تصفية هذا القائد أو ذاك في هذه الساحة أو تلك.

كما أن الأجهزة الأمنية والقمعية العربية الموروثة في أجهزة السلطات العربية الحاكمة لا زالت بعيدة عن مستويات الوعي الجديد والحداثي وأساليب التعبئة التي يقوم بها الشباب في العالم الافتراضي وإمكانية نقله إلى الواقع، فهناك شباب متواصلون وهم إعلاميون ومناضلون وقادرون على ربط بعضهم بعضا على مستوى المدن الكبرى وأقصى أطراف الريف وقادرون على التواصل والارتباط والتنسيق والانتقال عبر العالم الافتراضي من ساحة وطنية إلى أخرى قومية، ويمتلكون أدواتهم الإعلامية بأيديهم، تحملها هواتفهم وحركات أصابعهم الرشيقة والسريعة ، وهم بتلك الفطنة والوعي والحذر تجاوزوا عمل المعارضات التقليدية، وقد تنقصهم بعض الخبرات في القيادة والتوجيه فهم ينتظرون أيضا من قيادات الأجيال المخضرمة الفهم الصحيح لما ينادون إليه، ويتطلعون إلى منحهم الفرصة، دون الإفراط في فرض وصاية مركزية عليهم.

وطالما أن قيادات الحركات والأحزاب الوطنية والقومية التقليدية لازالت تظن أنها قادرة على ضمهم واحتوائهم وإخضاعهم لها بأساليب وطرق فهمها السابقة، التي عفا عليها الزمن، فإنها ستكرس بينها وبينهم فجوة كبيرة ،ستكون حتما عائقا وحاجزا صعبا ينبغي تجاوزه.

وانه زمن بات يرفض وجود قيادات مفروضة على منظمات الشباب والطلبة من قبل أشخاص تجاوزوا الأربعين سنة من أعمارهم؛ فكيف لو كانت الكارثة أن يشرف على كثير من الهيئات الشبابية والطلابية في أحزاب وحركات قومية في الوطن العربي ممن هم فوق الخمسين سنة.

إن تجارب الحركات السياسية والجماهيرية الأوربية المعاصرة أظهرت وجود قيادات لأحزاب عريقة هم دون الأربعين سنا، ومن كلا الجنسين، ومنهم مرشحون لرئاسة الدولة والبرلمان والوزارات الهامة في بلدانهم والمثال الفرنسي بات واضحا.

ولعل الألفية الجديدة فاجأت أنماط العمل السياسي والتعبوي السابق بظهور الحركات الاحتجاجية أو السياسية التي لا تتصدرها أحزاب أو تحالفات معينة أو من النوع الذي يتخذ أشكالا وارتباطا حزبية معينة ، أنماط عمل وتنسيق وتعبئة اقرب إلى المرونة في ترتيب هياكلها التنظيمية وحشد إمكانياتها في التجمع أو أو التفرق وحتى التفكك أو الانسحاب في حالة المحاصرة واشتداد ظروف القمع ولا تنتهي فعالياتها باعتقال قيادات المجموعة آو الشخصيات المركزية في التجمع أو الحراك.

وهي كما أكدت الأحداث في عدد من البلدان العربية أن مجموعات الشباب قادرة على الحركة بصورة أوسع ومناوراتها الذكية الالتحام بحركة الشارع والتجاوب معه متحررة من القيود الإيديولوجية الجامدة والضيقة وهي بعيدة عن أشكال التكلس التنظيمي والقبول في الطاعة العمياء لشخص ما أو لتنظيم معين وقبولها استمرار وبقاء قياداتها لفترات ة لسنوات طويلة محتفظة بالسلطة في التنظيمات ومتموقعة على كراسيها العتيدة وتحت عناوينها السياسية المعروفة كأحزاب وحركات اجتماعية بقيت نمطية خاضعة لسلطة قائد الحزب أو مجموعته النافذة وبخطاب سياسي بات متكلس وتجاوزته الأحداث.

إن إرادة التغيير باتت مطلوبة وملحة ، ولا بد أن تكون متسارعة جدا، تبدأ بتغيير القيادات المخضرمة، وإقناعها بضرورة التخلي عن مواقعها القيادية، ولا بد من احترامها لسن التقاعد النضالي، والتناوب على القيادة لصالح الأكفأ والأنشط والأكثر شبابا وحيوية، ولا بد من ترك الفرصة للأجيال الصاعدة.

إنه من المؤسف أن يكون معدل أعمار من حضروا إلى أغلب المؤتمرات الوطنية والقومية العربية هم من يتجاوزون سن الخمسين سنة، منهم تراه في حالة إنسانية بائسة، فمن اهتزت يداه وتراجعت ذاكرته وابتلى به الوهن بأمراض الشيخوخة، وفي مقدمتها الزهايمر، ومشهد هؤلاء الإخوة المناضلين من هنا وهناك بات لا إنسانيا ببعده السياسي والاجتماعي ، لكنه للأسف بات هو المشهد السائد عربيا، حتى باتت قاعات المؤتمرات المكتظة وحضورهم المكلف وانتقالهم اقرب في مهمته إلى نشاط النادي السياحي منه إلى العمل السياسي، وهذا الحال ما يزرع حالات من الإحباط، و يفرض ويجبر أجيال من المناضلين، وخاصة الشباب، من ترك العمل والنشاط السياسي وحتى التنظيم ليأسهم من الوصول يوما إلى مواقع قيادة تنظيماتهم وتغييرها .

ــ يتبع الحلقة السادسة.
ــ للدراسة والبحث مصادر ومراجع والحالات وهوامش.





السبت ٢ جمادي الثانية ١٤٣٩ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٧ / شبــاط / ٢٠١٨ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب ا.د. عبد الكاظم العبودي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة