شبكة ذي قار
عـاجـل










( إمش مع الذي يبكيك واتخذه صديقا ) .... من وصايا الأمهات
[1]

أشاعت أمهات زنْگوّْ بين الأولاد والصبايا شعوراً عميقاً بصلة الرحم وأواصر القربى، فقد أرضعت كل واحدة منهن وليد الأم الأخرى، أنثى كانت أم ذكراً، فصارت زنْگوّْ، كما لو كانت عائلة واحدة، فالكل الجميع ينتمون إلى دار الـ ( نحن ) .

تفول أمي مليكة: على مدى السنوات المديدة، التي أقمنا فيها بالكرخ كانت الدربونة داراً واحدة في مواجهة أرزاء الموت، والأوبئة، والفاقة، والحروب، وبقيت عائلة زنْگوّْ الكبيرة ببيوتها كلها.. كان التكافل الاجتماعي المشترك سبباً كافياً لتجاوز المحن القاسية والمكابدات الشديدة، وكانت الأمهات يؤكدن فضيلة ( الحمّية ) بالتآزر المشترك بين بنيها، فيلتحم الجميع بوعيّ اجتماعي وتلقائي مدهش، على الحضور الكلي فى الخطوب والأحزان: تأكيداً لقانون الـ ( نحن ) الأسمى: ( لا أنا من غير الآخر ) ،

فحري بالانسان السوي أن يحب لغيره ما يحبه لنفسه، وإيمانا بهذا المبدأ الأخلاقي، اعتقاداً وسلوكاً، ارتقت زنْگوّْ من ( الأنا ) الذاتية الجزئية إلى الـ ( نحن ) الكلية.

ففي أزمنة الشدائد وسنوات التموين العسير، عندما دهم القحطُ الناس في أثناء الحرب العالمية الثانية، وبدأ الجوع يهدد الحياة، تنازلت الأمهات والآباء طوعاً عن الطعام، وشدّوا معا الحجر على البطون، ولجأوا الى الصوم المديد، لتوفير لقمة سائغة للصغار .

تروى الأمهات: إن أولياء الأمور من النساء والرجال كانوا، في الزمن الضنين، يمتنعون عن الطعام ويكتفون بوجبة يومية واحدة، ليقاوموا أيام الجوع الطويلة، فيما كانت زنْگوّْ تقيم مائدة مشتركة لبنيها الصغار ليأكلوا ويشربوا وُيقرّوا عيْنا .

هكذا كانت الألفة الندية أمام الفقر والمسغبة والإملاق، كانت تشكل لوحة الإيثار النبيل، فبقدر ما يقترب الناس من بعضهم، فأنهم يقتربون من السعادة.

[2]

ليس ثمة من طقسٍ اجتماعي مبجل، كما ( شايّ العصر ) ، الذي تحرص أمهاتنا على إقامته عصرية كل يوم، حتى حسبه الصبيّ ميقاتاً مقدساً، وفرضاً واجباً يحتم على أمهاتنا التقيّد به وتوقير تقاليده فى الربيع والشتاء.

تهرع صبايا الدربونة: مديحة، غنية، فكتوريا، سنية، بدرية، سهامة، قبيلة، ضوّية، وأختي ألمازة، يتآزرن لتوفير دواعي الطقس الجميل، فيبادرن بكل حماسة ومرح إلى تنقية الأجواء وتلطيف الأنواء، يبدأن بإعداد المكان وتنظيفه ورشّ الدرب بماء تعبق منه رائحة الريّاحين الناعمة، ويبسطن حصران القصب الاصفر، وعليها حشيات وطيئة ( منادل ) لزوم الجلوس، حتى إذا استوى كل شيء، تُقبل أمهاتنا حاملات العدة والعدد من ( منقلة النار ) وأباريق الشاي الخزفيّة الزرقاء، و ( الاستكانات المحلاة بالسعفة الذهبية ) و ( كعك السيّد ) ، وأرغفة الخبز الحار، التي أخرجت على التو من ( التنور ) ، وتُحضر حفصة ( الرشاد ) ، و ( النعناع ) ، و ( الكراث ) و ( الرياحين ) . وقد تنشغل أمي وعمتي فتحية بتهيئة ( خبز عروك ) الشهي ..

وما بين أبخرة الشاي السيلاني والتمتع برشفاته ( المهيلة ) و ( لقمات ) الخبز الحار.. ينساب صوت زكية الشجي، يستعيد أغنية صديقة الملاية:

خدري الچاي خدري.. عيوني إلمن أخدره
مالچ يابعد الروح دومچ مكدرة
أحلف ما أخدره ولا أ گـعد گـباله
إلا يجي المحبوب واتهنه بجماله

تفتتح المرأة الوقور الحاجة ( حمدة المحْنة ) موعظة شاي العصر، تحث فيها ربات البيوت على نظافة الأبدان وعفة اللسان، وتوصي الحاجة أم جميل بضرورة العناية بالزوج المتعب، الذي يكدّ طوال النهار، فعلى الزوجة الحاذقة أنْ تجعل من البيت جنة المأوى وملاذاً هنيّاً، وأنْ تكون لراعي بيتها سكناً طيباً، وجليساً أنيساً، وتحذر الأمهات من الشكوى وإثقال كاهل الزوج بالهموم الصغيرة العابرة، تعقبها ( حمدة النعيمي ) لتشيع، كعادتها، أجواء المرح، وهي تواصل إلقاء الطرف، قبل أن تبدأ بإسداء نصائحها لأمهاتنا، ففي اعتقادها، كما تروي أمي عنها، أن أعظم شئ في الانسان هو القلب، الذي يجب أن يكون على الدوام أبيض طاهراً، بمثل هذا القلب تعمر البيوت المحبة وتزدهر الحياة بالرحمة والغفران. أما ( حفصة ) ، صاحبة القلب النبيل والوجه الجميل، فإن جملة حديثها ينصبّ على المظهر الحسن وأن تكون المرأة حريصة على تنظيم الحياة داخل بيتها، أن تكون أما وأبا لأولادها، وأن تعلم أن الحنان غير التدليل، فالأول مطلوب. أما الدلال الزائد عن حده فمفسدة للولد في المستقبل، فلابد من متابعة أولادنا خارج البيت، وأن لا تنس ( الزوجة ) أن تحافظ، وفي الأحوال كلها، على بشاشة وجهها في حضرة زوجها وأمام صغارها، وأنْ تكون منبسطة السريرة، تسرّ أهل البيت، فالـ ( وجه ) ، كما المرآة، من الضروري أن يكون بشوشاً وجميلاً وبهياً، وإياكن والعبوس فإنه يجلب النحس والكآبة ويتسبب في فرار الزوج و ( هجمان ) البيت!!.

ويتعالى صوت صوت ( زكية ) الضحوك مجلجلاً، وهي تعيد على الأسماع مقالب زوجها عمران العربنجي، وآخرها يوم انقلبت به عربة ( الربل ) ، في أثناء مروره بشارع الشيخ معروف، وكيف رُضّتْ أضلاعه رضّاً، وفقد واحدا من ( أسنانه ) الأمامية، فصار ( أكلخاً ) ، وعندما أفاق من غيبوبته في مستشفى خضر الياس، انفجر بالضحك فجأة، إذْ اكتشف أن العربة كانت بثلاث عجلات بدلاً من أربع، وأنه نسي أن يربط عتلة العجلة المتضررة، فضجت الأمهات بالضحك...

ويحل دور ( أم عبدالله ) ، وهي الأم الوحيدة من أمهاتنا، التي كانت تجيد الكتابة والقراءة، فتختتم مسامرة العصر بتأكيدها فضيلة العلم، فتهيب بالأمهات أن يتعلمن القراءة والكتابة وأنْ يستعنّ بأبنائهن المتعلمين، لأن العلم نور، وأنْ يشغلن أوقات فراغهن باكتساب مهارة شغل الإبرة نحو ( الخياطة والتطريز ) .
 





الاربعاء ٢ شــوال ١٤٤٠ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٥ / حـزيران / ٢٠١٩ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الدكتور عبد الستار الراوي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة