شبكة ذي قار
عـاجـل










النقلة الروسية ذات الطابع السياسي- العسكري صوب اوكرانيا جاءت في أجواء تبدو للبعض غامضة وتفسر باتجاهات مختلفة.. ولكن واقع الاستراتيجية الروسية وهي تخلط بإيهام مقصود بين الحركة المخطط لها وبين التكتيك يمكن تسميتها بـ(سياسة فرض الأمر الواقع)، وهي نقلة تذكرنا بأزمة الصواريخ الكوبية في زمن ولآية الرئيس (جون كندي)، والاستعداد لتحمل تبعات الاجراءات المقابلة وهي اجراءات اقتصادية يمكن استيعابها وتشتيت ضغوطها من خلال تحالفات مع (الصين - إيران- الهند - بعض دول الخليج- ودول اخرى أسيوية).

الوجه الآخر للتدخل العسكري الروسي في اوكرانيا بدأ فيما يسمونه (القضم التدريجي للمدن الحدودية - دونيتسك ولوهاتسك) كمقدمة لفرض هذه السياسة.

ولكن، لماذا هذا السلوك تجاه دولة مستقلة ذات سيادة؟ فهل ان التعاطف مع موالين في تينك المدينتين الحدوديتين (دونيتسك ولوهاتسك)، الذين يتحدثون اللغة الروسية يكون مبرراً لقضم المدينتين أو لاجتياح الدولة ومطالبة جيشها بنزع سلاحه؟ وماذا يعني المطالبة بنزع سلاح الجيش الأوكراني فوراً؟

المعنى هو اسقاط سيادة الدولة وضمها قسرياً الى اتحاد الدولة الروسية.. ولكن لماذا كل هذا؟ وللإجابة، يبدو أن موسكو قد حددت الأسباب:

1- ابعاد اوكرانيا عن عضوية حلف شمال الأطلسي.

2- منع نشر صواريخ الحلف في اراضيها. هاذان الشرطان لم يتوقف الغرب الأمريكي عندهما على اساس صراعات المجال الحيوي الروسي. وهذا يعني ايضا ان حلف شمال الأطلسي يمارس سياسة التوسع نحو الشرق بمنح العضوية، لابتلاع المزيد من منظومة الاتحاد السوفياتي السابق، التي انفرطت نهاية عام 1991، تحت خيمة الترغيب في المساعدات الاقتصادية والاستثمار والتنمية، إلا ان الهدف الأساسي هو حرمان موسكو من تطلعها نحو:

أولاً- أعادة إرث الاتحاد السوفياتي.

ثانياً- إعادة التوازن الثنائي.

ثالثاً- إعادة القطبية الثنائية للصراع والتنافس.

رابعاً- إعادة الحرب الباردة.

ولكن، هل لموسكو القدرة على تحقيق الإرث السوفياتي كقطب ثنائي متوازن في ظل الحرب الباردة وظل اقتصاد أحادي الموارد - النفط والغاز ومبيعات الأسلحة- وليس الطاقة الإنتاجية الكاملة والشاملة التي كان الاتحاد السوفياتي يتمتع بها في إطار أحد أهم شروط التوازن وهو الاستقطاب الثنائي الدولي؟، أشك في ذلك ما لم يرتق الاقتصاد الروسي الى مستوى التكامل والتنوع الإنتاجي واتساع الأسواق وفي مناخ التعايش السلمي وليس مناخ التهديد بالحرب والاجتياح والتوتر.

على ماذا بنى "فلاديمير بوتن" قرار التدخل العسكري في اوكرانيا؟:

أولاً-  اعلان الولايات المتحدة في سياستها الخارجية رغبتها في معالجة الأزمات والمشكلات الدولية والإقليمية عن طريق (الدبلوماسية) وادواتها (العقوبات الاقتصادية) المتصاعدة، وهي أدوات بعيدة المدى وحسمها ليس وشيكاً ويمكن الالتفاف عليها.. وفسرت موسكو ان هذه السياسة ينتابها الضعف.

والشواهد على ذلك: التعاطي غير الطبيعي مع الملف النووي الايراني والرضوخ لسيناريو طهران القاضي بالمراوغات والخداع وكسب الوقت وترك العبث الايراني يأخذ مداه على مستوى الأمن والاستقرار في منطقة تُعَدُ من أكثر مناطق العالم قدرة على التأثير في السياسات الإقليمية والدولية، وهي منطقة الشرق الأوسط.

ثانياً-  الاقتناع بخدعة التحول الأمريكي نحو العمق الآسيوي لمجابهة الصين وترك منطقة الصراع الأساسية وهي الشرق الاوسط.

ثالثاً- ضعف الاقتصاد الأمريكي جراء المديونية الخارجية الضخمة.

رابعاً- الأوضاع الداخلية الأمريكية المضطربة وغير المستقرة.

خامساً- الادراك الروسي بأن أوروبا منقسمة على نفسها وتحاول ان تبعد نفسها عن التحشيد العسكري وراء الاهداف الأمريكية.

سادساً- قوة اللوبيات (الإسرائيلية والإيرانية) اللتين تعملان سوية من اجل تأجيج التنافس والصراع في الداخل الأمريكي لمصلحة كل من (إسرائيل) وإيران.

سابعاً- ضعف الثقة العالمية في صدقية السياسة الخارجية الأمريكية، وعدم التزامها بتعهداتها، والتخلي عن اصدقائها وحلفائها كلما ارادت ذلك.

ثامناً- غرور القوة الروسية وخاصة في مجال الردع التقليدي بما يتماشى مع الاستراتيجية الروسية المعدلة التي تقضي بتفتيت اعضاد حلف شمال الأطلسي (الناتو) وتفكيك دوله عن طريق خلق التصادمات الداخلية او التحريض عليها – وما نراه حالياً يؤكد السياسة الروسية لسلخ تركيا من حلف شمال الأطلسي وتزويدها بصواريخ (أس-450) الاستراتيجية وتشجيع انقرة على الاستغناء عن قاعدة (إنجرلك) وبعض القواعد الأمريكية القائمة على الحدود التركية الروسية.

والتساؤل هنا: هل خرجت اوكرانيا عن اتفاقية (رابطة الدول المستقلة) المبرمة مع موسكو وبعض دول المنظومة السوفياتية السابقة؟ ثم، ماذا تعني هذه الاتفاقية والى ماذا ترمي في إطار التخطيط الاستراتيجي الروسي؟

والإجابة: هي من اجل إبقاء دول المنظومة (مستقلة) ولا يحق لها إقامة تحالف أو الدخول الى احلاف، تضر بمصلحة المنظومة وبمصلحة موسكو، أي منع هذه الدول من عضوية حلف شمال الأطلسي بما ينسجم مع نهج موسكو الدفاعي تجاه الحلف والعمل على تفكيكه.. اوكرانيا خرجت على هذه الاتفاقية بطلبها الانتماء لحلف شمال الأطلسي كي تصبح عضواً في الاتحاد الأوربي لكي تكتسب عضوية الحلف، وبهذا تدخل اوكرانيا مظلة حماية الخلف لنظامه الداخلي.. وطلبها الانتماء للحلف حسب رأيها انها دولة (مستقلة ذات سيادة لها الحق في التعامل الخارجي)، فيما هي تتجاهل واقعها الجيو- سياسي وتتجاهل المعاهدة التي وقعتها مع موسكو.

 ولكن، هل يحق لروسيا الاتحادية ان تجتاح دولة اخرى عسكرياً بدعوى مخالفتها اتفاقية رابطة الدول المستقلة؟ وتشن الحرب عليها وتطالب جيش تلك الدولة نزع سلاحه فورا؟ وهل ان فعل الاجتياح العسكري الروسي لا يتعارض مع القانون الدولي ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة.؟

والإجابة: ليس من حق روسيا اجتياح دولة عضو في الأمم المتحدة عسكرياً ولا حتى التدخل في شؤونها الداخلية بدعوى مخالفتها اتفاقية ابرمتها مع موسكو. كما ان ليس من حق امريكا ان تتدخل بأية صيغة كانت في شؤون الدول الأخرى.. وهل يمكن الاعتقاد بأن إعادة موروث الاتحاد السوفياتي يأتي عن طريق الاجتياحات العسكرية واستخدام التهديد بالتدخل؟ وهل ان مثل هذه الصراعات هي من قبيل (الحرب الباردة)؟

لنأتي الى العقيدة العسكرية الروسية التي فصل مفهومها فلاديمير بوتن في مؤتمره الصحفي الذي أكد فيه (ان عقيدتنا القتالية لا تتضمن مفهوم الضربة الاستباقية، انما الرد بضربة تدميرية ثانية) والمقصود هو توازن الرعب النووي، اما الضربة الاستباقية فتتعلق بالقوة التقليدية.. إذ يشير التصريح بشكل غامض وغير مباشر الى ان روسيا تمتلك في عقيدتها العسكرية ما يسمى بـ(الضربة الاستباقية- وهكذا شنت الحرب على أوكرانيا).. هذا المفهوم لا يتحدد بتبادل الضربات النووية، إنما يشكل اساساً لإجهاض قدرات القوة المقابلة التقليدية قبل نضوجها.. وهو استباق الفعل بتخمين وتقدير دوافع قوة الخصم، والتخمين والظن لا يعتمد عليهما في مسائل الحرب ما لم يبدأ الخصم بالفعل العسكري.

النقلة العسكرية الروسية في اوكرانيا هي فعل عسكري دفاعي منعت خطراً غربياً بات يقترب من (أمنها القومي) الذي وصفته بمجالها الحيوي، فيما كانت امريكا قد دمجت سابقاً بين أمنها القومي ومصالحها الحيوية.. الدمج الاستراتيجي الأمريكي (عدواني) ضرب الصومال وهاييتي وافغانستان والعراق، فيما الدمج الاستراتيجي الروسي (دفاعي) ضرب القرم وجورجيا وأوكرانيا، ولكن مثل هذا السلوك غير مبرر ومدان على المستوى القانوني والاخلاقي والتاريخي.

ويظل الاقتصاد هو المحرك الأساس لأفعال الحرب؟

ما هي قيمة أوكرانيا في الاستراتيجية الروسية؟:

اولاً- هي غنية بالغاز والفحم واليورانيوم.

ثانياً- وبمصانع الصواريخ والرؤوس النووية وبمفاعل تشيرنوبيل.

ثالثاً- وتتمتع بموقع استراتيجي فائق الأهمية يرتبط بحرية حركة السفن والغواصات الروسية (البحر الأسود، الممرات المائية التركية، البحر المتوسط)، حيث المياه الدافئة.!!

فماذا يفعل الكرملين ازاء نشر الصواريخ الاستراتيجية الأمريكية في أراضي دول منظومته التي انفرطت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، واقتراب (الناتو) من حدوده الحيوية؟، وهو حلف لا مبرر لوجوده ومن مخلفات الحرب الباردة، التي تسعى موسكو الى إعادتها بوجه آخر تستعيد من خلاله إرث الاتحاد السوفياتي؟

وكما هو صراع اقتصادي وأمني يظهر بين فترة واخرى على مسرح الاحداث بفعل الجغرافيا، فسيستمر الصراع من أجل تكريس القوة وتكريس النفوذ بأشكال مختلفة وبمفاهيم تبقى كما هي قائمة على الحرب أو التسويات.. وكما وضِعَتْ لأزمة الصواريخ الكوبية تسويتها، فأن الأزمة الاوكرانية ستجد طريقها الى التسوية.!!






الجمعة ١ شعبــان ١٤٤٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٤ / أذار / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. أبا الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة