شبكة ذي قار
عـاجـل










باريس .. هل تريد إعادة تشكيل أوربا من جديد ؟

د. أبا الحكم


في ضوء معطيات المرحلة التي أفرزتها تحولات ما بعد الحرب الباردة، باتت منظمة الأمم المتحدة صامتة ومجلس أمنها مصاب بالشلل والمنظمات المتخصصة التابعة للمنظمة الدولية يخيم عليها الركود والجمود، وبالتالي تصدع التنظيم الدولي وبات النظام الدولي على حافة الإنهيار، في ظل اشكال من السلوك والتصرفات التي تنتج الحروب المحدودة وأدواتها المسلحة غير النظامية، فضلاً عن الإستخدام المحسوب للحروب بالوكالة أو الإنابة.. الأمر الذي يدعو إلى التساؤل، هل تستمر الهيمنة الأمريكية بصورة مؤكدة؟ وهل أن أمريكا ذات (340) مليون نسمة، وهي نسبة لا تتعدى 4% من عدد سكان العالم تتحكم وتفرض سيطرتها وتشدد قبضتها القاسية إلى الأبد ؟

فالمعطيات الراهنة تشير إلى : أن الصين ماضية نحو تنمية قوتها وتأمين إنتشارها الاقتصادي .. وأوربا عازمة على أن تسترد مكانتها وتعزز موقعها ، على الرغم من اختلافات بعض بلدانها تجاه قضايا واحداث معاصرة - إلا أنها لا تستغني عن قاعدتها الاقتصادية وإتفاقاتها لترجع من جديد إلى حياة الشرذمة والحروب المفتوحة - وروسيا الاتحادية وهي تحاول ان تبعث بنفسها من جديد على انقاض الاتحاد السوفيتي من اجل ان تستكمل عناصر قطبيتها المنافسة، واليابان آخذة بالتحرر وبالتطور الصناعي الواسع والعميق، والهند وهي تبلغ بصمت مرحلة متقدمة في حقول العلوم والصناعات المتنوعة .

هذه الدول لديها الرغبة في مقاومة الهيمنة من أي نوع ، يصعب تجاهلها ، كما يصعب قيادتها عن طريق فرض الارادة بالقوة أوالتهديد بإستخدامها،  وبوسائل العقوبات التي يصنعها الكونغرس الأمريكي لكي تطبق في مضامين السياسة الخارجية الأمريكية على دول العالم المستقلة .

والتساؤل الإستفزازي الذي يثيره البعض، هل ان أوربا تتطلع نحو إعادة تشكيل جديد على غرار تشكلها ما بين القرنين السابع عشر والثامن عشر، أي ما بين (1678 – 1780) حين عصفت باوربا حرب الثلاثين عاماً فدمرتها ومزقت شعوبها في حرب (مذهبية و طائفية) دارت رحاها بين المسيحيين انفسهم (برتستانتيين  وكاثوليكيين) انتهت بمعاهدة (وستفاليا) التي خلقت بدورها او أسست الدول القومية في عموم اوربا ، شارك فيها معظم امراء المانيا وملوك اوربا، حيث أنهت حرباً طويلة ومنهكة  وضعت هذه الدول عند نقطة مفصلية من التاريخ الأوربي .

إن أحد أهم قوانين القوة هو نموها وتصاعدها ومن ثَمَ إنحدارها، عندئذٍ يتحول الإستعمار إلى استعمار من الدرجة الثانية او الثالثة وبأساليب مغايرة ، وتتحول الإمبريالية إلى إمبريالية منحدرة من (القمة) إلى (السفح)، وصعود قوى بعد أن تتهيئ لها الشروط الذاتية والظروف الموضوعية للإرتقاء .. والتاريخ يكشف كيف كانت انكلترا وهولندا قوتان بحريتان لا ينازعهما أحد، استطاعتا ان تسيطرا على بحار وتجارة العالم حتى عام 1672 .. وهذه السيطرة والرغبة في الاتساع أدت الى تصادم انكلترا مع فرنسا ومواجهة هولندا في صراع على النفوذ والمصالح .

بيد أن الصراع الفكري قد تمخض عن 1- حركة النهضة 2- وحركة الاصلاح الديني .. هاتان الحركتان هما اللتان صنعتا الحداثة في اوربا إذ دعت النهضة إلى الخروج من كهوف القرون الوسطى والعودة الى عصر التطور والازدهار .. ومن هذه العتبة ، تحررت العقلية الاوربية من هيمنة الكهنة المسيحيين والأصوليين المتزمتين . أما حركة الاصلاح الديني فقد دعت الى الاعتراف لكل فرد بحقه في تفسير الانجيل بدون ان يمر بواسطة الكنيسة او من خلال رجال الدين . وهكذا أصبح (الإيمان) مسألة علاقة حرة ومباشرة بين الانسان وخالقه .

وقد تربع قمة الفكر التصحيحي الفيلسوف " رينيه ديكارت " الذي أكد على (ان الفرد المفكر هو الاساس، فكل فرد له عقل وطاقات وملكات عقلية عظيمة، ولكنه لا يعرف كيف يستخدم عقله بشكل صحيح) .. لذلك اخترع ديكارت المنهج لكي يساعد الأنسان على كيفية استخدام عقله بالشكل المناسب .. هذا الفهم ادى الى تفكك القيم التقليدية التي كانت راسخة طيلة العصور الوسطى، وهي قيم لا تؤمن إلا بالطائفة والمذهب (البروتستانتي و الكاثوليكي والأرتودوكسي) وبالتالي في شريحة هذه الطائفة او المذهب ومرتبتهما الاجتماعية .. فالمعنى من ذلك - أنت لا معنى لك إلا من خلال طائفتك التي تنتمي إليها شئت أم أبيت، ولا تستطيع ان تتخلص من هذا الانتماء مهما حاولت، ما لم تشعر بالمواطنة هي الاساس والدين بينك وبين الله وبدون وسيط .. هذا هو منطق المجتعات التقليدية - .

وقد ترافق كل هذا مع تغيرات نوعية كالنمو الاقتصادي والصناعي والحداثة وظهور (النزعة الانسانية) التي اكدت ذاتها في مواجهة (النزعة اللآهوتية) التي كانت مهيمنة على الشعوب الاوربية طيلة العصور الوسطى، وبالتالي فكلما تراجع الفكر اللآهوتي (المذهبي و الطائفي) كلما قوي الفكر الانساني القائم على العلم والمعرفة والتجربة المحسوسة . وقد ساهم عدد من المفكرين مثل ديكارت الذي اصدر كتابه (في المنهج) هاجم فيه علم ارسطو وفلسفته ودشن حقبة جديدة في تاريخ الفكر التنويري، كما برز ثلاثة فلاسفة كبار هم (لايبنتز و مالبرانش و سبينوزا) وكل واحد منهم قمة من قمم الفكر، وهم يعترفون بأنهم يدينون لديكارت بالكثير من افكاره، كما ساهموا في نشر الفكر العقلاني في عموم أوربا. والواضح ان المشكلة الاساسية التي كانت على بساط البحث هي مشكلة العقل والايمان وكيف يمكن التوفيق بينهما، وكان رجال الكنيسة يهاجمون رجال الفكر والفلاسفة هجوما عنيفا ويتهمونهم بمعاداة الدين او بالكفر والزندقة .

لقد ظهرت الثورة الصناعية في اوربا دون غيرها من قارات العالم .. وهذه الثورة هي وليدة العلم والتكنولوجيا ، وتنوعت بأربع ثورات صناعية كلاسيكية هي 1-  ثورة اختراع (الآلة البخارية) 2- وثورة اختراع (الكهرباء) 3- ثورة اختراع (المحركات الإنفجارية) 4- ثورة اختراع (الطاقة الذرية) .. وكانت انكلترا تتسيد العالم في اتساع امبراطوريتها، التي تراجعت، في ما بعد، بفعل عوامل متعددة لتترك (فراغ قوة) الذي ملئته امريكا تدريجياً بعد الحرب العالمية الأولى .

إذن ، كان هنالك شرخ في المجتعات الاوربية زعزع استقرارها ودفع بها الى حروب طويلة ومكلفة بالارواح والاموال، مسبباتها كانت (المذهبية البروتستانتية والمذهبية الكاثوليكية) تقودهما الكنيسة ورجال الدين المتعصبون والمتزمتون .. فالفكر العلمي والفلسفي التنويري ظهر في اوربا كرد فعل على الحروب والمذابح الطائفية ومن الصعوبة فهم الفكر الاوربي اذا لم يؤخذ هذا الأمر بعين الاعتبار .. فقد خاض الفكر التنويري معارك فكرية كبيرة مع رجال الدين المسيحيين الذين يعيشون التعصب والإقصاء والظلامية وتغذية النزعات الطائفية في صفوف الشعب، فيما كان رد رجال الكنيسة بالاتهام الجاهز، الخروج على الدين او الخروج على المذهب فضلاً عن إتهامات بالإلحاد والزندقة.

وكما لعب فولتير دورا كبيرا في تلك المعارك الفكرية التنويرية ، فقد كان للفلاسفة  الموسوعيين دورهم ومنهم ديدرو و دلامبير و جان جاك روسو الذي كان ملهما للثورة الفرنسية . (*)

الأن،أحد مرشحي الرئاسة الى الأليزيه تريد ان تعيد تشكيل أوربا من جديد على وفق معطيات السياسة، وليس الدين والمذاهب، من خلال رؤية يمينية متطرفة تلغي فيها القاعدة التي تأسست عليها اوربا وهي الاتفاقيات والتفاهمات التي اجمع عليها الأوربيون بعد حروب دامية استمرت ما بين الأعوام (1678-1780)، واكثرها وحشية طائفية حرب الثلاثين عاماً.

إستراتيجية الجنرال ديغول : التي تؤكد على (ان تكون اوربا قوية ونشطة في العالم ، ذات سيادة كاملة، حرة في اختياراتها وتتحكم فيها، وتكون سيدة مصيرها) .. وتكاد ان تكون هذه الإستراتيجية ثابتة نسبياً .. وفرنسا الراهنة لا تريد ان تكون مراقباً عاجزاً امام اوضاع عالم تتزايد فيه مساحات الصراع والمنافسة على النفوذ بين الصين الصاعدة والولايات المتحدة المتراجعة، إذ ترى باريس ان العالم لم يعد محدداً بصراعات الحرب الباردة، وإن الصين ومنطقة المحيطين الهندي والهادي هي من اكبر اولويات سياستها الخارجية .. وإن الدول الاوربية تفتقر الى (التماسك الاستراتيجي)، الأمر الذي يعكس انها امام تقسيم اوربا وضعف قدراتها على صناعة قرار موحد ممكن تطبيقه، وذلك بسبب ملامح الإنفصال الامريكي عن التحاف عبر الأطلسي بدواعي التوجه نحو العمق الآسيوي (الصين).

النزعة الأمريكية : ومؤداها أنها تخلت عن اوربا ومنعت استقلاليتها لحماية نفسها بنفسها وفرضت عليها الحماية وبالتالي منعتها من ان تبلور قطبيتها الأوربية .. السلوك الامريكي هذا حيال اوربا قد حفز مفهوم الاستقلال الاستراتيجي الذي تتبناه فرنسا من جهة ، وكرس مسعى تغليب دول اوربية لمصالحها الوطنية على حساب مصلحة الاتحاد الاوربي من جهة اخرى، الأمر الذي زعزع وحدة القرار الاوربي .

لقد كانت اوربا تعيش في سلام معزز بحماية (الناتو) منذ تأسيسه عام 1949 ، حيث أسست قاعدتها الاقتصادية والنقدية بالدمج وكسرت حدودها السيادية في ما بينها بـ(الشنغن)  وعززت أمنها باتفاقيات الأمن، وبنت مشروع جيش الدفاع الاوربي بجهود فرنسية، واستبدلت عملاتها الوطنية باليورو  وأنشئت مجموعتها الاقتصادية الاوربية عام 1957 ، ولكن ، هل بمقدور اوربا ان تكون قادرة على ردع التدخل العسكري الروسي في إحدى دولها كما يحصل الآن في أوكرانيا، دون تدخل الولايات المتحدة ؟ والأخيرة لن تدخل في حروب تقليدية ولا غيرها عدا فرض العقوبات الاقتصادية والحصارات وسياسة الردع القصوى

هناك خلاف كبير داخل اوربا حول كيفية التعامل مع مجموعة التحديات التي تواجهها، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأمن الأوربي.. كما ان المبادرات الاوربية الدفاعية لتعزيز التعاون الدفاعي بين اعضاء الاتحاد الاوربي لا يمكن ان تنطلق افكارها الى حيز التنفيذ بدون إجماع اوربي على الأولويات وهي غير موجودة في الوقت الراهن.. والأولويات الاوربية هي 1- تعزيز التعاون الدفاعي 2- تعزيز صندوق الدفاع الاوربي 3- الاجماع على موقف موحد تجاه قضايا العالم .. إذ ترى فرنسا ان (الناتو) يحتضر وإن الولايات المتحدة كشريك لا يعتمد عليه، وإن بعض دول اوربا ترى ان امريكا شريك لا غنى عنه، فضلاً عن إنقسامات بشأن الصين وإنقسامات بشأن التدخل الروسي في أوكرانيا.. فكيف يمكن للسياسة الفرنسية ان تجد طريقها في اوساط التزاحم المتعارض والمتقاطع الجارية على المسرح السياسي الدولي والاوربي؟

هناك ثلاثة مؤشرات رؤى أو أكثر تطرح على السياسة الخارجية الفرنسية عن اليمين المتطرف والوسط تقريباً في زحمة التنافس على الأليزيه في الانتخابات التي تجري 1- مغادرة منطقة اليورو والاتحاد الاوربي 2- إدراج سيادة القانون الفرنسي على القانون الاوربي في الدستور 3- ترويج لمفهوم (أوربا مكونات أمم) أي، لكل دولة اوربية حرية الالتزام بما تريده، حتى لو تعارض مع قرارات الاتحاد الاوربي 4- الخروج من سوق الطاقة الاوربي، والشروع بتأسيس مشروعات الطاقة الذاتية 5- خروج المنتجات الزراعية من اتفاقيات التجارة الحرة .

فما الذي تعنيه هذه التوجهات والتلويح بها في ظل الانتخابات الرئاسية الفرنسية؟ المعنى واضح وهو إعادة النظر في الأسس التي شكلت اوربا منذ مائة عام تقريباً تبعاً للمعطيات الناجمة عن التحولات .. ولكن هل يضع ذلك الأمن والمصالح الاوربية في خانة الضمانات الموثوقة في ظل الضغط الأمريكي السياسي والضغط العسكري الروسي؟

ليس هناك من حظوظ لهذه الرؤى التي تتنافس على الرئاسة الفرنسية تخالف فيها ستراتيجية الجنرال ديغول .. ولكن باريس لن تستطيع ان تقود اوربا وأمامها ألمانيا، ولا تستطيع ان تغامر في إعادة تشكيل أوربا، إلا إنها تظل لاعباً لا يعرف مبدأ الأولويات ولا مبدأ البدائل ولا أنماط التحالفات القائمة على أسس من شأنها الثبات .. فالتفتيش فقط عن المصالح لا ينفع وحشر السياسة الخارجية في الاحتقانات والمستنقعات لا ينفع، فأين هو الطريق الصحيح؟

د. أبا الحكم

16/04/2022

(*) .. المصدر : استاذ علم التاريخ في كلية هارو / انكلتر

Geoffrey Treasure

THE MAKING OF MODERN EUROPE        

1678-1780

2003

                     






الخميس ١٩ رمضــان ١٤٤٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢١ / نيســان / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. أبا الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة