شبكة ذي قار
عـاجـل










أحمد ميشيل عفلق نبع العطاء الدائم

د. حسن طوالبة

 

1. عندما نتناول شخصية فذة مثل الرفيق القائد المؤسس في ذكرى ميلاده أو في ذكرى وفاته، فلا نذكره للمديح أو الثناء عليه، بل لنتذكر مناقبه الشخصية، أو عطاءه الفكري المميز.

واستذكار الرفيق عفلق هو من هذا القبيل، أي نذكر رفاقنا ببعض عطائه الفكري.

2. أذكر أن أول مرة أشاهد الرفيق عفلق عام ١٩٦٥ حيث كنت طالباً في جامعة دمشق، وقد دعانا الحزب لحضور محاضرة ألقاها في المسرح الوطني، وقد طال حديثه أكثر من ساعة، وفي ذاك الحديث نبه الرفيق عفلق إلى خطر يعصف بالحزب، حيث برز تنمر الضباط العلويون في الجيش السوري على الحزب، واستقوائهم على قيادة الحزب القومية، كما نبه إلى ظاهرة التعصب الطائفي التي قادها الضباط العلويون.

3. وشاهدت الرفيق عفلق للمرة الثانية وجاهة عام ١٩٧١، في بيروت، حيث كنت عائداً من بغداد إلى عمان في مهمة حزبية، ففي ذاك العام كان قرار الحكومة الأردنية إخراج المنظمات الفدائية من الأردن نهائياً. كان المطلوب أخذ رأى القيادة في الخروج من الأردن، وبالفعل كان رأى القيادة في بغداد أن نتوافق مع رأى المنظمات الفدائية، وخاصة فتح التي كان لها الثقل العسكري الكبير.

4. لقد زرت الرفيق عفلق بصحبة الرفيقين آنذاك معن بشور وبشارة مرهج، وكان بشور مسؤول مكتب الثقافة والإعلام في جبهة التحرير العربية، وكنت نائبه، وفي وقتها كنت عضو قيادة الجبهة، استقبلنا الرفيق عفلق في شقته المتواضعة في بيروت حوالي الساعة الثانية عشرة، وبعد أن شرحت له مهمتي، تحدث عن فلسطين بحب وإخلاص، وقال من الضروري أن يجود الرفاق بدمائهم من أجل تحرير فلسطين.

وبعد عام ١٩٧٢، تكررت لقاءاتي مع الرفيق عفلق، وخاصة في ذكرى تأسيس الحزب، حيث كان يستقبل الرفاق أعضاد الكادر المتقدم أعضاء المكاتب القومية والقطرية وأعضاء فروع بغداد، ويحرص أن يتحدث عن معركة قادسية صدام، وفي تلك الأحاديث كانت عبارته عن الرفيق صدام حسين، بأنه هبة الله للعراق.

وبعد العدوان الثلاثيني ١٩٩١، قصفت الطائرات مبنى القيادة القومية، وبالذات مكتب الرفيق الأمين العام للحزب. وقد تحصلت فكرة إقامة متحف يحوي كل ما يخص الرفيق عفلق بعد وفاته، وحصر كل أحاديث المتلفزة في جبهات القتال، وزياراته لورش العمل وبالذات نشاطات منظمات الطلبة العرب في العراق.

وقد أشرفت على تأمين كل ما يوضع في المتحف، حيث وضع مكتبه المصاب بشظايا جراء القصف الأمريكي لمبنى القيادة القومية، كما وضعنا بدلة رمادية كان يلبسها، والصور التي أخذت له في جبهات القتال، لقد كان المتحف في الطابق السفلي من مبنى الضريح الذي هدمته الدبابات الأمريكية بعد الاحتلال سنة ٢٠٠٣، لقد كان تشييع جنازة الرفيق عفلق في موكب مهيب شارك فيه الرفيق الشهيد صدام حسين، وأعضاء القيادتين القومية والقطرية والرفاق أعضاء الفروع في محافظات العراق.

وكان الإنجاز المهم كان جمع أحاديث الرفيق عفلق في خمسة أجزاء تحت اسم (في سبيل البعث).

لقد كان حلم الرفيق عفلق تأسيس الجبهة القومية التقدمية، وقد عقد ندوة في باريس، شارك فيها عدد من المفكرين العرب، واشتركت في جمع تلك الأحاديث مع الرفيق المرحوم ناصيف عواد، والرفيق المرحوم نسيم سفرجلاني. ولكن للأسف لم يطبع نتاج تلك الندوة بسبب العدوان الأمريكي سنة ٢٠٠٣.

يصعب على أي باحث أن يتناول فكر الرفيق عفلق كله، ولا بد لي أن أعود إلى البدايات، إذ كان ابناً لأحد ملاكي الشام، وبعد وفاة والده قام بعمل إنساني مميز، فمزق كل السندات والإيصالات الموثقة كديون على فلاحي الجنوب السوري، كان شغوف القراءة في التاريخ العربي، والفكر الفلسفي الغربي. ففكره اتسم بالفكر المستقبلي الاستراتيجي.

ومع ذلك لم يعش أسير نظرية أو مذهب معين، بل أطلق لنفسه العنان وحرية التفكير مستنداً إلى معين ثقافته الأصلية. ومستنداً إلى الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي للأمة العربية، لم يتأثر بمدرسة فكرية معينة، وإن كانت بعض الإشارات تدعي أنه تأثر ببعض الفلسفات الغربية وبالذات الفلسفة المثالية.

وفي الحقيقة درس الأستاذ التاريخ العربي، والتراث العربي، وعاش ظروف الأمة وما تعانيه، وقد تأثر بكتاب محمد حسين هيكل، حياة محمد، وفي ضوء هذه الأفكار كانت محاضرته المشهورة عام ١٩٤٣، في ذكرى الرسول العربي، على مدرج جامعة دمشق، والتي قال فيها: إذا كان محمد كل العرب، فليكن كل العرب محمداً.

5. لقد أسس نظرية خاصة في القومية العربية ترفض المجرد، وتدعو إلى الحيوية الفعالة والمتفاعلة مع الحياة، نظرية تهدف إلى، ظفر الحياة على الموت.

لم يرفض الأستاذ المنهج العلمي، لكنه رفض المنهج الجامد، المنهج الجاهز، كما رفض النظريات المكتوبة في غرف مغلقة، ولذلك صاغ نظريته بصوت مرتفع على مسامع رفاقه وأصدقائه، فجاءت كلماته سلسة سهلة مفهومة شاملة، تعبر عن ضمير الأمة، بصياغة جديدة تستلهم روح الأمة في تاريخها وتراثها الذي قوامه الإسلام.

فكر الأستاذ الراحل، عقل منظم يركب الأفكار ويحلها، وينسج خيوطها بعناية ودقة، كما تفعل ريشة الفنان.

لم ينظر تنظيراً مجرداً للقضية العربية، بل عايشها بروحه وإحساسه، وعانقها عناقاً أبدياً، وعاش من أجلها فكراً وعملاً وأخلاقاً وروحاً.

6. لقد رفض تجزئة القضية، أو تجزئة الحلول المطروحة لها. صحيح إنه قال بنظرية الوحدة والحرية والاشتراكية، لكنه رفض الفصل بينها. ففكر الأستاذ لا يقبل التجزئة، فهو فكر يتجاوز حدود المصادر المتعارف عليها في عملية خلق متناهية الأحكام.

٧. نالت فكرة القومية العربية والإنسانية، الدين والتراث، اهتمام الأستاذ منذ زمن مبكر، وأكد أهميتها لأن جوهر الدين موجود في الفكر القومي عموماً.

الدين عنصر أساسي في الحياة، وليس عارضاً، فهو عنصر أساس الإنسانية كلها، وإنه خالد لا يزول، وهذا الفهم ينطبق على العروبة، فلا انفصال بين العروبة والدين، لأن العلاقة بينهما علاقة روحية.

إما نظرته إلى الدين، فهي ليست نظرة إلى الطقوس التي يمارسها الناس، بل إلى الروح الكامنة في الدين.

الأستاذ ولد مسيحياً بالفطرة، وفي الوقت نفسه وجد أنه منتمياً إلى العروبة، وكذلك منتمياً إلى الإسلام، لأن الأمة حملت رسالة الإسلام..






الثلاثاء ٢٨ ذو القعــدة ١٤٤٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٨ / حـزيران / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. حسن طوالبة نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة