شبكة ذي قار
عـاجـل










كرة القدم أفيون العراقيين

الأستاذ الدكتور عبد الرزاق محمد الدليمي

 

أثبت الشعب العراقي من جديد أنه شعب واحد، قادر على أن يتجاوز ما يحاول الاحتلال وعملاؤه أن يكبلوه به من ظواهر سلوكية غريبة عليه، ناهيك عن موقفه من التدخلات الوقحة لنظام الملالي وذيوله، الذين حاصرتهم المشاعر العاطفية والغيرة العراقية الأصيلة والتي أعادت للأذهان حقيقة هذا الشعب الرافض لكل عناوين العمالة والخيانة.

 

إلا أن جانب من تفاصيل الأحداث في مدينة البصرة خلال بطولة كأس الخليج العربي بكرة القدم، أظهر امكانية أن تكون كرة القدم مخدّراً فعّالاً تستخدمه السلطات الحاكمة لتنويم الشعب العراقي وتغييبه، أو اختطافه بعيدًا عن همومه وشؤونه الحياتية، وتحويل هذه الرياضة إلى مضاد للمادّة المنعشة للروح والذاكرة، والمرمّمة للذات المكسورة، أو المستهدفة بالكسر.

قدّمت البصرة منتجًا ومنجزاً جميلاً وهذا يحسب لأهلها الطيبين، حيث استوعبوا بقلوبهم وفتحوا صدورهم وبيوتهم لأعداد كبيرة جداً من الجماهير وعشرات الوفود والبعثات الرياضية، وأعطت الدليل على أن العراقيين شعب مضياف لا ينافسه في ذلك شعب آخر.

غير أن ما يجب التوقف عنده هنا هو سلوك كثير من الجمهور، المحاصر بمناخٍ من الاستقطاب السياسي الشاذ، والمطارَد بأجنداتٍ معادية له ومشاريع تريد منه ابتلاع ما لا يطيقه أو يناسبه، والمحشور بين فكّي الاستبداد والاحتلال معًا.

نعم هذا الجمهور تمرّد على كل ما هو مفروضٌ عليه وأسقطه، وأظهر أن يبقى عصيًا على الانسحاق والذوبان في مراجل سياسية عملاقة، تغذّيها بالوقود جهاتٌ دولية، تتخذ الرياضة ممراً للعب في الهوية والثقافة الوطنية والذاكرة الجمعية.

كرة القدم واحدة من الرياضات الكثيرة التي تمارس حول العالم، وهي تحظى بنصيب الأسد من الاهتمام والتمويل، ويكفيك أن تعرف أن نادياً واحداً من الأندية الكبرى قد يفوق سعر لاعبي فريق كرة القدم فيه ميزانية دولة من الدول الصغرى أو دولة من الدول الفقيرة، ويكفيك أن تعلم كذلك أن الصراع من أجل الحصول على بطولة من بطولات كرة القدم أصبح يفوق الصراع من أجل كبريات القضايا المصيرية لبعض الدول.

إن هذا الهوس الذي وصل إليه الجماهير جعلها معشوقة الجماهير، ففيها تتعطل المصالح، والمواعيد تلغى، والمناسبات تنسى، والقرارات المصيرية ترجأ، والعلاقات والوشائج تقطع، ونيران المشاكل تؤجج، والخصومات تثار، والدموع تزرف، والأنفاس تحبس، والأيمان المُغلظة تطلق، والحُرمات تنتهك، والأعراف تداس، وآلام القهر تنسى، والعبادات تهمل، والشعائر يتم تجاهلها، كل ذلك من أجل مباراة من مباريات كرة القدم.

وما يزيد الطين بلة أن هذا الهوس قد انتقل الى جميع فئات المجتمع، ولقد لفت انتباهنا جميعاً فديو المرأة العراقية المسنة بملابسها الشعبية تعبر سياج الملعب، مثلما شاهدنا الآلاف من العراقيين يعبرون جدران الملعب مرات ومرات بشكل ملفت للانتباه والحيرة!

في محاضرة جماهيرية له بمناسبة اختياره أفضل مدرب بالعام تحدث المدرب الألماني (يورغن كلوب) مدرب ليفربول وهو متخصص بعلوم الفيزياء عن مدى أهمية كرة القدم بالنسبة للناس، قال: "كرة القدم ليست مُهمة جدًا، نحن لا ننقذ أرواح الناس، فقط وظيفتنا جعل الناس ينسون مشاكلهم لمدة 90 دقيقة".

تعد كرة القدم أحد أهم وسائل إلهاء الشعوب، فيها يجد المواطن تعويضًا له عن أشياء حُرم منها في حياته اليومية، لأنها تنسيه همومه وتحقق له العدالة التي فقدها، فخلال عمر المباراة تخضع هذه اللعبة لقواعد واضحة عادلة تطبق على الجميع.

إن الهوس بلغ بالجماهير أنهم يشعرون بتمام رضا الله عن الوطن بكامله لمجرد فوز فريق بلدهم في مباراة كرة قدم، وأن الانتماء الحقيقي للوطن أصبح يُقاس بحرارة تشجيع منتخب البلاد، ومن يقول غير ذلك فهو شخص معاد لا يستحق أن يعيش على تراب الوطن! وقد يبلغ الهوس بالبعض من الجماهير أن ينتحر لهزيمة فريقه الذي يُشجعه أو يُصاب بالسكتة القلبية من فرط الفرح لفوز فريقه.

إن الأنظمة المعادية لشعوبها مثل النظام في العراق المحتل، توقن أن جماهير كرة القدم تتعصب في المدرجات والشوارع والساحات لتُخرج ما بداخلها من كبت واضطهاد حتى إذا وضعت على المحك الأساسي لرفض الظلم والاضطهاد تصاب هذه الجماهير بالخرس وتصمت صمت القبور.

إن الأنظمة المستبدة قد تنفق على كرة القدم ما لا تنفقه على مجال البحث العلمي أو أي مجال يمكن أن يخدم الشعب ويعالج مشاكله الخطيرة وقد تكون لعبة كرة القدم أحد الأذرع التي تستخدمها الأنظمة المستبدة لسلب عقول شعوبها.

لقد انتهت واقعية رياضة كرة القدم لتحل محلها لعبة اصطناعية مغلفة بطبقات كثيفة من الأوهام والصور المصطنعة والرغبات المعلبة والمتحركة بشكل دائم ومستمر خدمة لمن يحركون اللعبة من وراء حجاب. 

كثير من الشباب يضحي بوقته وعمله ومستقبله بوهم خارج الحدود بعيداً عنه بعد السماء والأرض…

شباب يحب مشاهدة اللعب وهو لا يلعب. يرى نجاح الآخرين وهو فاشل.. يعلم كثيراً عن اللعب وعن اللاعبين ولا يعلم شيئاً عن نفسه وعن الآخرين…

يعلم الكثير عن اللعب ولا يفقه شيئاً عن مشاكله وقضاياه الوطنية… ليبقى هذا النوع من الشباب جامح أجوف فارغ العقل وعاطل عن العمل وخال الجيب واليد.

يعتقد الكثير من الناس أن الملاعب الرياضية ساحة للتنافس الرياضي المجرد من الصراعات السياسية. والواقع أن الساحات الرياضية وخصوصاً في المحطات الكبرى تصبح فرصة لتصفية الحسابات السياسية والاقتصادية؛ لقد كان موسوليني أول من صرح سنة 1934 بمناسبة إقامة كأس العالم لكرة القدم بإيطاليا أن اللاعبين جنود في خدمة القضية الوطنية.

أما في أمريكا الوسطى فقد انتهت مقابلة في كرة القدم بين السلفادور والهندوراس سنة 1969 بقطع العلاقات وإعلان الحرب واحتلال الهندوراس من طرف الجيش السلفادوري.

مآسي الشعوب التي مازالت تحاول إثبات الذات من خلال مباريات كرة القدم أنها تعيش فراغاً واستيلاباً يشغلها عن التفكير في مستقبلها وقضاياها الحقيقية لتفرغ طاقتها في معارك وهمية وانتصارات زائلة.

في العراق مصائبنا كبيرة وتزداد تعقيداً وهنا لا أريد أن يفهم من ما كتبته أني معاد للرياضة، والعكس هو الصحيح، ولكن أنبه إلى أننا مازلنا تحت حكم الاحتلال ومن يتولون أمرنا ذيوله، وهمهم الأول والأخير مصالحهم التي ثبت خلال عشرين سنة أنهم يحققونها على حسابنا، جميل أن نفوز ونحن بلد مستقل، نفوز ونحن نملك إرادة أنفسنا وثرواتنا، نفوز ونحن نحكم أنفسنا وووو، تخيلوا في خضم اهتمام الناس بالفوز، تتخذ حكومة السوداني قرارات لمصلحة اللصوص بينما الشعب يئن من ما لحق به من جور وظلم وقهر وجوع والدولار يصعد والدينار يترنح...ولا أحد يدري إلى أين نحن سائرون؟

 






الثلاثاء ٢ رجــب ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٤ / كانون الثاني / ٢٠٢٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الأستاذ الدكتور عبد الرزاق محمد الدليمي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة