شبكة ذي قار
عـاجـل










(الإيديولوجيا والاستراتيجية)، الترابط والمتغيرات!!

د. أبا الحكم

 

المتعارف عليه أن الاستراتيجية تعني التخطيط الذي يجمع بين الاهداف والوسائل.. فأين موقع الأيديولوجيا من هذا التخطيط؟ وهل يمكن ان للاستراتيجية أن تستغني عن الأفكار الأيديولوجية التي من شأنها ان تحرك الاستراتيجية أو أن تكون دليلاً ومرشداً لها؟

كيف سقط الاتحاد السوفياتي؟ وكيف انهارت المنظومة الاشتراكية في عهد الرئيس الأمريكي رونالد ريغان؟ وكيف تم إرغام الجيش الروسي على الانسحاب من أفغانستان ووقف التمدد السوفياتي نحو الشرق الأوسط حيث المصالح الحيوية الأمريكية في الخليج العربي؟

1-اختير رونالد ريغان محافظ إحدى الولايات المهمة الأمريكية ، رئيساً للولايات المتحدة، وذلك لإيمانه بأفكار دينية تروج لها بعض المؤسسات الأمريكية ذات الاتجاه اليهودي- الصهيوني وبعض الكهنة الذين يدعون إلى صهينة المسيحية، وخاصة من خلال ما يسمى بنظرية (هَرْمَجدون)، التي هي عبارة عن أفكار دينية يهودية تبنتها الصهيونية العالمية كأيديولوجيا وقامت بتوظيفها الدولة الأمريكية استراتيجيا في رسم سياسة بعيدة المدى انتهت بطرد الجيوش السوفياتية من أفغانستان عن طريق التحالف مع الجماعات الإسلاموية والعناصر المجندة أيديولوجيا لمحاربة (الكفار) الروس .. ومن هنا نشأ تشكيل تنظيمات، وتجميع متطوعين وفتح مكتب مالي سري في كابل لتمويل المجاهدين حتى وجد الاتحاد السوفياتي نفسه عاجزاً عن مواجهة (مقاومة مجاهدة)، وخط إسلاموي متشدد. هذا التوظيف الامريكي لهذا الخط سهل لها استراتيجيتها الخاصة بـ(سباق التسلح) التي قاد أفكارها ريغان حين قام بدمجها مع أيديولوجيا (هَرْمَجدون) أنفة الذكر.

ومن أهم عناصر هذه الأيديولوجيا حتمية (قيام الحرب النووية) من أجل أن (يعود المخلص في نهاية الزمان).. ولا تسمح هذه الايديولوجيا بمفاوضات (نزع السلاح) أبداً، إنما إلى تكديس السلاح التقليدي والتسلح النووي النوعي.. وعلى أساس هذه القاعدة الفكرية التي انطلقت منها سياسة سباق التسلح بين المعسكرين الشرقي والغربي، أي بين أمريكا والاتحاد السوفياتي، برزت الفجوة في مجال الانفاق العسكري المتصاعد على حساب البناء والتنمية الاقتصادية الروسية.. هذه الفجوة كانت عميقة وواسعه جعلت الغرب يصف الاتحاد السوفياتي في منتصف الثمانينيات من القرن المنصرم بأنه (عملاق حديدي بأرجل من عجين).!!

كيف أهلت هذه الأفكار ريغان للرئاسة الأمريكية؟

بعد عدد من التصريحات والحوارات خلال فترة تولي ريغان احدى المحافظات الامريكية المهمة وقبلها كان ريغان يعرب عن آرائه وافكاره للكثير من المقربين اليه ولرجال الدين وغيرهم ومنذ السبعينيات، حيث كشف ذلك المعهد المسيحي في واشنطن في مؤتمر صحفي عام 1984 (ان الله قضى بنشوب حرب نووية).. وهو الامر الذي يشير الى ضرورة التسلح، وان مباحثات نزع السلاح لا ضرورة لها لان الله يساعد لنهاية الزمن). إذ يعتقد ريغان ومعه قادة اليمين المتطرف الجدد بأن العودة تأتي بعد مرحلة الحرب النووية العالمية أو الكوارث الطبيعية او الانهيار الاقتصادي والفوضى الاجتماعية.. ويرى هؤلاء (ان هذه الاحداث يجب ان تقع قبل العودة لخوض معركة (هَرْمَجدون) لتدمير اعداء الله ومن ثم ليحكموا الأرض لمدة ألف سنة).

فهل يؤمن رونالد ريغان بهذه الايديولوجيا قبل تسنمه رئاسة البيت الابيض لكي تتوافق مع الاستراتيجية الرسمية للولايات المتحدة الامريكية في احدى مراحلها فائقة الخطورة في الصراع مع الاتحاد السوفياتي؟

كان ريغان، كما أسلفنا، حاكماً لولاية امريكية مهمة وكبيرة، رغم انشغالاته ومسؤولياته وجد الوقت لدراسة ما يسميه (النبوءات ونهاية الزمان)، وكان يبحث عن مبدأ يقول (إن الله حكم على ملايين البشر الذين يعيشون اليوم بأن يقتلوا في معركة نهائية تدعى هَرْمَجدون)،!!

وفي 20 سبتمبر- ايلول 1970 خلال حملة ريغان لولاية ثانية كحاكم زار ريغان في منزله عدد من الاصدقاء واثنان من ذوي النفوذ الديني ودار حديث عام عن النبوءات فقال أحد رجال الدين (إني أتنبأ أن يصبح ريغان رئيساً للولايات المتحدة، فيما أعلن الآخر أن البديل الوحيد للشيوعية هو النهج الوارد في الكتاب المقدس).. وكان حديث ريغان ينصب على ليبيا وتحولها الى شيوعية وأصر على ان في ذلك اشارة الى ان يوم هَرْمَجدون لم يعد بعيداً وان اثيوبيا ستكون واحدة من الامم المعادية لله التي تحارب اسرائيل.. وإن جميع النبوءات يجب ان تتحقق بما فيها معركة هيرمجدون النووية القادمة، وان اعداء الله سوف يدمرون بواسطة السلاح النووي، وان (يأجوج ومأجوج) الامة التي ستقود قوى الظلام الاخرى- يقصد الاتحاد السوفياتي-  ضد اسرائيل سوف تأتي من الشمال).. فيما كان إنجيليون يحيطون بريغان يقولون (ان روسيا تنطبق مواصفات يأجوج ومأجوج عليها تماماً، لأنها شيوعية وملحدة ضد الله).. وحسب " جيمس ميلز" وما نشرته مجلة سان دييغو عام 1983 (ان ريغان كان يشعر بأنه يمثل ارادة الله وهو ملتزم ويعمل على بناء القدرة العسكرية للولايات المتحدة ولحلفائها.. وهو الأمر الذي وجه ريغان نحو الانفاق العسكري وعدم حماسه تجاه مفاوضات نزع السلاح النووي ... لأن هَيْرمَجدون لا يمكن ان تحدث في عالم منزوع السلاح، لأن ذلك يتناقض مع مشيئة الله).!!

واستناداً الى كتاب (ساحات المعارك النووية) لـ "وليام آركن وريتشارد فليدر هوس"، فأن الولايات المتحدة تمتلك (870) أداة من الاسلحة النووية في 40 ولآية، ويبلغ مجموع الرؤوس الحربية الجاهزة (14500) رأس، وفي المانيا يوجد (3396) سلاحاً نوويا أمريكياً، وفي بريطانيا (1268) وإيطاليا (549) وتركيا (489) واليونان (164) وفي جنوب كوريا (151) وهولندا (81) وفي بلجيكا (25) رأس نووي. جاء ذلك في صحيفة واشنطن بوست عام 1986 حيث اشارت إلى ان الادارة الامريكية اقترحت مواصلة البناء العسكري في السنوات الخمسين المقبلة... واستنادا الى وثائق الخزانة الامريكية قالت الصحيفة ان الانفاق على مشاريع وزارة الدفاع يشير الى ارتفاع من (4،258) مليار دولار في السنة المالية 1986 الى (66،359) مليار دولار في عام 1991).

الملاحظات:

أولاً- إن التصعيد الأمريكية في معدلات الإنفاق العسكري بررته الرئاسة الأمريكية في عهد ريغان تبريراً (أيديولوجيا) غير واقعي، وحفزت قوى التطرف الديني وقوى الإنتاج العسكري (اللجنة الثلاثية للتصنيع) التي تديرها شركات صنع السلاح الامريكي على إشعال الحروب بقيادة المحافظين الجدد1- فأرغمت الجيش السوفياتي على الانسحاب من أفغانستان 2- وهدمت منظومته الاشتراكية 3- واعلنت احتلالها بعد ذلك لأفغانستان 4- وأرغمت شاه ايران على الرحيل واستبدلته بخميني ليبدأ فصل الشرق الأوسط باحتلال العراق وتدميره ونهبه وتدمير سوريا ونهبها وتدمير اليمن ونهب كنوزه وتدمير ليبيا ونهبها وتونس وتدميرها والرهن هو السودان العمق الاستراتيجي لمصر، أما لبنان فهو بلد معطل فيه كل شيء كما هو حاصل في العراق .

هذه الاستراتيجية الأمريكية نجدها استراتيجية مركبة تحمل مشروع الدولة الامريكية ومشروع الصهيونية ومشروع الدولة الفارسية ومشروع الدولة التركية، من أجل صياغة مشروع واحد هو مشروع الشرق الأوسط الجديد.

ثانياً- الأرقام الإحصائية أعلاه تعود إلى فترة بداية الثمانينيات من القرن المنصرم، من حيث كلف الانفاق العسكري من جهة وعدد إنتاج الرؤوس النووية ونشرها من جهة أخرى.. أما الان فتختلف حتماً ومن الصعب الوصول الى ارقام تقريبية.

ثالثاً- إن عدد الرؤوس النووية فاق كل التوقعات والموازين- على الرغم من اتفاقيات نزع السلاح المتبادل سالت 1 وسالت 2، اضافة إلى اتفاقيات منع الانتشار- فأن تكديس اسلحة الدمار الشامل الذرية والكيميائية والجرثومية والقنابل الفراغية يجعل سكان الأرض ليس أكثر أمناً وإن الكرة الأرضية يمكن تدميرها بعدد قليل من الصواريخ الذرية، فالحرب الذرية لا تحتاج إلى هذا الكم الهائل من الصواريخ البالستية عابرة للقارات بل بضعة صواريخ تكفي لتفجير الكرة الأرضية برمتها.

رابعاً- إن الأمن والاستقرار لا يتحققان بعدد الصواريخ النووية الموجهة والموزعة استراتيجيا في مناطق القارات الحيوية المختلفة.

خامساً- من الصعب الحديث عن تنمية اقتصادية في ظل تصاعد معدلات الإنفاق العسكري.

سادساً- ان أية تنمية لا تنتعش في ظل التوتر والفوضى وفقدان الأمن العام والأمن الاجتماعي.

سابعاً- إن التوازن في القوى الدولية والإقليمية لن يكون آمناً إلا في ظل نظام دولي يكفله القانون الدولي ومبادئ حسن الجوار التي يقرها ميثاق الأمم المتحدة.

ثامناً- إن ضبط النظام الدولي لن يتحقق إلا بوضع ضوابط تشترط العقاب الجمعي المتفق عليه دوليا لمنع العدوان والخروج عن النظام العام لأمم العالم المحبة للسلام والاستقرار في العالم.

تاسعاً- من الخطأ وصف كل أيديولوجيا بأنها (دينية)، فهناك أيديولوجيا عقائدية وأخرى نظريات فكرية تصاحب السياسة.. ولكن إذا اقترب الدين من السياسة أو اقتربت السياسة من الدين بمعنى تسييس الدين أو مذهبة السياسة فأن الفوضى ستعم ارجاء المعمورة.. فالأحزاب الإسلاموية والاحزاب الكهنوتية المسيحية واليهودية والبوذية لا تصلح لإدارة شؤون الحكم أو إدارة الصراعات في مجتمعاتها، فهي مفسده للجهود من أجل المساواة والعدالة والانصاف.. وقد تحمل هذه الاديان هذه القيم، ولكن السياسة تقوم بإفسادها.. فلا يجوز ان تتجاوز الايديولوجيا لمنظور الوطنية في الدولة، ولا يجوز لها ان تتجاوز المنظور القومي للأمة.. فكلا المنظوران الوطني والقومي من الصعب تجاوزهما نحو العالمية كما تدعو لها الاحزاب الإسلاموية.!!






الاربعاء ١١ ذو القعــدة ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٣١ / أيــار / ٢٠٢٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. أبا الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة