شبكة ذي قار
عـاجـل










 

افتتاحية عدد جريدة الثورة-شهر أيار-2024

حروب مقدسة ... وحروب عبثية

الجزء الثاني

 

واقع الحال يقون إن كل تجربة مهما كانت عميقة الجذور في أصالتها التاريخية، وفي حكمة ربابنتها، لا بد أن ترتكب بعض الأخطاء، فمسيرة الإنسان ليست معصومة من الوقوع في بعض الأخطاء الجزئية، تبعا للمتراكم من التخلف والاستعصاء في الملفات الوطنية، وتحقق النجاحات بقدر ما تلمسه من اصطفاف وطني وراء ما يصدر عنها من قوانين وتشريعات منظِمة للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلاد، وبقدر ما تتمكن من تحشيده من مهارات تقنية وتوفره من قوى عسكرية لحماية التجربة من الأخطار الخارجية، فلا تنمية اقتصادية من دون قوة عسكرية توفر لها ضمانات الديمومة.

 هذا ما سعى إليه العراق منذ 17/30 تموز 1968، وبسبب حجم التحولات الكبرى التي سعى البعث لتحويلها من حلم يراود العراقيين، أو من مدونات تم ادراجها في البرامج السياسية للأحزاب، إلى واقع معاش على الأرض، لا سيما خطواته الكبيرة على طريق تحرير ثرواته الوطنية من السيطرة الاستعمارية أو تلك الثروات المدرجة على لائحة الشركات الكبرى العابرة للقارات، مثل الطاقة والفوسفات والكبريت وغيرها مما تزخر به أرض العراق، من ثروت مكتشفة ولكنها غير مستثمرة، أو ثروات لا تقل عنها قيمة استراتيجية ولكنها بحاجة إلى عمليات استكشاف وتحرٍ وتنقيب، وهذا هو ما حصل فعلا ومنذ السنوات الأولى من عمر الثورة، فقد رأت القيادة أنها في سباق مع الزمن كي تحقق أهدافها الكبرة في برامج تنمية خمسية متعاقبة غير مسموح لها أن تتوقف ما لم تنقل العراق من لائحة ما يسمى بالدول النامية إلى لائحة الدول المتقدمة جدا.

 ولما كان العراق قد دخل في مرحلة التجربة غير المسموح لها أن تستمر على وفق الحدود التي ترسمها القوى الدولية الكبرى، عاد الاستعمار القديم، مستغلا انضمام قوى دولية جديدة تمثلت بالولايات المتحدة ودولة الاحتلال الإسرائيلي، ومن أجل تقليص النزاعات فيما بينها، فسحبت الملفات القديمة من أدراجها لإشغال العراق بنفسه، وأُضيفت لها ملفات جديدة، قابلة للتوظيف مع التطورات اللاحقة، ولكن كل تلك الملفات لم تنجح في زعزعة أقدام العراقيين عن الطريق الذي كانوا قد قطعوا في مسيرتهم عليه شوطاً لا يستهان به، حينذاك بدأ التحالف التاريخي القديم المضاد للعراق والأمة العربية، بالانتقال إلى خطط متدرجة جديدة وتتلخص في تجنيد قوى إقليمية تحمل موروثا ثأريا مع العراق، وتستطيع تبرير عدائها له بعد تغليفه بمساحيق جديدة تصلح للواقع الراهن، فوجد العالم ضالته بنظام الشاه فقام بما يقدر عليه ومضى إلى نهايته المعروفة  لكل العملاء الذين يجندون أنفسهم لخدمة القوى الكبرى التي سرعان ما تلقي بهم في مكبات النفايات بعد احتراق أوراقهم، فالعراق خرج من المواجهة مع نظام الشاه وهو أكثر تماسكا، ووحدته الوطنية أكثر رسوخاً.

 هنا كان لا بد لإعداء العراق من التفكير بالبدائل الاستراتيجية التي تمكنهم تحقيق بعض أهدافهم، إذ تم اسقاط الشاه وجيء بنظام خميني، الذي حمل بجدارة ملف تدمير المنطقة، وكأن الغرب قد عهد إليه بمهمة الوظيفة التي كان الكيان الصهيوني قد حمل جانباً منها لعدة عقود من الزمن، ولكنه أخفق في زرع بذور الفتنة القُطرية أو الدينية أو المذهبية في الوطن العربي، بل على العكس من ذلك، أدى إلى ظهور حالة من التضامن العربي ولو على مستوى النظام الرسمي العربي على الأقل.

 وبعد أن أحكم خميني سيطرته على إيران، وصار قادرا على تحريك الشعوب الإيرانية وقواتها المسلحة على وفق ما يحمله من أوهام مريضة في التوسع على حساب الوطن العربي، كان لا بد له من تمهيد الأرضية المناسبة لمباشرة مشروعه التدميري، فرفع أكثر الشعارات ملامسة للعقل والضمير العربي، ألا وهو شعار تحرير فلسطين، وهذا لا يكلفه أكثر من الصراخ عن بعد باسم المسجد الأقصى، الذي لا يشغل أدنى أهمية في الفقه الذي يسير عليه الخميني، ولا يؤلب عليه الأعداء بحكم بُعدِ بلاده عن فلسطين، كانت أبواقه ترفع صوتها عاليا باسم فلسطين ولكن قواته كانت تقصف مدن العراق من خانقين شمالاً وحتى الفاو جنوبا، وبعد منازلة تاريخية استمرت ثماني سنوات جرًع العراقيون خميني وقيادته الدينية والعسكرية كؤوس السم، فوقف العالم وهو بحالة انبهار افقدته التوازن السياسي والنفسي، كيف استطاع العراقيون دحر إيران وهي تتمتع بتفوق على العراق بثلاثة أضعاف المساحة وعدد السكان وبالخزين التسليحي الاستراتيجي الموروث من زمن الشاه، فانشغلت مجالس الأمن القومي ومراكز الدراسات وأجهزة المخابرات الغربية، في وضع البدائل القادرة على إلحاق الهزيمة بالعراق، فكان الخيار الأخير هو الانتقال مرة أخرى من سياسة الدواخل إلى سياسة المداخل، ولكن هذه المرة تقتضي أن تأتي أمريكا بنفسها ولكن في نطاق خطة تدميرية، مع التأكيد على رفع شعارات براقة، تتحدث عن حقوق الإنسان تارة وعن الديمقراطية تارة أخرى، ولأن مشروع استهداف العراق يتناسب مع مدى علو همة العراقيين وطموحهم، وأحياناً أكبر من ذلك، فقد كان الوصول إلى غايتهم يتطلب مزيداً من الجهد لتجنيد قوى محلية على استعداد للعمل مع أعداء العراق على تدميره، ولما كان العراق ساحة مفتوحة لتدخلات بعض دول الجوار لعوامل طائفية وعوامل سياسية حينا، أو لخلافات زرعتها بريطانيا على الحدود والثروات والمياه، فقد تم تجنيد قوى ومنظمات كانت قد تأسست إبان الحرب مع إيران، تم التركيز في تشكيلها على الساقطين في خيانة الوطن من الأسرى العراقيين، من الذين اهتزت في ضمائرهم صورة الوطن ولم يكفهم زاد المطاولة، على مواصلة طريق الصمود والثبات على طريق المبادئ.

 وبعد أن اكتملت الصفحة الأولى من الاحتلال وتسليم الحكم للقوى المرتبطة بإيران ولاء ً وقراراً سياسياً، تفضل عملاء إيران على أطراف أخرى فجعلوا منهم واجهة لديكور سياسي مختل الأبعاد في كل مدخلاته ومخرجاته ومفاصله، وها هو العراق بعد 21 سنة من الاحتلال، وهو في تراجع مستمر حتى احتل آخر المراتب بالنزاهة والتعليم والصحة، والمراتب الأولى في الفساد والجريمة المنظمة وغسيل الأموال وانتشار المخدرات على أوسع نطاق، يكون من حق المواطن المخلص لوطنه أن يتساءل، أين ما وعد به الأمريكيون بجعل العراق النموذج الأفضل على مستوى المنطقة اقتصاديا وبناء التجربة الديمقراطية الأكثر تطابقا مع المعايير الغربية.

 وبعد أن أجهد العملاء أنفسهم بالحديث عن ذرائع ومسوغات لتراصفهم السابق واللاحق مع أعداء وطنهم في شنه الحروب العبثية وتبذيره أموال العراق على مشاريع فاشلة وافلاس خزينة الدولة، أليس من حق المؤمنين بسلامة الخط المبدئي الذي انتهجه وطنهم طيلة خمسة وثلاثين عاماً أن يواجهوا برامج الأعداء بكل الأسلحة المتاحة لهم.

 إن سقوط كل خيارات الأعداء المحليين ومنذ اللحظة الأولى للاحتلال الذي وضعهم في خانة الخيانة العظمى، حتى إذا حاولوا تبرير ذلك بذرائع متهافتة وأكثر سقوطاً من خيانتهم للعراق، فالحروب التي خاضها العراق حروب مقدسة ومشروعة لا يقلل من قدسيتها سقوط أعداء العراق أنفسهم.

 





الاحد ١٨ ذو القعــدة ١٤٤٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٦ / أيــار / ٢٠٢٤ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب جريدة الثورة نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة