شبكة ذي قار
عـاجـل










حتى تاريخه، يكون قد مضى خمسة أشهر على انطلاق الانتفاضة الشعبية في العراق، والتي تميزت عن مشهديات الحراك الشعبي العربي بأنها استحضرت عناوين المسألة الوطنية بالتلازم مع المسألة الديموقراطية.

 

إن المسألة الديموقراطية التي انطلق الحراك الشعبي العربي، تحت عناوينها، لإسقاط النظم السياسية الحاكمة التي استفحل فسادها واستبدادها واماتتها للحياة السياسية، كانت في الموضوع العراقي ضمن عناوين المشروع الوطني الذي انطلق تحت عنوان التحرير، واستمر تحت عنوان التوحيد.

 

وعلى هذا الأساس، كانت الانتفاضة الشعبية في العراق، تحاكي في برنامجها السياسي، مضمون البرنامج المقاوم الذي تمحور حول قضيتين: قضية مقاومة الاحتلال بكل تجسيداته وإفرازاته، وقضية إعادة بناء العراق على الأسس الوطنية والديموقراطية.

 

من هنا، فإن القوى التي انخرطت في العمل المقاوم، اعتبرت أن مهمتها لم تنته بدحر الاحتلال، فهذه صفحة، واما الصفحة الثانية، فهي إسقاط إفرازات الاحتلال، وعلى قاعدة أن إسقاط الأصيل يجب أن يودي إلى إسقاط الوكيل، وانتهاء وظيفة المتبوع ينهي وظيفة التابع. أما أن يطرد الاحتلال وتبقى إفرازاته قيّمة على الحياة السياسية، ففي هذا مفارقة كبيرة. وهذا لا يمكن أن يحصل إلا في ثلاث حالات.

 

الحالة الأولى: هو وجود احتلال من الباطن، والحالة الثانية، أن يكون الاحتلال الأول أوجد واقعاً سياسياً، تستقوي به إفرازات الاحتلال بمعطياته كي تبقى تؤدي وظيفتها، وأما الحالة الثالثة، فهي عدم وجود قوى اعتراضية قادرة على إكمال مسيرة التحرير وصولاً إلى التوحيد.

 

 

من خلال الإطلالة على واقع العراق الحالي، يتبين أن اثنتين من هذه الحالات موجودتين وأما الحالة الثالثة، فعكسها هو الموجود.

إن في العراق اليوم، احتلال من الباطن، وهو يتجسد بالدور الإيراني، والذي يكمل دور الاحتلال الأول لجهة ضرب المقومات الوطنية الأساسية التي تدرج تحت عناوين المسلمات، وهي وحدة العراق أرضاً وشعباً ومؤسسات، وهويته القومية، وحقه السيادي على ثرواته ومقدراته.

 

كما أن العراق اليوم، تحكمه تركيبة سياسية، تستند في أدائها إلى قانون بريمر. هذا القانون الذي شرع الممارسة السياسية، على قاعدة التقسيم المناطقي تحت عنوان الأقاليم، وعلى قاعدة التقسيم المجتمعي تحت عنوان التطييف، يُعتبر القانون الأعلى الذي يضبط الإيقاع السياسي، والراسم للعلاقة بين السلطات وأن ما اعتبر دستوراً جرى الاستفتاء عليه، لم يكن سوى ذلك القانون الذي شكلت أحكامه مواداً للدستور المستفتى عليه.

هذه التركيبة السياسية بقواها ورموزها، تستند إلى دعم المحتل من الباطن، كما تعتبر أنها مشرعة في أدائها استناداً إلى قانون بريمر، وبهذا تستمر في الواقع السياسي العراقي ولم تزل بزوال الاحتلال الأول نظراً لهذين السندين.

 

أما الحالة الثالثة، فإن وجود قوى الاعتراض على الاحتلال وإفرازاته، ليس من منتفياً، بل هو موجود وبقوة .وهذه القوة تستمد زخمها من عاملين، الأول المخزون الوطني الذي يكتنزه الشعب في العراق في مكنونات شخصيته، والثاني، الرصيد النضالي الذي راكمه الفعل المقاوم للاحتلال الأميركي.

 

من هنا، وفي ضوء ما تختلج فيه ساحة العراق من عناصر صراعية، استمرت هذه الساحة تعيش مشهدية مواجهة بين مشروعين : المشروع الوطني بكل ابعاده التحريرية والتوحيدية، ومشروع الاحتلال الأول ومن الباطن بكل أبعاده المهددة للمقومات الوطنية.

 

استناداً إلى واقع التشخيص الموضوعي هذا، كان الحراك الشعبي واضحاً في عناوين برنامجه النضالي، كما كانت قوى المشروع الآخر واضحة في عناوين مواجهتها للحراك.

 

فالحراك الذي رفع شعار مواجهة المحتل من الباطن، وإسقاط ما سمي بالعملية السياسية، وبتعبير أدق إسقاط مفاعيل قانون بمرير، اختارت قواه أسلوب التعبير الديموقراطي، المعبر عنه بالتظاهرات والاعتصامات في الميادين، ومركزة على ثلاثية المسلمات، وحدة العراق وعروبته، وحقه السيادي على اقليمية ولهذا اعتبرت قوى الحراك الشعبي التي ضبطت إيقاعها السياسي ضمن عناوين البرنامج الوطني للمقاومة، ان المسلمات الوطنية هي مبرر وجود العراق ودوره، وان ثمة محرمات لا يجوز تحت أي ظرف من الظروف انتهاكاً. هذه المحرمات هي عدم استباحه الدم العراقي، وعدم الانجرار إلى حرب أهلية عبر عسكرة الحراك الشعبي، وعدم الانزلاق إلى الخطاب التقسيمي والمذهبي والطائفي.

 

إن قوى الحراك الشعبي عندما حددت المسلمات التي تناضل لأجلها، وحددت المحرمات التي لا يجوز انتهاكها، كانت تدرك أن القوى المعادية تسعى لضرب المقومات الوطنية وانتهاك المحرمات وهذا ما حصل فعلاً.

 

فالعدوان على العراق الذي أدى إلى احتلاله، استهدف تقويض المرتكزات الوطنية، والاحتلال من الباطن جاء ليكمل المهمة وبأسلوب أكثر خبثاً وأكثر باطنية، لما كان يجسده الاحتلال الأول، وإفرازات الاحتلال التي نقدم نفسها تحت يافطة أطراف العملية السياسية، لم تتوان عن انتهاك المحرمات.

 

لقد استباحت قوى الاحتلال من الباطن، مقدرات العراق وهي تنهب ثروته النفطية،  وهي توفر التغطية والدعم للأطراف السلطوية، التي تنتهك المحرمات وكانت تعبيراته ما جرى في التعامل مع ساحات الاعتصام.

 

لقد أريق الدم العراقي في ميادين الحويجة والفلوجة وسامراء وصلاح الدين، وُرد على التظاهرات بإطلاق النار والاغتيال والاعتقال وتنفيذ الإعدامات تحت يافطة أحكام قضائية، واستحضر خطاب مذهبي وطائفي مقبت، علّ ذلك يدفع الطرف الآخر لأن يرد بالمثل

 

إلا يشكل هذا انتهاكاً صارخاً للمحرمات الاجتماعية والإنسانية، ويضع منتهكي هذه المحرمات تحت طائلة المساءلة السياسية والجزائية، خاصة وأن الجرائم التي ترتكبها السلطة في العراق، هي جرائم موصوفة، وتندرج تحت تصنيف جرائم ضد الإنسانية؟

 

بطبيعة الحال، ان ما ترتكبه قوى الاحتلال من الباطن مباشرة وعبر الميليشيات الحكومية، تشكل انتهاكاً خطيراً للسيادة الوطنية من جهة وللحقوق الأساسية للإنسان من جهة أخرى. وهذا ما أعطى لهذا الصراع المفتوح بعده الوطني الشامل.

 

وعندما تطرح قوى الحراك الشعبي إسقاط "قانون بريمر" فإنما تطرح إسقاط مشروع التغليف الدستوري للتقسيم والتطييف للحياة السياسية، وعندما تطرح التصدي للنفوذ الإيراني، فلأنها تريد إسقاط مفاعيل الاحتلال من الباطن وعندما تؤكد على سلمية الحراك ووطنية الخطاب السياسي فلأن هذا الخطاب، يعبر عن حقيقة برنامجها الوطني، الذي وأن تموضع تحشده الشعبي الأساسي في مناطق معينة، إلا أنه يحاكي المزاج الشعبي العراقي بكل أطيافه وكل مكوناته وفي كل مناطقه ويعكس حقيقة الموقف الوطني للشعب في العراق وحيث الوطنية بالنسبة إليه هي حالة غرائزية.

 

وعلى أساس هذا الوضوح في طبيعة المشروع المعادي الذي تشكل إيران قيادة استراتيجية لقواه في الداخل والخارج، فإن المواجهة له تكون، أولاً بكشفه وعدم التورية على أهدافه ومراميه، وثانيا، بإبقاء الحراك الشعبي محكوماً بالبرنامج الوطني الذي تشكل المسلمات الوطنية ركائز أسياسية له، وأن تبقى المحرمات التي الف بائها عدم استباحة الدم العراقي وعدم الانجرار إلى حرب أهلية وعسكرة مضادة، وعدم استحضار مفرزات الخطاب السياسي الذي تفوح منه روائح التقسيم والتفتيت، خطوط حمر لا يجوز تجاوزها، وانطلاقاً من ادراك بأن قوى المشروع الآخر تريد استدراج العراق إلى آتون هذا الصراع، الذي يجهض كل تضحيات شعب العراق، ويضرب كل مقوماته الوطنية بعدما يكون قد انتهك حرماته.

 

إن استنفار الاحتلال من الباطن وتلك المرتبطة به في الداخل العراقي لأدواتها لضرب الانتفاضة الشعبية، وتشويه صورتها، فلادراكها من هذه الادوات بأن استحضار المشروع الوطني في العراق، بمضمونه الديمقراطي وأبعاده القومية والإنسانية، لا تقتصر إثاره وتأثيراته على ساحة العراق وحسب، بل يطال العمق القومي برمته، وأن النظام الإيراني يعرف أكثر من غيره، بأن قطع أذرعه في العراق وإسقاط كل مفاعيل تأثيراته، سيكون بمثابة الضربة القاضية التي تطال كل اختراقاته السياسية والأمنية في العمق القومي، وحيث بات تدخله مباشراً في الأزمات الوطنية العربية، من اليمن إلى البحرين وانتهاء بسوريا تحت عناوين ومسميات مختلفة وكل ذلك لتأمين مقعد له على طاولة الترتيبات السياسية للأزمات الوطنية، وبما يعطيه دوراً إقليمياً نافذاً.

 

اما عندما يقطع  راس الأفعى في العراق فهذا سيكون سريع الانعكاس الإيجابي على المستوى القومي، وهذا ما يجعل الامل  العربي معلق على انتصار انتفاضة العراق الشعبية على الاحتلال من الباطن والتركيبة السلطوية التي تدير الحكم بعقل وبأسلوب ميليشوي.

 

إن الأمل معقود على ما ستسفر عنه نتائج المواجهة القائمة في العراق في صفحتها الثانية، وهذه المواجهة لا بد ان تحسم  لصالح العراق الواحد الموحد العربي الديموقراطي لأن شعباً انتصرعلى أعتى قوى عسكرية في العالم، ويتميز بحيوية نضالية، ويستند إلى مخزون نضالي متراكم، بدءاً من الانتصار في معركة التأميم لواحد وأربعين سنة خلت، ويتصدى للعدوانية الإيرانية على مدى ثماني سنوات، ويواجه المحتل الأميركي باللحم الحب وينتصر عليه لا بد أنه منتصر في جولته الحالية.

 

إن شعباً، تطرح قواه السياسية الوطنية، والعابرة في تكوينها وبرنامجها السياسي للطوائف والمناطق، برنامجاً يستند إلى المسلمات ويشدد على المحرمات. لا بد منتصر وهو لن يستدرج أبداً واياً كانت الضغوطات التي تمارس عليه للوقوع في الفخ الذي تنصبه له قوى الاحتلال من الباطن وتلك المرتبطة بها، وصولاً الى تفريغ خطابه السياسي من مضمونه الوطني وتحويله إلى قضية مطلبية، أو بالوقوع في فخ المطالبة بإقامة أقاليم طائفية ومذهبية تحاكي أقاليم أخرى، ولان هذا هو  الخطر القاتل على وحدة العراق.

 

إن المشروع الوطني في العراق لا بد منتصر، لأنه محكوم بنعم قوية للمسلمات وب لا قوية للمحرمات وقريب الأيام سيثبت مرة أخرى أن عودة الروح للمشروع القومي العربي، سيكون منطلقها من العراق، الذي كان وسيبقى الحاجز الذي يحول دون نفاذ الرياح الصفراء القادمة من الشرق الى العمق القومي العربي..

 

 





الجمعة ١٤ رجــب ١٤٣٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٤ / أيــار / ٢٠١٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مكتب الثقافة والإعلام القومي - لقاءُ القُوى الوَطَنيّة والقَوميّة التَقدُّميّة الديمُقراطِيّة ضَرورة حَتميّة للخَلاص مِن حالَةِ الضَعفِ العَرَبي د. عامر الدليمي في ظل الاستهداف المنقطع النظير الذي تتعرض له أمتنا العربية في أغلب أقطارها، وفي ظل غياب أية حدود أو سقف للبشاعة التي يتم فيها تنفيذ حلقات المؤامرة، وليس آخرها محرقة رفح، والمجزرة البشعة التي يتعرض لها شعبنا العربي في فلسطين، والتي وصلت إلى إحراق الخيام بقاطنيها حيث تم استهداف النازحين قسرًا شمال غرب رفح. تلك المجزرة التي خلّفت عشرات الشهداء الذين تحولت أجسادهم إلى أشلاء، بالإضافة إلى عشرات الجرحى معظمهم من الأطفال والنساء، مع استهداف الاحتلال الصهيوني للمنظومة الصحية وإخراجها من الخدمة، كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم أجمع العاجز عن كبح جماح جرائم العدو الصهيوني. في ظل هذا الواقع المأساوي، وعجز الأنظمة العربية عن وقف عجلة التدهور وبشاعته، يصبح من أعلى الأولويات والواجبات الحتمية، أن تلتقط القوى السياسية الوطنية والقومية زمام المبادرة، نحو بلورة مشروع يرقى إلى مستوى التحديات الوجودية الجسيمة التي تستهدف الأمة في وجودها. ويتقدم تلك الأولويات فهم الواقع الذي تمرُ به الأمة العربية في هذه الظروف وتحليلها بقدرٍ عالٍ من المسؤولية الوطنية والقومية والوقوف بواقعية وموضوعية على أسباب الانكسارات والتراجعات والاستسلام للقوى المعادية، حيث يتقدم تلك الأسباب الانقسام والتشظي العربي بسبب تناقضات ثانوية تاركين التحديات الأساسية والمصيرية تحرق الأمة وتنهي هويتها ووجودها. وفي مقدمة متطلبات تحقيق ذلك، والذي يعد من الضرورة القومية الحاسمة أن تكون هناك نظرة وفعل حقيقي جاد لتجديد الخطاب القومي العربي وتحديث مشروعه النهضوي التحرري التقدمي. ومن هنا فإن لقاء القوى السياسية المخلصة للوطن والأمة العربية، والعمل ضمن قواعد عمل مشتركة للتوصل إلى مشروع يمكِّن الأمة من مواجهة التحديات الوجودية الجسيمة التي تتعرض لها، ويعيد لها كرامتها، ويؤكد بأنها أمة جديرة بالحياة، من خلال إيجاد تفاهمات سياسية على قاعدة جماهيرية تكون أساساً لقوتها، وتستطيع من خلال ذلك وغيره التخلص من الضعف والتخلف والتقهقر الذي أصابها. إن ذلك من شأنه أن يرسم الخطوات الأولى التي تخطوها القوى الوطنية والقومية لقيادة الأمة نحو مرحلة جديدة لتكون أمة مجاهدة تسعى نحو التثوير والتنوير والتغيير والتقدم بكل جوانبه. كما وتشكِّل أساساً لإطلاق الحريات الفكرية والسياسية التي تعد الدعامة الرئيسية لمجتمع حضاري جديد، وتحقيق نهضة عروبية تقدمية ديمقراطية في الساحة السياسية كما في الساحة الفكرية. إن كل ذلك يقتضي تجاوز الحالات التي تعرضت لها من مناكفات وخصومات بينية أوصلتها إلى الاحتراب الفعلي فأضعفت نفسها، وجعلت القوى المعادية تتحكم بمصيرها. وليس أدل على ذلك ما وصلت إليه بعض الأنظمة العربية في الاستسلام والضعف أمام العدو الصهيوني، وتمدد استعماري للمشروع الفارسي في أقطار أمتنا العربية بدءاً من المشرق واندفاعاً نحو أقطارها في شمال افريقيا. إن الضرورة الوجودية والحتمية في تاريخنا الحالي تقتضي عودة التيار القومي العربي التحرري والمنظمات القومية لممارسة دورها الفعلي في الساحة العربية بقوة وثقة عالية، متحصِّنة بالإيمان المطلق بقدرها، وبمسؤوليتها التاريخية في قيادة الأمة لتحقيق أمل الجماهير في خلاصها من الاستعباد والاستبداد والهزيمة والتشظّي. ومن أولويات هذه المهمة النضالية الكبيرة هي أن ينهض المثقفون والمفكرون والكتاب العرب الذين يؤمنون برسالة الأمة كرسالة إنسانية خالدة لممارسة دورهم الريادي في بلورة الطموحات المأمولة، وتحديد معالم الطريق العملية والواقعية لتحقيقها، بعيداً عن الإنشاء أو العواطف أو التنظير العقيم. على أن مثل هذا التفاعل وتلاقح الأفكار يتطلب من الجميع العمل من أجل هذا المشروع بروح ديمقراطية متجددة، كشرط أساسي لنجاحه كي يعيد للأمة العربية مجدها وكرامتها وحقها في الحياة.
مواضيع الكاتب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة
مكتب الثقافة والإعلام القومي - لقاءُ القُوى الوَطَنيّة والقَوميّة التَقدُّميّة الديمُقراطِيّة ضَرورة حَتميّة للخَلاص مِن حالَةِ الضَعفِ العَرَبي د. عامر الدليمي في ظل الاستهداف المنقطع النظير الذي تتعرض له أمتنا العربية في أغلب أقطارها، وفي ظل غياب أية حدود أو سقف للبشاعة التي يتم فيها تنفيذ حلقات المؤامرة، وليس آخرها محرقة رفح، والمجزرة البشعة التي يتعرض لها شعبنا العربي في فلسطين، والتي وصلت إلى إحراق الخيام بقاطنيها حيث تم استهداف النازحين قسرًا شمال غرب رفح. تلك المجزرة التي خلّفت عشرات الشهداء الذين تحولت أجسادهم إلى أشلاء، بالإضافة إلى عشرات الجرحى معظمهم من الأطفال والنساء، مع استهداف الاحتلال الصهيوني للمنظومة الصحية وإخراجها من الخدمة، كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم أجمع العاجز عن كبح جماح جرائم العدو الصهيوني. في ظل هذا الواقع المأساوي، وعجز الأنظمة العربية عن وقف عجلة التدهور وبشاعته، يصبح من أعلى الأولويات والواجبات الحتمية، أن تلتقط القوى السياسية الوطنية والقومية زمام المبادرة، نحو بلورة مشروع يرقى إلى مستوى التحديات الوجودية الجسيمة التي تستهدف الأمة في وجودها. ويتقدم تلك الأولويات فهم الواقع الذي تمرُ به الأمة العربية في هذه الظروف وتحليلها بقدرٍ عالٍ من المسؤولية الوطنية والقومية والوقوف بواقعية وموضوعية على أسباب الانكسارات والتراجعات والاستسلام للقوى المعادية، حيث يتقدم تلك الأسباب الانقسام والتشظي العربي بسبب تناقضات ثانوية تاركين التحديات الأساسية والمصيرية تحرق الأمة وتنهي هويتها ووجودها. وفي مقدمة متطلبات تحقيق ذلك، والذي يعد من الضرورة القومية الحاسمة أن تكون هناك نظرة وفعل حقيقي جاد لتجديد الخطاب القومي العربي وتحديث مشروعه النهضوي التحرري التقدمي. ومن هنا فإن لقاء القوى السياسية المخلصة للوطن والأمة العربية، والعمل ضمن قواعد عمل مشتركة للتوصل إلى مشروع يمكِّن الأمة من مواجهة التحديات الوجودية الجسيمة التي تتعرض لها، ويعيد لها كرامتها، ويؤكد بأنها أمة جديرة بالحياة، من خلال إيجاد تفاهمات سياسية على قاعدة جماهيرية تكون أساساً لقوتها، وتستطيع من خلال ذلك وغيره التخلص من الضعف والتخلف والتقهقر الذي أصابها. إن ذلك من شأنه أن يرسم الخطوات الأولى التي تخطوها القوى الوطنية والقومية لقيادة الأمة نحو مرحلة جديدة لتكون أمة مجاهدة تسعى نحو التثوير والتنوير والتغيير والتقدم بكل جوانبه. كما وتشكِّل أساساً لإطلاق الحريات الفكرية والسياسية التي تعد الدعامة الرئيسية لمجتمع حضاري جديد، وتحقيق نهضة عروبية تقدمية ديمقراطية في الساحة السياسية كما في الساحة الفكرية. إن كل ذلك يقتضي تجاوز الحالات التي تعرضت لها من مناكفات وخصومات بينية أوصلتها إلى الاحتراب الفعلي فأضعفت نفسها، وجعلت القوى المعادية تتحكم بمصيرها. وليس أدل على ذلك ما وصلت إليه بعض الأنظمة العربية في الاستسلام والضعف أمام العدو الصهيوني، وتمدد استعماري للمشروع الفارسي في أقطار أمتنا العربية بدءاً من المشرق واندفاعاً نحو أقطارها في شمال افريقيا. إن الضرورة الوجودية والحتمية في تاريخنا الحالي تقتضي عودة التيار القومي العربي التحرري والمنظمات القومية لممارسة دورها الفعلي في الساحة العربية بقوة وثقة عالية، متحصِّنة بالإيمان المطلق بقدرها، وبمسؤوليتها التاريخية في قيادة الأمة لتحقيق أمل الجماهير في خلاصها من الاستعباد والاستبداد والهزيمة والتشظّي. ومن أولويات هذه المهمة النضالية الكبيرة هي أن ينهض المثقفون والمفكرون والكتاب العرب الذين يؤمنون برسالة الأمة كرسالة إنسانية خالدة لممارسة دورهم الريادي في بلورة الطموحات المأمولة، وتحديد معالم الطريق العملية والواقعية لتحقيقها، بعيداً عن الإنشاء أو العواطف أو التنظير العقيم. على أن مثل هذا التفاعل وتلاقح الأفكار يتطلب من الجميع العمل من أجل هذا المشروع بروح ديمقراطية متجددة، كشرط أساسي لنجاحه كي يعيد للأمة العربية مجدها وكرامتها وحقها في الحياة.