شبكة ذي قار
عـاجـل










توالت الأخبار ورود الأفعال حول ما جاء في اتفاق 5+1 بين الغرب وإيران بالرغم من إنه لم يدخل حيز الحسم بعد، فكم من المؤتمرات والاجتماعات والقمم خرجت باتفاقات لم تصل إلى خارج بوابة قاعة المؤتمرات، ولم ترى مقرراتها النور بالرغم من الهالة الإعلامية حولها، لهذا ينبغي تجنب الذهاب بعيدا في إطلاق تصوراتنا بالاعتماد على مخرجات تلك الاتفاقية، فما عرفناه عن هكذا مؤتمرات يجعلنا ننتظر ونتأنى بشدة قبل أن نرمي آرائنا بسرعة البرق كي لانجد بعد وقت قياسي بأننا أخطأنا الهدف.


مع الأسف ذهب بعض مثقفينا العرب - كعادتهم- بكيل المديح المبطن لإيران بانتصارها المبين على الغرب في موقعة جنيف الأخيرة!! بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك!! فقد قدموا واجب العزاء للعرب لفشلهم الذريع أمام إيران بسبب هذه الاتفاقية المبهمة، ولو عدنا قليلا إلى الوراء فسوف نتذكر بأن هناك انقسام داخل الإدارة الأمريكية حول التعامل مع الملف الإيراني، وهذا سبب مهم يدعونا للتأني في إطلاق أحكامنا المسبقة، وسنعرج هنا على مقالة لأحد أشهر كتابنا العرب حول نتائج هذه الاتفاقية كدليل واقعي لم يتمهل ولو قليلاً في تحليل مجريات ونتائج هذه الاتفاقية!!


يقول كاتبنا العربي بأن "إيران عرفت كيف تتعامل مع الغرب" ، وهذا لا غبار عليه، لكنه وضع عنواناً مستفزاً لمقالته وبما يوحي إلى أن الكاسب الأكبر في هذه المنازلة التاريخية هي إيران!! بينما وصف العرب بالـ " أيتام على مائدة اللئام"!! أليس هذا تجني واضح؟؟ فالسويعات التي تلت المؤتمر لن تقود أي كاتب أو مفكر أو محلل سياسي لسبر غور كل أبعاد القضية، فكيف توصل كاتبنا لهذا التحليل الخطير؟؟


التحليل وببساطة نابع من خزين أفكاره عن المقارنة الأزلية بين ذكاء وفطنة ودهاء إيران وبين غباء وبلادة العرب!! فتلك المقارنة العقيمة هي من وضعت الشعوب العربية في خانة اليأس بسبب هكذا مفاهيم غير منطقية، وبغض النظر عن التشتت العربي والخذلان والمؤامرات المستمرة، إلا إننا أمام خطأ شائع يقع فيه أغلب العرب في إشكالية المقارنة بين مستقيمين لا يلتقيان أبداً، فإيران كدولة لا تختلف عن باقي الدول، لها أخطاءها القاتلة وربما حسنات أيضا وعليها ما عليها ولها مالها، بينما العرب مجموعة دول تربطهم حدود ومواثيق وجغرافية ولغة ودين، لكن بالرغم من ذلك لا زالت دولاً متفرقة ولم تتوحد مثل الاتحاد الأوروبي كي نعتبرها كتلة موحدة يمكن مقارنتها مع إيران، لكن تجوز المقارنة بين أية دولة عربية مع إيران، وبهذا تصح المقارنة.


ماذا لو قارنا إيران بالعراق؟ فماذا سيجد كاتبنا من فوارق؟؟ لن يجد في الواقع ما يبحث عنه، لأن العراق وإيران دولتان دخلتا الحرب وخرجتا منها بنوع من التفاوت العسكري الذي رجح كفة العراق بسبب الاعتراف الإيراني الواضح بالهزيمة، طبعاً هذا فيما يتعلق بفترة سابقة، فاليوم تشترك إيران مع الشيطان الأكبر في حكم العراق بعد أن اجتمعت معظم دول العالم الكبرى في احتلاله، وهذا يثبت مدى قوة العراق تجاه إيران، أليس العراق دولة عربية؟؟ هل هو مشمول بنظرية الأيتام على مائدة اللئام؟؟


إن المقارنات المطروحة في واقع الأمر تتعلق بالأساس بالموقف الغربي من إيران، فما علاقة العرب به؟؟


يقول كاتبنا العربي الكبير بأن الغرب أشترى إيران وباع العرب!! كيف هذا؟؟ وأين ذهبت اتهاماتنا للغرب باستغلال النفط العربي وإنه مصدر الطاقة المهم بالنسبة للغرب؟؟ وإن الدول العربية ترتبط بعلاقات مصالح قوية مع الغرب بسبب الثروة النفطية وعلى حساب قضايانا المصيرية،. هل هناك أفضل من النفط العربي بالنسبة للغرب؟؟ كلا بالطبع!! ويشير آخرون كذلك بأن الغرب يستخدم إيران من أجل حلب العرب؟؟ وهذا أيضا صحيح، لكن في الواقع هناك تناقض في موضع هذه المعلومة! فهذه المعلومة لن تصح فيما لو أرتفع مستوى العلاقة بين إيران والغرب، فبهذا سيفقد الغرب علاقته المزمنة مع العرب، وستكون للمكاسب الغربية في إيران سطوة على حساب المكاسب العربية التي تشكل الأهمية القصوى للغرب حسبما نعلم!! وهنا التناقض!! فحينها لن يتمكن الغرب من حلب النفط العربي بسبب استخدام إيران كبعبع لتخويف العرب!! لكن البعض سيجيب بأن شوكة إيران ستقوى في المنطقة وستشكل خطرا أكبر على المنطقة، ونقول حينها ما فائدة مقررات مؤتمر جنيف إذن؟؟ فستعود إيران إلى واجهة الدول المهددة للسلام العالمي؟؟


وتدخل هنا إسرائيل بقوة على الخط كعهدنا بها في مثل هذه القضايا، فنحن نعلم بأن الدول العربية واقعة بين فكي كماشة إسرائيل وإيران، أو هكذا تقول بعض التحليلات السياسية!! فعندما يأتي ذكر إيران في قضية تخص العرب، فلابد أن تكون هناك مرادفة "إسرائيل" إلى جانبها!! وهذا أيضا تناقض!! فإسرائيل على النقيض من إيران في السياسة الدولية، أو هكذا يفترض!! لكنهما يلتقيان في المصالح عندما يتعلق الموضوع بأهدافهما تجاه العرب.


المهم هنا، إن إسرائيل دانت بشدة هذا الاتفاق، وذهب البعض في تحليله إلى طرح احتمالية تخلي أمريكا عن إسرائيل مقابل إيران!! وتلك قمة السذاجة!! ومن يسأل عن السبب فهو لا يعلم أصلا عن العلاقة بين أمريكا وإسرائيل، لكن السؤال هنا; هل جاءت الاتفاقية بما لا تشتهي سفن إسرائيل؟؟


جواب هذا السؤال يعتمد على مدى ثقتنا بتصريحات إسرائيل حيال القضايا الشرق أوسطية، فالجواب سيختلف في حال قناعتنا بجدية المخاوف الإسرائيلية من نتائج هذه الاتفاقية، لكننا هنا نرفض هذا المعلومة قطعا، فإسرائيل وكما نعرفها، تريد جر المنطقة إلى مستوى عال من التأسلم!! أو بمعنى آخر إنها ترتب مع أمريكا لمصيدة أخرى في الشرق الأوسط، وتعتمد هذه المصيدة بالدرجة الأساس على دعم الدول المتأسلمة أو ذات التوجهات الدينية المتطرفة المحيطة بإسرائيل، لخلق بيئة غير مستقرة في المنطقة، وبالتالي تدفع بإسرائيل لإعلان دولتها اليهودية المستقبلية.


هذا السيناريو الخطير قد سبق إعداده بعناية فائقة، وسيترتب عله نتائج تدفع باتجاه الإعلان عن دولة إسرائيل الكبرى، والتي ستمنح بموجبه الجنسية الإسرائيلية لكل يهود العالم دون شرط وجودهم في إسرائيل، وبهذا سيكونون مواطنين إسرائيليين يتمتعون بمميزات المواطن الإسرائيلي في فلسطين المحتلة، وسيتبعون بذلك القوانين الإسرائيلية وهم يعيشون في بلدانهم الأصلية.


وليس بعيدا عن إيران وضمن هذا التوجه الإسرائيلي، نجد التهديد من الجانب اللبناني وعن طريق حزب الله التابع لإيران أيضا، ومن جانب آخر سيظهر في المستقبل التهديد السوري لإسرائيل بعد تنفيذ الخطط المعروفة في الساحة السورية ودخول الجهات المتطرفة في هذه اللعبة، وكان من المفترض دخول مصر لهذه اللعبة لولا الانقلاب على الأخوان المسلمين، مع ذلك لازالت يمثل الوضع الحالي خطرا محتملاً على إسرائيل، كي تكتمل عناصر الأجندة الدولية لإعلان دولة إسرائيل الكبرى، و الجدير هنا أن نوضح بأن بعض هذه الدول يتم جرها عنوة لتنفيذ هذه المخططات، من خلال افتعال الأزمات الاقتصادية والسياسية، وليس شرطاً عبر اتفاقات جانبية أو سرية.


نعود لنؤكد بأن الدول العربية وإيران يشتركون في ملعب واحد يتم فيه غربلة المواقف وطبخ الخطط والمؤامرات لصالح الدول الكبرى، شاءوا أم أبوا، ولا ينبغي أتباع نظرية الخاسر والرابح فيها ، فالمعركة مستمرة ، خاصة وأن هناك أقطاب أخرى تتهيأ لأخذ موقعها على قمة الدول العظمى، والتي تدعم إيران في مشروعها النووي، والتي تشكل اليوم ورقة ضغط على أمريكا التي تحاول تهدئة المواقف قدر الإمكان لتتفرغ لإنقاذ اقتصادها المنهار، وهذا ما دفع أوباما للتوجه نحو جنوب شرق آسيا من خلال طرحه لمشروع اتفاقية أسيا – المحيط الهادئ، الذي يرتكز على مفهوم اقتصادي يربط بين اقتصاديات العالم مع بعضها لتقليل ضغط خسائر أمريكا أو الغرب، وهذا التوجه يوضح مدى أهمية الاقتصاد بالنسبة لأمريكا في الوقت الحاضر، بمعنى إن لغة المال والاقتصاد ستطغى على صوت المدافع في المستقبل، وتحت هذا السقف ستتفق كل دول العالم، وهنا ستمنح الفرصة للعرب بلعب دورهم باعتبارهم قوة اقتصادية كبرى تحاول دول العالم الكبرى استقطابهم، ولا ننسى الحذر من استهدافهم أيضا.


وفي سياق آخر ، شكك كثيرون بقيام إيران بتفجيرات نووية أدت إلى هزات ارتدادية قوية طالت المناطق الحدودية للعراق مع إيران وامتدت إلى مدن العراق البعيدة عن الحدود، لكن وبعد الاتفاق الأخير في جنيف يمكن النظر من زاوية أخرى لهذا الموضوع، فقد ظهر احتمال آخر على السطح، وهو إن إيران قامت بتفجير مخزونها النووي بعلم الدول الغربية كدليل على قبولها لشروط الاتفاقية التي حتما ستتضمن وضع اليد على الملف النووي الإيراني، وتفادياً لنقاط خلاف مستقبلية حول وجود نظائر مشعة كانت إيران قد نفت في وقت سابق تصنيعها أو استخدامها في المنشآت النووية، وهذا الاحتمال يفسر عدم حدوث أي زلزال مدمر، والذي عادة ما يحصل في إيران ويوقع الكثير من الخسائر ومعظمها تصل ارتداداتها إلى العراق.


موجز القول، إن دول العالم وبضمنها العربية وإيران يلعبون لعبة المصالح المشتركة، وليس من المنطق اتهام الدول العربية بالغباء أو بالتخلي عن مصالحها لصالح جهة ما، بغض النظر عن اختلافنا مع كثير من السياسات التي تنتهجها بعض الحكومات العربية، فالعالم كله يتوجه اليوم إلى استكشاف الفرص ودراسة الاستراتيجيات السياسية والاقتصادية في سباق مع الزمن لتبوء كل دولة لمكانتها في المستقبل القريب القادم، وينبغي أن يتخلى كتابنا العرب والمحللين السياسيين عن كيل الاتهامات بمناسبة أو أخرى، فلا غباء في السياسة، بل هناك الكثير الذي لا يكشف للعلن، والذي ربما يفسره المتابع للشأن السياسي على إنه غباء، وهذا هو في الواقع ألف باء السياسة، فلا يجب كشف الأوراق أمام اللاعبين الآخرين، وما يظهر في الإعلام ليس سوى استعراض يخفي أكثر مما يكشف.





الاثنين ٢٢ محرم ١٤٣٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٥ / تشرين الثاني / ٢٠١٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مكتب الثقافة والإعلام القومي - لقاءُ القُوى الوَطَنيّة والقَوميّة التَقدُّميّة الديمُقراطِيّة ضَرورة حَتميّة للخَلاص مِن حالَةِ الضَعفِ العَرَبي د. عامر الدليمي في ظل الاستهداف المنقطع النظير الذي تتعرض له أمتنا العربية في أغلب أقطارها، وفي ظل غياب أية حدود أو سقف للبشاعة التي يتم فيها تنفيذ حلقات المؤامرة، وليس آخرها محرقة رفح، والمجزرة البشعة التي يتعرض لها شعبنا العربي في فلسطين، والتي وصلت إلى إحراق الخيام بقاطنيها حيث تم استهداف النازحين قسرًا شمال غرب رفح. تلك المجزرة التي خلّفت عشرات الشهداء الذين تحولت أجسادهم إلى أشلاء، بالإضافة إلى عشرات الجرحى معظمهم من الأطفال والنساء، مع استهداف الاحتلال الصهيوني للمنظومة الصحية وإخراجها من الخدمة، كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم أجمع العاجز عن كبح جماح جرائم العدو الصهيوني. في ظل هذا الواقع المأساوي، وعجز الأنظمة العربية عن وقف عجلة التدهور وبشاعته، يصبح من أعلى الأولويات والواجبات الحتمية، أن تلتقط القوى السياسية الوطنية والقومية زمام المبادرة، نحو بلورة مشروع يرقى إلى مستوى التحديات الوجودية الجسيمة التي تستهدف الأمة في وجودها. ويتقدم تلك الأولويات فهم الواقع الذي تمرُ به الأمة العربية في هذه الظروف وتحليلها بقدرٍ عالٍ من المسؤولية الوطنية والقومية والوقوف بواقعية وموضوعية على أسباب الانكسارات والتراجعات والاستسلام للقوى المعادية، حيث يتقدم تلك الأسباب الانقسام والتشظي العربي بسبب تناقضات ثانوية تاركين التحديات الأساسية والمصيرية تحرق الأمة وتنهي هويتها ووجودها. وفي مقدمة متطلبات تحقيق ذلك، والذي يعد من الضرورة القومية الحاسمة أن تكون هناك نظرة وفعل حقيقي جاد لتجديد الخطاب القومي العربي وتحديث مشروعه النهضوي التحرري التقدمي. ومن هنا فإن لقاء القوى السياسية المخلصة للوطن والأمة العربية، والعمل ضمن قواعد عمل مشتركة للتوصل إلى مشروع يمكِّن الأمة من مواجهة التحديات الوجودية الجسيمة التي تتعرض لها، ويعيد لها كرامتها، ويؤكد بأنها أمة جديرة بالحياة، من خلال إيجاد تفاهمات سياسية على قاعدة جماهيرية تكون أساساً لقوتها، وتستطيع من خلال ذلك وغيره التخلص من الضعف والتخلف والتقهقر الذي أصابها. إن ذلك من شأنه أن يرسم الخطوات الأولى التي تخطوها القوى الوطنية والقومية لقيادة الأمة نحو مرحلة جديدة لتكون أمة مجاهدة تسعى نحو التثوير والتنوير والتغيير والتقدم بكل جوانبه. كما وتشكِّل أساساً لإطلاق الحريات الفكرية والسياسية التي تعد الدعامة الرئيسية لمجتمع حضاري جديد، وتحقيق نهضة عروبية تقدمية ديمقراطية في الساحة السياسية كما في الساحة الفكرية. إن كل ذلك يقتضي تجاوز الحالات التي تعرضت لها من مناكفات وخصومات بينية أوصلتها إلى الاحتراب الفعلي فأضعفت نفسها، وجعلت القوى المعادية تتحكم بمصيرها. وليس أدل على ذلك ما وصلت إليه بعض الأنظمة العربية في الاستسلام والضعف أمام العدو الصهيوني، وتمدد استعماري للمشروع الفارسي في أقطار أمتنا العربية بدءاً من المشرق واندفاعاً نحو أقطارها في شمال افريقيا. إن الضرورة الوجودية والحتمية في تاريخنا الحالي تقتضي عودة التيار القومي العربي التحرري والمنظمات القومية لممارسة دورها الفعلي في الساحة العربية بقوة وثقة عالية، متحصِّنة بالإيمان المطلق بقدرها، وبمسؤوليتها التاريخية في قيادة الأمة لتحقيق أمل الجماهير في خلاصها من الاستعباد والاستبداد والهزيمة والتشظّي. ومن أولويات هذه المهمة النضالية الكبيرة هي أن ينهض المثقفون والمفكرون والكتاب العرب الذين يؤمنون برسالة الأمة كرسالة إنسانية خالدة لممارسة دورهم الريادي في بلورة الطموحات المأمولة، وتحديد معالم الطريق العملية والواقعية لتحقيقها، بعيداً عن الإنشاء أو العواطف أو التنظير العقيم. على أن مثل هذا التفاعل وتلاقح الأفكار يتطلب من الجميع العمل من أجل هذا المشروع بروح ديمقراطية متجددة، كشرط أساسي لنجاحه كي يعيد للأمة العربية مجدها وكرامتها وحقها في الحياة.
مواضيع الكاتب الوليد خالد نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة
مكتب الثقافة والإعلام القومي - لقاءُ القُوى الوَطَنيّة والقَوميّة التَقدُّميّة الديمُقراطِيّة ضَرورة حَتميّة للخَلاص مِن حالَةِ الضَعفِ العَرَبي د. عامر الدليمي في ظل الاستهداف المنقطع النظير الذي تتعرض له أمتنا العربية في أغلب أقطارها، وفي ظل غياب أية حدود أو سقف للبشاعة التي يتم فيها تنفيذ حلقات المؤامرة، وليس آخرها محرقة رفح، والمجزرة البشعة التي يتعرض لها شعبنا العربي في فلسطين، والتي وصلت إلى إحراق الخيام بقاطنيها حيث تم استهداف النازحين قسرًا شمال غرب رفح. تلك المجزرة التي خلّفت عشرات الشهداء الذين تحولت أجسادهم إلى أشلاء، بالإضافة إلى عشرات الجرحى معظمهم من الأطفال والنساء، مع استهداف الاحتلال الصهيوني للمنظومة الصحية وإخراجها من الخدمة، كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم أجمع العاجز عن كبح جماح جرائم العدو الصهيوني. في ظل هذا الواقع المأساوي، وعجز الأنظمة العربية عن وقف عجلة التدهور وبشاعته، يصبح من أعلى الأولويات والواجبات الحتمية، أن تلتقط القوى السياسية الوطنية والقومية زمام المبادرة، نحو بلورة مشروع يرقى إلى مستوى التحديات الوجودية الجسيمة التي تستهدف الأمة في وجودها. ويتقدم تلك الأولويات فهم الواقع الذي تمرُ به الأمة العربية في هذه الظروف وتحليلها بقدرٍ عالٍ من المسؤولية الوطنية والقومية والوقوف بواقعية وموضوعية على أسباب الانكسارات والتراجعات والاستسلام للقوى المعادية، حيث يتقدم تلك الأسباب الانقسام والتشظي العربي بسبب تناقضات ثانوية تاركين التحديات الأساسية والمصيرية تحرق الأمة وتنهي هويتها ووجودها. وفي مقدمة متطلبات تحقيق ذلك، والذي يعد من الضرورة القومية الحاسمة أن تكون هناك نظرة وفعل حقيقي جاد لتجديد الخطاب القومي العربي وتحديث مشروعه النهضوي التحرري التقدمي. ومن هنا فإن لقاء القوى السياسية المخلصة للوطن والأمة العربية، والعمل ضمن قواعد عمل مشتركة للتوصل إلى مشروع يمكِّن الأمة من مواجهة التحديات الوجودية الجسيمة التي تتعرض لها، ويعيد لها كرامتها، ويؤكد بأنها أمة جديرة بالحياة، من خلال إيجاد تفاهمات سياسية على قاعدة جماهيرية تكون أساساً لقوتها، وتستطيع من خلال ذلك وغيره التخلص من الضعف والتخلف والتقهقر الذي أصابها. إن ذلك من شأنه أن يرسم الخطوات الأولى التي تخطوها القوى الوطنية والقومية لقيادة الأمة نحو مرحلة جديدة لتكون أمة مجاهدة تسعى نحو التثوير والتنوير والتغيير والتقدم بكل جوانبه. كما وتشكِّل أساساً لإطلاق الحريات الفكرية والسياسية التي تعد الدعامة الرئيسية لمجتمع حضاري جديد، وتحقيق نهضة عروبية تقدمية ديمقراطية في الساحة السياسية كما في الساحة الفكرية. إن كل ذلك يقتضي تجاوز الحالات التي تعرضت لها من مناكفات وخصومات بينية أوصلتها إلى الاحتراب الفعلي فأضعفت نفسها، وجعلت القوى المعادية تتحكم بمصيرها. وليس أدل على ذلك ما وصلت إليه بعض الأنظمة العربية في الاستسلام والضعف أمام العدو الصهيوني، وتمدد استعماري للمشروع الفارسي في أقطار أمتنا العربية بدءاً من المشرق واندفاعاً نحو أقطارها في شمال افريقيا. إن الضرورة الوجودية والحتمية في تاريخنا الحالي تقتضي عودة التيار القومي العربي التحرري والمنظمات القومية لممارسة دورها الفعلي في الساحة العربية بقوة وثقة عالية، متحصِّنة بالإيمان المطلق بقدرها، وبمسؤوليتها التاريخية في قيادة الأمة لتحقيق أمل الجماهير في خلاصها من الاستعباد والاستبداد والهزيمة والتشظّي. ومن أولويات هذه المهمة النضالية الكبيرة هي أن ينهض المثقفون والمفكرون والكتاب العرب الذين يؤمنون برسالة الأمة كرسالة إنسانية خالدة لممارسة دورهم الريادي في بلورة الطموحات المأمولة، وتحديد معالم الطريق العملية والواقعية لتحقيقها، بعيداً عن الإنشاء أو العواطف أو التنظير العقيم. على أن مثل هذا التفاعل وتلاقح الأفكار يتطلب من الجميع العمل من أجل هذا المشروع بروح ديمقراطية متجددة، كشرط أساسي لنجاحه كي يعيد للأمة العربية مجدها وكرامتها وحقها في الحياة.