شبكة ذي قار
عـاجـل











لألف وأربعماية واثنين وأربعين عاماً، عندما أنزلت رسالة السماء على النبي العربي فحملها معه العرب لنشرها في أصقاع المعمورة بكل مقدرة وإيمان.

لطالما حدثتنا الروايات والقصص عن معاني التضحية والفداء التي حملها إلينا الأجداد وتناقلتها الألسن على كل شفة ولسان حتى أضحت التربة الصالحة التي نمت عليها وشبت مبادئ عروبتنا ورجولتنا وأهمها رسالة الإنسانية والأخلاق التي عممها أسلافنا العرب على كل البشرية والتي قال عنها النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام.

إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق.

من مِنَّا نحن العرب لم تحدثه الجدات يوماً عن معنى فضيلة الإيثار حتى إلى درجة الموت وفي معركة اليرموك خير شاهد عليها عندما أصيب ثلاثة من أهم وأشد صحابة رسول الله في المعركة بجروح عميقة فطلب أحدهم شربة ماء والثلاثة راقدين في خيمة الجرحى، ولما وصلت إليه ( أي الماء ) للأول وجد أن من بجانبه ينظر إليها فعرف أنه يريد أن يشرب فقال : أعطوه إياها، وحين وصلت إلى الآخر وجد أيضاً من بقربه ينظر إلى الماء ففضله على نفسه وتركها له ولما وصلت الماء إلى الأخير كان قد فارق الحياة وليرجع بالماء مرة أخرى إلى الأول ليجده قد مات ايضاً ولينظر إلى الثاني وقد لقي نفس المصير.

وتقول لنا الرواية أنهم ماتوا جميعاً بعد أن كان كل منهم يؤثر أخاه على نفسه حتى اللحظة الأخيرة، لحظة الموت.

هنا هو تراثنا العربي الذي نقله إلينا الأسلاف ليكرسوا فينا فضيلة الإيثار وتفضيل الآخر على الذات مهما كانت التضحيات مكلفة وباهظة، ولتكرس في شبابنا وشاباتنا احترام الآباء والأجداد وليقدم الصغير جل حبه وامتنانه إلى الكبير، مع التأكيد أن ماضينا كان يجسد حقائق دامغة ليس فيها من المبالغات او الطوباويات والتجمل من شيء على هذا الصعيد.

أجد نفسي محاصراً بهذه المقدمة وأنا أتابع ما يشهده العالم أجمع هذه الأيام على شاشات التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي التي تنقل كيف بدأت دول وبلدان وأنظمة صحية في الغرب تتخلص من كبار السن لديها وهي تواجه تداعيات تفشي جائحة وباء الكورونا المتفشي بين مواطنيها، هذه الدول ورغم عظمتها وتقدمها الطبي والاستشفائي ومقدراتها وثرواتها التي لا تعد ولا تحصى تجد نفسها اليوم عاجزة عن توفير العلاج للجميع فتجد أن الخلاص ممن هم قد تجاوزوا عقد الستين من السنوات فتتركهم دون أجهزة تنفس اصطناعية ليموتوا تحت أنظارها وأنظار ذويهم وجيرانهم وشعبهم والبشرية أجمع في ميتة بشعة أين منها القتل الرحيم.

هذه السلطات التي ترتكب جرائماً غير موصوفة وموثقة بالدلائل القاطعة بحق مواطنيها.

هل أيقنت أن الأجيال القادمة من شعبها ستشاهد غداً ما جنته يداها وهي ترسخ في ضمائرهم أخلاقيات جديدة لا قيمة لإنسانية الحياة فيها، لتشكل بدورها جزءاً لا يتجزأ من الذاكرة الجمعية لشعوبها والتي ستتأقلم مع العقود والسنين القادمة مع تراث الناس وتتكرس المعاملة مع الكبار في السن كمعاملة السايس الذي عندما يشيخ حصانه، فيتركه يموت في الإسطبل أو يقتله بيده كما يحصل اليوم.

أما ما هو أخطر، فإن ما سوف يصدر غداً، وبالتأكيد لعقود طويلة من السنين، من قصص وروايات وأعمال أدبية بأقلام أدباء وشعراء ورواة ومحورها كلها هو جائحة الكورونا وما أحدثته من تغييرات جذرية في تدابير الدول والأنظمة والشعوب في المستقبل، ولن يكون من حديث لأطفال اليوم، وجدات المستقبل، غداً، سوى تلقين الأحفاد والأجيال القادمة ما عاناه جيل العقدين الأولين في الألفية الثالثة الذي شهد من الأوبئة والأمراض التي توهم العالم الحديث المتقدم أنها لن تتكرر ولن يضطر أن يرضخ لها ويلزم الحجر الإلزامي في البيوت لأسابيع وأشهر.

نكتب هذا الكلام وندرك تماماً أن أمتنا اليوم في أسوأ ما عليها من أيام وسنين وقد استلبت إرادتها وصودرت مقدراتها وكُبلت في إرادتها،
غير أن ذلك لا يعني أن هذه الأمة العظيمة ستعيش على هذا الضيم ولن تتمرد عليه لتتفوق إرادتها على مخططات كل الطامعين بها،

أمتنا أمة حية وإن تراجعت حاضراً، فهي تملك من التراث والماضي التليد ما يجعلها في خانة أفضل الأمم إنسانية.ومرؤة وأخلاقاً، وما نراه اليوم من واقع غير مرض ليس سوى القشرة التي ستزول بأيدي أبناء هذه الأمة العريقة الذين يشاهدون بأنفسهم كيف كان ماضيهم وتراثهم الذي تعمل كل أجهزة العالم الخارجي على أن نكفر به، وكيف هو حاضر هذا الغرب وما يصدره إلينا من أخلاقيات.

فمهما تبدلت الظروف والمحن، ستبقى أخلاقنا هي ما نفخر به، وليستمروا هم خجلين من أخلاقياتهم.
ولا شيء بعد اليوم سوف يمنعنا أن نفخر بماضينا وعروبتنا وتاريخنا مهما اشتدت علينا النوائب والجائحات.
حمى الله أمتنا في حاضرها ومستقبلها لتستعيد دورها الريادي الحضاري من جديد، بين سائر الأمم.





الاربعاء ١٥ شعبــان ١٤٤١ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٨ / نيســان / ٢٠٢٠ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مكتب الثقافة والإعلام القومي - لقاءُ القُوى الوَطَنيّة والقَوميّة التَقدُّميّة الديمُقراطِيّة ضَرورة حَتميّة للخَلاص مِن حالَةِ الضَعفِ العَرَبي د. عامر الدليمي في ظل الاستهداف المنقطع النظير الذي تتعرض له أمتنا العربية في أغلب أقطارها، وفي ظل غياب أية حدود أو سقف للبشاعة التي يتم فيها تنفيذ حلقات المؤامرة، وليس آخرها محرقة رفح، والمجزرة البشعة التي يتعرض لها شعبنا العربي في فلسطين، والتي وصلت إلى إحراق الخيام بقاطنيها حيث تم استهداف النازحين قسرًا شمال غرب رفح. تلك المجزرة التي خلّفت عشرات الشهداء الذين تحولت أجسادهم إلى أشلاء، بالإضافة إلى عشرات الجرحى معظمهم من الأطفال والنساء، مع استهداف الاحتلال الصهيوني للمنظومة الصحية وإخراجها من الخدمة، كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم أجمع العاجز عن كبح جماح جرائم العدو الصهيوني. في ظل هذا الواقع المأساوي، وعجز الأنظمة العربية عن وقف عجلة التدهور وبشاعته، يصبح من أعلى الأولويات والواجبات الحتمية، أن تلتقط القوى السياسية الوطنية والقومية زمام المبادرة، نحو بلورة مشروع يرقى إلى مستوى التحديات الوجودية الجسيمة التي تستهدف الأمة في وجودها. ويتقدم تلك الأولويات فهم الواقع الذي تمرُ به الأمة العربية في هذه الظروف وتحليلها بقدرٍ عالٍ من المسؤولية الوطنية والقومية والوقوف بواقعية وموضوعية على أسباب الانكسارات والتراجعات والاستسلام للقوى المعادية، حيث يتقدم تلك الأسباب الانقسام والتشظي العربي بسبب تناقضات ثانوية تاركين التحديات الأساسية والمصيرية تحرق الأمة وتنهي هويتها ووجودها. وفي مقدمة متطلبات تحقيق ذلك، والذي يعد من الضرورة القومية الحاسمة أن تكون هناك نظرة وفعل حقيقي جاد لتجديد الخطاب القومي العربي وتحديث مشروعه النهضوي التحرري التقدمي. ومن هنا فإن لقاء القوى السياسية المخلصة للوطن والأمة العربية، والعمل ضمن قواعد عمل مشتركة للتوصل إلى مشروع يمكِّن الأمة من مواجهة التحديات الوجودية الجسيمة التي تتعرض لها، ويعيد لها كرامتها، ويؤكد بأنها أمة جديرة بالحياة، من خلال إيجاد تفاهمات سياسية على قاعدة جماهيرية تكون أساساً لقوتها، وتستطيع من خلال ذلك وغيره التخلص من الضعف والتخلف والتقهقر الذي أصابها. إن ذلك من شأنه أن يرسم الخطوات الأولى التي تخطوها القوى الوطنية والقومية لقيادة الأمة نحو مرحلة جديدة لتكون أمة مجاهدة تسعى نحو التثوير والتنوير والتغيير والتقدم بكل جوانبه. كما وتشكِّل أساساً لإطلاق الحريات الفكرية والسياسية التي تعد الدعامة الرئيسية لمجتمع حضاري جديد، وتحقيق نهضة عروبية تقدمية ديمقراطية في الساحة السياسية كما في الساحة الفكرية. إن كل ذلك يقتضي تجاوز الحالات التي تعرضت لها من مناكفات وخصومات بينية أوصلتها إلى الاحتراب الفعلي فأضعفت نفسها، وجعلت القوى المعادية تتحكم بمصيرها. وليس أدل على ذلك ما وصلت إليه بعض الأنظمة العربية في الاستسلام والضعف أمام العدو الصهيوني، وتمدد استعماري للمشروع الفارسي في أقطار أمتنا العربية بدءاً من المشرق واندفاعاً نحو أقطارها في شمال افريقيا. إن الضرورة الوجودية والحتمية في تاريخنا الحالي تقتضي عودة التيار القومي العربي التحرري والمنظمات القومية لممارسة دورها الفعلي في الساحة العربية بقوة وثقة عالية، متحصِّنة بالإيمان المطلق بقدرها، وبمسؤوليتها التاريخية في قيادة الأمة لتحقيق أمل الجماهير في خلاصها من الاستعباد والاستبداد والهزيمة والتشظّي. ومن أولويات هذه المهمة النضالية الكبيرة هي أن ينهض المثقفون والمفكرون والكتاب العرب الذين يؤمنون برسالة الأمة كرسالة إنسانية خالدة لممارسة دورهم الريادي في بلورة الطموحات المأمولة، وتحديد معالم الطريق العملية والواقعية لتحقيقها، بعيداً عن الإنشاء أو العواطف أو التنظير العقيم. على أن مثل هذا التفاعل وتلاقح الأفكار يتطلب من الجميع العمل من أجل هذا المشروع بروح ديمقراطية متجددة، كشرط أساسي لنجاحه كي يعيد للأمة العربية مجدها وكرامتها وحقها في الحياة.
مواضيع الكاتب نبيل الزعبي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة
مكتب الثقافة والإعلام القومي - لقاءُ القُوى الوَطَنيّة والقَوميّة التَقدُّميّة الديمُقراطِيّة ضَرورة حَتميّة للخَلاص مِن حالَةِ الضَعفِ العَرَبي د. عامر الدليمي في ظل الاستهداف المنقطع النظير الذي تتعرض له أمتنا العربية في أغلب أقطارها، وفي ظل غياب أية حدود أو سقف للبشاعة التي يتم فيها تنفيذ حلقات المؤامرة، وليس آخرها محرقة رفح، والمجزرة البشعة التي يتعرض لها شعبنا العربي في فلسطين، والتي وصلت إلى إحراق الخيام بقاطنيها حيث تم استهداف النازحين قسرًا شمال غرب رفح. تلك المجزرة التي خلّفت عشرات الشهداء الذين تحولت أجسادهم إلى أشلاء، بالإضافة إلى عشرات الجرحى معظمهم من الأطفال والنساء، مع استهداف الاحتلال الصهيوني للمنظومة الصحية وإخراجها من الخدمة، كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم أجمع العاجز عن كبح جماح جرائم العدو الصهيوني. في ظل هذا الواقع المأساوي، وعجز الأنظمة العربية عن وقف عجلة التدهور وبشاعته، يصبح من أعلى الأولويات والواجبات الحتمية، أن تلتقط القوى السياسية الوطنية والقومية زمام المبادرة، نحو بلورة مشروع يرقى إلى مستوى التحديات الوجودية الجسيمة التي تستهدف الأمة في وجودها. ويتقدم تلك الأولويات فهم الواقع الذي تمرُ به الأمة العربية في هذه الظروف وتحليلها بقدرٍ عالٍ من المسؤولية الوطنية والقومية والوقوف بواقعية وموضوعية على أسباب الانكسارات والتراجعات والاستسلام للقوى المعادية، حيث يتقدم تلك الأسباب الانقسام والتشظي العربي بسبب تناقضات ثانوية تاركين التحديات الأساسية والمصيرية تحرق الأمة وتنهي هويتها ووجودها. وفي مقدمة متطلبات تحقيق ذلك، والذي يعد من الضرورة القومية الحاسمة أن تكون هناك نظرة وفعل حقيقي جاد لتجديد الخطاب القومي العربي وتحديث مشروعه النهضوي التحرري التقدمي. ومن هنا فإن لقاء القوى السياسية المخلصة للوطن والأمة العربية، والعمل ضمن قواعد عمل مشتركة للتوصل إلى مشروع يمكِّن الأمة من مواجهة التحديات الوجودية الجسيمة التي تتعرض لها، ويعيد لها كرامتها، ويؤكد بأنها أمة جديرة بالحياة، من خلال إيجاد تفاهمات سياسية على قاعدة جماهيرية تكون أساساً لقوتها، وتستطيع من خلال ذلك وغيره التخلص من الضعف والتخلف والتقهقر الذي أصابها. إن ذلك من شأنه أن يرسم الخطوات الأولى التي تخطوها القوى الوطنية والقومية لقيادة الأمة نحو مرحلة جديدة لتكون أمة مجاهدة تسعى نحو التثوير والتنوير والتغيير والتقدم بكل جوانبه. كما وتشكِّل أساساً لإطلاق الحريات الفكرية والسياسية التي تعد الدعامة الرئيسية لمجتمع حضاري جديد، وتحقيق نهضة عروبية تقدمية ديمقراطية في الساحة السياسية كما في الساحة الفكرية. إن كل ذلك يقتضي تجاوز الحالات التي تعرضت لها من مناكفات وخصومات بينية أوصلتها إلى الاحتراب الفعلي فأضعفت نفسها، وجعلت القوى المعادية تتحكم بمصيرها. وليس أدل على ذلك ما وصلت إليه بعض الأنظمة العربية في الاستسلام والضعف أمام العدو الصهيوني، وتمدد استعماري للمشروع الفارسي في أقطار أمتنا العربية بدءاً من المشرق واندفاعاً نحو أقطارها في شمال افريقيا. إن الضرورة الوجودية والحتمية في تاريخنا الحالي تقتضي عودة التيار القومي العربي التحرري والمنظمات القومية لممارسة دورها الفعلي في الساحة العربية بقوة وثقة عالية، متحصِّنة بالإيمان المطلق بقدرها، وبمسؤوليتها التاريخية في قيادة الأمة لتحقيق أمل الجماهير في خلاصها من الاستعباد والاستبداد والهزيمة والتشظّي. ومن أولويات هذه المهمة النضالية الكبيرة هي أن ينهض المثقفون والمفكرون والكتاب العرب الذين يؤمنون برسالة الأمة كرسالة إنسانية خالدة لممارسة دورهم الريادي في بلورة الطموحات المأمولة، وتحديد معالم الطريق العملية والواقعية لتحقيقها، بعيداً عن الإنشاء أو العواطف أو التنظير العقيم. على أن مثل هذا التفاعل وتلاقح الأفكار يتطلب من الجميع العمل من أجل هذا المشروع بروح ديمقراطية متجددة، كشرط أساسي لنجاحه كي يعيد للأمة العربية مجدها وكرامتها وحقها في الحياة.